الليلة الثالثة والثلاثون

عدنا إلى ما كنا فيه من حديث الممالحة — وكان قد استزادني — فكتبت له هذه الورقات وقرأتها بين يديه، فقال كلامًا كثيرًا عند كل ما مر مما يكون صلة لذلك الحديث، خَزَلْتُه طلبًا للتخفيف:

واستعادني الوزير [أدام الله علوَّه] هذا الحديثَ مرتين وأكثر التعجب، وقال: صدق القائل في العرب: مُنِعُوا الطعامَ وأُعْطُوا الكلام!

وقدَّمَ إليه يومًا قِدْرًا فوجدها كثيرة العظام فقال: هذه قِدْرٌ أم قبر؟

وقال حكيم: ينبغي ألا يُعطَى البخيلُ أكثر مِن قُوتِه، ليُحْكَم عليه بمثل ما حكم [به] على نفسه.

وقال الشاعر:

وقال أبو فرعون الشاشيُّ يخاطب الحُجَّاج:

وقال آخر:

قال شاعر:

وقال آخر:

وقال النبي ﷺ فيما رواه ابن عباس قال: سمعتُه يقول: «ليس بمؤمنٍ مَن بات شبعانَ [رَيَّانَ] وجارُه جائعٌ طاوٍ.»

قال عمر: مدمن اللحم كمدمن الخمر.

وقال لَقِيط بن زُرَارة يذُمُّ أصحابَه يوم جَبَلة:

قيل لدُبٍّ: لمَ تُفْقِر رجلًا في ليلةٍ من كثرة ما تأكل [من] عنبه؟ فقال: لا تَلُمْني، فإن بين يديَّ أربعة أشهرٍ أَنْجَحر فيها فلا أتلمَّظُ إلا بالهواء.

وأُنْشِد:

واعترض حديثُ العلم، فأنشد ابنُ عُبيدٍ الكاتب لسابقٍ الزُّبيري قوله:

وقال أيضًا:

آخر:

فقال الوزير: عندي في صحيفة حفظ الصِّبا: العلم سراجٌ يُجلِّي الظلمة، وضياءٌ يكشف العَمَى. التذلُّل مكروهٌ إلا في استفادته، والحرص مذمومٌ إلا في طلبه، والحسد مَنْهِيٌّ عنه إلا عليه.

ثم عاد الحديث إلى الممالحة:

قال يزيد بن ربيع: الكباب طعام الصعاليك، والماء والملح طعام الأعراب، والهرائس والرءوس طعام السلاطين، والشِّواء طعام الدُّعَّار، والخل والزيت طعام أمثالنا.

كان عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس يكثر أكل الجوذاب ولا يؤْثر عليه شيئًا، وكان يقول: يشد العضدين، ويقوي الساعدين، ويجلو الناظرَين، ويزيد في سمع الأذنين، ويحمِّر الوجنتَين، ويزيد في المني، وهو طعام شهي، فأي شيء بقِيَ؟

وبلغ المنصور وصفُه هذا فقال: بحقٍّ ما وصفه، ولا نقبل أكله.

وقال ابن سُكَّرة:

ويقال: القانع غنيٌّ وإن جاع وعَرِي، والحريص فقير وإن ملك الدنيا.

قيل لإبراهيم الخليل عليه السلام: بأي شيء اتخذك الله خليلًا؟ قال: بأني ما خُيِّرتُ بين أمرين إلا اخترت الذي لله، وما اهتممتُ لما تكفَّل لي به، وما تغدَّيتُ وما تعشيت إلا مع ضيف.

واعترض حديثٌ فقال: أنشدني بيتَي ابن غسَّان البصري في حديث بَخْتِيار — يعني عز الدولة — فأنشدته:

فقال: ما أعجب الأمور التي تأتي بها الدهور! عُدْ إلى قراءتك. فعدتُ وقرأتُ:

رُوي في الحديث: لا تأكلوا ذِرْوة الثَّريد، فإن البركة فيها.

أراد مُزَبِّد أضحيةً فلم يجدها، فأخذ ديكًا ليضحي به، فوجه إليه جيرانُه شاةً شاةً حتى اجتمع عنده سبع شِياه، فقال: ديكي أفضل عند الله من إسحاق، لأنه فُدِي بكبش وديكي بسبعة.

وقال ﷺ: «من أحب أن يرقَّ قلبه فليكثر من أكل البَلَس.» قيل: هو التين.

