الليلة السابعة العشرون
وقال — أدام الله أيامه — في ليلة أخرى: كنت أحب أن أسمع كلامًا في كُنه الاتفاق
١ وحقيقته، فإنه مما يحار العقل فيه، ويزلُّ حزم الحازم معه، وأحب أيضًا أن
أسمع حديثًا غريبًا فيه. فكان من الجواب: إن الرواية في هذا الباب أكثر وأفشى من
الاطِّلاع على سره، والظفر بمكنونه. فقال: هات ما يتعلق بالرواية. قلت: حكى لنا أبو
سليمان في هذه الأيام أن ثيودسيوس
٢ ملك يونان كتب إلى كُنتس
٣ الشاعر أن يزوِّده
٤ بما عنده من [كتب] فلسفية، فجمع ماله في عَيْبةٍ ضخمة، وارتحل قاصدًا نحوه،
فلقي في تلك البادية قومًا من قطاع الطريق فطمعوا في ماله وهموا بقتله، فناشدهم الله
ألا يقتلوه وأن يأخذوا ماله ويخلوه فأبوا، فتحير ونظر يمينًا وشمالًا يلتمس معينًا
وناصرًا فلم يجد، فرفع رأسه إلى السماء ومد طرفه في الهواء، فرأى كراكيَّ تطير في الجو
محلقة، فصاح: أيتها الكراكيُّ الطائرة، قد أعجزني المعين والناصر فكوني الطالبة بدمي
والآخذة بثأري. فضحك اللصوص، وقال بعضهم لبعض: هذا أنقص الناس عقلًا، ومن لا عقل له لا
جناح في قتله. ثم قتلوه وأخذوا ماله واقتسموه وعادوا إلى أماكنهم. فلما اتصل الحديث
بأهل مدينته حزنوا وأعظموا ذلك، وتبعوا أثر قاتله واجتهدوا فلم يُغنوا شيئًا ولم يقفوا
على شيء. وحضر اليونانيون وأهل مدينته إلى هيكلهم لقراءة التسابيح والمذاكرة بالحكمة
والعظة، وحضر الناس من كل قطر وأوب وجاء القتلة واختلطوا بالجمع، وجلسوا عند بعض أساطين
٥ الهيكل. فهم على ذلك إذ مرت بهم كراكيُّ تتناغى وتصيح، فرفع اللصوص أعينهم
ووجوهَهم إلى الهواء ينظرون ما فيه فإذا كراكي تصيح وتطير وتسد الجو فتضاحكوا، وقال
بعضهم لبعض: هؤلاء طالِبو دم كُنتس الجاهل — على طريق الاستهزاء — فسمع كلامهم بعضُ من
كان قريبًا منهم، فأخبر السلطان فأخذهم وشدَّد عليهم وطالبهم فأقرُّوا بقتله فقتلهم.
فكانت الكراكي المطالبةَ بدمه، لو كانوا يعقلون أن الطالب لهم بالمرصاد.
وقال لنا أبو سليمان: إن كنتس وإن كان خاطب الكراكي فإنه أشار به إلى رب الكراكي
وخالقها، ولم يُطِلَّ الله دمه ولا سدَّ عنه باب إجابته، فسبحانه كيف يهيئ الأسباب،
ويفتح الأبواب، ويرفع الحجاب بعد الحجاب!
فقال: هذا عجب.
قلت: قال لنا أبو سليمان: كل ما جُهل سببه من ناحية الحس بالعادة، ومن ناحية الطبيعة
بالإمكان، ومن ناحية النفس بالتهيئة، ومن ناحية العقل بالتجويز، ومن ناحية الإله
بالتوفيق؛ فهو معجوبٌ منه، معجوزٌ عنه، مسلَّمٌ لمن له القدرة المحيطة، والمشيئة
النافذة، والحكمة البالغة، والإحسان السابق.
