الليلة الواحدة والثلاثون
وجرى ليلةً حديث الرأي في الحرب والحزم والتيقظ وقلة الاستهانة بالخصم، فقال ابن
عُبيد الكاتب: أنا أستحسن كلامًا جرى أيام الأمين والمأمون؛ وذاك أن علي بن عيسى بن
ماهان لما توجه إلى حرب طاهر [بن الحسين] من بغداد، سأل قومًا وردُوا من الرَّي عن
طاهر، فقالوا: إنه مُجِدٌّ.
١ فقال: وما طاهرٌ؟ إنما هو شوكةٌ من أغصاني، وشرارةٌ من ناري. ثم قال
لأصحابه: والله ما بينكم وبين أن ينقصِف انقصاف الشجر من الريح العاصفة إلا أن يبلغه
عبورُنا عقبةَ هَمَذان، لأن السِّخال لا تقْوى على النِّطاح والثعالبَ لا صبر لها على
لقاء الأسود، فإن يُقِم طاهرٌ بموضعه يكن أولَ معرَّض لظُبَاتِ السيوف وأسنَّة
الرِّماح. فقال يحيى بن عليٍ [لعلي] بن عيسى: أيها الأمير، إن العساكر لا تُساس
بالتواني، والحروب لا تدبَّر بالاغترار، وإن الشرارة الخفية ربما صارت ضرامًا، والنَّهْلةَ
٢ من السيل ربما صارت بحرًا عظيمًا.
فقال:
٣ إنما حجب عليَّ بن عيسى عن وثيق
٤ الرأي هذا الاستحقارُ بالكلام، والاقتدارُ على اللفْظ، ومن صدق فكرُه في
طلب الرأي النافع قلَّ كلامُه بالهَذَر [الضائع].
وقال في هذه الليلة: ما رأيتُ من يفي بإحصاء وجوه «فعيل» ومواقعها.
٥
فكان من الجواب أن الأخفش قد ذكر عشْرة أوجه، وهي أكثر ما قدَر عليه، والتصفُّح قد
دلَّ على أربعين وجهًا وزيادة.
قال: فما أغرب
٦ ما مر بك منها؟ فقيل: فَعِيلٌ بمعنى فَعَل. فقال: هذا والله غريب، فهات له
شاهدًا. فقيل: يقال: مَكَانٌ
٧ دَمِيثٌ ودَمَثٌ، ويقينٌ ويقَنٌ، ورصيفٌ
٨ ورصَفٌ،
٩ وللفرس العتيد للعدْو: العَتَد، والنَّقِيل
١٠ من العدْو: نَقَل، والخبيط
١١ من الورق: خَبَط، وللقديم:
١٢ قَدَم،
١٣ والبئر النزيح: نَزَح، وللجسم العميم: عَمَم.
وقال ابن الأعرابي: القَفِيل: الشوك
١٤ اليابس، والجمع قَفْل.
١٥ وقال أحمد بن يحيى: هو مني بَعَدٌ أي بعيد، والبَعَد يكون للجمع
١٦ والواحد.
١٧
فعجب وقال: ينبغي أن يُعنَى بهذه الوجوه كلها، فإن
١٨ الزيادة على مِثل الأخفش ظفرٌ حسَن، وامتيازٌ في الغزارة جميل،
١٩ وما تفاضلتْ
٢٠ درجات العلماء إلا بتصفُّح الأخير قول الأول واستيلائه على ما فاته.
وسأل — أباد الله عِداه، وحقق مناه — وقال: هل يُسلَّم على أهل الذمة؟ وهل يُبْدءُون؟
فكان أبو البُخْتُري الداوديُّ حاضرًا فحكى أن عمر بن عبد العزيز سئل عن هذا بعينه،
فقال: يُردُّ عليهم السلام، ولا بأس بأن يُبْدَءُوا لقول الله عز وجل: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ.
وحكى في معرض حديث أبي
٢١ بكر قال: كتب مجنونٌ إلى مجنون: «بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله،
وأبقاك الله، كتبتُ إليك ودجلة تطغَى، وسفن الموصل ها هي، وما يزداد الصبيان إلا شرًّا،
ولا الحجارةُ إلا كثرة، فإياك والمَرَق فإنه شر طعامٍ في الدنيا، ولا تَبِت إلا وعند
رأسك حجرٌ أو حجَرَان. فإن الأخبر
٢٢ يقول:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ، [وكتبتُ إليك لثلاث عشرة وأربعين ليلة خلت من عاشوراء سنة
الكمأة].»
قال: وكتب مجنونٌ آخر: «أبقاك الله من النار وسوء الحساب، وتفديك نفسي موفَّقًا إن
شاء الله!»
قال: وكتب [مجنون] آخر إلى مجنونٍ مثله: وهَبَ الله لي جميعَ المكاره فيك! كتابي
إليك
من الكوفة حقًّا حقًّا حقًّا، أقلامي تخُطُّ، والموتُ عندنا كثير، إلا أنه سليم والحمد
لله. أحببتُ
٢٣ ليعرِفَه إعلامُكم ذلك إن شاء الله.
