الليلة السابعة والثلاثون
وقال الوزير ليلةً: ما أحوجَ الجبانَ إلى أن يسمع أحاديث الشجعان! وما أشدَّ انتفاعَ
الضَّيِّق النفْس باستماع أخبار الكرام! لأن الأخلاق في الخَلْق أعراض، والأعراضُ منها
لازمٌ ومنها لاصق.
قال: وكان
١ عيسى بن زُرْعة سرَد على سنة سبعين — لياليَ كانت الأشغال خفيفة، والسياسة
بالماضي، نوَّر الله قبرَه وضريحَه! عامة، والنظرُ بالحسنى شاملًا؛ أشياءَ في الخُلُق
أتى بها على عمود ما كان في نفسي، وذلك أنه ذكَر العقل والحمق، والعلم والجهل، والحلم
والسُّخْف، والقناعة والشَّرَه، والحياء والقِحَة، والرحمة والقسوة، والأمانة والخيانة،
والتيقظ والغفلة، والتُّقَى والفجور، والجرأة والجبن، والتواضع والكبر، والوفاء والغدر،
والنصيحة والغش، والصدق والكذب، والسخاء والبخل، والأناة والبطش، والعدل والجوْر،
والنشاط والكسل، والنُّسك والفتك، والحقد والصفح. وينبغي أن تزور عيسى وتذكر له هذه
الجملة، وتبعثَه على إعادة حدودها، وإشباع القول فيها، مع إيجازٍ لا يكون به مدخلٌ
للخلل، ولا تقصيرٌ عن إيصال الآخِر بالأول.
فلقيتُ عيسى وعرَّفتُه الحديث، وأملى ما رسمتُه في هذا الجزء، وعرضتُه على أبي سليمان
فرضِيَه بعض الرضا، ولم يسخط كلَّ السُّخْط، وقال: تحديد الأخلاق لا يصحُّ إلا بضربٍ
من
التجوُّز والتسمُّح، وذلك أنها مُتلابسة تلابسًا، ومتداخلةٌ تداخلًا، والشيء لا يتميز
عن غيره إلا ببَيْنونةٍ واقعةٍ تظهر للحس اللطيف، أو تتضح للعقل الشريف.
ثم قال: [ألا ترى] أن الفكر مشوبٌ بالروية، والظنَّ مخلوطٌ بالوهم، والذِّكْرَ معنيٌّ
بالتخيل، والبديهة جانحةٌ إلى الحس، والاستنباط موصوفٌ بالغوص؟ وما
٢ هذا المعنى الذي ميَّز التواضع من شوْب الضَّعَة، أو خلَّص علوَّ الهمة من
شَوْب الكِبْر، أو فَرَز
٣ عزة النفس من نقص العُجْب، أو أبان الحِلْم عن بعض الضعف؟! هذا بالقول ربما
سَهُل وانقاد، ولكن بالعقل ربما عزَّ واعتاص، والأخلاق والخِلَق مختلطة، فمنها ما
اختلاطُه قويٌّ شديد، ومنها ما اختلاطُه ضعيفٌ سهلٌ، ومنها ما [اختلاطُه] نَصَفٌ بين
اللين والشدة، وهذه ينفع العلاجُ في بعضها، ويَنْبو العلاج عن بعضها، والحزمُ يقضي بألا
يُتهاون بما يقبل العلاج لأجل ما لا يقبَل العلاج.
قال: وهذا أيضًا يختلف بحسَب المِزاج والمِزاج، والإنسانِ والإنسان، ألا ترى أنك لو
رُمْت تحويل البخيل من العرب إلى الجود كان أسهلَ عليك من تحويل البخيل من الرُّوم إلى
الجود، والطمع في جبان الترك أن يتحوَّل شجاعًا أقوى من الطمع في جبان الكُرْد أن يصير
بطلًا.
قال: ومع هذا فوصفُ الأخلاق بالحدود — وإن كان على ما قدَّمْناه — نافعٌ جدًّا،
وإضمارُها في النفْس مثمرٌ أبدًا، فهذا هذا.