ولقد حكى أبو الحسن العُرضي في أمر الاتفاق شيئًا ظريفًا عن بعض إخوانه، قال: خرجنا
إلى بعض المتنزهات ومعنا جَرٌّ
٦ نصيد به السُّمَانَى وكنا جماعة، فقال حدثٌ كان معنا — وكان أصغرنا سنًّا:
أنتم تصيدون بجرٍّ
٦ وأنا أصيد بيدي! يقول ذلك على جهة المزح، فرمى بعد قليل فاتفق له أن أثار
سُمانَى، فأسرع إليه ونحن لا نعلم أنه أخذ شيئًا، فقلنا له على طريق العبث: احذر
الخنزير — من غير أن نكون رأينا خنزيرًا — فالتفت فزعًا وفرَّ
٧ مُوليًا، فاتفق له أن رأى خنزيرًا منه غير بعيد، فأقبل إلينا مسرعًا هاربًا
من الخنزير والسُّمانَى بيده وقد صاده.
وكنت في البادية في صفر سنة أربع وخمسين منصرفًا من الحج ومعي
٨ جماعةٌ من الصوفية، فلحقَنا جهدٌ من عوَز القوت وتعذُّر ما يُمسك الروح في
حديث طويل، إلا أنَّا وصلنا من زُبالة
٩ — بالحيلة اللطيفة منَّا، والصنع الجميل من الله تعالى — إلى شيء من
الدقيق، فانتعشتْ أنفسنا به، وغنمناه، ورأيناه نفحةً من نفحات الله تعالى الكريم،
فجعلناه زادنا وسِرْنا، فلما بلغنا المنزل قعدنا لنمارس ذلك الدقيق، ولقطنا البعَر
ودُقاق الحطب، فلما أجمعنا على العجن والمَلْك
١٠ لم نجد الحُراق
١١ وكان عندنا أنه معنا، وأننا قد استظهرناه،
١٢ فدخلتنا حيرة شديدة، وركبنا غمٌّ غالب، وسففْنا من ذلك الدقيق شيئًا فما
ساغ ولا قبلته الطبيعة، وبتنا ليلتنا طاوين ساهرين قد علانا الكمد وملَكنا الوجوم
والأسف، فقال بعضنا: هذا لمَّا وجدنا الدقيق؟! وأصبحنا ورُكَبنا قد استرخت، وعيوننا قد
غارت، وأحدنا لا يحدث صاحبه غمًّا وكربًا، وعدنا إلى ما كنَّا فيه قبلُ بزيادة حسرةٍ
من
النظر إلى الدقيق، وقال صاحبٌ لنا: نرمي بجراب الدقيق [حتى نلقي حمله وثقله في طول هذا
الطريق.] فقلنا: ليس هذا بصواب، وما يضرنا أن يكون معنا، فلعلنا أن نرى ركبًا أو نلقى
حطبًا؟ وكانت البادية خاليةً في ذلك الوقت، لرعبٍ لَحِق قومًا من بني كلاب من جهة
أعدائهم، فلم يكن يجتاز بها [في ذلك الوقت] غريب. وبقينا كذلك إلى اليوم الثالث، ونحن
نلاحق
١٣ ونجاهد في المشي. فلما كان العصرُ من ذلك اليوم كنت أسير أمام القوم أجرِّئهم
١٤ وأسألهم، وكنت كالحاطب
١٥ لهم: «إذا عثَرْنا بحُراقٍ
١٦ وظفرنا بفتيلة»، فوجدوا خرقةً ملفوفة فيها حُراق فهلَّلوا وكبروا ورفعوا
أصواتهم، فقلت كالمتعجب: ما الخبر؟! قالوا: البشرى. قلت: وما ذاك؟ قالوا: هذه خِرقة
مُلئت حُراقًا، فلا تسل عمَّا دهانا من الفرح والاستبشار، وثاب إلينا من السرور
والارتياح، وزال عنا من الانخزال والانكسار. وقعدنا في مكاننا ذلك، ولقطنا البعَر،
وأثرنا الوقود، وأجَّجنا نارًا عظيمة، وملَكْنا
١٧ الدقيق كله مَلْكةً واحدةً وكان أربعين رِطْلًا، وكان ذلك بلاغنا إلى
القادسية. فلما دنونا منها تلقانا بشر من أهلها، وقالوا لنا: كيف سلمتم في هذه الطريق
مع العوَز والخوف؟ فقلنا: لطف الله يقرب كلَّ بعيد، ويسهِّل كل شديد، ويصنع للضعيف حتى
يتعجب القوي.
وليس أحدٌ من خلق الله يجحد هذا القول وينكر هذا الفضل، ويرجع إلى دينٍ وثيقٍ أو واهٍ
إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ.
