الليلة الثانية والثلاثون
ثم حضرتُ فقرأتُ ما بقي من هذا الفن.
تنبح أحيانًا وأحيانًا تهِرّْ
وتتمطَّى
٢ ساعةً وتقدحِرّْ
تعدُو على الضَّيْف
٣ بعودٍ منكسر
يسقط عنها ثوبُها وتَأْتزر
لو نُحرتْ في بيتها عشر جُزُر
لأصبحتْ من لحمهنَّ تعتذرْ
بحَلِفٍ سَحٍّ
٤ ودمعٍ منهمرْ
يَفِرُّ مَن قاتلَها
٥ ولا تفرّْ
المُقْدَحِرُّ: المتهيئ للسِّباب.
وقال أبو دُلامة الأسَدي:
٦
قد يُشبع الضيفَ الذي لا يشبعُ
من الهَبِيد والحِرادُ تَسَعُ
٧
ثم يقول ارضُوا بهذا أو دَعُوا
وقال آخر:
حتى إذا أضحى تَدَرَّى
٨ واكتحلْ
لجارتَيْهِ ثم ولَّى فنَثَلْ
ذرْقَ الأنُوقَيْنِ
٩ القَرَنْبَى والجُعَلْ
وقال آخر:
[إذا
١٠ أتوْه بطعامٍ وأكَلْ]
بات يُعَشِّي وحدَه أَلْفَيْ جُعَلْ
وقال أبو النجم:
[تُدْني من الجَدْوَلِ
١١ مثلَ الجدولِ]
أجوفَ في غَلْصَمَةٍ
١٢ كالمِرْجلِ
تسمعُ للماء كصوت المِسْحَلِ
١٣
بين وَرِيدَيْها
١٤ وبين الجحْفلِ
يُلقيه
١٥ من طُرْقٍ أتتْها من علِ
قذفُ لها جوفٍ وشِدقٍ أهْدلِ
١٦
كأنَّ صوتَ جَرْعها المُسْتعجِلِ
جَنْدلةٌ دَهْدَهَتْها
١٧ في جَنْدلِ
وقال آخر:
يقول للطاهي المُطَرِّي
١٨ في العملْ
ضَهِّبْ
١٩ لنا إن الشِّواء لا يُمَلّْ
بالشَّحْمِ إما قد أَجَمْناه
٢٠ بِخَلّْ
عَجِّلْ لنا مِن ذا وأَلْحِقْ بالبَدَلْ
وأنشد ابن الأعرابي:
أعددتُ للضيفِ وللرفيقِ
والجارِ والصاحب والصديقِ
وللعِيال الدَّرْدَقِ
٢١ اللَّصُوقِ
حمراءَ من مَعْز أبي مرزوقِ
تَلْحَسُ خدَّ الحالب الرفيقِ
بليِّن المَسِّ قليل الرِّيقِ
كأنَّ صوتَ شُخْبِها الفَتِيقِ
فحيحُ
٢٢ ضبٍّ حَرِبٍ حَنِيقِ
في جُحُرٍ ضاق أشدَّ الضيق
وأنشد أيضًا:
هل لك في مِقْراةِ قَيْلٍ نِيٍّ
٢٣
وشَكْوةٍ باردةِ النَّسِيِّ
٢٤
تُخْرِج
٢٥ لحمَ الرجل الضَّوِيِّ
حتى تراه ناهدَ الثُّدِيِّ؟
وأنشد ابن حبيب:
نِعْم لَقُوحُ
٢٦ الصِّبْية الأصاغرِ
شَرُوبُهم من حَلَبٍ وحازِرِ
٢٧
حتى يَرُوحوا سُقَّطَ المآزر
وُضْعَ الفِقاح
٢٨ نُشَّزِ الخَواصِر
وأنشد الآمِديُّ:
كأن في فِيه حِرَابًا شُرَّعَا
زُرْقًا تَقُضُّ
٢٩ البدَنَ المُدَرَّعَا
لو عَضَّ رُكْنًا وَصَفًا تَصدَّعا
وقال محمد بن بشير:
لَقَلَّ عارًا
٣٠ إذا ضَيفٌ تَضيَّفني
ما كان عندي إذا أَعطيتُ مجهودي
فضلُ المُقِلِّ إذا أعطاه مصطبِرًا
ومُكْثِرٍ في الغِنَى سيَّان في الجُودِ
لا يَعْدَم السائلون الخيرَ أَفعلُه
إمَّا نَوَالِي وإما حُسْنَ مَرْدودي
قال الأعرابي: نِعْم الغداء السويق! إن أكلتَه على الجوع عَصَم، وإن أكلتَه على
الشِّبع هَضَم.
وقال العَوَّامي
٣١ — وكان زوَّارًا لإخوانه في منازِلهم: العُبوسُ بُوس، والبِشْر بُشرى،
والحاجَة تَفْتُق الحيلة، والحيلة تَشحذُ الطبيعة.
ورأيت الحنبلوني
٣٢ ينشد [ابن آدم — وكان موسرًا بخيلًا]:
وما لامرئٍ طولُ الخلود وإنما
يخلِّده حسن الثناء فيَخلُدُ
فلا تدَّخرْ زادًا فتصبحَ مُلْجَأً
إليه وكُلْه اليوم يُخْلِفْه الغَدُ
وحكى لنا ابن أسادة قال: كان عندنا — يعني بأصفهان — رجلٌ أعمى يطوف ويسأل، فأعطاه
مرةً إنسانٌ رغيفًا فدعا له وقال: أحسن الله إليك، وبارك عليك، وجزاك خيرًا، وردَّ
غربتك! فقال له الرجل: ولمَ ذكرتَ الغربة [في دعائك؟ وما عِلْمك بالغربة؟] فقال: الآن
لي ها هنا عشرون سنة ما ناولني أحدٌ رغيفًا صحيحًا.
وقال آخر:
يُرَى جارُهم فيهم نحيفًا وضيفُهم
يجوع وقد باتوا مِلاءَ المَذَاخِر
٣٣
وقال الكَرَوَّسِيُّ:
ولا يستوي الاثنان
٣٤ للضيف آنِسٌ
كريمٌ وزاوٍ بين عينيه قاطبُ
وأنشد:
طعامُهمْ فَوْضى فَضَى في رحالهمْ
ولا يُحْسِنون السر إلا تنادِيا
٣٥
وأنشد آخر:
يُمانُ ولا يَمونُ وكان شيخًا
شديدَ اللَّقْم هِلْقامًا بطينا
٣٦
العرب تقول: إذا شَبِعَتِ الدَّقيقة
٣٧ لَحَسَتِ الجَلِيلة.
قال ابن سلَّام: كان يُخبَز في مطبخ سليمان — عليه السلام — في كل يومٍ ستُّمائة
كُرٍّ
٣٨ حنطة، ويُذبح له في كل غداةٍ ستة آلاف ثور وعشرون شاةً، وكان يُطعِم الناس
ويُجلِس على مائدته بجانبه
٣٩ اليتامى والمساكين وأبناءَ السبيل، ويقول لنفسه: مسكينٌ بين مساكين.
ولما ورد تِهامة وافى الحرمَ وذبح للبيت طول مُقامه بمكة كلَّ يومٍ خمسة آلاف ناقة
وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة. وقال لمن حضر: إن هذا المكان سيخرج منه نبيٌّ صفته كذا
وكذا.
وقال أعرابي:
وإذا خَشِيتَ من الفؤاد لَجَاجَةً
فاضربْ عليه بجُرْعةٍ من رائبِ
وروى هشيم أن النبي ﷺ قال: مِن كرم المرء أن يطيِّب زاده في السفر.
وقال ابن الأعرابي: يقال: جاء فلانٌ ولقد لَغَط
٤٠ رباطُه من الجوع والعطش.
وأنشد:
رَبَا الجوعُ في أَوْنَيْه
٤١ حتى كأنه
جَنِيبٌ به إن الجنيب جنيبُ
أي جاع حتى كأنه يمشي في جانب متعقِّفًا.