وأما ما قال أبو علي فإنه هذا:
قيل: ما الحلم؟ قال: ضبط الفكر بكفِّ الغضب.
وقال شيخنا أبو سعيد السيرافي: اعتباره من ناحية الاسم تعطيلٌ لطبعه،
٤ وذلك أن الحِلم شريك التحلُّم، «فكان الحليم [الذي] يُعَدُّ فيمن يحلُم»
٥ في عُرْض الحليم الذي لا يُعاجُ عليه ولا يُكْترث له. قال: والتحلم نافعٌ
أيضًا، وهو أحمدُ من التحالُم، لأن الثاني أقرب إلى التأني، كما أن الأول أقربُ إلى
الحقيقة.
وقيل لعيسى: ما العدل؟ فقال: القِسْط القائم على التساوي.
وحكى جالينوس قال: إن الناس لشدة حبهم لأنفسهم يظنون أن لهم ما يُحِبون، فمن أجل ذلك
وقعوا في العُجب. فينبغي أن تكون مَحبتُك لنفسك حقيقية، ويتم ذلك لك إذا أنت صيَّرت
نفسَك على الحال التي يَرَى من يرى أنك عليها.
[وقال: المُعْجَب] يحب نفسه أكثر مما يَحقُّ لها، وما أحسنَ بالإنسان أن يحب نفسه!
ولكن بالعدل، فإن أراد أن يحبها جدًّا فيجب أن يجعلها من أهل المحبة، ثم يحبها من
بعد.
قيل: فما الحسد؟ قال: شدة الأسى على شيء يكون لغيره.
قيل: فما الكآبة؟ قال: إفراط الحُزْن.
قال أبو سليمان: الحزن والغم والهم والأسى والجَزَع والخَوَر من شجرة واحدة، ومن
تَعَاطَى وصفَ أغصان شجرة طال عليه ولم يَحْظَ بطائل، ويكفي أن نعرف شجرة التفاح من
شجرة المُشْمُش، وشجرة الكُمَّثْرى من شجرة السَّفَرْجل، فإن عواقب المعارف نكرات، كما
أن فواتح المعارف جهالات.
قيل: فما الشجاعة؟ قال: الإقدام في موضع الفرصة من جميع الأمور.
قال أبو سليمان: الشجاعة إذا كانت نُطْقية
٦ كانت فرصتُها تعاطِيَ الحكمة، والدُّءُوبَ في بلوغ الغاية، وبذلَ القوة في
نيل البِغْية. وإذا كانت غَضَبيةً كانت فرصتُها شفاء الغيظ إما من مستحِق، وإما من غير
مستحِق. وإذا كانت شَهَويةً كانت فرصتها التحليَ بالعفة التامة، أعني في الخَلْوة
والحَفْل.
قال لنا أبو الحسن عليُّ بن عيسى الرُّمَّاني الشيخُ الصالح: العِفَّة واسطة بين
المقارفة والعصمة، والعصمة واسطةٌ بين البشرية والمَلَكية.
وحكى عيسى بن زُرْعة في هذا الموضع — عند تدافع الحديث — أن مُورِيس قال: إني لأعجب
من ناسٍ يقولون: كان ينبغي أن يكون الناس على رأي واحد، ومنهاج واحد! وهذا ما لا يستقيم
ولا يقع به نظام.
قال: وهَبْ أن يكون الناس وكلُّ واحدٍ منهم مَلِكًا يأمر وينهى، ويُسْتمَع له
ويُطَاع؛ فمن كان المأمورَ المؤتمر، والمَنْهيَّ المنتهِي؟ والعاقلُ الحصيفُ يعلم أنه
لا بدَّ من التفاوت الذي به يكون التصالح، كالعالِم والمتعلم، والآمر والمأمور،
والصانعِ والمصنوع له.
ثم قال عيسى: من توابع الأخلاق المذمومة الغضب والكذب والجهل والجوْر
والدناءة.
