الليلة التاسعة والعشرون
قال الوزير — أعز الله نصرَه،
١ وأطاب ذكرَه، وأطار صيتَه — ليلةً: أحبُّ أن أسمع كلامًا في قول الله عز
وجل:
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ، فإن هذا الإيجاز لم يُعْهد في كلام البشر.
فكان من الجواب: إن الإشارة في «الأول» إلى ما بدأ الله به من الإبداع [والتصوير]،
والإبراز والتكوين. والإشارةَ في «الآخِر» إلى المصير إليه في
٢ العاقبة على ما يجب في الحكمة من الإنشاء والتصريف، والإنعام والتعريف،
والهداية والتوقيف. وقد بان بالاعتبار
٣ الصحيح أنه عز وجل لمَّا كان محجَّبًا عن الأبصار ظهرتْ آثاره في صفحات
العالَم وأجزائه، وحواشيه وأثنائه،
٤ حتى يكون لسانُ الآثار داعيًا إلى معرفته، ومعرفتُه طريقًا إلى
٥ قصده، وقصدُه سببًا للمكانة عنده والحُظْوة لديه. على أنه في احتجابه بارز،
كما أنه في بروزه محتجِب، وبيان هذا أن الحجاب من ناحية الحس، والبروز من ناحية العقل،
[فإذا طُلب من جهة الحس وُجِد محجوبًا، وإذا لُحِظ من جهة العقل] وُجِد بارزًا. وهاتان
الجهتان ليستا له تعالى، ولكنهما للإنسان الذي له الحسُّ والعقل، فصار بهما كالناظر من
مكانين، ومن نظر إلى شيءٍ واحدٍ من مكانين كانت نسبتُه إلى المنظور إليه مفترِقة. وإنما
شق هذا الأمر على أكثر الناس واختلفوا فيه لأنهم راموا تحقيق ما لا يُحَسُّ بالحس، ولو
راموا ذاك بالعقل المحض بغير شَوْبٍ من الحس لكان المَرُوم يسبق الرائم، والمطلوب يلوح
قُبالة الطالب من غير شكٍّ [لابس، ولا ريبٍ مُوحش، لأنه ليس في العقل والمعقول شكٌ]،
وإنما الريب والشك والظن والتوهم كلها من علائق الحس وتوابع الخِلْقة. ولولا هذه
العوارض لما اغبرَّ وجه العقل، ولا علاه شحوب، ولبقي على نَضرته وجماله
٦ وحُسنه وبهجته. ولما كان الإنسان مَفيض
٧ هذه الأعراض في الأول، صار مفيض
٧ هذه الأحوال في الثاني، فاستعار من العقل نورَه في وصف الأشياء الجسمية
جهلًا منه وخطأ، واستعار من ظلام الحسِّ في وصف الأشياء الرُّوحانية عجزًا منه ونقصًا،
ولو وُفِّق لوضع كلَّ شيء موضعه ونَسبه إلى شكله، ولم يرفع الوضيع إلى محل الرفيع، ولم
يضع الرفيعَ في موضع الوضيع.
فلما بلغ الحديث هذا الحد، عجِب الوزير وقال: ما أعذبَ هذا المورد! وما أعجب هذا
المشهد! وما أَبعد هذا المقصد! وما أرى لمصنِّفٍ
٨ من الموحِّدين متصرَّفًا في هذا النوع إلا لهذه العِصابة الكريمة المخصوصة باليقظة.
٩
وسأل عن جُشَمَ في اسم الرجل ما معناه.
فكان من الجواب: إن أبا سعيد السيرافي الإمام ذكر عن ابن الأعرابي أنه يقال: «رجلٌ
عظيمُ الجُشَم.» يعني وَسَطه، ومنه سُمِّي جُشَم.
وقال: ما الحِمْحِم؟ وما الخِمْخِم؟
١٠ فقيل: أما الحمحم فبَقْلٌ يهيج في أول الصيف، وينبت فيؤكل في ذلك الوقت،
وأما الخمخم فبَقْلٌ آخرُ خبيثٌ منْتن الريح.
١٠
وقال: فأرة المِسْك، أتقولُها بالهمز؟
فكان من الجواب: حكاه ابن الأعرابي بالهمز.
قال: عارِضَا الرجل ما يُعنَى بهما؟
قيل: قال أبو سعيد السيرافي: هما شَعر خدَّيه، ولو قلت [لأمرد]: امسح عارضَيْك، كان
خطأً.
وقال: سمعتُ اليوم في كلام ابن عُبَيد: لَايَثَه، وظننت أنه أراد: لاوَثَه، من
اللَّوْث [لَوْث] العمامة.
فقيل: بل يقال: لَايَثَه، إذا تشبَّه بالليث.
وقال: ما الشاكِد؟
فقيل: المُعْطِي من غير مكافأة.
فقيل: إني لو لم أَهمز لكان مُفاعَلةً من كفَيْتُ.
قال: والثانية
١٢ تكونُ من كفَأْتُ الإناء، فما معناه؟
قيل: قال أبو سعيد: كأنه قلَب الحالَ إليه بالمِثل.
قال: الذَّوْد، ما قدْر عدده من الإبل؟ فكان من الجواب أن ابن الأعرابي قال: الذود
ما
بين الثلاثة إلى العشرة، وإذا بلغت العشرين أو قاربت فهي قِطعةٌ وصُبَّةٌ وفِرْقةٌ
وصِرْمةٌ حتى تبلغ الثلاثين والأربعين. ثم هي حُدْرة وعَكَرة وعَجْرَمة حتى تبلغ مائة،
ثم هُنَيْدة، فإذا بلغت مائتين فهي خِطْر،
١٣ وكذلك الثلاثمائة. فإذا بلغت أربعمائة فهي عَرْجٌ إلى الألف، والجماعة
عُرُوج. فإذا كثرت عن الأربعين والخمسين فبلغت مائةً وزادت فهي جُرْجُور، وإنما سُمِّيت
جُرْجورًا لجَرَاجِرِها وأصواتها. وقد تستعير العرب بعضَ هذا فتجعله في بعض.
