الليلة الرابعة والعشرون
وأنشد أبو عمرو الشيباني قول الأسَدي:
قال: وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتًا في الأخلاق، كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت. وكما أنه يزل بعضُ العقلاء فيركب ما لا يُظنُّ بمثله لعقله، كذلك يزلُّ ويغلَط بعضُ الحمقى فيأتي بما لا يُحسَب أن مثله يهتدي إليه، فليس العقل بحاظرٍ على صاحبه أن يندُر منه ما يكون من الحيوان. وأصناف الحيوان من الناس وغير الناس تتقاسم هذه الأخلاق بضروب المزاج المختلفة في الأزمان المتباعدة والأماكن المتنازحة، تقاسمًا محفوظ النِّسب بالطبيعة المستولية، وإن كان ذلك التقاسم مجهول النِّسب للغموض الذي يغلب عليه. وإذا عُرف هذا الشرح وما أشبهه مما يزيده وضوحًا، زال التعجب الناشئ من جهل العلة وخفاء الأمر.
ويقال للبليد من الناس: كأنه حمار، ويقال للذكي من الخيل: كأنه إنسان. ولولا هذا التمازج في الأصل والجوهر والسِّنْخ والعنصر، ما كان هذا التشابه في الفرع الظاهر والعادةِ الجارية بالخبر والنظر.
وقالت العلماء: إن هذا الاعتبار واصلٌ في الحقيقة إلى جنس النبات، فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلدان الدَّفِئة والأرض اللينة التُّربة. والجوز والفستق وأمثالهما لا ينبتان إلا في البلدان الباردة [والأرض] الجبلية. والدُّلْب وأمَّ غَيْلان في الصحارى والقفار، والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار.
قالوا: وهكذا أيضًا وصف الجواهر المعدنية كالذهب، فإنه لا يكون إلا في الأرض الرملية والجبال والأحجار الرِّخْوة. والفضة والنحاس والحديد لا تكون إلا في الأرض النَّدِيَّة والتراب اللين والرطوبات الدهنية. والأملاح لا تنعقد إلا في الأراضي [والبقاع] السَّبِخة. والجص والإسْفيداج لا يكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابُها بالحصى. والزَّاج لا يكون إلا في التراب العفِص. وقد أحصى بعض من عُنِي بهذا الشأن هذه الأنواع المعدنية فوجدها سبعمائة نوعٍ.
والطل هو رطوبةٌ هوائية تجمد من برد الليل، وتقع على النبات والشجر والحجر والصخر. وعلى هذا القياس جميع الجواهر المعدنية، فإن مادتها إنما هي رطوباتٌ مائية وأنداءٌ وبخاراتٌ تنعقد بطول الوقوع ومَرِّ الزمان.
وقالت الحكماء الأولون: ها هنا طبيعةٌ تألف طبيعةً أخرى، وطبيعةٌ تلزَق بطبيعة أخرى، وطبيعةٌ تأنس بطبيعة. وطبيعةٌ تتشبَّه بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة، وطبيعةٌ تخبُث مع طبيعة، وطبيعة تطيب مع طبيعة، وطبيعةٌ تفسد طبيعة، وطبيعة تُحمِّر طبيعة، وطبيعة تبيِّض طبيعة، وطبيعة تهرُب من طبيعة، وطبيعةٌ تبغِض طبيعة، وطبيعةٌ تمازج طبيعة.
فأما الطبيعة التي تألف طبيعةً فمثل الماس فإنه إذا قرُب من الذهب لزق به وأمسكه، ويقال: لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلدٍ من ناحية المشرق.
ومثل الكبريت المنتن الرائحة المسوِّد للأحجار النيِّرة البراقة المذهِب لألوانها وأصباغها، يمكِّن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة. والعلة في ذلك أن الكبريت رطوبة دهنيةٌ لزجةٌ جامدة، فإذا أصابته حرارة النار ذاب والتزق بأجساد الأحجار ومازَجها، فإذا تمكنت النار منها احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتًا كانت أو ذهبًا أو غيرهما.