فضحك — أضحك الله سنه — حتى استلقى، وقال: ما الذي يبلغ بنا هذا الاستطرافَ إذا سمعنا
بحديث المجانين؟
فقال ابن زُرعة: لأن المجنون مشاركٌ للعاقل في الجنس، فإذا كان من العاقل ما يُحْسب
أن يكون من المجنون كُرِه ذلك له، وإذا كان من المجنون ما يُعْهد من العاقل تُعُجِّب
منه. والعقلُ بين أصحابه ذو عَرضٍ واسع، وبقدْر ذلك يتفاضلون التفاضلَ الذي لا سبيل إلى
حصره، وكذلك الجنون بين أهله ذو عَرضٍ واسع، وبحسب ذلك يتفاوتون التفاوت الذي لا مطمع
في تحصيله. وكما أنه
٢٤ يَبْدُر
٢٥ من العاقل بعض ما لا يُتوقع إلا من المجنون، كذلك يبدر
٢٦ من المجنون بعض ما لا يُتوقع إلا من العاقل. ولا يُعْتدُّ بذلك ولا بهذا،
أعني أن العاقل بذلك المقدار لا يُرَى مجنونًا، والمجنون بذلك المقدار لا يُسمَّى
عاقلًا، وإنما اجتمعا في النادر القليل لاجتماعهما في الجنس الذي يعُمُّهما والنوعِ
الذي يفصلهما. وفي الجملة الإنسان بما هو به حيوانٌ سبُعٌ وحمار، وبما هو [به] نفْسيٌ
إنسان، وبما هو به عاقلٌ نبيٌّ وملَك. وهذه الأعراض — وإن تَدَاخَلَت لانتظامها في طينة
واحدة — فإنها تتميز بقوة العقل في الصورة المخلوطة إما مفارَقة وإما مواصَلة. ومرَّ
٢٧ له في هذا الموضع كلامٌ بليغٌ تامٌّ مكشوف.
ثم ترامى الحديث إلى أمر المُطْعِمين والطاعمين،
٢٨ والذين يهشُّون
٢٩ عند المائدة، والذين يعْبِسون
٣٠ ويَجمُون ويُطْرِقون، والذين يَصْخَبون
٣١ ويَلْغَطُون، ويَضْجَرون ويغْتاظون.
فقال: أحب أن أسمع في هذا أكثر ما فيه، ويمر بي أعجبه، فإن في معرفة هذا الباب
تهذيبًا وإيقاظًا كثيرًا.
فكان من الجواب: إن الناس قديمًا وحديثًا قد خاضوا في هذا الفن خوضًا بعيدًا وما
وقفوا منه عند حد، لأن الحديث عن الأخلاق المختلِفة بالأمزجة
٣٢ المتباينة والطبائع المتنائية لا يكاد ينتهي إلى غاية يكون فيها شفاءٌ
للمستمع المستفيد [و]لا للراوية المفيد.
قال: قبل كل شيء أعلمونا
٣٣ يا أصحابنا: الحثُّ على الأكل أحسن أم الإمساك حتى يكون من الأكل ما
يكون؟
فكان [من] الجواب أن هذه المسألة بعينها جرَت بالأمس بالرَّي عند ابن عباد
فتُنُوهب الكلام فيها، وأفضى [إلى] أن الأولى الحث والتأنيس والبسط والطلاقة ولين
اللفظ وقلة التحديق وإسجاء الطرف مع [اللطف] والدماثة، من غير دلالةٍ على تكلُّفٍ
في ذلك فاضح
٣٤ ولا إمساكٍ
٣٥ عنه قادح.
وحكى ابن عبَّاد في هذا الموضع أن بعض السلف قال: الطعامُ أهون من أن يُحثُّ على
تناوله.
وقال الحسن بن علي: الطعام أجلُّ من أن لا يُحثَّ على تناوله. ومذهب الحَسن
أحسن.
قال: ولقد حضرت موائد ناسٍ لا أظن بهم البخل، فلم يحثوني ولم يبسطوني فقبضني ذلك،
وكأن انقباضي كان بمعونتهم وإن لم يكن بإرادتهم.
قال الوزير: هذه فائدة من هذا الرجل الذي يُتهادَى قوله وتُترَاوَى أخباره.
٣٦
ثم حكيت له أن أسماء بن حارجة قال: ما صنعت طعامًا قط فدعوت عليه نفرًا إلا كانوا
أمنَّ علي مني عليهم. فقال: زدنا من هذا الضرب ما كان. قلت: لو أُذن لي في جمعه كان
أولى. قال: لك
٣٧ ذلك فما يضرنا
٣٨ أن تُطرِب آذاننا بما تهوى نفوسنا؟
فكان من الجواب أن الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلا ما شذَّ عنه مما لم يقع
إليه، فإن العالِم — وإن كان بارعًا — ليس يجوز أن يُظَن [به] أنه قد أحاط بكل باب
أو بالباب الواحد إلى آخره. على أنه حدَث من عهد الجاحظ إلى وقتنا هذا أمورٌ وأمور،
وهَناتٌ وهناتٌ، وغرائب وعجائب، لأن الناس يكتسبون على رأس كل مائة سنةٍ عادةً
جديدة وخليقةً غير معهودةٍ، وبدء هذه المئين
٣٩ هو الوقت الذي فيه تنعقد شريعة، وتظهر نبوة، وتفشو أحكام، وتستقر سنن،
وتُؤْلَف أحوالٌ،
٤٠ بعد فطامٍ شديد، وتلكُّؤٍ واقع، ثم على استنان ذلك يكون ما
يكون.
وقال ميمون بن مِهران: مَن ضافَ البخيلَ صامَت دابته، واستغنى عن الكنيف، وأمن
التُّخَمة.