وقال أعرابي:

قال إسحاق الموصلي: أملى بعض الفقهاء بالكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كره السَّمَر إلا في الفقه، يريد كثرة السمر إلا في الفقه.

تناول الفضل بن العباس تفاحةً فأكلها، فقيل: ويحك، تأكل التحيات؟! فقال: والصلوات والطيبات.

يقال: الطُّعْمة: الكسب. ويقال: جئتُ بالطُّعْمة. والطُّعْم: الطعام. والطُّعْم: الذوق. وهذه الأرض طُعْمةٌ لك وطَعْمَة.

قال سعيد بن أبي عروة: نزل الحَجَّاج في طريق مكة فقال لحاجبه: انظر أعرابيًّا يتغدى معي وأسأله عن بعض الأمر. فنظر الحاجب إلى أعرابيٍ بين شَمْلَتَين فقال: أجب الأمير. فأتاه فقال له الحجاج: إذن فتغدَّ معي. فقال: إنه دعاني من هو أولى منك فأجبتُه. قال: ومن هو؟ قال: الله عز وجل دعاني إلى الصوم فصمت. قال: أفي هذا اليوم الحار؟ قال: نعم، صمتُه ليومٍ هو أشد منه حرًّا. قال: فأفطر وصُمْ غدًا. قال: إن ضمنتَ لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إنه طعام طيب. قال: إنك لم تطيبه ولا الخبَّاز، ولكن العافية طيَّبتْه. ولم يفطر، وخرج من عنده.

قال أعرابي: هذا الطعام مَطْيَبةٌ للنفس، مَحْسَنةٌ للجسم.

وقال آخر، ونظر إلى رجلٍ يأكل بالعين والفم واليد والرأس والرجل: لو سألتَه عن اسمه لمَا ذكره، ولو طلع ولدُه الغائب عليه ما عرَفه:

وقال سِنان بن أبي حارثة:

وقال السَّفَّاح بن بكر:

فانقضَّت الإبل كلُّها على الماء فشربت.

قال الشاعر:

قال حمزة المصنِّف في بعض كتبه: قال النبي ﷺ لسلمان الفارسي أنِ اتَّخذْ لنا سورًا، أي طعامًا كطعام الوليمة، وهي فارسية.

وقال جُعَيْفِران المُوَسْوس في وصف عصيدة:

قيل لصوفي: ما حدُّ الشِّبع؟ قال: الموت.

وقيل لآخر: ما حدُّ الشبع؟ قال: آكُل حتى يقع عليَّ السُّبات فأنام على وجهي، وتتجافى أطرافي عن الأرض.

وقيل لآخر: ما حدُّ الشبع؟ قال: أن أُدخِل إصبَعي في حلقي فيَصِل إلى الطعام.

قال يعقوب: أصبحتُ خالفًا لا أشتهي الطعام. وخُلوف البَطْن تغيُّره.

ويقال: مَغَسَني بطني، وهو المَغْس، ورجل مَمْغُوس.

والعامة تقول: كلُّ ما في القِدْر تُخرجه المِغْرَفة.

ومرَّ ابن عامرٍ على عامر بن عبد القيس وهو يأكل بَقْلًا بملح، فقال: لقد رضيتَ باليسير. فقال: أرضَى مني باليسير من رضي بالدنيا عِوَضًا عن الآخرة.

ويقال: ماءٌ قَراح، وخبزٌ قَفار: لا أُدْم معه، وسَوِيقٌ جافٌّ، ولبنٌ صريح: لم يخالطه شيء.

وقال سعيد بن سلمة: شيئان لا تشبع منهما ببغداد: السمك والرُّطب.

قيل لحاتم الأصم: بم رُزِقت الحكمة؟ قال: بخَلَاوة البطن، وسخاوة النفس، ومكابدة الليل.

وقال شقيق البلخي: العبادة حِرفة، وحانوتُها الخَلْوة، وآلتُها الجوع.

قال لقمان: إذا امتلأت المَعِدة نامت الفكرة، وخَرِست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وقال عمر: لولا القيامة لشاركناكم في لِين عيشكُم.

وقال بعض العرب: أقلِل طعامَك تَحمد منامك.

قال يحيى بن مُعاذ: الشبع يُكْنى بالكفر.

وقال غيره: الجوع يُكْنى بالرحمة.

وقال أعرابي:

وذكر المهلَّب اللحم [فقال]: إذا التقى الوارد والغابر فتوقَّع الفساد.