٤٢
وقال أيضًا: إن من شؤم الضيف أن يغيب عن عَشاء الحي، أي لا يدركه، فيريد إذا جاءهم
أن
يتكلفوا له عَشاءً على حدة.
وأنشد:
حيَّاك ربُّك واصطبحتَ ثريدةً
وإدامُها رُزٌّ وأنت تُدَبِّلُ
واللُّقْمة واللقمة إذا جُمِعَتا من الثريد والعصائد يقال لهما دُبْلَة، ومنه سُمِّيت
الدُّبَيْلة وهي الورم الذي يخرج بالناس. وأنشد:
أقول لمَّا ابتَرَكوا جُنوحَا
بقصعةٍ قد طُفِّحَتْ تَطْفِيحا
دَبِّلْ أبا الجَوْزاء أو تَطِيحَا
٤٣
وقال الفرزدق:
فدبَّلْتُ أمثالَ الأثافِي كأنها
رءوسُ أعادٍ قُطِّعتْ يومَ مَجْمَعِ
وقال سعيد بن المسيِّب: قال رسول الله ﷺ: «أطيبوا الطعام فإنه أنفى للسُّخط،
وأَجْلَب للشكر، وأَرْضَى للصاحب.»
قال بشار:
يَغَصُّ إذا نال الطعامَ بذكركمْ
ويَشْرَقُ مِن وَجْدٍ بكم حين يشربُ
المسعور: الجائع. قال هميان بن قُحافة:
لاقَى صِحافًا بَطِنًا مَسْعورا
وقال شاعر:
يمشي من البِطْنة مشيَ الأَبْزَخِ
٤٤
البَزَخ: دخول البطن وخروج الثنَّة أسفل السُّرَّة.
وقال آخر:
أَغَرُّ كمصباحِ الدُّجنَّة يَتَّقي
شَذَى
٤٥ الزاد حتى تُستفاد أَطايِبُهْ
شداه:٤٥ طيبه.
وقال أعرابي: بنو فلان لا يَبْزرون
٤٦ ولا يَقْدُرون.
وقال الثوري: بَطِّنوا غَداءكم بشَرْبة.
لا يستوي الصَّوْتانِ حين تجاوَبَا
صوتُ الكَرِيب
٤٨ وصَوْت ذِئْبٍ مُقْفِرِ
الكريب: الشوبَق
٤٩ وهو المِحْوَر والمِسْطَح.
وقال الشاعر:
إذا جاء باغي الخير قلْنا بَشاشةً
له بوجوهٍ كالدنانير: مرحبَا
وأَهْلًا فلا ممنوعَ خير تريده
ولا أنت تَخْشَى عندنا أن نُؤَوَّبا
قال الشعبي: استسقيتُ على خِوان قتيبة، فقال: ما أَسقيك؟ فقلت: الهيِّن الوُجْد،
العزيز الفَقْد. فقال: يا غلام، اسْقِه الماء.
مرَّ مِسكينٌ بأبي الأسود ليلًا وهو ينادي: أنا جائع! فأدخله وأطعمه حتى شبع، ثم قال
له: انصرف إلى أهلك. وأَتْبعه غلامًا وقال له: إن سمعتَه يسأل فارْدُده إليَّ. فلما
جاوزه المسكينُ سأل كعادته، فتشبث به الغلام وردَّه إلى أبي الأسود. فقال: ألم تشبع؟
فقال: بلى. قال: فما سؤالك؟ ثم أمر به فحُبِس في بيتٍ وأُغْلق عليه الباب، وقال: لا
تُرَوِّع مسلمًا سائر الليلة ولا تكذب. فلما أصبح خلَّى سبيله، وقال: لو أطعنا السؤَّال
صرنا مثلَهم.
وسمع دابةً له تَعْتَلِف في جوف الليل، فقال: إني لأراك تَسْهَرين في مالي والناس
نيام، والله لا تصبحين عندي! وباعها.
وأبو الأسود يُعَدُّ في الشعراء والتابعين والمحدِّثين والبخلاء والمَفَاليج
والنحويين والقضاة والعُرْج والمعلمين.
وقال الشاعر:
أَنفق أبا عمرٍو ولا تَعَذَّرَا
وكُلْ من المال وأَطعم من عَرَا
لا ينفع الدرهمُ إلا مُدْبِرا
كان مسلم بن قتيبة لا يجلس لحوائج الناس حتى يشبع من الطعام الطيب ويَرْوَى من الماء
البارد، ويقول: إن الجائع ضيِّق الصدر، فقير النفس، والشبعان واسع الصدر، غني
النفس.
وقال أعرابي:
هلكتُ هَرِيئةً
٥٠ وهلكتُ جوعًا
وخَرَّق مِعْدَتي شوك القَتادِ
وحبَّةُ حَنْظَل ولُبابُ قطنٍ
وتَنُّومٌ ينظِّمُ بطن وادي
٥١
وقال الفرزدق:
وإن أبا الكِرْشاء
٥٢ ليس بسارقٍ
ولكنه ما يسرق القومُ يأكل
ولديك الجِن:
إذا لم يكن في البيت ملحٌ مطيِّبٌ
وخلٌّ وزيتٌ حول حُبِّ
٥٣ دقيقِ
فرأْسُ ابن أُمِّي في حِرِ امِّ [ابن] خالتي
ورأسُ عدوِّي في حِرِ امِّ صديقي
وقال آخر:
وما جِيرةٌ إلا كليبُ بن وائلٍ
لياليَ تَحْمَى عِزَّةً مَنْبِتَ البَقْلِ
وقال مِسْعَر بن مكدَّم لرَقَبَة بن مَصْلة: أراك طُفَيْلِيًّا. قال: يا أبا محمد،
كلُّ من ترى طفيليٌّ إلا أنهم يتكاتمون.
وقال شاعر:
قومٌ إذا آنَسوا ضَيْفًا فلم يجدوا
إلا دَمَ الرأْس صَبُّوهُ على الباب
قال المفجَّع: الرأس الرئيس.
اشتد بأبي فرعون الشاشيِّ الحالُ فكتب إلى بعض القضاة بالبصرة:
يا قاضي البصرة ذا الوجه الأغرْ
إليك أشكو ما مضى وما غبر
عفا زمانٌ وشتاءٌ قد حضرْ
إن أبا عَمْرَة
٥٤ في بيتي انْجَحَرْ
يضرب بالدُّفِّ وإن شاء زَمَرْ
فاطْرُدْه عني بدقيق يُنْتظَرْ
فأجابه إلى ما سأل.
ويقال: وقف أعرابي على حلقة الحسن البصري رحمة الله عليه، فقال: رحم الله من أعطى
من
سَعَة، ووَاسَى من كَفَاف، وآثر من قِلَّة! فقال الحسن: ما أبقى أحدًا إلا سأله.
وقال ابن حبيب: يقال: أحمق من الضَّبُع، وذلك أنها وجدتْ تَوْدِيةً
٥٥ في غدير، فجعلت تشرب الماء وتقول: «يا حبذا طعمُ اللبن!» حتى انشق بطنُها
فماتت. والتودية: العود يُشَدُّ على رأس الخِلْف
٥٦ لئلا يَرْضَع الفصيلُ أمَّه.
دعا رجلٌ آخرَ، فقال له: هذه
٥٧ تُكْسِب الزيارة وإن لم تُسْعِد، ولعل تقصيرًا أنفعُ فيما أحبُّ بلوغَه من برِّك.
٥٨ فقال صاحبه: حرصك على كرامتي يكفيك مئونة التكلف لي.
قيل لأعرابي: لو كنتَ خليفةً كيف كنتَ تصنع؟ قال: كنتُ أستكْفي
٥٩ شريفَ كل قومٍ ناحيتَه، ثم أخلو بالمطبخ فآمر الطهاة فيُعْظِمون
٦٠ الثريدة ويُكْثِرون العُرَاق،
٦١ فأبدأُ فآكلُ لُقَمًا، ثم آذَن للناس، فأيُّ ضياعٍ
٦٢ يكون بعد هذا؟!