وحدثني أبو الحسن علي بن هارون الزَّنْجاني القاضي صاحب المذهب قال: اصطحب رجلان
في
بعض الطرق مسافرَين: مجوسيٌّ من أهل الرَّيِّ، والآخر يهوديٌّ من أرض جَيٍّ،
١٨ وكان المجوسي راكبًا بغلة له عليها سُفرة
١٩ من الزاد والنفقة وغير ذلك وهو يسير مرفَّهًا وادعًا، واليهودي يمشي بلا
زادٍ ولا نفقة. فبينا هما يتحادثان إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك وعقيدتك يا فلان؟
قال اليهودي: أعتقد أن في هذه السماء إلهًا هو إله بني إسرائيل، وأنا أعبده وأقدسه
وأضرع إليه، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل، مع صحة البدن والسلامة
من كل آفة والنصرة على عدوي، وأسأله الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي فلا أعبأ
بمن يخالفني، بل أعتقد أن من يخالفني دمه لي يحل، وحرام عليَّ نصرته ونصيحته والرحمة
به. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك بمذهبي وعقيدتي وما اشتمل عليه ضميري، فخبرني أنت أيضًا
عن شأنك وعقيدتك وما تدين به ربَّك؟ فقال المجوسي: أما عقيدتي ورأيي فهو أني أريد الخير
لنفسي وأبناء جنسي، ولا أريد لأحدٍ من عباد الله سوءًا ولا أتمنى له ضرًّا لا لموافقي
ولا لمخالفي. فقال اليهودي: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال: نعم، لأني أعلم أن في هذه السماء
إلهًا خبيرًا عالمًا حكيمًا لا تخفى عليه خافيةٌ من شيء، وهو يجزي المحسن بإحسانه
والمسيء بإساءته. فقال اليهودي: يا فلان، لست أراك تنصر مذهبك وتحقق رأيك. قال المجوسي:
كيف ذاك؟ قال: لأني من أبناء جنسك وبشرٌ مثلك وتراني أمشي جائعًا نصبًا مجهودًا وأنت
راكبٌ وادعٌ مرفَّهٌ شبعان. فقال: صدقتَ، وماذا تبغي؟ قال: أطعمني من زادك، واحملني
ساعةً فقد كلَلْت وضعُفت. قال: نعم وكرامة. فنزل ومدَّ من سفرته وأطعمه وأشبعه ثم أركبه
ومشى ساعة يحدثه. فلما ملك اليهودي البغلة وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرَّك البغلة وسبقه
وجعل المجوسيُّ يمشي ولا يلحقه، فناداه: يا فلان، قف لي وانزل فقد انحسرتُ وانبهرتُ.
فقال اليهودي: ألم أخبِّرك عن مذهبي وخبَّرتني عن مذهبك ونصرتَه وحققتَه؟ فأنا أريد
أيضًا أن أحقق مذهبي وأنصر رأيي واعتقادي. وجعل يحرك البغلة والمجوسيُّ يقفوه على ظَلَع
وينادي: قف يا هذا واحملني ولا تتركني في هذا الموضع فيأكلني السبُع وأموت ضَياعًا
وارحمني كما رحمتك. واليهودي لا يُلْوي على ندائه واستغاثته حتى غاب عن بصره. فلما يئس
المجوسيُّ منه وأشفى على الهلَكة ذكر اعتقادَه وما وصف به ربَّه فرفع طرفه إلى السماء
وقال: إلهي، قد علمتَ أني اعتقدتُ مذهبًا ونصرتُه ووصفتك بما أنت أهله وقد سمعتَ
وعلمتَ، فحقِّق عند هذا الباغي عليَّ ما مجَّدتك به ليعلم حقيقةَ ما قلتُ. فما مشى
المجوسي إلا قليلًا حتى رأى اليهوديَّ وقد رمت به البغلة واندقَّت عنقه وهي واقفةٌ
ناحيةً منه تنتظر صاحبها. فلما أدرك المجوسيُّ بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهوديَّ
معالجًا لكرب الموت، فناداه اليهودي: يا فلان، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه
البرِّيَّة أهلِكْ جوعًا وعطشًا، وانصر مذهبك وحقِّق اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلتُ
ذلك مرتين، ولكنك لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفتُ. فقال اليهودي: وكيف ذلك؟ قال:
لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني في قولي حتى حققته بفعلي، وذاك أني قلت: إن في هذه
السماء إلهًا خبيرًا عادلًا لا يَخفى عليه شيء، وهو وليُّ جزاء المحسن
٢٠ بإحسانه والمسيء بإساءته. قال اليهودي: قد فهمتُ ما قلتَ وعلمتُ ما وصفتَ.