النار هي الحاكمة بين الجواهر المعدنية بالحق.
ويقال: إن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز، ولون الزعفران وما شاكلها من الألوان المشرقة منسوبةٌ إلى نور الشمس وبريق شعاعها. وكذلك بياض الفضة والملح والبلَّوْر والقطن وما شاكله من ألوان النبات منسوبةٌ إلى نور القمر وبريق شعاعه. وعلى هذا المثال سائر الألوان.
وقال أصحاب النجوم: السواد لزُحَل، والحمرة للمِرِّيخ، والخضرة للمُشترِي، والزُّرْقة للزهرة، والصفرة للشمس، والبياض للقمر، والتلوُّن لعُطارد.
ويقال: إن العلة الفاعلة للجواهر المعدنية هي الطبيعة، والعلة الطينية الزئبق والكبريت، والعلة الصُّورية دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والعلة التمامية المنافع التي ينالها الإنسان والحيوان.
ويقال: إن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع: منها ما يكون في التراب والطين والأرض [السَّبِخة، ويتم نضجُه في السنة وأقلَّ كالكباريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شابهها.] ومنها ما يكون في قعر البحار وقرار المياه، ولا يتم نضجُه إلا في السنة [أو أكثر] كالدر والمرجان، فإن أحدهما نباتٌ وهو المرجان، والآخر حيوان وهو الدر.
ومنها ما يكون في وسط الحَجَر وكهوف الجبال وخلل الرمال فلا يتم نضجُه إلا في السنين، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها. ومنها ما لا يتم نضجُه إلا في عشرات السنين، كالياقوت والزَّبَرجد والعقيق وما شاكلها.
فقال — أدام الله دولته: هل تعرف العرب الفرق بين الروح والنفس في كلامها؟ وهل في لفظها من نظمها ونثرها ما يدل على ما بينهما، أو هما كشيء واحد لحقه اسمان؟
وقال أبو الأسود:
قال: هذا من الفوائد التي كنت أحِنُّ إليها، وأستبعد الظفَر بها، وما أنفعَ المطارحةَ والمفاتحة وبثَّ الشك واستماحة النفس! فإن التغافل عما تمَسُّ إليه الحاجةُ سوء اختيار، بل سوء توفيق.
وما أحسنَ ما قاله بعض الجِلة: تَوانيتُ في أوان التعلم عن المسألة عن أشياء كانت الحاجة تَحْفز إليها والكسل يصد عنها، فلما كبرتُ أَنِفتُ من ذكرها وعرضها على مَن عِلمُها عنده، فبقيت الجهالة في نفسي، وركدت الوحشةُ بين قلبي وفكري.
ثم جرى في حديث النفس ذكر بعض العلماء، فإنه قال: إن نفسك هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية، لا هي بعينها ولا منفصلةٌ عنها. كما أن جسدك جزءٌ من جسد العالم، لا هو كله ولا منفصلٌ عنه. وقد مرَّ من أمر النفس ما فيه إيضاحٌ تام واستبصارٌ واسع، وإن كان الكلام في نعت النفس لا آخر له ولا وقوف عنه.
فقال أدام الله سعادته: لو كان ما يمر من هذه الفوائد الغُرر والمرامي اللِّطاف مرسومًا بسوادٍ على بياض، ومقيدًا بلفظٍ وعبارة؛ لكان له رَيْعٌ وإتاء، وزيادةٌ ونماء.
فكان الجواب: إن هذا غير متعذِّر ولا صعبٍ إنْ نَفَّس الله في البقاء، وصرف هذه الهموم التي تقسِّم الفكْر بالعوارض التي لا تُحتَسب والأسبابِ التي لا تُعرف. فأما والأشغال على تكاثفها والزمان على تلوُّنه فكيف يمكن ذلك؟ والعجب أنه يجري حرفٌ من هذه الأمور الشريفة في هذه الأوقات الضيقة.