وقال أعرابي لابن عم له: والله ما جِفانُكم بعِظام، ولا أجسامكم
٦٣ بوِسام، ولا بَدَت
٦٤ لكم نار، ولا طُولِبْتُم بثار.
وقيل لأعرابي: لمَ قالت الحاضرة للعبد: باعك الله في الأعراب؟ قال: لأنَّا نُعْرِي
جلْدَه، ونطيل كدَّه، ونُجِيعُ كِبْدَه.
وقال طفيلي: إذا حُدِّثتَ على المائدة فلا تزدْ في الجواب على نعم، فإنك تكون بها
مؤانسًا لصاحبك، ومُسِيغًا للُقمتِك، ومُقبلًا على شأنك.
وقيل لأعرابي: أيُّ شيءٍ أحدُّ؟ قال: كبدٌ جائعة، تُلقِي إلى أمعاء ضالعة.
٦٥
وقيل لآخَر: أيُّ شيء أحدُّ؟ قال: ضِرسُ جائع، يُلقِي [إلى] مِعًى ضالع.٦٥
وقال آخر:
أحبُّ أن أصطاد ضبًّا سَحْبَلا
٦٦
ووَرَلًا يرتادُ رَمْلًا أَرْمَلا
قالت سُلَيْمَى لا أحبُّ الجَوْزَلَا
ولا أحبُّ السَّمَكاتِ مَأْكلا
الجَوْزَل: فرْخ الحمام. والورل: دابة.
٦٧ أرمل: صفةٌ للوَرَل. وإذا كان كذلك
٦٨ كان أسمن له، وهو
٦٩ يَسْفِدُ فيَهْزُل.
ويقال: أقبحُ هزيلَيْن: المرأةُ والفرَس، وأطيب غثٍّ أُكِل غثُّ الإبل، وأطيب الإبل
لحمًا ما أكل السَّعْدان،
٧٠ وأطيب الغنم لبنًا ما أكل الحُرْبُث.
٧١
ويقال: أَهْوَنُ مظلومٍ سِقاءٌ مُرَوَّب، وهو الذي يُسْقَى منه قبل أن يُمْخَض
وتُخْرَج زُبْدَتُه.
ويقال: سقانا ظليمةَ وَطْبِه،
٧٢ وقد ظُلِمَتْ أَوْطُبُ
٧٣ القَوْم.
وقال الشاعر:
وصاحب
٧٤ صدْقٍ لم تَنلْني شَكاتُه
ظلمْتُ وفي ظلمي له عامِدًا أجْرُ
يعني وَطْبَ لبن.
وكان
٧٥ الحسن البصري إذا طَبخ اللحم قال: هلُمُّوا إلى طعام الأحرار.
قال سفيان الثوري: إني لألْقى الرجلَ فيقول لي «مرحبًا» فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأُ
بِساطه، وآكلُ ثَريدَه، وأَزْدَرِد عَصيدَه؟
حكى أبو زيد: قد
٧٦ هَجَأَ غَرْثِي:
٧٧ إذا ذهب، وقد أَهْجَأَ طعامُكم غَرْثِي: إذا قَطَعَه. قال الشاعر:
فأخزاهُمُ
٧٨ ربي ودلَّ عليهمُ
وأَطْعَمهُمْ مِن مَطْعَمٍ غير مُهْجِئِ
٧٩
قال: ويقال: بَأَرْتُ
٨٠ بؤرةً فأنا أَبْأَرُها، إذا حَفَرْتَ حَفيرةً يُطبَخ فيها وهي الإرَة،
ويقال: أُرْتُ إرَةً فأنا أَئِرُها وَأْرًا.
وقال حسان:
تخال قدورَ الصَّادِ
٨١ حول بيوتنا
قَنَابِل دُهْمًا في المَباءَةِ صُيَّما
قال أبو عُبيدة: كان الأصمعي بخيلًا، وكان يجمع أحاديث البخلاء ويوصي بها ولدَه
ويتحدث بها.
وكان أبو عبيدة إذا ذُكر الأصمعيُّ أنشد:
عَظُم الطعام بعينه فكأنه
هو نفسه للآكلين طعام
ويقال: أَسْأَرْتُ، إذا أبقيتَ من الطعام والشراب أو غيرهما، والاسم السُّؤْر وجماعته
الأسْآر. ويقال: فأَدْتُ
٨٢ الخُبْزَة في المَلَّة
٨٣ أَفْأَدُها
٨٢ إذا خبزتَها فيها. والمِفْأَد:
٨٢ الحديدة التي يُخبَز بها ويُشوَى. ويقال: تملَّأْتُ من الأكل والشراب
تملُّؤًا، إذا شَبِعْتَ منهما وامتلأتَ. ويقال: لَفَأْت
٨٤ اللحمَ عن العظم لَفْأ
٨٤ً إذا جَلَفْتَ
٨٤ اللحم عن العظم. واللَّفِيئة
٨٥ هي البَضْعَة التي لا عَظْم فيها، نحو النَّحْضَة
٨٥ والهَبْرة والوَذْرَة.
٨٥
وأنشد يعقوب:
سقى
٨٦ اللهُ الغَضا وخُبُوتَ قومٍ
متى كانت تكون لهم دِيارا
أناسٌ لا يُنادي
٨٧ الضيفُ فيهم
ولا يَقْرُون آنيةً صغارا
قال الأصمعي: قال ابن هُبَيْرة: تعجيل الغَداء يَزيد في المروءة، ويطيِّب النكهة،
ويُعين على قضاء الحاجة.
قال بعض العرب: أطيب مضغة أكلها الناس صَيْحَانِيَّةٌ مُصَلَّبة.
٨٨
ويقال: آكَلُ الدواب بِرْذَوْنةٌ رَغُوث، وهي التي يَرْضَعها ولدُها.
٨٩
قال أبو الحارث حميد: ما رأيتُ شيئًا أشبَهَ بالقمر ليلة البدر من قِدْرٍ سُقِيَت
اللبن كثيرةِ السُّكَّر.
وقال الشاعر:
وإني لأستحيي رفيقيَ أن يرى
مكانَ يدي من جانب الزاد أَقْرَعا
ضم
٩٠ عثمانَ بن رَواح
٩١ السفرُ ورفيقًا له، فقال له الرفيق: امضِ إلى السوق فاشتَرِ لنا لحمًا.
قال: والله ما أقدر. قال: فمضى الرفيقُ واشترى اللحم، ثم قال لعثمان: قم الآن فاطبُخ
القِدر. قال: والله ما أقدر. فطبَخها الرفيق، ثم قال: قم الآن فاثْرُد. قال: والله إني
لأعْجِز عن ذلك. فثَرَد الرفيق، ثم قال: [قم] الآن فكُلْ. فقال: والله لقد استَحْييتُ
من كثرة خلافي عليك ولولا ذلك ما فعلتُ.
قال يونس: أتيت ابن سيرين فدعوتُ الجارية، فسمعته يقول: قولي إنه نائم. فقلتُ: معي
خَبِيص. فقال: مكانَك
٩٢ حتى أخرج إليك.
قال أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شَبع.
قال النبي
ﷺ فيما رواه جابر بن عبد الله: هلاك الرجل أن يحتقر ما في بيته أن
يقدِّمه إلى ضيفه، وهلاكُ الضيف أن يحتقر ما قُدِّم
٩٣ إليه.
وقال الشاعر:
يا ذاهبًا في داره جاثيًا
٩٤
بغير معنًى وبلا فائدةْ
قد جُنَّ أضيافُك من جوعهم
فاقرأْ عليهم سورة المائدةْ
وقال ابن بدر:
ونحن نبذل عند القحط ما أكلوا
من السَّدِيف إذا لم يُؤْنَسِ القَزَعُ
٩٥
وننحر الكُوم
٩٦ عَبْطًا
٩٧ في أرُومَتِنا
للنازلين إذا ما استُنْزِلوا شبعوا
وقال آخر:
أطعَمني بيضةً وناوَلني
من بعد ما ذُقْتُ فقدَه قدَحا
وقال أيَّ الأصوات تَسْألُني؟
٩٨
يَزيد: إني أراك مُقْتَرحا
فقلتُ صوتَ المِقْلَى وجَرْدَقَةً
٩٩
إن خاب ذا الاقتراحُ أو صَلَحا
فقطَّب الوجه وانثنى غَضِبًا
١٠٠
وكان سكران طافحًا فَصَحَا
فقلتُ إني مَزَحْتُ قال كذا
رأيتَ حرًّا بمثل ذا مَزَحا؟
قال ابن حبيب: كان الرجل إذا اشتد عليه الشتاء تنحى ونزل وحده لئلا ينزل به ضيفٌ
فيكون صُقْعًا مستحبًّا.