قال أبو سليمان: أما الغضب فلا يكون مذمومًا إلا إذا أُعْمل في غير أوانه، وعلى غير
ما يأذن الناموس الحقُّ به. وأما الكذب ففيه أيضًا مصالح، كما أن الصدق ربما أفضى إلى
كثير من المفاسد — وإن كان الصدق قد فاز بالوصف الأحسن، والكذب قد وُصِف بالنعت الأقبح
— فكم كذبٍ نجَّى من شر! وكم صدقٍ أوْقعَ في هُوَّة! وبقي الآن أن نعرف الصدق مع أوانه
ومكانه، فيُؤْتَى به أو يُنْهَى عنه، وكذلك الكذب على حَذْوه ومثاله.
قال: وأما الجهل والجَوْر والدناءة فإنها أثافِيُّ الرذائل، فينبغي أن يُنْتَفَى منها
جملةً وتفصيلًا، ولا يسلك أحدٌ إلى شيء منها [سبيلًا] فإنها أَعْدَام — هكذا قال —
والعَدَم كريهٌ ومهروبٌ منه، والوجود على أنقص النعوت أتمُّ وأشرف من العدم على أَزْيد
الصفات، وإن كان لا زيادة في العدم إلا من طريق الوهم العارض ما يصحُّ وما لا
يصح.
قيل: فما العُجْب؟ قال: وزن النفس بأكثر من مثقالها.
وقال أيضًا: العُجب هو النظر في النفس بعين ترى القبيح جميلًا.
ويقال: المُعْجَب يدَّعي أن ما ينبغي أن يُعْجب منه قد حصل له من غير أن يكون كذلك،
فأما إذا كان ذلك حاصلًا فالعُجْب ليس بعُجْبٍ إلا من طريق الاسم، وإلا فهو في الحقيقة
إحساسٌ بالفضل المعشوق، وشعورٌ بالكمال المَوْمُوق، واستدعاءٌ للزيادة مما صار به هكذا،
واستعدادٌ لقبول الفيض من معدِنه بالاختيار الثاني والاعتياد الأول.
قيل: فما الوفاء؟ قال: قضاء حقٍّ واجب، وإيجابُ حقٍّ غير واجب، مع رِقَّةٍ أُنْسِية،
وحفيظةٍ مَرْعية.
قيل: فما الرغبة؟ قال: حركةٌ تكون من شهوةٍ يُرْجَى بها منفعة.
قال أبو سليمان: الرغبة إذا كانت نطقية كانت مَبْعَثةً على التحلِّي بالفضائل، وإذا
كانت سَبُعيةً أو بَهيمِيةً كانت مُلْهِجةً بمواقعة أضدادها
٧ من الرذائل.
وقيل: ما المهنة؟ فقال: حركةٌ يَتَعاطاها الإنسان بلا حَفْزٍ ولا استكراه. قال علي
بن
عيسى: المهنة صناعة، ولكنها [إلى الذل أقرب، وفي الضَّعَة أدخل. والصناعة مهنة، ولكنها]
ترتفع عن توابع المهنة، وفي الصناعات ما يتصل به الذل أيضًا، ولكنْ ذلٌّ ليس من جهة
حقيقة الصناعة، ولكن من جهة العرْض الذي بين الصناعة والصناعة، والمرتبة
والمرتبة.
قيل: فما العادة؟ قال: حالٌ يأخذ بها المرء نفسَه من غير أن تكون مسنونةً يجري عليها
مَجرَى ما هو مألوفٌ طبيعي.
قال أبو سليمان: كأن هذا الاسم ليس يخلُص إلا لمن أتى شيئًا مرارًا، فأما في أول ذلك
فليس له هذا النعت، وإنما يصير مألوفًا بالتكرار، ولهذا ما صِيغت الكلمة من عاد يعود
واعتاد يعتاد.