وقال حامد
٤١ اللَّفَّاف المتزهِّد:
٤٢ المرائي إذا ضاف إنسانًا حدَّثه بسخاوة إبراهيم، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه
بزهد عيسى ابن مريم.
وقال مالك
٤٣ بن دينار: دخلنا على ابن سيرين فقال: ما أدري ما أطعمكم؟ ثم قدم
٤٤ إلينا شُهْدَة.
وقال الأعمش: كان خَيْثمة يصنع الخَبِيص ثم يقول: كلوا فوالله ما صُنع إلا من
أجلكم.
وقال بكر بن عبد الله المزني:
٤٥ أحقُّ الناس بلَطْمةٍ من إذا دُعي إلى طعامٍ ذهب بآخَر معه. وأحقُّهم
بلطْمتين من إذا قيل له: اجلس ها هنا، قال: بل ها هنا. وأحق الناس بثلاث لطَمات من
إذا قيل له: كُل، قال: ما بال صاحب البيت لا يأكل معنا؟
وقال إبراهيم بن الجُنَيْد:
٤٦ كان يقال: أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن وإن كان أميرًا: قيامُه من
مجلسه لأبيه، وخدمته للعالِم يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه،
وخدمة الضيف بنفسه إكرامًا له.
وقال حاتم الأصم: كان يقال العجَلة من الشيطان إلا في خمس، فإنها من سنة رسول
الله ﷺ: إطعام الضيف إذا حلَّ، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا
أدركت، وقضاء الدَّين إذا حلَّ ووجب، والتوبة من الذنب إذا وقع.
وقال النبي ﷺ: «ليلةُ الضيف حقٌّ واجبٌ على كل مسلم، فمن أصبح بفِنائه فهو
أحقُّ به إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.»
وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح، فسألت عسلًا وقالت: زوجي مريض. فأمر
لها براوية عسل،
٤٧ فقالوا: يا أبا الحارث، إنما تسأل قدحًا. قال: سألتْ على قدْرها
ونعطيها على قدْرنا.
خرج ابن المبارك يومًا إلى أصحابه فقال لهم: نزل بنا ضيفٌ اليوم فقال: اتخذوا لي
فالوذجًا. فسرَّنا ذلك منه.
وقال الحسنُ في الرجل يدخل بيت أخيه فيرى السَّلَّة فيها الفاكهة: لا بأسَ أن
يأكل من غير أن يستأذنه.
وقال ابن عمر: أُهدِيَت لرجل من أصحاب النبي — صلى الله عليه وعلى آله — شاةٌ
فقال: أخي فلانٌ أحوج إليها. وبعث بها إليه، فلم يزل
٤٨ يبعث بها واحدٌ بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات ورجعت إلى الأول،
فنزلت الآية:
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله
ﷺ: «من كان له ظَهْرٌ فليَعُد على من
لا ظهر له، ومن كان له زادٌ فليعد على من لا زاد له»، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ
منا في الفضل.
٤٩
وسئل ابن عمر: ما حقُّ المُسلم على المسلم؟ قال: ألَّا يشبع ويجوع، وألَّا يلبس
ويعرَى، وأن يواسيه ببيضائه وصفرائه.
وكان ابن أبي بكرة ينفق على جيرانه أربعين دارًا سوى سائر نفقاته، وكان يبعث
إليهم بالأضاحيِّ والكسوة في الأعياد، وكان يُعْتق في كل يوم عيدٍ مائة
مملوك.
وكان حمَّاد بن أبي سُليمان يُفطِّر كلَّ ليلةٍ من شهر رمضان خمسين إنسانًا، وإذا
كان يوم الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا وأعطاهم مائة مائة.
وقال الشاعر:
أراك تؤمِّل حُسنَ الثناء
ولم يرزقِ اللهُ ذاك البخيلا
وكيف يسود أخو بطنةٍ
يمُنُّ
٥٠ كثيرًا ويعطي قليلا؟
وقال النبي ﷺ: «تجافَوا عن ذنْب السخي، فإن الله يأخذ بيده كلما
عَثَر.»
وقال عليه السلام: «من أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وآوى
٥١ في النائبة؛ فقد وُقِي شح نفسه.»
وقالت أم البنين أختُ عمر بن عبد العزيز: أُفٍّ للبخل! لو كان طريقًا ما سلكتُه،
ولو كان ثوبًا ما لبستُه، ولو كان سراجًا ما استضأتُ به.
وقال الأصمعي: قال بعض العرب: ليست الفتوة الفسقَ ولا الفجور ولا شرب الخمور،
وإنما الفتوة طعامٌ موضوع، وصنيع مصنوع، ومكانٌ مرفوع، ولسانٌ معسول، ونائل مبذول،
وعفاف معروف، وأذًى مكفوف.
وقال أبو حازم المدني: أسعد الناس بالخُلق الحسَن صاحبُه؛ نفسُه منه في راحة، ثم
زوجتُه، ثم ولدُه، حتى إن فرسه ليَصْهَل إذا سمع صوته، وكلبَه يُشرْشر بذنَبه إذا
رآه، وقطَّه يدخل [تحت] مائدته. وإن السيئ الخلُق لأشقى الناس؛ نفسُه منه في بلاء،
ثم زوجتُه، ثم ولدُه، ثم خدَمُه، وإنه ليدخل وهم في سرور فيتفرقون فرَقًا منه،
وإنَّ دابته لتحيد عنه إذا رأتْه مما ترى منه، وكلبَه ينزو على الجدار، وقطه يفرُّ
منه.