وهذا ضد قول زهير:
بسَطَ البيوت لكي تكون مطيةً
من حيث تُوضع جَفْنةٌ اسْتَرْفِدِ
فإذا كان الشتاء انحاز الناس من الجدب والجهد، وإذا أخصبوا أغاروا للثأر لا
للسؤال.
وقال الشاعر في عُبيد الله بن عباس:
ففي السنة الجدباء أَطعمتَ حامضًا
وحُلوًا وشَحمًا تامِكًا
١٠١ وسَنامَا
وقال مجاهد في قول الله عز وجل: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً: أي طعامًا، يقال: اتَّكأنا عند فلانٍ، أي طَعِمنا.
ذكر الأصمعي أن أعرابيًّا خرج في سفر ومعه جماعة، فأرمل
١٠٢ بعضُهم من الزاد، وحضر وقت الغدَاء وجعل بعضُهم ينتظر بعضًا بالغداء، فلما
أبطأ ذلك عليهم عَمَد بعضهم إلى زادِه فألقاه بين يدي القوم فأقبلوا يأكلون، وجلس صاحب
الزاد بعيدًا للتوفير
١٠٣ عليهم، فصاح به أعرابي: يا سُؤْدَدَاه! وهل شرفٌ أفضلُ من إطعام الطعام
والإيثار به في وقت الحاجة إليه؟ لقد آثرتَ في مَخْمَصةٍ ويوم مَسْغَبة، وتفرَّدتَ
بمكرُمة قعد
١٠٤ عنها مَن أَرَى من نُظَرائك، فلا زالت نِعم الله عليك غاديةً
ورائحة!
وفي مِثله يقول حاتمٌ الطائيُّ:
أكفُّ يدي من أن تنال أكفَّهمْ
إذا ما مددْناها وحاجاتُنا معَا
وإني لأَسْتَحْيِي رفيقيَ أن يرى
مكانَ يدي من جانب الزاد أقْرَعا
قال: المخمصة: المجاعة. والخَمْص: الجوع.
قال شاعرٌ يذم رجلًا:
يرى الخمص تعذيبًا وإن يلقَ شَبْعةً
يَبِتْ قلبُه من قلة
١٠٥ الهم مُبْهَما
وقال المرقَّش الأكبر:
إن يُخْصِبوا يَغْنَوْا بخصْبهم
أو يُجْدِبوا فجُدوبهمْ أَلَمُ
[وكتب بعضُهم
١٠٦ إلى أخٍ له:] إن رأيتَ أن تُرْوي ظمأ أخيك بقربك، وتبرِّد غليله بطلعتك،
وتؤنس وحشته بأنسك، وتجلو غشاء ناظره بوجهك، وتزيِّن مجلسه بجمال حضورك، وتجعل غداءك
عنده في منزلك الذي هو فيه ساكن، وتمَّمْت له السرور بك باقيَ يومك، مؤثِرًا له على
شغلك؛ فعلتَ إن شاء الله.
وقال الشاعر:
وكأنَّ هدْر دمائهم في دُورهم
لَغَط القَبِيل
١٠٧ على خِوان زيادِ
قال بعض الخطباء:
١٠٨ العجبُ من ذي جِدَةٍ مُنْعَمٍ عليه يطوي جارُه جوعًا وقرًّا، وأفرُخُه
شُعْثٌ جُرْدٌ من الريش، وهو مِبْطانٌ مُحْتَشٍ من حُلْوه وحامضه، مُكْتَنٌّ في كِنِّه
ودِفْئه، مزيَّنٌ له شهوةٌ عن أداء الذي عليه لجاره وقريبه وذي حُلَّةٍ بَطِرٍ
١٠٩ رَفِهٍ؛ كيف يأمَنُ سلبًا مفاجِئًا؟ أما لو وجَّه بعض فضله إلى ذي حاجةٍ
إليه كان مستديمًا لِما أُولِي، مستزيدًا مما أُوتِي.
وإذا تأمَّل شخصَ ضيفٍ مقبلٍ
متسَرْبِلٍ سربال مَحْلٍ أغبَرِ
أَوْمَا إلى الكَوْمَاءِ هذا طارقٌ
نحرتْنيَ الأعداءُ إن لم تُنْحرِي
[وفي هذه الأبيات ما يُستَحسَن:
١١١
كم قد ولدتُم من كريمٍ ماجدٍ
دامِي الأظافر أو غمَامٍ مُمْطِرِ
سدِكَتْ
١١٢ أناملُه بقائم مرهفٍ
وبنشر عائدةٍ وذِروة منبر
يَلْقَى السيوف بوجهه وبنحره
ويقيم هامته مقام المِغْفَر
ويقول للطِّرْف اصطبر لشَبَا القَنَا
فعَقَرْت رُكْن المجد إن لم تُعْقَر]
وقال آخَر:
فكُلْ شِبَعًا إنها في النهايةْ
تُطَفِّي المُرار وتنفي الخُمار
وما بعدها في النهايات غايةْ
ولا تتوقَّعْ أخيرًا بَجِيك
ففي أول المُستطاب الكفايةْ
وقال آخر:
كأنما فُوه إذا تمدَّدا
لِلَّقْم أخلاقُ جِرابٍ أسودا
كأنه مُخْترِصٌ
١١٤ قد جوَّدا
جانِي جرادٍ في وِعاءٍ مِقْلَدا
١١٥
وصاحبٍ صاحبتُ غير أبْعَدا
تراه بين الحُرْبتَين مُسْنَدا
١١٦
الحُرْبة: الغِرارة.
وقال جابر بن قَبيصة: ما رأيتُ أحلم جليسًا، ولا أفضل
١١٧ رفيقًا، ولا أشبه سريرةً بعلانية؛ من زياد.
وقال جابر أيضًا: شهدتُ قومًا ورأيتهم بعيني، فما رأيت أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه
في
دين الله من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وما رأيتُ رجلًا أعطى من صُلب ماله في غير
ولائه من طلحة بن عبيد الله. وما رأيت رجلًا أسود من معاوية. وما رأيت رجلًا أنْصَع
١١٨ ظَرْفًا، ولا أحضر جوابًا، ولا أكثر صوابًا؛ من عمرو بن العاص. وما رأيت
رجلًا المعرفة عنده أنفع منها عند غيره من المغيرة بن شعبة.
ويقال: ما كان الطعامُ مَرِيئًا ولقد مَرَأَ، وما كان الرجل مَرِيئًا وقد
مَرُؤ.
وقال لنا القطَّان أبو منصور رئيس أهل قزوين: الرجل من أرض أَردبيل إذا دخل بلدًا
يَسأل فيقول: كيف الخُبز والمُبرِّز؟
١١٩ ولا يسأل عن غيرهما. فقيل له: لِمَ ذلك؟ فقال: يأخذ الخبز والمُبرِّز ويأكل ويَسْلَح
١٢٠ إلى الصباح.
قال الشاعر:
وما تُنْسِنا الأيام لا ننسَ جوعنا
بدار بني بدر وطول التَّلَدُّدِ
ظلِلنا كأنا بينهم أهل مَأتمٍ
على ميِّتٍ مُسْتودَعٍ بطنَ مَلْحَدِ
يحدِّث بعضٌ بعضنا عن مُصابه
ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد
وقال آخر:
دعُوني فإني قد تغدَّيتُ آنفًا
فإنْ مسَّ كفي خبزَكم فاقطعوا يدي
وقال آخر يصف دار قوم:
الجوع داخِلَها واللَّوْحُ
١٢١ خارجَها
وليس يقرُبها خبزٌ ولا ماء
قال الهلالي: أتى رجلٌ أبا هريرة فقال: إني كنت صائمًا فدخلت بيت أبي فوجدت طعامًا
فنسيت فأكلت؟ قال: الله أطعمك. قال: ثم دخلت بيتًا آخر فوجدت أهله قد حلبوا لَقْحَتهم
فسقوني فنسيت فشربت؟ فقال: يا بني، هوِّن عليك فإنك قلما اعتدت الصيام.