وأما قوله: طبيعي. فعلى وجه التشبيه، لأن الطبيعي أشد رسوخًا وأثبت عِرْقًا، وأبعدُ
من الانتقاض. فأما العادةُ فكلُّ ذلك جائزٌ عليها، وغيرُ مأمون من الوقوع فيه.
قيل: كم الحركات؟ قال: ستة أصناف؛ أولها حركة الانتقال، وهي ضربان: إما حركة الجسم
بكلِّه من مكان إلى مكان، وإما حركتُه بأجزائه كالفَلَك والرَّحَى. والثاني حركة الكون،
والثالث حركة الفساد، والرابع حركة الرُّبُوِّ،
٨ والخامس حركة النقْض والبِلَى، والسادس حركة الاستحالة، وهي ضربان: أمَّا
في الجسم فمِثل اللون، وأما في النفس فمثل الغضب والرضا والعلم [والجهل].
٩
والنُّقْلة مكانية، والكون والفساد جوهريَّان، والاستحالة هيئية، والنمو والاضمحلال
١٠ مكانيان.
قال الكندي: وها هنا حركةٌ أخرى، وهي حركة الإبداع، إلا أن بينها وبين حركة الكون
فرقًا، لأن هذه لا من موضوع، وحركة الكون من فساد جوهرٍ قبْله بحدوثه، ولذلك قيل: إن
الكون خروجٌ من حالٍ خسيسةٍ إلى حال نفيسة.
قال أبو سليمان: حركة الإبداع عبارةٌ بسيطة لا يجب أن يُفهَم
١١ منها معنًى مركَّب. قال: وإنما قلت [هذا] لأن اللفظ نظير اللفظ في أغلب
الأمر وليس المعنى نظير المعنى في أغلب الأمر، واللفظ كلُّه من وادٍ واحد في التركُّب
بلغة كل أمة، والمعاني تختلف في البساطة على قدر العقل
١٢ والعقل، والعاقل والعاقل. وإنما حركة الإبداع مشارٌ بها إلى مقوِّم الأشياء
بلا كُلْفة فاعل، ولا مُعاناة صانع، وإنها بَدَتْ بالمُبْدِع من المُبْدع للمبدع لا على
أن الباء أَلْصَقت به شيئًا، ولا على أن [مِن] فصلت منه شيئًا، ولا على أن اللام أضافت
إليه شيئًا. فإن هذه العلامات والأمارات كلَّها موجودةٌ في الأشياء التي تعلَّقت
بالإبداع، فلم يَجُزْ أن يُنْعتَ بها المبدع، ولو جاز هذا لكان داخلًا فيها وموجودًا
بها، وهذا بعيدٌ جدًّا. فلما جلَّ عن هذه الصفات بالتحقيق في الاختيار وُصِف بها
بالاستعارة على الاضطرار، لأنه لا بدَّ لنا من أن نذكره ونصفه وندعوَه ونعبدَه ونقصده
ونرجوَه ونخافَه ونعرفَه وننحُوَه ونطلبَ ما عنده ونواجهَه ونكافِحَه.
١٣ وهذه نعمةٌ منه علينا، ولُطْفٌ منه بنا، وحكمةٌ بينه وبيننا، وإلا كانت
العصمة تَنْبَتِر، والطمعُ ينقطع، والأمل يضعُف، والرجاء يخيب، والأركان تتخلخل،
والذرائع ترتفع، والوسائل تمتنع، والقواعدُ تسيح، والرغباتُ تسقط، والجودُ والكرم
والحكمة والقدرة والجبروت والملكوتُ تأبى ذلك. فصارت هذه الأسماءُ والصفاتُ سلالم لنا
إليه، لا حقائقَ يجوز أن يُظَنَّ به شيءٌ منها، على سبيل
١٤ السياج الممدود، والمنهاج المحدود.