وكان على باب ابن كيسان مكتوب: ادخلْ وكُلْ.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها على النبي ﷺ: بأبي مَن لم ينم
على الوثير، ولم يشبع من خبز الشعير!
وقال النبي ﷺ: «إن الله لم يخلق وعاءً مُلئ شرًّا من بطنٍ، فإن كان لا
بدَّ فاجعلوا ثلثًا للطعام، وثلثًا للشراب، وثلثًا للريح.»
قال الشاعر:
ليسوا يبالون إذا أصبحوا
شَبْعَى بِطانًا حقَّ من ضَيَّعوا
٥٢
ولا يبالون بمولاهمُ
والكلبُ في أموالهم يَرْتَعُ
وحكى لنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بجرجان [إمامُ الدنيا] قال: رأيت أبا خليفة المفضَّل
٥٣ بن الحُباب، وقد دُعي إلى وليمةٍ فرأى الصِّحاف تُوضَع وتُرْفَع، فقال:
أللحُسن والمنظر دُعينا، أم للأكل والمَخْبر؟ فقيل: بل للأكل والمخبر. قال: فاتركوا
الصَّحْفة يُبْلَغْ قعرُها.
وكان سليمان بن ثَوَابة ضخم الخِوان، كثير الطعام، وافرَ الرغيف، وكان مُعجَبًا
بإجادة الألوان، واتخاذ البدائع والطرائف والغرائب على مائدته، وكانت له ضروبٌ من
الحلوى لا تُعرف إلا به، وكان خبزه الذي يُوضع على المائدة الرغيفُ من مكُّوكِ
٥٤ دقيق، ولذلك قال أبو فرعون العدوي:
ما الناس إلا نَبطٌ وخُوزانْ
٥٥
ككَهْمَسٍ أو عمرَ بن عمرانْ
ضاق
٥٦ جِرابي عن رغيف سلْمان
٥٧
أيرُ حمار في حِرِ امِّ قحطانْ
وأيْرُ بَغْلٍ في اسْتِ أمِّ عدنانْ
وعَشِقَ رجلٌ جاريةً رومية كانت لقوم ذوي يسار، فكتب إليها يومًا: جُعلتُ فداكِ،
عندي اليوم أصحابي وقد اشتهيت سكباجةً
٥٩ بَقَرِيَّةً، فأحب أن توجِّهي إلينا بما يعمُّنا ويكفينا منها، ودَسْتَجةً
٦٠ من نبيذٍ لنتغذى ونشرب على ذكرك. فلما وصلت الرُّقْعة وجهتْ إليه بما
طلب.
ثم كتب إليها يومًا آخر: فدتْكِ نفسي، إخواني مجتمعون عندي وقد اشتهيت قَلِيَّةً
جَزُوريَّة فوجِّهي بها إليَّ وما يكفينا من النبيذ والنَّقْل ليعرفوا منزلتي عندك.
فوجهتْ إليه بكل ما سأل. ثم كتب إليها يومًا آخر: جُعلتُ فداكِ، قد اشتهيت أنا
وأصحابي رءوسًا سمانًا فأحب أن توجهي إلينا بما يكفينا ومن النبيذ بما يُرْوينا.
فكتبت الجارية عند ذلك: إني رأيت الحب يكون في القلب، وحبك هذا ما تجاوز المعدة.
وكتبت أسفل الرقعة:
وكان الحب في القلب
فصار الحب في المِعْدَةْ
ولا يذبحون الشاةَ إلا بمَيْسرٍ
٦٣
كثيرٌ تناجيها لِئامٌ قُدُورُها
وقالت عادية
٦٤ بنتُ فَرْعَة الزبيرية في ابنها دَوْس:
كانوا الذُّرَى والأنف والسَّناما
كانوا لمن خالَطهم إداما
كالسَّمْن لمَّا سَغْبَل الطعاما
يقال: سغبل رأسَه [بالدُّهْن] وسَغْسَغه
٦٦ وروَّاه وأمرعه.
٦٧
قال الواقدي: قيل لأمِّ أيوب: أيُّ الطعام كان أحب إلى رسول الله
ﷺ، فقد
عرفتم ذلك بمُقامه عندكم؟ فقالت: ما رأيته أَمَرَ بطعامٍ يُصْنع له بعينه، ولا
رأيناه أُتِي بطعام فعابه قط. وقد أخبرني أبو أيوب أنه تَعَشَّى عنده ليلةً من
قصْعة أرسل بها سعد بن عُبادة [فيها] طَفَيْشَل،
٦٨ فرأيتُه ينهك تلك القصعة
٦٩ ما لم يَنْهَك غيرها، فرجع إليَّ فأخبرني، فكنا نعملها له. وكنا نعمل
له الهريسة، وكانت تعجبه. وكان يحضر عَشاءه
٧٠ من خمسة إلى ستةٍ إلى عشرة كما يكون الطعام في القلة والكثرة.
وكان أسعد بن زرارة يعمل له هَرِيسة ليلةً وليلةً لا، فكان رسول الله ﷺ
يسأل عنها: أجاءت قصعة أسعد أم لا؟ فيقال: نعم. فيقول: هَلُمُّوها. فنعرف بذلك أنها
تعجبه.