وقال الشاعر:
وجدتُ وعدك زُورًا في مُزَوَّرَةٍ
١٢٢
ذكرتَ مبتدِئًا إحكامَ طاهيها
١٢٣
فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها
ولا علتْ كفُّ مُلْق كفَّه فيها!
فاحْبِس رسولك عني أن يجيء بها
فقد حبستُ رسولي عن تقاضيها
قال مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير عن أبيه: قدمنا على رسول الله ﷺ فقلنا:
يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت أطولنا علينا طَوْلًا، وأنت الجَفْنة الغرَّاء. فقال
النبي ﷺ: «قولوا بقولكم ولا يستفزنَّكم الشيطان، فإنما أنا عبد الله
ورسوله.»
وقال آخر:
وأحمرُ مُبْيَضُّ الزجاج كأنه
رداء عرُوسٍ مُشْرَبٌ بخَلوقِ
له في الحَشَا بَرد الوِصال وطعمُه
١٢٤
وإن كان يَلقاه بلون حريق
كأن بياض اللوز
١٢٥ في جَنَباته
كواكبُ دُرٍّ في سماء عقيق
قال يونس: أشد طعامٍ ضرًّا ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللِّبَأ الذي لا يوجد إلا
في
الولادة كلَّ عامٍ وإن كان مُزْبِدًا.
حكى يونس: التَّنافِيط
١٢٦ أن يُنزع شعرُ الجلد
١٢٧ ثم يُلقى في النار ثم يُؤكل، وذلك في الجدب.
وقال الشاعر:
جاورتُ شيبانَ فاحْلَوْلَى جِوارُهمُ
إن الكرام خِيارُ الناس للجارِ
وكتب ابن دينار إلى صديق له: وكتبتَ تفضُّلًا منك تعتذر من تأخرك عن قضاء حق زيارتي
بقصور يديك عن برٍّ يُشْبِهني ويُشبهك، فأما ما يشبهني في هذا الوقت فرغيفٌ وسكُرَّجَةُ
كامَخٍ حِرِّيف يَثْقُب اللسان بحرافته.
وكان ابن أبي البغل إذا أُنشد:
يقول: لو شهدتُ قائله لقلت: كلب الحارس يقوم مقامك. هذه قصةٌ في حضور ما يشبهني، فأما
ما يشبهك فمتعذِّر كما قيل:
ومطلب مثلي إن أردتَ عسير
١٢٨
وقال رجل لعُبيد الله بن زياد بن ظَبْيان: ما أعددتُ في كنانتي سهمًا غيرك. فقال:
لا
تُعِدَّني في كنانتك، فوالله لو قمتُ فيها لطُلْتُها ولو جلستُ فيها لخرقتُها، ولئن
انتظرتَ بي ما يشبهك طال الانتظار، والعامَّة تتمثل
١٢٩ — على خساسةِ لفظها: «إذا أردتَ ألا تزوِّج ابنتَك فغالِ بمهرها!» وأملي
فيك على الأحوال بعيد، وظني فيك جميل، ولست أخشى فيما لي عندك الفوتَ
فأُعْجِلَه.
وهل يُلْقَم الكلبُ إلا الحَجَر؟
العرب تقول: لئيمٌ جبان.
١٣٠
وقال أعرابي: لا يكنْ بطن أحدكم عليه مَغْرمًا، ليَكْسِرْه بالتُّمَيْرَة والكُسَيْرة
والبُقَيْلة والعُلَيْكة.
قال ابن الأعرابي: الفَرَزْدَقُ: الرغيفُ الواسع.
قيل لابن القِرِّيَّة:
١٣١ تكلَّم. فقال: «لا أحب الخبز إلا يابسًا!» أراد لا أحب أن أتكلم إلا بعد
الارتِئاء.
وروى أبو عبيدة في تفسير بيت الأعشى في ديوانه:
[إذا ما همُ جلسوا بالعَشِيِّ]
١٣٢
فأحلامُ عادٍ وأيدي هُضُمْ
قال: شبَّهَهم بأنسال عاد، وهم ثمانية ذوو أحلامٍ وسؤدد: مالك — وهو سيد الثمانية
—
وعمَّار وطُفَيل،
١٣٣ وشَمِر، وقرزعة،
١٣٤ وحُمَمة، ونَئِض،
١٣٥ ودُفَيْف، وهم الذين بعث لقمان بن عادٍ جاريةً بِعُسٍّ من لبن فقال لها:
ايتِي الحيَّ فادفعيه إلى سيدهم لا تسألي عنه. فأتت الجاريةُ الحي، فرأتهم مختلفين بين
عاملٍ ولاعب، وثمانيةً على رءوسهم الطير وقارًا، ورأتْ جاريةً من الحي فأخبرتها بما قال
لقمان، قالت: هؤلاء سادة الحي، وسأصف لك كل واحدٍ منهم فادفعي العُسَّ إلى من شئتِ؛ أما
هذا فعمَّار: أخَّاذٌ ودَّار،
١٣٦ لا تَخمُد له نار، للمُعْشِبات عقَّار (المُعْشِبة: التي تَسْمَن على شحْمٍ
قديم). وأما هذا فحُمَمَة: غداؤه كلَّ يوم ناقةٌ سَنِمة،
١٣٧ وبقرةٌ شَحِمة، وشاةٌ
١٣٨ كَدِمَة. وأما هذا فقَرْزَعَة:
١٣٤ إذا لقي جائعًا أشبعه، وإذا لقي قِرنًا جَعْجَعه،
١٣٩ وقد خاب جيشٌ لا يغزو معه. وأما هذا فطُفَيل: غضبه حين يغضب وَيْل، ورضاه
حين يرضى سَيْل، ولم تحمل مثلَه على ظهرها إبلٌ ولا خيل. وأما هذا فشَمِر: ليس في أهله
بالشَّحيح القَتِر، ولا المُسْرِف البَطِر، ولا يَخْدَع الحيَّ إذا اؤتُمِر.
١٤٠ وأما هذا فدُفَيْف: قاري الضيف، ومُغْمِد السيف، ومُعِيل
١٤١ الشتاء والصيف. وأما هذا فنَئِضٌ: أَسْنَتَ الحيُّ فمرض، فعَدَل مرضُه
عندهم إسناتَهُم (أي قحطَهم)، فقاموا
١٤٢ عليه فأوسعَهم دقيقًا ولحمًا غَرِيضًا، ومِسْكًا رَميضًا،
١٤٣ وكساهم ثيابًا بيضًا. وأما هذا فمالك: حاميتنا
١٤٤ إذا غزَوْنا، ومُطْعِمُ وِلْداننا إذا شَتَوْنا،
١٤٥ ودافع كلِّ كريهةٍ إذا عَدَتْ علينا. فدفعتِ العُسَّ إلى مالكٍ، فكان
سيدَهم.
بشَّرت امرأةٌ زوجها بأن ابنها منه قد اتَّغَر،
١٤٦ فقال: أَتُبشِّرينني بعدوِّ الخبز؟ اذهبي إلى أهلك!
قال الشاعر:
من يشتري مني أبا زَيْنِ
بكرَ بنَ نطَّاحٍ بفَلْسَيْنِ؟
كأنما الآكِل من خبزه
يقلع منه شحمة العينِ
وأنشد غُلَيِّم من بني دُبَيْر:
١٤٧
يا بنَ الكِرام حَسَبًا ونائلَا
حقًّا أقول لا أقول باطلا
إليك أشْكو الدَّهْرَ والزَّلازِلا
وكلَّ عامٍ نقَّح الحَمَائلا
١٤٨
التَّنْقِيح: القَشْر، أي قشَروا حمائل سيوفهم فباعوها لشدة زمانهم.