وقال: ما الفرق بين القَبْص والقَبْض؟ فقيل: القبص لعددٍ ما كان قليلًا أو كثيرًا.
قال ابن الأعرابيِّ: وأنشدني العامريُّ لابن مَيَّادة:
عَطاؤكمُ قَبْصٌ ويَحْفِن غيرُكم
ولَلْحَفْن أَغْنى للفقير من القَبْصِ
وقال: القبص بأطراف الأصابع، والقبض بالكف، والحَفْن بالكف والراحةُ إلى فوق مفتوحةٌ
قليلًا. هذا لفظه.
وقال: الإلُّ الذي هو العهد هل يُجمع؟ فقيل: حكى ابن الأعرابي في جمعه فقال: إلالٌ
وأُلول.
١٤
وقال: آمَ الرجل ماذا؟ فقيل: هذا على وجوه: يقال: آمَ الرجلُ يَئُوم أُوَامًا من
العطش. ويقال: آمَ الرجلُ يَئُوم إيامًا
١٥ وهو الدخان. وآم الرجلُ يئيم إذا بقي بغير حليلة، والأيِّم مستعملٌ في
الرجل والمرأة.
قال: هذا نمط مفيد، ويجب أن يُجمع منه جزءٌ أو جزأان ليسهل على الطرْف المَجَال فيه،
فإن الكتب الطوال مُسْئِمة، وإذا تداخل اللطيف بالكثيف وما رقَّ بما غلُظ نبتِ النفْس
ودبَّ الملل،
١٦ والإنسانُ كسَلُه من طينه، ونشاطُه من نفسه، والطين أغلب من النفْس.
فكان الجواب: السمع والطاعة للأمر المشرِّف.
قال: هات حديثًا يكون مَقْطعًا للوداع، فإن الليل قد عبَس وجهُه، وجنَح كاهِله،
وأهدَى إلى العين سِنةً تسرق الذهن وتَسْبِي الرأي.
فكان من الجواب أنه مر بي اليومَ حديثٌ يُضارِع ما جرى منذ ليالٍ في فساد الناس
وحُئُول الزمان، وما دهَم الخاصَّ والعامَّ في حديث الدين الذي هو العمود والدِّعامَة
في عِمارة الدارَين، وقد طال تعجُّبي منه، وصحَّ عندي أن الداء في هذا قديم، والوجعَ
فيه أليم.
قال: فهات فتشْبيبُك
١٧ قد رغَّب شديدًا، وغرامُك
١٨ قد بعث
١٩ جديدًا.
فكان [من ذلك] الحديثِ أن محمد بن سلَّام قال فيما حدَّثنا به أبو السائب القاضي
عتبة
بن عبيد الله قال: حدثنا السكري أبو سعيد قال: قال محمد بن سلَّام: سمعتُ يونس يقول:
فكَّرت في أمرٍ فاسمعوه. قلنا: هاتِه. قال: كلُّ من أصبح على وجه الأرض من أهل النار
إلا أمتَنا
٢٠ هذه، والسلطان ومن يُطيف به هَلْكى إلا قليلًا، فإذا قَطعْت هذه الطبقة حتى
تبلغ الشأْم فأكَلَة ربًا وباغيةٌ وشَرَبة خمرٍ وباعتُها إلا قليلًا. فإذا خلَّفْت هذا
الرمل حتى تأتي رمل يَبْرين وأعلام الروم فلا غسل من جنابة، ولا إسباغ وضوء، ولا إتمام
صلاة، ولا علمَ بحدود ما أنزل الله على رسوله
ﷺ إلا قليلًا. فإذا صرتَ إلى
الأمصار فأصحاب هذه الكراسيِّ ليس منهم إلا ذئبٌ مُسْتغِرٌّ
٢١ بذنَبه، يَختِلك
٢٢ عن دينارك ودرهمك، يكذِب، ويبخس في الميزان، ويطفِّف في المكيال، إلا
قليلًا. فإذا صرْت إلى أصحاب الغلَّات الذين كُفُوا المئونة وأُنعم عليهم [وجدتَهم]
يُمسي أحدهم سكران ويصبح مخمورًا، إلا قليلًا، ومعي واللهِ منهم
٢٣ قطيعٌ في الدار. فإذا صرتَ إلى قومٍ لم يُنْعم عليهم بما أُنعم على هؤلاء
وهم يشتهون ما يَشتهي هؤلاء؛ فواحدٌ لصٌّ، وآخر طرَّار،
٢٤ وآخرُ مستقْفٍ،
٢٥ إلا قليلًا. فإذا صرتَ إلى أصحاب هذه السواري،
٢٦ فهذا يشهد على هذا بالكفر، وهذا يَبْرأ من هذا. والله لئن لم يعمَّنا الله
برحمته إنها للفضيحة.
فقال الوزير: لقد شرَّدتَ النومَ عن عيني، وملأت قلبي عجبًا، فإن الأمر لكما قال،
فإذا كان هذا قولَه في عصره، وشجرةُ الدين على نضارة أغصانها وخضرة أوراقها ويَنْع
ثمارها؛ فما قوله — تُرَى — فينا لو لَحِقنا وأدرك زماننا؟ إنا لله وإنا إليه
راجعون!