سُقْتُ كلامَ عيسى في تصنيف الحركات من أجل هذه الفقرة التي كانت محفوظةً في حركة
الإبداع، فإني قد وجدت للقوم في هذا الباب حيرةً عارضة أو راكدةً، لا يستطيعون
التَّفَصِّي عنها، ولا يقدرون على البراءة منها، للضلال الذي قد لزمهم، والأصنام التي
قد تربعت في نفوسهم، والأمثلةِ التي قد خالَطت عقولَهم، والأَفْياء التي استصحبوها من
إحساسهم. والقائل هذا ينبغي أن يتحرَّى ويتلبث حتى يَعْرَى من هذه الأشياء ويتريَّث،
فحينئذٍ أضمن له أن يصح توحيده، ويتمَّ تجريده، وإلى التوحيد تنتهي الفلسفة بأجزائها
الكثيرة، وأبوابها المختلفة، وطرُقها المتشعبة.
وأنا أعوذ بالله من صناعةٍ لا تحقِّق التوحيد، ولا تدل على الواحد، ولا تدعو إلى
عبادته، والاعتراف بوحدانيته، والقيامِ بحقوقه، والمصير إلى كنَفه، والصبر على قضائه،
والتسليم لأمره! ووجدتُ أرباب هذه الصناعات، أعني الهندسة والطب والحساب والموسيقى
والمنطق والتنجيم، مُعْرِضين عن تجشُّم هذه الغايات، بل وجدتهم تاركين الإلمامَ بهذه
الحانات. وهذه آفةٌ نسأل الله السلامة منها، والعافية من عواقبها! والسلام.
قيل: ما التمام؟ قال: بلوغ الشيء الحدَّ الذي ما فوقه
١٥ إفراط، وما دونه تقصير.
قال أبو سليمان: التمام أَلْيَق بالمحسوسات، والكمال أليق بالأشياء المعقولة.
قال: وليست هذه الفُتْيَا مني جازمة، ولا عن العرب العاربة مرويَّة. ولكن إذا لَحَظنا
المعانيَ مختلفة، طلبنا لها أسماءً مختلفة، ليكون ذلك معونةً لنا في تحديد الأشياء أو
في وصف الأشياء من
١٦ طريق الإقناع الكافِّ
١٧ للجدل والتهمة، أو من طريق البرهان القاطع بالحجة، الرافع للشبهة، أو من
طريق التقليد الجاري على السَّنَن والعادة.
قال: ولهذا [إذا] قيل: ما أتمَّ قامتَه! كان أحسن، وإذا قيل: ما أكمل نفسَه! كان
أجمل.
قيل له: هل يتساوى الكون والفساد فيبقى الشيء على ما هو به؟ فقال: أما على الحقيقة
فلا، ولكن
١٨ على السعة، لأن الكون متصل بالفساد، إلا أنهما يخفيان في مبادئهما حتى إذا
امتد الآنان
١٩ فصارَ آنًا واحدًا فحينئذٍ بان الكون من الفساد، وبان الفسادُ من الكون،
وهذا بالاعتبار الحسي، فأما العقل فيرتفع عن هذا، لأنه يعلم حقيقة الشيء على ما هو
عليه، ولا يقبل من الحس حُكمًا، ولا يَحتكم إليه أبدًا.
وإنما الحسُّ عاملٌ من عمال العقل، والعامل يجور مرةً ويعدل مرة، فأما الذي هذا هو
عامله فهو الذي يتعقبه، فإن وجده جائرًا أبطل قضاءه، وإن وجده عادلًا أمضى حكمَه، ومتى
استُشير الحسُّ في قضايا العقل فقد وُضع الشيء في غير موضعه، ومتى استُشير العقلُ في
أحكام الحس فقد وُضع الشيء في موضعه.
قيل: فما الصورة؟ قال: التي بها
٢٠ يخرج الجوهر إلى الظهور عند اعتقاب الصور إياه.
قال أبو سليمان: هذه الفتيا جزافية، الصور أصناف: إلهيةٌ وعقلية وفلكيةٌ وطبيعيةٌ
وأسطقسية وصناعية، ونفسيةٌ ولفظية وبسيطةٌ ومركبةٌ وممزوجةٌ وصافيةٌ، ويقظيةٌ ونوميةٌ
وغائبيةٌ وشاهدية.