وأنشد:
سلا أمَّ عَبَّادٍ إذا الريح أَعْصَفَتْ
وجلَّل أطرافَ الرِّعان قَتامُها
١٤٩
وجفَّتْ بقايا الطِّرْق إلا نَضِيَّةً
١٥٠
يَصُدُّ الأشافي
١٥١ والمَواسِي سَنامُها
وضمَّ إليَّ الليلُ منزلَ رُفْقَةٍ
تَرَامَتْ بهم طَخْياءُ
١٥٢ داجٍ ظلامُها
تكاد الصَّبا تَهْتزُّهُمْ من ثيابهمْ
شديدًا بأَرْياط الرجال اعتِصامُها
لقد عَلِمَتْ أنِّي مُفِيدٌ ومُتْلِفٌ
ومُطْعِمُ أيامٍ يُحَبُّ طَعامُها
وقال آخر:
إن بني غاضِرَةَ الكراما
إن يُقِمِ الضيفُ بهم أعواما
يكنْ قِراه اللحمَ والسَّناما
أو يصبحِ الدهرُ لهم غلاما
يكنْ ظَريفًا وجهُه كُراما
وقال سَماعةُ بن أَشْوَل:
رأتْ إبلًا لابنَيْ عُبَيْدٍ تمنَّعتْ
من الحقِّ لم تُورَكْ بحقٍّ إيالُها
١٥٣
فقالت ألا تغدو لِقاحُك هكذا؟
فقلتُ أبتْ ضِيفانُها وعِيالُها
فما حَلبَتْ إلا الثُّلاثةَ
١٥٤ والثُّنى
ولا قُيِّلت إلا قريبًا مقالُها
وأنشد أبو الجرَّاح:
أرى الخُلان قد صَرموا وصالي
وأضحوا لا سلام ولا كلامْ
وما أذنبتُ من ذنبٍ إليهم
سوى خَفِّ
١٥٥ المنائح والسَّوامْ
وقال آخر:
خِرقٌ إذا وَقِع
١٥٦ المطيُّ من الوَجَا
لم يطْوِ دون دقيقِه ذو المِزْوَدِ
حَمِدَ الرفيقُ نداك أو لم يَحمَدِ
وقال آخر:
تزودتُ إذ أقبلتُ نحوك
١٥٨ غاديًا
إليك ونحوَ١٥٨ الناسِ لا أتزودُ
أراني إذا ما جئتُ أطلبُ نائلًا
نظرتَ إلى وجهي كأنك أرمدُ
ويقال: أزواد
١٥٩ الركْب من قريشٍ أبو أمية بن المغيرة، والأسود
١٦٠ بن المطَّلب بن أسد بن عبد العزَّى، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية عمُّ عقبة؛
كانوا إذا سافروا خرج معهم الناس فلم يتخذوا زادًا ولم يوقدوا نارًا، كانوا
يَكفونهم.
وقال الشاعر:
وبالبدو جودٌ
١٦١ لا يزال كأنه
رُكامٌ بأطراف الإكامِ يَمُورُ
وقال آخر:
والناسُ إن شَبِعتْ بطونُهمُ
فغيرُهمْ
١٦٢ من ذاك لا يَشْبعُ
وقال آخر:
دُورٌ تحاكي الجِنانَ حُسنًا
لكنَّ سُكانها خِساسُ
متى أرَى الجند ساكنيها
وفي دهاليزها يُدَاسُ
وقال آخر:
لولا مخافة ضعفي عن ذوي رَحمِي
وحالُ معتصمٍ بي من ذوي عَدَمِ
وحاجةُ الأخ
١٦٣ تبدو لي فأُنْجِحها
لم أَثْنِ في عملٍ كفي على قلمي
وقال آخر:
وأُوثِر ضيفي حين لا يوجد القِرى
بقُوتيَ أَحْبُوه وأرقد طاويا
وما استَكْثرتْ نفسي لباذل وجهه
نَوالًا وإن كان النوال حياتيا
وقال المبرد: البَطِنُ: الذي لا يَهُمُّه إلا بطنه. والرغيب: الشديد الأكل. والمنهوم:
الذي تمتلئ بطنُه ولا تنتهي نفسُه.
وأنشد ابن الأعرابي:
وإن قِرَى أهل النِّباج أرانبٌ
وإن جاء بعد الرَّيْث فهو قليلُ
إذا صد مَثْغُورٌ
١٦٤ وأعرض مُعْرضٌ
فيومٌ على أهل النباج طويلُ
وقال آخر:
يمينُك
١٦٥ فيها الخصب والناس جُوَّعٌ
وقد شَمِلَتْهم حَرْجَفٌ
١٦٦ ودَبُورُ
وقال آخر:
ألقتْ قوائمَها خَسًا
١٦٧ وترنَّمتْ
طربًا كما يترنَّم السَّكْرانُ
يعني قِدْرًا. وقوائمها يعني الأثافي. وخسا: فرد.
وأنشد:
بئس غذاءُ العَزَب المَرْمُوعِ
١٦٨
حَوْأَبةٌ تُنْقِضُ بالضلوعِ
الرُّماع:
١٦٩ داء. وحوأبة: دلوٌ كبيرة. والحَوْب والحُوب: الإثم. والحِيبَة: الحال.
والحَوْباء: النفْس.
١٧٠
العرب تقول: ماءٌ لا تبن
١٧١ معه ولا غيره. خبْزٌ قَفار: لا أُدْم معه. وسويقٌ جافٌّ هو الذي لم يُلَتَّ
بسمنٍ ولا زيتٍ. وحنظلٌ مُبَسَّل وهو أن يؤكل وحده.
قال الراجز:
بئس الطعامُ الحنظلُ المُبسَّلُ
ياجَعُ منه كبدي وأَكْسَلُ
١٧٢
ويَبْجَع أيضًا.
وقال أبو الجرَّاح: المبسَّل يُحرق الكبد. والمُبَكَّل:
١٧٣ أن يؤكل بتمرٍ
١٧٤ أو غيره، يقال: بكِّلوه
١٧٣ لنا، أي اخلطوه. قال: وعندنا طعامٌ يقال له الخَوْلَع، وهو أن يؤخذ الحنظل
فيُنقع مراتٍ حتى تخرج مرارته، ثم يُخْلَط معه تمرٌ ودقيق فيكون طعامًا طيبًا.
وقال: الخَلِيطة والنَّخِيسة والقَطِيبة: أن يُحلب لبن الضأن على لبن المِعْزَى،
والمعزى على لبن الضأن، أو حَلَب النُّوق على لبن الغنم.
قال: اسقني
١٧٥ وابْردْ غليلي
مَلِئَ الرجلُ: سَمِن بعد هزال.
قيل لطفَيْل العرائس: كم اثنين في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة.
وقيل له: حُكِي أن العرب تقول: نحن العربَ أقرى الناس للضيف. فقال: إن هذا النصب على
المدح.