قال المجوسي: فما الذي منعك من أن تتعظ بما سمعت؟ قال اليهودي: اعتقادٌ نشأت عليه
ومذهبٌ تربيت به، وصار مألوفًا معتادًا كالجبلَّة بطول الدأب فيه، واستعمال أبنِيته،
٢١ اقتداءً بالآباء والأجداد والمعلمين من أهل ديني [ومن أهل] مذهبي، وقد صار
ذلك كالأسِّ الثابت والأصل النابت، ويصعب
٢٢ ما هذا وصفه أن يُترك ويُرفَض ويُزال، فرحمه المجوسيُّ وحمله معه حتى وافى
المدينة وسلَّمه إلى أوليائه محطمًا موجعًا، وحدَّث الناس بحديثه وقصته فكانوا يتعجبون
من شأنهما زمانًا [طويلًا].
وقال بعض الناس للمجوسيِّ [بعدُ]: كيف رحمته بعد خيانته لك، وبعد إحسانك إليه؟ قال
المجوسي: اعتذر بحاله التي نشأ فيها ودأب عمرَه في اعتقادها وسعى لها واعتادها، وعلمتُ
أن هذا شديد الزوال عنه وصدقتُه ورحمته، وهذا مني شكرٌ على صنع الله بي حين دعوته عند
ما دهاني منه، وبالرحمة الأولى أعانني ربي، وبالرحمة الثانية شكرتُه على ما صنع
بي.
هذا كله سردناه لسبب الأمر الذي يبدو من غير جَنان، والعارض الذي يبرز من غير
توهُّم.
وأبو سليمان يقول: الأمور مقسومةٌ على الحدود الطبيعية والقوى النفسية والبسائط
العقلية والغرائب الإلهية. فبالواجب ما كان ها هنا مألوفٌ له نسبةٌ إلى الطبيعة، ونادرٌ
له نسبةٌ إلى النفس، وبديعٌ له نسبةٌ إلى العقل، وغريبٌ له نسبةٌ إلى الإله، والفلتات
في الأحوال من هذا القبيل، أعني ما يتخلَّل هذه المراتب.
فقال [له] البخاري: أيقال لما يصدر عن الإله فلتة؟ قال: بحسب مصيره إلينا ووصوله
إلى
عالمنا، لا بحسب صدوره عن الباري، فليس هناك هذا و[لا] ما يشبهه، لأن هذه السمات لحِقت
المركَّبات، من الأوائل المزدَوِجات،
٢٣ والثواني المكرَّرات، والثوالث المحقِّقات، والروابع المتمِّمات، والخوامس
المدبِّرات، والسوادس المضاعَفات، والسوابع الظاهرات، والثوامن المعقِّبات، والتواسع
العاليات، والعواشر الكاملات، وما بعد العواشر داخلٌ في المكرَّرات.
قال له البخاري مستزيدًا: أكان
٢٤ التوفيق من الاتفاق؟ فقال: هما يتوحدان من وجه ويفترقان من وجه، فوجه
توحدهما أن الاتفاق وليد التوفيق والتوفيقَ غاية الاتفاق، ووجه افتراقهما أن الاتفاق
يبرز إلى الحس وأصحابه يشتركون في التعجب منه والاستطراف له. والتوفيق يُستَر عن الحس
ولهذا لا تُسلك
٢٥ مسالكه. وأما الوفاق والموافقة والتوفيق والاتفاق فمتلابسة المعاني، ولمَّا
لم يكن بين المعنى والمعنى مسافةٌ محصَّلةٌ
٢٦ حُسب هذا في حيِّز هذا، وعُدَّ هذا في جملة هذا.