ولقد قال أبو سليمان أمسِ: كيف نشاط الوزير — أدام الله سعادته — في شأنه؟ وكيف كان تقبُّله لرسالتي إليه، وتلطُّفي له، وخدْمتي لدولته؟ فقلت: ما ثَم شيءٌ يحتاج إلى الزيادة من فهمٍ ودراية، وبيان واستبانة، وهشاشةٍ ورفق، واطِّلاعٍ وتأنٍّ. ولكن الوقت مستوعَبٌ بالتدبير والنظر، وكفِّ العدو بالمداورة مرة وبالإحسان مرة. فقال: الله يبقيه، ويرينا ما نحبه فيه.
وأما حديث الزهاد وأصحاب النسك، فإنه كان تقدم بإفراد جزء فيه، وقد أثبتُّه في هذا الموضع، ولم أحب أن أعزله عن جملته، فإن فيه تنبيهًا حَسنًا، وإرشادًا مقبولًا. وكما قصدنا بالهزل الذي أفردنا فيه جزءًا جِمامًا للنفس، قصدنا بهذا الجزء الذي عطفنا عليه إصلاحًا للنفس وتهذيبًا للخُلق، واقتداءً بمن سبق إلى الخير واتِّباعًا لمن قصد النصح. وشرف الإنسان موقوفٌ على أن يكون فاتحًا لباب من أبواب الخير على نفسه وعلى غيره، فإن لم يكن ذلك فلا أقل [من أن يكون] مقتفيًا لأثر من كان فاتحًا قبله. ومن تقاعس عن هذين الأمرين فهو الخاسر الذي جهل قيمة نفسه، وضل عن غاية حياته، وحُرِم التوفيق في إصابة رشده، والله المستعان.
وقال أبو هريرة: اللهم إني أسألك قلبًا قارًّا، ورزقًا دارًّا، وعملًا سارًّا!
وقال بعض السلف: اللهم إني أسألك قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا صابرًا.
وقال صالح بن مسمار: لا أدري أنعمته عليَّ فيما بسط لي أفضل أم نعمته فيما زوى عني، لأنه فيما بسط لي أحياني، وفيما زوى عني حماني، نظر لي بما يزيد على نظري لنفسي، وآتاني من عنده أكثر مما عندي.
وقال الله عز وجل لموسى عليه السلام: حبِّبْني إلى عبادي. قال: وكيف أحبِّبك؟ قال: ذكِّرهم آلائي ونعمائي.
وقال شداد بن حكيم لبعض الواعظين: أي شيء تقول إذا جلست على المنبر؟ قال: أذكرهم آلاء الله ليشكروا، وأذكرهم جفاءهم ليتوبوا، وأخبرهم عن إبليس وأعوانه حتى يحذروا.
وقال بعض الصالحين: مثَل الدنيا ونعيمها كخابيةٍ فيها سُمٌّ وعلى رأسها عسلٌ، فمن رغب في العسل سُقي من السم. ومثل شدة الدنيا كمثل خابيةٍ مملوءةٍ من العسل وعلى رأسها قطراتٌ من سم، فمن صبر على أكلها بلغ إلى العسل.
جاء رجلٌ إلى حاتم الزاهد بنميمةٍ فقال: يا هذا أبطأتَ عني وجئت بثلاث جنايات: بغَّضت إليَّ الحبيب، وشغلتَ قلبي الفارغ، وأعلقت نفسك التهمة وأنت آمن.
وكان خالد بن صفوان يقول: قبول قول النمام شرٌّ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبِل وأجاز.
وقال ابن السماك الواعظ: يُدرك النمام بنميمته ما لا يدرك الساحر بسحره.
وقال معمر: ما نزلت بعبدٍ نازلةٌ فكان مفزعه إلى الله إلا فرج الله عنه.
وقال عمر: ما أسأل الله الرزق وقد فرغ منه، ولكن أسأله أن يبارك لي فيه.
وقال مالك بن دينار: الجلوس مع الكلب خيرٌ من الجلوس مع رفيق سوء.
وقال أبو هريرة: تهادوْا عباد الله يتجدد في قلوبكم الود، وتذهب السخيمة.