وقال العُمانيُّ:
من كل جِلْفٍ
١٧٦ لم يكن مُصَرَّما
جَعْدٍ يُرَى منه التصنُّع رَيْثَما
١٧٧
لم يَتَجَشَّأْ من طعامٍ بَشَما
ولم يَبِت من فَتْرةٍ مُوَصَّمًا
١٧٩
يَغْمِز صُدْغَيه ويشكو الأعظُما
إذا أجاع بطنَه تَحزَّما
١٨٠
لم يَشرب الماءَ ولم يخشَ الظَّما
يكفيه مِن قارِصَةٍ
١٨١ ما يمَّما
وخَلَّةٍ
١٨٢ منه إذا ما أَعْيَما
أصاب منه مَشْربًا ومَطعما
لا يَعْقِر الشارفَ إلا مُحْرِما
١٨٣
ولا يَعَاف
١٨٤ بَصَلًا وسَلْجَما
يومًا ولم يَفْغَرْ لبطِّيخٍ فَمَا
فهو صحيحٌ لا يخاف سَقَما
أسْود كالمحراث
١٨٥ يُدْعى شَجْعَما
١٨٦
صَمَحْمَحٌ
١٨٧ من طُول ما تأثَّما
لم يَبلُ
١٨٨ يومًا سَوْرةً مِن العَمَى
ولم يَحُجَّ المسجد المُكرَّما
ولم يَزُرْ حَطِيمه وزمزما
ولا تراه يطلب التفهُّما
لو لم يُرَبَّ
١٨٩ مُسْلمًا ما أسلما
ما عبَد اثنان جميعًا صَنَما
عاتٍ يرى ضرب الرجال مغْنما
إذا رأى مُصدِّقًا تَجَهَّما
وهزَّ في الكف وأبدى المِعصما
هِرَاوَتَيْن
١٩٠ نَبْعَةً وسَلَما
يَترُك
١٩١ ما رام رُفاتًا رِمما
وإن رأى إمَّرَةً
١٩٢ تزعَّما
لم يُعْطه شيئًا وإن ترغَّما
وإن قَرَا عَهْدًا له مُنَمْنَما
هان عليه شقُّ ما قد رَقَّما
وأن يَدُقَّ طِينَه المُختَّما
صَمْصامه ماضٍ إذا ما صمَّما
إذا اعتَرَتْه عِزَّةٌ
١٩٣ ثم انتَمَى
في ثروة الحي إذا ما يمَّما
ظل يرى حُكمًا عليه مُبْرَما
١٩٤
أن يَظْلم الناسَ وألا يُظْلما
وقال آخر:
ما كان يُنْكَر في نَدِيِّ مُجَاشِعٍ
أكلُ الخَزير ولا ارتضاعُ الفَيْشَلِ
١٩٥
وقال آخر:
بلادٌ كأن الجوع يطلب أهلَها
بذَحْلٍ
١٩٦ إذا ما الضَّيْفُ صَرَّتْ جَنَادبُهْ
١٩٧
وقال آخر:
كَرِيُّه لا يُطْعِمُ الكَرِيَّا
١٩٨
بالليل إلا جِرْجرًا مَقْليَّا
مُحْترقًا نصفًا ونصفًا نِيَّا
وقال الأصمعي: قال الهيثم بن جَراد — وذمَّ قومًا: والله ما أنتم آلُ فلاةٍ فتعصمَكم،
ولا أنتم آل ريفٍ فتأكلون. فقيل: لو زِدتَ؟ فقال: ما بعد هذا شيء.
قال: وما أشبه هذا الجواب بقول عقيل بن عُلَّفة
١٩٩ حين قيل له: لم لا تطيل الهجاء؟ قال: يَكفيك من القِلادة ما أحاط
بالعنق.
وقيل لابن
٢٠٠ عمر: لو دعوتَ الله بدعوات؟ فقال: اللهم عافنا وارحمنا وارزقنا. فقيل له:
لو زدتنا؟ فقال: نعوذ بالله من الإسهاب.
قال شاعر:
إذا أَغلق البابَ الكريمُ من القِرى
فليس على باب الفرزدق حاجبُ
فتًى يشتري حُسن الثناء بماله
إذا اغبرَّ من برد الشتاء الكواكب
قال: وكلُّ لحمٍ وخبزٍ أُنضج دَفينًا فهو مَلِيل، وما كان في تَنُّور فهو شِواء،
وما
كان في قِدْرٍ فهو حميل.
٢٠١
قال الأحنف لعمر بن الخطاب: إن إخواننا من أهل الكوفة والشام نزلوا في مُقْلَة
٢٠٢ الجمل وحِوَلاء الناقة؛ من أنهارٍ متفجرة، وثمارٍ متدلِّية. ونزلنا
بسَبِخةٍ نَشَّاشة؛
٢٠٣ يأتينا ماؤنا في مثْل حلقوم
٢٠٤ النعامة أو مريء الحَمَل، فإما أن تشُقَّ لنا نهرًا، وإما أن ترفعنا
إليك.
قال جابر: كان النبي ﷺ يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراءَ باتخاذ
الدَّجاج.
والعرب تقول: أكْرِموا الإبل إلا في بيتٍ يُبنَى، أو دمٍ يُفدَى، أو عَزَبٍ يتزوج،
أو
حَمْل حَمالة.
وقال معاوية لأعرابي: ما تجارتك؟ قال: أبيع الإبل. قال: أما علمتَ أن أفواهها حَرَب،
٢٠٥ وجلودها جَرَب، وبعرها حطب، وتأكل الذهب؟
وقال خالد بن صفوان: الإبلُ للبُعد، والبغال للثقل، والبَراذين للجَمال والدَّعَة،
والحمير للحوائج، والخيل للكَرِّ والفَرِّ.
وقال آخر:
يَقْذفنَ في الأعناق والغَلاصِمِ
٢٠٦
قذف الجلاميد بكفِّ الراجمِ
يريد بالأعناق الحُلُوق.
وقال آخر:
نَغَار إذا ما الرَّوْع أبْدى عن البُرَى
ونَقْرِي عَبيط اللحم والماءُ جامِسُ
٢٠٧
وقال آخر:
تلك المكارمُ لا ناقٌ
٢٠٨ مُصرَّمةٌ
ترعَى الفلاةَ ولا قَعْبٌ من اللَّبنِ
وقال أبو الصَّلت:
تلك المكارم لا قَعْبَانِ
٢٠٩ مِن لبنٍ
شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أَبْوالا
ووصف بعض البلغاء التجارَ فقال: لا يوجد الأدب إلا عند الخاصة والسلطان ومُدبِّريه،
وأما أصحاب الأسواق فإنا لا نَعْدَم من أحدهم خُلُقًا دقيقًا، ودينًا رقيقًا، وحرصًا
مسرفًا، وأدبًا مختلفًا، ودناءة معلومة، ومروءة معدومة، وإلغاءَ اللَّفيف،
٢١٠ ومُجاذَبةً على الطَّفيف، يبلغ أحدُهم غاية المدح والذم في عِلْقٍ
٢١١ واحد في يوم واحد مع رجل واحد إذا اشتراه منه أو باعه إياه، إن بايعك مرابحةً
٢١٢ وخبَّر بالأثمان قوَّى الأَيْمان على البهتان، وإن قلَّدْتَه الوزنَ أعنتَ
لسان الميزان، ليأخذ برُجْحانٍ أو يعطي بنقصان. وإن كان لك قِبله حقٌّ لَواه مُحتجًّا
في ذلك بسُنَّة السُّوقيين، يَرْضى لك ما لا يَرْضى لنفسه، ويأخذ منك بنَقْدٍ ويعطيك
بغيره، ولا يرى أن عليه من الحق في المبايعة مثلَ ما له. إن استَنْصحتَه غشَّك، وإن
سألتَه كَذَبَك، وإن صَدَقْتَه حَرَبَك. مُتمرِّدُهم صاعقةٌ على المُعامِلين، وصاحب
سَمْتِهم نِقمةٌ على المسْتَرْسِلين.
٢١٣ قد تعاطَوُا المنكر حتى عُرِف، وتناكروا المعروف حتى نُسِي، يتمسَّكون من
المِلَّة بما أصلح البضائع، وينهَوْن عنها كلما عادتْ بالوضائع.
٢١٤ يُسَرُّ أحدهم بحيلةٍ يُرْزَقُها
٢١٥ لسلعةٍ ينفِّقها، وغِيلةٍ لمسلمٍ يحميه الإسلام، فإذا أحكم حيلته وغيلته
غدا قادرًا على حَرْدِه، فغَرَّ وَضَرَّ، وآب إلى منزله [بحطام قد جمعه مغتبطًا بما
أباح من دينه]، وانتهك من حرمة أخيه، يَعُدُّ الذي كان منه حِذْقًا بالتكسب، ورِفْقًا
بالمطَّلَب، وعِلْمًا بالتجارة، وتقدُّمًا في الصناعة.