قَدِم صهيب على رسول الله
ﷺ بقُباء ومعه أبو بكرٍ وعمر بين أيديهم رُطَبٌ
قد جاءهم به كلثوم بن الهِدْم،
٧١ أمهاتُ جَراذِين،
٧٢ وصهيبٌ قد رَمِد في الطريق وأصابتْه مجاعةٌ شديدة فوقع في الرُّطب، قال
صهيب: فجعَلتُ آكل، فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو
رَمِد؟ فقال رسول الله
ﷺ: «أتأكل الرطب وأنت رَمِد؟!» فقال صهيب: أنا آكل
بشق عيني الصحيحة. فتبسم [رسول الله]
ﷺ.
وقال الأعشى:
لو أُطْعِموا المن والسلوى مكانَهُمُ
ما أبصر الناسُ طعمًا فيهمُ نَجَعا
وقال الكُمَيْت:
وما استُنْزِلتْ في غيرنا قِدْرُ جارنا
ولا ثُفِيَتْ إلا بنا حين تُنْصَبُ
يقول: إذا جاورَنا جارٌ لم نكلفه أن يطبخ من عنده، ويكون ما يطبخه من عندنا بما
نعطيه من اللحم ليَنْصُب
٧٣ قِدرَه. ويقال للحَيْس
٧٤ سَوِيطَة.
٧٥ وقال: الرَّغِيغة
٧٦ لبن يُطبخ. وقال: هي العصيدة، ثم الحَرِيرة،
٧٧ ثم النَّجيرة،
٧٨ ثم الحَسُوُّ.
٧٩ واللُّوقَة: الرُّطَب بالسَّمْن،
٨٠ والسَّلِيقَة: الذرة تُدَق وتُصْلَح باللبن، والرَّصِيعَة:
٨١ البُرُّ يُدَقُّ بالفِهْر ويُبَلُّ ويُطبخ بشيء من السمن، والوجيئة:
التمر يُوجَأ ثم يُؤكل باللبن،
وقال أعرابي: ليس من الألبان أحلى من لبن الخَلِفَة.
٨٢
والنَّخِبسة والقَطِيبَة يُخْلَط لبن إبلٍ بلبن غنم.
٨٣
وقال أعرابي: الحمد لله الذي أغنانا باللبن عما سواه.
ويقال: أكل خبزًا قَفارًا وعَفارًا وعَفِيرًا: لا شيء معه.
٨٤ وعليه العَفَار والدَّمار وسوء الدار!
٨٥ وأكل خبزًا جَبيزًا
٨٦ أي فطيرًا
٨٧ يابسًا. وجاء بتمر فَضٍّ
٨٨ وفضًى وفَذٍّ وحَثٍّ:
٨٩ لا يَلْزَق بعضُه ببعض.
قال أبو الحسن الطوسي: أخبرني هشام قال: دخل عليَّ فرَجٌ الرُّخَّجِيُّ وقد
تغديتُ واتَّكأتُ، فقال: يا أبا عبد الله، إنما تُحْسن الأكل والاتكاء. [قال:]
فتركتُ [الأكل] عنده أيامًا، وبلغه ذلك فبعث إليَّ: إن كنتَ لا تأكل طعامنا فليس
لنا فيك حاجة. قال: «فأكلتُ
٩٠ شيئًا ثم أتيته»، فلم يعتذر مما كان.
قال أبو الحسن: أخبرني الفراء قال: العرب تسمِّي السِّكْباجَة
٩١ الصَّعْفَصَة. وأنشد:
أبو مالِكٍ يعتادنا في الظَّهَائِرِ
يَجُوء فيُلْقِي رحلَه عند عامر
٩٢
أبو مالك: الجوع، هكذا تقول العرب. ويَجِيء
٩٣ ويَجُوء لغتان. وقال الآخر:
رأيتُ الغواني إذْ نزلْتَ جَفَوْنني
أبا مالكٍ إني أظنُّك دائبا
٩٤
أبو مالك ها هنا الشَّيْب.
قال أبو الحسن: أخبرني الثوري
٩٥ عن أبي عُبيدة في الحديث الذي يُرْوَى عن عمر بن الخطاب أنه رأى في
روْث فرسه حبة شعير، فقال: لأجعلنَّ
٩٦ لك في غَرَز
٩٧ النَّقِيع ما يشغلك عن شعير المسلمين. قال: والنقيع موضعٌ بالمدينة
أحماه عمر [بن الخطاب] لخيل المسلمين، خلاف البقيع بالباء.
قال الطوسيُّ: العرب تقول: «أيدي الرجال أعناقُها»، أي مَن كان أطولَ يدًا على
المائدة تناول فأكل، الهاءُ ترجع على الإبل، أي أيدي الرجال أعناق الإبل، أي مَن
طال نال.
قال الأصمعي: سألت بعض الأكَلَة فيمن كان يُقدِم على مُيَسَّرِي الناس: كيف تصنع
إذا جَهَدتكَ الكِظَّة — والعرب تقول: «إذا كنتَ بَطِنًا فعُدَّكَ زَمِنًا»؟ قال:
آخذُ رَوْثًا حارًّا وأَعْصِره وأشرب ماءه فأختلفُ
٩٨ عنه مرارًا، فلا ألبثُ أن يلحق بطني [بظهري] فأشتهي الطعام.