وقال بعض السلف: من استقصى عيوب الناس بقي بلا أصدقاء.
وقال محمد بن واسع: ينبغي للرجل أن يكون مع المرأة كما يكون أهل المجنون مع المجنون، يحتملون [منه] كلَّ أذًى ومكروه.
قال شقيق: اشتريت بطيخة لأمي فلما ذاقتها سخِطت. فقلتُ: يا أمي، على من تردِّين القضاء ومن تلومين؛ أحارثها أم مشتريها أم خالقها؟ فأما حارثُها ومشتريها فما لهما ذنب، فلا أراك تلومين إلا خالقها.
ويقال: إن عبدًا حبشيًّا ناوله مولاه [شيئًا يأكله]، وقال: أعطني قطعةً منه، فأعطاه، فلما أكله وجده مرًّا، فقال: يا غلام، كيف أكلتَ هذا مع شدة مرارته؟ قال: يا مولاي، قد أكلت من يدك حلوًا كثيرًا ولم أحب أن أريك من نفسي كراهةً لمرارته.
وقال لقمان: إن الذهب يجرَّب بالنار، وإن المؤمن يجرَّب بالبلاء.
وقال بعض السلف: عليكم بالصبر فإن الله تعالى قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وقال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا، وقال: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا، وقال: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ.
وقال الأوزاعي: المؤمن يُقِل الكلامَ ويُكثر العمل، والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل.
وقال فضيل بن عياض: الخوف ما دام الرجل صحيحًا أفضل، فإذا نزل الموتُ فالرجاء أفضل.
وقال النبي ﷺ: إياكم والخيانة، فإنها بئست البِطانة! وقال النبي ﷺ: «من رد عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه لفح النار يوم القيامة.»
وقيل لابن المبارك: إنك لتحفظ نفسَك من الغِيبة. قال: لو كنتُ مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ، لأنهما أحق بحسناتي.
وقال بعض الصالحين: لو أن رجلًا تعشَّى بألوان الطعام وقد أصاب من النساء في الليل، ورجلًا آخر رأى رؤيا على مثال ما أصاب الأول في اليقظة، فإذا مضيا صار الحالمُ والآخرُ سواء.
وقال شقيق: من أبصر ثواب الشدة لم يتمنَّ الخروج منها.
وقال بعض السلف: شتان ما بين عملين: عملٍ تذهب لذتُه وتبقى تبعتُه، وعملٍ تذهب مئونته ويبقى ذُخْره.
وقال الرقاشي في مواعظه: خذوا الذهب من الحجر، واللؤلؤَ من المزبلة.
وقال يحيى بن معاذ: العلم قبل العمل، والعقل قائد الخير، والهوى مَرْكَب المعاصي، والمال داء المتكبر.
وقال: من تعلَّم علم أبي حنيفة فقد تعرَّض للسلطان، ومن تعلم النحو والعربية دُلِّه بين الصبيان، ومن عَلِمَ عِلْمَ الزهاد بلغ إلى العرش.
وقال بعض الصالحين: إن العلماء يسقون الناس، فبعضَهم من الغدران والحياض، وبعضَهم من العيون والقُلُب، وبعضَهم من البحار الواسعة.
وقال حاتم: لا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال.
وقال مالك بن دينار: إني لا أقدر أن أعمل بجميع ما أقول.
وقال وُهَيْب بن الورد: مثَل عالم السوء كمثل الحجر يقع في الساقية، فلا هو يشرب الماء ولا يخلِّي عن الماء فيذهبَ إلى الشجرة.
وقال النبي ﷺ: لأنَا من غير الدجال أخوف عليكم. قيل: ومن هو؟ قال: الأئمة المضلون.
وقال الثوري: نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، وفتنة القائد الجاهل!
وقال النبي ﷺ: «سيكون في أمتي علماء فساق، وقراءٌ جهال.»
وقال الثوري: العلم طبيب الدين والمال داؤه، فإذا رأيت الطبيب يجُر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره؟
وقال عيسى ابن مريم: ما ينفع الأعمى ضوء الشمس وهو لا يبصرها.