فلما بلغت قراءتي هذا الموضع قال الوزير: إن كان هذا الواصف عَنَى العامة بهذا القول
فقد دخل في وصفه الخاصة أيضًا، فوالله ما أسمع ولا أرى هذه الأخلاقَ إلا شائعة في أصناف
الناس من الجند والكتَّاب والتُّنَّاء
٢١٦ والصالحين وأهل العلم. لقد حال الزمانُ إلى أمرٍ لا يأتي عليه النعت، ولا
تسْتوعبه الأخبار، وما عَجَبي إلا من الزيادة على مر الساعات، ولو وقف لعله كان يُرْجَى
بعض ما قد وقع اليأسُ منه، واعترض القنوط دونَه.
فقال ابن زُرْعة وكان حاضرًا: هذا لأن الزمان من قبل كان ذا لَبُوس من الدين رائع،
وذا يدٍ من السياسة بسيطة، فأَخْلَق اللَّبوسُ [وبَليَ، بل تمزَّق] وفَنِي، وضعفت اليدُ
بل شلَّتْ وقُطعت، ولا سبيل إلى سياسة دينية لأسبابٍ لا تتفق إلا بعلل فلكية، وأمور
سماوية. فحينئذٍ يكون انقياد الأمور الجانحة
٢١٧ لها في مقابلة حِران الأمور الجامحة
٢١٧ عنها، وذلك مُنتظَر في وقته، وتَمنِّي ذلك قبل إبَّانه وسواس النفْس وخَوَر
الطِّباع. والناس أهدافٌ لأغراض الزمان ومُقلَّبون بحوادث الدهور،
٢١٨ ولا فَكاك لهم من المكاره، ولا اعتلاقَ لهم بالمحابِّ [إلا] بالدواعي
والصوارف التي لا سبيل لهم إلى تحويل هذه إلى هذه، ولا إلى تبديل هذه بهذه، واختيارُهم
للتوجُّه إلى محبوبهم أو الإعْراض عن مكروههم ضعيفٌ طفيف، ولولا ذلك لكانت الحَسَرات
تزول في وقت ما يُراد،
٢١٩ والغِبْطة تُملَك
٢٢٠ بإدراك ما يُتمنَّى. وهذا شأوٌ محكومٌ به بقوة النفس، غيرُ مُستيقَظٍ إليه
٢٢١ بقوة الحس.
فقال الوزير: أحسنتَ يا أبا عليٍ في هذا الوصف، «وإن نَفْثك
٢٢٢ لَيَدلُّ على أكثر من ذلك.» ولو كان البال ظافرًا بنِعمة، والصدرُ فارغًا
من كُربة، لكنَّا نبلغ من هذا الحديث مبلغًا نَشْفِي به غَلِيلنا [قائلين] ونُشْفَى به
مُسْتمِعين، ولكني قاعدٌ معكم وكأني غائب، بل أنا غائبٌ من غير كاف التشبيه، والله ما
أملك تصرُّفي ولا فكري في أمري؛ أرى واحدًا في فَتْلِ حَبْل،
٢٢٣ وآخرَ في حفر بئر، وآخر في نصب فخٍّ، وآخرَ في دسِّ حِيلة، وآخرَ في تقْبيح
حَسَن، وآخر في شَحْذ حديد، وآخر في تمزيق عِرْض، وآخر في اختلاق كَذِب، وآخر في صَدْع
مُلْتَئم، وآخر في حَلِّ عَقْد، وآخر في نَفْث سِحر، وناري مع صاحبي رماد، وريحُه عليَّ
عاصفة، ونَسيمي بيني وبينه سَموم، ونصيبي منه هُموم [وغُموم]. وإني أحدثكم بشيء تعلمون
[به] صدقي في شَكْواي، وتقفون منه على تَفَسُّخي
٢٢٤ تحت بلواي، ولولا أني أطفئ بالحديث لهبًا قد تَضَرَّم صدري به نارًا،
واحتشى فؤادي منه أُوَارًا؛ لمَا تحدَّثتُ به، ولو استطعتُ طيَّه لمَا نبسْتُ بحرفٍ
منه، ولكنَّ كتماني للحديث أنْقَبُ لحجاب القلب من العَتَلة لسُور القَصْر:
دخلتُ منذ أيام فوصلت
٢٢٥ إلى المجلس، فقال لي: قد أعدتُ الخِلْعة فالْبَسها على الطائر الأسعد.
فقلت: أَفْعَل. وفي تذكرتي
٢٢٦ أشياء لا بدَّ من ذكرها وعرضها.
فقال: هات. فقلت: يُتقدَّم
٢٢٧ بكذا وكذا، ويُفْعَل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أَمْضِ هذا كلَّه،
واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحدٍ اعتراض. فانقلبتُ عن المجلس إلى
زاويةٍ في الحجرة، وفيها تحدَّرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتى كدتُ أَفْتضِح،
فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي فقال: ما هذا، الناس وقوفٌ ينتظرون بروزَك بالخِلْعة
المباركة والتشريف الميمون وأنت في نَوْحٍ وندم؟! فقلت: تنحَّ عني ساعةً حتى أطفئ نار
صدري، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة
فأمضاها كلَّها ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئًا فيها، ولا ناظرني عليها،
ولعلِّي قد بلوتُه بها، وأخفيت مَغْزاي في ضمنها، فخُيِّل إليَّ بهذه الحال أن غيري يقف
موقفي فيقول فيَّ قولًا مُزخرَفًا، وينسب إليَّ أمرًا مؤلَّفًا، فيُمضي ذلك أيضًا له
كما أمضاه لي، فوجدتُني
٢٢٨ بهذا الفكر الذي قد فَتَق لي
٢٢٩ هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء، أو كقابضٍ في جوٍّ على قطعةٍ من
هواء، أو كمن ينفخ في غير فَحَم، أو يلعب في قيْد،
٢٣٠ ولقد صدق الأول حيث قال:
وإنَّ امرأً دنياه أكبر همِّه
لمُستمسكٌ منها بحبلِ غُرُورِ
غير أني أذكر لكم ما عنَّ لي
٢٣١ من هذا الأمر:
اعلموا أني ظننتُ أن ما نظَّمَه
٢٣٢ الماضي — رحمه الله — وأصلحه، وبناه وقوَّمه، ونسَجَه ونَوَّقَه،
٢٣٣ لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة، وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج،
وتستمر على ذلك السِّياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلَغْنا لأنفسنا بعضَ ما
كنا نسلِّط عليه التمني من الإرادة، فنجمعُ بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة،
وإدراك السرور، واصطناع العُرْف، وكسب الثناء، ونشر الذِّكر، وبُعْد الصِّيت؛ فعاد ذلك
كلُّه بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المُضْني، والخوف المُقْلق، واليأس
الحيِّ، والرجاء الميِّت، وما أحسن ما قال القائل:
أَظْمَتْنِيَ
٢٣٤ الدنيا فلمَّا جئتُها
مُسْتسقيًا مَطَرتْ عليَّ مصائبا
فقال له ابن زُرْعة: إن الأمور كلَّها بيد الله، ولا يُسْتنجَز الخيرُ إلا منه، ولا
يُسْتدفع الشرُّ إلا به؛ فسلْه جميل الصُّنع، [وحُسن النية]، وانْوِ الخير، وبُثَّ
الإحسان، وكِلْ أعداءَك إلى ربك الذي إذا عرَف صدقَك وتوكُّلَك عليه فلَّل حَدَّهم،
وعفَّر خدهم، وسيَّح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلَّط الأَرَضةَ على أبدانهم حتى
تَقْرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدَّع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين
ضارعين، وعَرَضهم عليك خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله مع المحسنين على
المسيئين.
قال: والله لقد وجدتُ رَوْحًا
٢٣٥ كثيرًا بما قلتُ لكم وما سمعتُ منكم، وأرجو أن الله يُعين المظلوم ويهين
الظالم. قد تمطَّى الليل، وتغوَّرَتِ النجوم، وحنَّ البدن إلى التَّرَفُّه، فإذا شئتم.
٢٣٦ فانصرفنا متعجِّبين.