قال ابن الأعرابي: قال الكِلابيُّ: هو يَنْدِفُ الطعام إذا أكله بيده، ويَلْقَم
الحَسُوَّ، واللَّقْم بالشَّفَة، والنَّدْف: الأكل باليد. وقال الزبيري: يَنْدِف.
٩٩
وأنشد ابن الأعرابي:
ويظل ضيف بني عُبادة فيهمُ
متضمِّرًا وبطونُهمْ كُتْمُ
أي ممتلئة. والتَّضَمُّر: الهُزال والنحافة، كالنخل المُضَمَّر أي الذي قد ذَوَتْ
١٠٠ جذوعُه. قال الشَّنَبُوذي في قول الله تعالى:
١٠١قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ قال: الذين يَثْرُدُون ويأكل غيرُهم. قال أبو الحسن: كانت
لي ابنة تجلس معي على المائدة فتُبرز كفًّا كأنها طَلْعَةٌ، في ذراعٍ كأنها
جُمَّارَة، فلا تقع عينها على أكلةٍ نفيسةٍ إلا خصَّتْني بها، فزوجتها، وصار يجلس
معي على المائدة ابنٌ لي، فيُبْرز لي كفًّا كأنها كِرْنَافة،
١٠٢ في ذراعٍ كأنها كَرَبَة،
١٠٣ فوالله إنْ
١٠٤ تسبق عيني إلى لقمةٍ طيبةٍ إلا سبقتْ يدُه إليها.
وقال أعرابي للنبي ﷺ: إني نذرتُ إذا بلَّغتْني ناقتي أن أنحرها وآكل من
كبدها. قال: «بئسما جازيتَها!»
أضلَّ أعرابيٌّ بعيرًا له فطلبه، فرأى على باب الأمير بُخْتِيًّا فأخذه وقال: هذا
بعيري. فقال: إنك أَضْلَلتَ بعيرًا وهذا بُخْتيٌّ. فقال: لمَّا أكل علف الأمير
تَبَخَّتَ. فضحك منه وتركه [يعيد قولَه ويعجبه].
الكِدْنة: غِلَظ اللحم وتراكمُه، ومنه قول هشامٍ لسالم — وقد رآه فأعجبه جسمُه:
ما رأيتُ ذا كِدْنَةٍ أحسن منك، فما طعامُك؟ قال: الخبز والزيت. قال: أما تَأْجِمه؟
١٠٥ قال: إذا أَجَمتُه تركتُه حتى أشتهيه، ثم خرج وقد أصاب في جسمه
بَرَصًا. فقال: لَقِعَني
١٠٦ الأحول بعينه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.
وقال عبد الأعلى القاصُّ:
١٠٧ الفقير مرَقتُه سِلْقَة، وغذاؤه
١٠٨ عُلْقَة، وخُبْزَتُه فِلْقَة،
١٠٩ وسمكَتُه شِلْقَة، أي كثيرة الشوك.
١١٠
قال رجاء بن سلمة: الأكل في السوق حماقة.
قيل لذؤيب بن عمرو: إنك مفلس لا تقدر على قُرْصٍ ولا جُمْعٍ
١١١ ولا حُفَالة،
١١٢ وبيتك عامرٌ بالفأر.
١١٣
قال علي بن عيسى: الطلاق الثلاث البتة إن كان يمنعهم
١١٤ من التحول عنه إلا أنهم يسرقون أطعمة الناس يأكلونها في بيته لأمنهم
فيه، لأنه لا هِرَّ هناك ولا أحد يأخذ شيئًا ولا يُؤْذَوْن، وإن لهم لمِسْقاةً
مملوءةً ماءً كلما جفَّت سُكِب لهم فيها ماءٌ.
جعل الخبر عن الفأر على التلميح كالخبر عن قومٍ عقلاء.
وقال النبي ﷺ: «أكرموا الخبزَ فإن الله أكرمه وسخَّر له بركات السموات
والأرض.»
وقال آخر:
كأن صوتَ سَحْبِها
١١٥ المُمْتاح
سُعال شيخٍ من بني الجُلَاحِ
يقول من بعد السُّعال آحِ
قال الأصمعي: الرَّجيع: الشِّواء يُسخَّن ثانيةً. والنَّقِيعة: ما يُحْرِزه رئيس
القوم من الغنيمة قبل أن تُقسَم، والجمع نَقائِع. وقال: أنشدني عيسى بن عمر لمعاوية
بن صعصعة:
مثلُ الذُّرَى لُحبتْ عرائكُها
١١٦
لَحْبَ الشِّفار
١١٧ نَقائعَ النَّهْبِ
وقال مُهَلْهل:
إنا لنضْرب بالسيوف رءوسَهم
ضربَ القُدَار نَقِيعةَ القُدَّامِ
القُدَار: الجزَّار، والقُدار: الملِك أيضًا. والقُدَّام: رؤساء الجيوش، والواحد
قادم.