ثم اندفع فقال: أما الصورة الإلهية — وهي أعلاها في الرتبة والحقيقة. وهي أبعد منا
في
التحصيل إلا بمعونة الله تعالى — فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التقريب، وذلك
أن
البساطة تغلب عليها، إلا أنها مع ذلك ترسم بأن يقال: هي التي تجلت بالوحدة وثبتت
بالدوام ودامت بالوجود.
وأما الصورة العقلية فهي شقيقة تلك إلا أنها دونها لا
٢١ بالانحطاط الحسي ولكن بالمرتبة اللفظية، وليس بين الصورتين فصلٌ إلا من
ناحية النعت، وإلا فالوحدة شائعةٌ وغالبةٌ وشاملة، لكن الصورة الإلهية تلحظ لحظًا، ولا
يلفظ بوصفها لفظًا لمشاكتها الصورة النفسية، فإذا كان كذلك أمكن أن ترسم فيقال: هي التي
تهدي إلى العاقل ثلجًا في الحكم، وثقةً بالقضاء وطمأنينة للعاقبة وجزمًا بالأمر،
ودحوضًا للباطل وبهجةً للحق ونورًا للصدق.
والفرق بين الصورة الإلهية والصورة العقلية أن الصورة الإلهية ترد عليك وتأخذ منك،
والصورة العقلية تصل إليك فتعطيك، فالأولى بقهرٍ وقدرة والثانية برفقٍ ولطافة، وتلك
تحجبك عن لم وكيف وهذه تفتح عليك لم وكيف، وتلك لا تنحي ولا تطلب وهذه يسعى إليها،
ويسأل عنها وتوجد، وأنوار الصورة الإلهية بروقٌ تمر وأنوار الصورة العقلية شموسٌ
تستنير، وتلك إذا حصلت لك بالخصوصية لا نصيب لأحدٍ منها، وهذه إذا حصلت لك فأنت وغيرك
شرعٌ فيها، وتلك للصون والحفظ وهذه للبذل والإفاضة.
وأما الصورة الفلكية فداخلةٌ تحت الرسم بالعرض، وللوهم فيها أثرٌ كثير، ولأنها
مأخوذةٌ من الجسم الأعظم صارت مشاكهتها مقسومةً بين البسيط الذي لا تركيب فيه البتة،
وبين المركب الذي لا يخلو من التركيب البتة، ولهذا صار تأثير الفلك في المتحركات عنه
أشدَّ من تأثر الفلَك عن المحرِّك له، وكأنه أول [محرِّكٍ] متحرِّك، وليس هكذا
٢٢ ما علا عنه.
والفلَك بما هو جسمٌ منقوص الصورة وبما هو دائم الحركة، شريفُ الجوهر.
وأما الصورة الطبيعية فتعلُّقها بالمادة القابلة لآثارها بحسب استعدادها لها، فلذلك
ما هي مُزَحْزحة عن الدرجة العليا، وعِشْقُها للقابل منها أشدُّ من عشقها للمُفِيض
عليها، ولهذا أيضًا كانت منافعها ممزوجة، ومضارُّها بحتة،
٢٣ وهي تجمع بين الحكمة والبلَه، وبين الجيد والرديء، ولو سألتها لِمَ أنتِ
ضارةٌ نافعة؟ لقالت: بعُدْتُ، فلما بعُدْتُ صوَّبْتُ وصعَّدْتُ.
وسمعتُ أبا النفيس يقول في وصف الطبيعة كلامًا له رونقٌ في النفس،
٢٤ وأنا أصل هذه الجملة به.
قال: أيتها الطبيعة، ما الذي أقول لك؟ وبأي شيء أؤاخذك؟ وكيف أوجِّه العتْب عليك؟!