وقال النبي ﷺ: «أشد الناس حسرةً يوم القيامة عالمٌ علم الناس ونجوْا به، وارتُهِن هو بسوء عمله.»
وقال أحمد بن حرب: إن منازل الدنيا لا تقطع بالكلام، فكيف يُقطع طريق الآخرة بالكلام؟
وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء ثلاثة: رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناس، ورجلٌ عاش بعلمه ولم يَعش به الناس، ورجلٌ عاش بعلمه الناسُ وهلك هو.
وقال الثالث: كانت لي بنت عمٍّ فراودتها فأبت حتى أعطيتها مائة دينار، فلما أردت ما أردتُ اضطربت وارتعدت، فقلت لها: ما لك؟ فقالت: إني أخاف الله. فتركتُها ورجعت عنها، إلهي فإن كنتَ قبِلت ذلك مني ففرج عنا. فتحرك الحجر وسقط عن باب الكهف وخرجوا منه يمشون.
وقال حاتم: لو أُدْخلتِ السوقَ شياهٌ كثيرةٌ لما اشتَرى أحدٌ المهزول، بل يقصد السمين للذبح.
وقال يحيى بن معاذ: في القلب عيونٌ يَهيج منها الخيرُ والشر.
وقال بعض الصالحين في دعائه: اللهم إن أحدنا لا يشاء حتى تشاء، فاجعل مشيئتك لي أن تشاء ما يقربني إليك! اللهم إنك قدَّرت حركات العبد فلا يتحرك شيءٌ إلا بإذنك، فاجعل حركاتي في هواك!
وقال حاتم: إذا رأيت من أخيك عيبًا فإن كتمته عليه فقد خنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته به فقد أوحشته. قيل له: كيف أصنع؟ قال: تَكني عنه، وتُعرِّض به، وتجعله في جملة الحديث.
وقال: إذا رأيت من أخيك زلةً فاطلب لها سبعين وجهًا من العلل، فإن لم تجد فلُمْ نفسك.
وقال إبراهيم بن جنيد: اتخِذ مرآتين، وانظر في إحداهما عيب نفسك، وفي الأخرى محاسن الناس.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران وأعمر منها قلب من يعمرها.
وقال ابن السماك: الدنيا كالعروس المجلُوَّة تشوَّفت لخطَّابها وفَتنت بغرورها، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والِهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها قاتلة.
وقال بعض العارفين: الدنيا أربعة أشياء: الفرح والراحة والحلاوة واللذة؛ فالفرح بالقلب، والراحة بالبدن، واللذة بالحلق، والحلاوة بالعين.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، فمن سكر منها لم يُفِق إلا في مسكن النادمين.
وقال بعض السلف: الزهد خَلْعُ الراحة، وبذل الجهد، وقطع الأمل.
وقال الأنطاكي أحمد بن عاصم: الزهد هو الثقة بالله، والتبرؤ من الخلق، والإخلاص في العمل، واحتمال الذل.
وقال داود عليه السلام في دعائه: يا رازق النَّعَّاب في عُشه.
وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: خلقك ربك في أربع مراتب، فكنتَ آمنًا ساكنًا في ثلاث وقلقلتَ في الرابعة، أولاها في بطن أمك في ظلماتٍ ثلاث، والثانية حين أخرجك منه وأخرج لك لبنًا من بين فرْثٍ ودمٍ. والثالثة إذا فُطمت أطعمك المَريَّ الشهي، حتى إذا اشتدت عظامك وبلغتَ تمامك صرتَ خائنًا وأخذتَ في السَّرقة والحيلة.
وقال أنس: رأيت طائرًا أكمه فتح فاه فجاءت جرادة فدخلت فمَه.
وقال عيسى عليه السلام: يابن آدم، اعتبر رزقك بطير السماء، لا يزْرعن ولا يحصُدن وإله السماء يرزقُهنَّ. فإن قلت: لها أجنحةٌ فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها، [وما أبشَمَها] وأبدنَها!