وقال مَعْن
١١٨ بن أوس يصف هدير قِدْرٍ:
إذا التَطَمَتْ
١١٩ أمواجُها فكأنها
عوائذُ دُهْمٌ في المحلَّة قُيَّلُ
إذا ما انتحاها المُرْمِلون
١٢٠ رأيتَها
لوَشْك قِرَاها وهي بالجَزْل تُشْعَلُ
سمعتَ لها لغْطًا
١٢١ إذا ما تَغَطْمَطتْ
كهدْر الجِمال رُزَّمًا حين تَجْفُلُ
وقال آخر:
إذا كان فَصْدُ العِرْق والعِرْقُ ناضِبٌ
وكَشْطُ سَنَام الحيِّ عيشًا
١٢٢ ومغنما
وكان عتيقُ
١٢٣ القِدِّ خيرَ شِوائهم
وصارَ غَبوق الخُودِ ماءً مُحَمَّما
عَقَرتُ لهم دُهْمًا مَقاحِيدَ
١٢٤ جِلَّةً
وعادت بقايا البَرْك نَهْبًا مقسَّما
قال:
١٢٥ وإذا كان القحط فصدوا الإبل وعالجوا ذلك الدم بشيء من العلاج لها كما
يصنع الترك، فإنها تجعله في المُصْران ثم تشويه أو تطبخه، فيُؤكَل كما تُؤكل النَّقانِق
١٢٦ وما أشبه ذلك.
وأما قوله: «والعِرْق ناضِبٌ»، فإنما يعني قلة الدم لهزال البعير وكذلك جميع
الحيوان، وأكثر ما يكون دمًا إذا كان بين المَهْزُول والسمين.
وقالت أم هشام السَّلوليَّة: ما ذكر الناسُ مذكورًا خيرًا من الإبل وأَجْدى
١٢٧ على أَحَدٍ بخيرٍ. هكذا رُوِي.
وقال الأندلسي: إن حَملَتْ أثقلتْ، وإن مشتْ أبعدتْ، وإن حَلبتْ أَرْوَتْ، وإن
نُحِرَتْ أَشْبَعتْ.
قال أبو الحسن الهيثم، عن عبد العزيز بن يسار قال: قدمتُ باجُمَيْرَى
١٢٨ بخمس سَفائف
١٢٩ دقيق، وذاك في زمن مصعب وهو مُعَسْكِرٌ بها فلقِيني عِكرمة بن رِبْعي
الشيباني فقال: بكم أخذتَها؟ قلتُ: بتسعين ألفًا. قال: فإني أعطيك مائةً وخمسين
ألفًا على أن تؤخِّرَني. فدفعتُهنَّ إليه وما في المعسكر يومئذٍ دقيق. قال: فجاء
بنو تيم الله فأخذوا ذلك الدقيق، فجعل كلُّ قومٍ يَعْجِنون على حيالهم، ثم جاءوا
إلى رَهْوَةٍ
١٣٠ من الأرض فحفروها ثم جعلوا فيها الحشيش، ثم طرحوا ذلك العجين فيها، ثم
أقبلوا فأخذوا فرسًا وَدِيقًا
١٣١ …
١٣٢ فخلَّوْا عنه، ثم أقبلوا وهو
١٣٣ يتبعهم حتى انتهوا إلى الحفيرة، فدفعوا الفرس الوديق فيها وتبعها
الفرس، وتنادى الفريقان: إن فرس حوشب وقع في حَفيرة عكرمة فما أخرجوه إلا بالعَمَد.
قال: فغلبه عكرمة.
قال شاعر:
لا أشتُمُ الضيف إلا أن أقول له
أباتك
١٣٤ الله في أبيات عمارِ
أباتك
١٣٤ الله في أبيات مُعتَنِزٍ
١٣٥
عن المكارم لا عَفٍّ ولا قاري
جَلْد الندى زاهدٍ في كل مكرمةٍ
كأنما
١٣٦ ضيفه في مَلَّة النارِ
وقال آخر:
وهو إذا قيل له وَيْهًا كُلْ
فإنه مُوَاشكٌ مستعجلْ
وهو إذا قيل له: وَيْهًا
١٣٧ فُلْ
فإنه أَحْجِ به أن يَنْكُل
[قيل لصوفي: ما حدُّ الشِّبَع؟ قال: لا حد له، ولو أراد الله أن يؤكل بحدٍّ لبين
كما بيَّن جميع الحدود. وكيف يكون للأكل حد والأكَلَةُ مختلفو الطباع والمزاج
والعارض والعادة؟ وحكمة الله ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء
كما شاء.]
وقيل لصوفيٍّ: ما حد الشبع؟ فقال: ما نشَّط على أداء الفرائض، وثبَّط عن إقامة
النوافل.
وقيل لمتكلم: ما حد الشبع؟ فقال: حدُّه أن يجلب النوم، ويُضجِر القوم، ويبعث على
اللوم.
وقيل لطفيلي: ما حد الشبع؟ قال: أن يؤكل على أنه آخر الزاد، ويُؤْتَى على الجِلِّ
والدِّقِّ.
وقيل لأعرابي: ما حد الشبع؟ قال: أما عندكم يا حاضرة فلا أدري، وأما عندنا في
البادية فما وجَدَتِ العين، وامتدت إليه اليد، ودار عليه الضرس، وأساغه الحلق،
وانتفخ به البطن، واستدارت عليه الحوايا، واستغاثت منه المعدة، وتقوَّست منه
الأضلاع، والتوت عليه المصارين، وخِيف منه الموت.
وقيل لطبيب: ما حد الشبع؟ قال: ما عدَّل الطبيعة، وحفظ المزاج، وأبقى شهوة لما
بعد.
وقيل لقصَّار: ما حد الشبع؟ قال: أن تثب إلى الجفنة كأنك سِرْحان، وتأكل وأنت
غضبان، وتَمْضَغ كأنك شيطان، وتبلع كأنك هَيْمان، وتَدَع وأنت سكران، وتستلقي كأنك أَوَان.