وقال — أبقاه الله وأدام أيامه: ما اليُمن والبركة والفألُ والطِّيَرة
وأضدادها؟
فكان الجواب: إن اليُمن عبارةٌ عن شيء يبشَّر به [ويُبتغى]
٢٧ ويراد، ويقال: فلانٌ ميمون الناصية، وميسور الناصية، أي هو سببٌ ظاهرٌ في
نيل مأمول وإدراك محبوب، واشتقاقه من اليَمين وهو القوة، ولذلك يقال لليسار شِمالٌ
لأنها أضعف منها، وتُسمَّى أيضًا الشُّؤْمَى، ويقال: يُمِنَ فلانٌ عليهم وشُئِم، وهو
ميمونٌ ومشئوم. جُعل الفعل على طريق ما لم يُسمَّ فاعله، لأنه شيءٌ موصولٌ به من غير
إرادته واختياره. وإنما نزعوا إلى قولهم: فلان مشئوم ليكون الفعل واقعًا به — أعني
المكروه — وإلا فهو شائمٌ في الأصل. ويقال: شأَم فلانٌ قومَه، وكذلك يَمَنَهم. وكأنهما
قوتان علويتان تصحبان مزاجين مختلفين، وإذا اعتِيد منهما هذان العرَضان اللذان يصدُران
عن هاتين القوتين العلويتين، قيل: فلان [كذا] وفلانٌ كذا.
وأما البركة فهي النماء والزيادة والرفع، من حيث لا يوجد
٢٨ بالحس ظاهرًا مكشوفًا يشار إليه، فإذا عُهِد من الشيء هذا المعنى خافيًا عن
الحس قيل: هذه بركة، واشتقاقها من البروك وهو اللزوم والسَّعَة، ومن ذلك: البِرْكة.
والبرَكة يوصف بها كل شيء وليس لضدها اسمٌ مشهور، لذلك يقال: قليل البركة.
وأما الفأل ففُسر بأنه جريان الذكر الجميل على اللسان معزولًا عن القصد، إما من
القائل وإما من السامع. وقد سمع النبي ﷺ — لمَّا نزل المدينة على أبي أيوب
الأنصاري — أبا أيوب يقول لغلامٍ له: يا سالمُ يا غانم، فقال لأبي بكر: «سلمت لنا الدار
في غُنم إن شاء الله.» وهذا مشهورٌ بين الناس.
وضدُّه الطِّيَرة والإشعار.
٢٩ ويُروى أنه نَهى عن الطيَرة وكان يحب الفأل
ﷺ. وليس لهما عللٌ
راتبة، ولا أسباب موجبة، ولا أوائل معروفة، ولهذا كُره الإفراط في التطيُّر والتعويل
على الفأل، لأنهما أمران يصحان ويبطلان، والأقل منهما لا يميَّز من الأكثر، وللمزاج من
الإنسان فيهما أثرٌ غالب، والعادة أيضًا تعِين، والوَلوع يزيد، والتحفظ مما هذا شأنه
شديد. ولقد غلب هذا حتى قيل: فلانٌ مدوَّر الكعب، وفلانٌ مشئوم، وحتى تعدَّى هذا إلى
الدابة والدار والعبد. وكل هذا ظهر في هذه الدار حتى لا يكون للعبد طمأنينة إلا بالله،
ولا سكونٌ إلا مع الله، ولا مطلوبٌ إلا من الله. ولهذا عزَّ وجلَّ يُطلِع الخوف من ثنية
الأمن، ويسوق الأمن من ناحية الخوف، ويبعث النصر وقد وقع اليأس، ويأتي بالفرج وقد اشتد
البأس. وأفعال الله تعالى خفيَّة المطالع، جلية المواقع، مطوية المنافع، لأنها تَسري
بين الغيب الإلهي والعِيان الإنسي. وكل ذلك ليصحَّ التوكل عليه، والتسليم له، واللِّياذ
به، ويعرِّج على كنف ملكه، ويُتبوأ مَعَانُ
٣٠ خُلده، ويُنال ما عنده بطاعته وعبادته.
فقال الوزير — كبت الله أعداه، وبلغه مناه: هذا كلامٌ ليس عليه كلام، أرى النعاس يخطب
إلى عينيَّ حاجته، وإذا شئت فاجمع لي فِقرًا من هذا الضرب الذي مرَّ من حديث الطِّيَرة
والفأل والاتفاق.