وقال ابن السماك: لو قال العبد: يا ربِّ لا ترزقني، لقال الله: بل أرزقك على رغم أنفك، ليس لك خالقٌ غيري ولا رازقٌ سواي، إن لم أرزقك فمن يرزقك؟
وقيل لراهب: من أين تأكل؟ فقال: إن خالق الرَّحَى يأتي بالطحين.
وقال حاتم: الحمار يعرف طريق المعلَف، والمنافق لا يعرف طريق السماء.
وقال إبراهيم بن أدهم: سألت راهبًا: من أين تأكل؟ قال: ليس هذا العلم عندي، ولكن سل ربي من أين يطعمني.
وقال حاتم: مثَل المتوكِّل مثَل رجلٍ أسند ظهره إلى جبل.
وقال بعض الأبرار: حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصرًا غيره، ولا لرزقك خازنًا غيره، ولا لعملك شاهدًا غيره.
وقال عبد الحميد بن عبد العزيز: كان لأبي صديقٌ ورَّاق، فقال له [أبي] يومًا: كيف أصبحتَ؟ قال: بخير ما دامت يدي معي. فأصبح الوراق وقد شُلَّتْ يده.
قال أبو العالية: لا تتكل على غير الله فيكلَك الله إليه، ولا تعمل لغير الله فيجعل ثواب عملك عليه.
وقال رجلٌ لأبي ذرٍّ: أنت أبو ذرٍّ؟ قال: نعم. قال: لولا أنك رجل سوء ما أُخْرجتَ من المدينة. فقال أبو ذر: بين يديَّ عقبةٌ كئودٌ إن نجوتُ منها لا يضرني ما قلتَ، وإن أقع فيها فأنا شرٌّ مما تقول.
كان للحسن جارٌ نصراني، وكان له كَنيف على السَّطح، وقد نَقَب ذلك في بيته، وكان يتحلَّب منه البول في بيت الحسن، وكان الحسن أمر بإناء فوُضع تحته، فكان يُخرج ما يجتمع منه ليلًا. ومضى على ذلك عشرون سنةً، فمرض الحسن ذات يومٍ فعاده النصراني، فرأى ذلك، فقال: يا أبا سعيد: مُذْ كم تحملون مني هذا الأذى؟ فقال: منذ عشرين سنةً. فقطع النصراني زُنَّاره وأسلم.
وجاءت جاريةٌ لمنصور بن مِهران بمرقةٍ فهراقتها عليه، فلما أحس بحرِّها نظر إليها، فقالت: يا معلم الخير اذكر قول الله. قال: وما هو؟ قالت: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ. قال: كظمتُ. قالت: واذكر وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ. قال: قد عفوتُ. قالت: واذكر وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. قال: اذهبي فأنت حُرَّة.
قال الحسَن: ما جزْعةٌ أحبُّ إليَّ من جزْعة مصيبةٍ ردها صاحبُها بصبرٍ، وجزعةِ غضبٍ ردَّها صاحبُها بحِلم.
وكان محمد بن المنكدر إذا غضب على غلامه يقول: ما أشبهَك بسيدك!
وقال أبو ذر: كيف يكون حليمًا من يغضب على حماره وسَخْله وهِرِّه؟
ومات ابنٌ للرشيد فجزِع جزعًا شديدًا، فوعظه العلماء فلم يتعظ. فدخل مخنَّث وقال: أتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم. فكشف عن رأسه وقام بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل وقد تشبَّهت بالنساء كما ترى، فأيُّ شيء كنتَ تصنع لو كان ابنك في الأحياء وكان على صورتي؟ فاتَّعَظ به وأخرج النواحات من الدار.
قال وهب: مكتوبٌ في الكتب القديمة: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي.
وقال جعفر بن محمد عليهما السلام: حسنُ الجوار عمارة الديار ومَثراة المال.
ولما قرأ هذا الجزء — حرسه الله — ارتاح وقال: أين نحن من هذه الطريقة؟! إلى الله المشتكى.