١٣٨
وقيل لحمَّال: ما حد الشبع؟ قال: أن تأكل ما رأيت بعَشْرِ يديك غير عائفٍ ولا
متقزِّزٍ، ولا كارهٍ ولا متعزِّز.
وقيل لملَّاح: ما حد الشبع؟
١٣٩ قال: حد السُّكْر. قيل:
١٤٠ فما حد السكر؟ قال: ألا تَعرف السماء من الأرض، ولا الطولَ من العرض،
ولا النافلة من الفرض، من شدة النَّهْس والكسر والقطع والقرض. قيل له: فإن السكر
محرَّم فلِم جعلت الشبع مثله؟ قال: صدقتم، هما سُكران: أحد السكرين موصوفٌ بالعيب
والخسار، والآخر معروفٌ بالسكينة والوقار. قيل [له]: أما تخاف الهَيْضَة؟ قال: إنما
تصيب الهيضة من لا يسمِّي الله عند أكله، ولا يشكره على النعمة فيه، فأما من ذكر
الله وشكره فإنه يَهْضِم ويستمرئ ويَقْرَم إلى الزيادة.
وقيل لبخيل: ما حد الشبع؟ قال: الشبع حرامٌ كله، وإنما أحل الله من الأكل ما
نَفَى الخَوى، وسكَّن الصُّداع، وأمسك الرَّمَق، وحال بين الإنسان وبين المرح، وهل
هلك الناس في الدين والدنيا إلا بالشبع والتضلُّع والبِطنة والاحتشاء؟ والله لو كان
للناس إمامٌ لوكَّل بكل عشرةٍ منهم من يحفظ عليهم عادة الصحة، وحالة العدالة، حتى
يزول التعدي، ويفشو الخير.
وقيل لجندي: ما حد الشبع؟ قال: ما شد العضُد، وأحمَى الظهر، وأدرَّ الوريد، وزاد
في الشجاعة.
وقيل لزاهد: ما حد الشبع؟ قال: ما لم يَحُل بينك وبين صوم النهار وقيام الليل،
وإذا شكا إليك جائعٌ عرفتَ صدقه لإحساسك به.
وقيل لمدني: ما حد الشبع؟ فقال: لا عهد لي به، فكيف أصف ما لا أعرف؟
وقيل ليمني: ما حد الشبع؟ قال: أن يُحشَى حتى يُخشَى.
وقيل لتركي: ما حد الشبع؟ قال: أن تأكل حتى تدنو من الموت.
وقيل لسِمِّويه
١٤١ القاص: من أفضل الشهداء؟ قال: من مات بالتُّخَمة، ودُفِن على
الهَيْضَة.
قيل لسمرقندي: ما حد الشبع؟ قال: إذا جحظت عيناك، وبكِم لسانك، وثقُلت حركتك،
وارجحنَّ بدنك، وزال عقلك؛ فأنت في أوائل الشبع. قيل له: إذا كان هذا أوله فما
آخره؟ قال: أن تنشق نصفين.
قيل لهندي: ما حد الشبع؟ قال: المسألة عن هذا كالمحال، لأن الشبع من الأرُزِّ
النقي الأبيض الكبار الحب، المطبوخ باللبن والحليب، المغروف على الجام البِلَّور، المَدُوف
١٤٢ بالسكر الفائق؛ مخالفٌ للشبع من السمك المملوح وخبز الذرة، وعلى هذا
يختلف الأمر في الشبع. فقيل له: فدع هذا، إلى متى ينبغي أن يأكل الإنسان؟ قال: إلى
أن يقع له أنه إن أراد لقمة زهقتْ نفسُه إلى النار.
قيل لمُكارٍ: ما حد الشبع؟ قال: والله ما أدري، ولكن أحب أن آكل ما مشى حماري من
المنزل إلى المنزل.
قيل لجمَّال: ما حد الشبع؟ قال: أنا أواصل الأكل فما أعرف الحد، ولو كنتُ أنتهي
لوصفتُ الحال فيه، أعني أني ساعةً ألتُّ
١٤٣ الدقيق، [وساعة أَمَلُّ المَلَّة، وساعةً أثرُد، وساعةً آكل،] وساعةً
أشرب لبن اللِّقاح، فليس لي فراغ فأدري أني بلغتُ من الشبع، إلا أنني أعلم في
الجملة أن الجوع عذابٌ وأن الأكل رحمة، وأن الرحمة كلما كانت أكثر كان العبد إلى
الله أقرب والله عنه
١٤٤ أرضى.
قال الوزير لما بلغتُ هذا الموضع من الجزء — وكنتُ أقرأ عليه: ما أحسنَ ما اجتمع
من هذه الأحاديث! هل بقي منها شيء؟ قلت: بقي منها جزء آخر.
١٤٥ قال: دعه لليلةٍ أخرى وهات ملحة الوداع. قلت: قيل لصوفيٍّ في جامع
المدينة: ما تشتهي؟ قال: مائدةً رَوْحاء،
١٤٦ عليها جفنةٌ رَحَّاء،
١٤٦ فيها ثريدةٌ صفراء، وقِدْرٌ حمراء بيضاء.
قال:
١٤٧ أبَيْتَ
١٤٨ الآن [ألا] تودِّع إلا بمثل ما تقدم! وانصرفتُ.