فإنك قد جمعتِ أمورًا منكرة، وأحوالًا عسرة، لا يفي نظامُك فيها بانتثارك عليها، ولك
بوادر ضارة، وغوائل خفيةٌ تبدو منك، وتغور فيك، وترجع إليك، حتى إذا قلنا في بعضها: إنك
حكيمة، قلنا في بعضها: إنك سفيهة. فالبَلَه منك مخلوطٌ باليقظة، والاستقامة فيك عائدةٌ
بالاعوجاج، وفيك فظائع ونزائع، وقوارع وبدائع، لأن حركاتك تستنُّ مرةً استنانًا تُعشقين
عليه، وتُحَبِّين من أجله، وتزيغ أخرى زيغًا تُمْقتين عليه، وتُبْغَضين بسببه، وربما
كانت حركتك نقصًا للبناء المحكم والصورة الرائعة والنظام البهي، وربما كانت بناءً
للمنتقِض، وتجديدًا للبالي، وإصلاحًا للفاسد، حتى كأنك عابثةٌ بلا قصد، عائثةٌ على عمد.
وعلى جميع صفاتك من الواصفين لك لم يَعلم
٢٥ مَن ظن، ولا رأى من تخيَّل، ولا بعُد لفظٌ من تأويل، ولا حال معنًى عن
توهم، ولا أسفر حق عن باطل، ولا تميز بيانٌ عن تمويه، ولا وضَح نصحٌ من غش، ولا سلم
ظاهرٌ من تناقض، ولا خلت دعوى من معارض؛ فلهذا وأشباهه واجهتُك بخطابي، وعرضتُ عليك ما
في نفسي. فبالذي أنت به قائمة، وبالذي أنت به موجودة، وبالذي أنت له منقلبة، وإليه
منساقة؛ إلا خبَّرتني عنك، وشَفَيْت غليلي منك، ونعتِّ لي غيب شأنك، وجعلتِ الخبر عنك
كعيانك. وإنما ضرعتُ إليك هذا الضَّرَع، وعرضتُ عليك هذا الوجع، لأنك جارتي وصاحبتي،
وليس بيني وبين حجاب إلا ما هو عدوٌّ منك أو مني، أعني بما هو منك لطف سحرك، وخفاء سرك،
وأعني بما هو مني ما أعجز عن استبانته واستيضاحه إلا بقوة الإله الذي هو سببٌ لحركتك
في
أفانين تصرفك، وأعاجيب عدلك وتحيفك.
وكان إذا بلغ هذا الحدَّ وما شاكَلَه أخذ في كلامٍ كالجواب على طريق التأنيس والتسلية
والاستراحة، وهذا بالواجب، لأن الإنسان بسبب أغراضه المجهولة، وعوارضه الفاجئة الباغتة
من الغيب والشهادة يفتقر افتقارًا شديدًا إلى هذه النعوت التي تقدم ذكرها، وهذا كالداء
والدواء! وليس لأحد أن يتهكَّم فيقول: هلَّا ارتفع الداء أصلًا فيُستغنَى عن الدواء
جملة! وهلَّا وقع الدواء أبدًا على الداء ونفاه وصرفه! فإن هذا كلامٌ مدخول من عقل
كليل، ولعمري إن من جهِل القسمة الإلهية في الأزل
٢٦ بحسب شهادة العقل لعب به الوسواس في هذه المواضع، وظن أن الأمر لو كان
بخلاف ما هو عليه كان أولى وأتم وأوثق وأحكم. يا ويحه! من أين يوجب هذا الحكم؟ وبأي شيء
يثبت هذا القضاء؟ وكيف يثق بهذا الوهم؟
وكان يقول أيضًا: إن الطبيعة تقول: أنا قوةٌ من قوَى البارئ، موكَّلةٌ بهذه الأجسام
المسخرة حتى أتصرف فيها بغاية ما عندي من النقش والتصوير والإصلاح والإفساد اللذين
لولاهما لم يكن لي أثرٌ في شيء، ولا لشيء أثرٌ مني، وكان وجودي وعدمي سواءً، وحضوري
وغيابي واحدًا، ولو بطلتُ بطل ببطلاني ما أنا به. وهذا زائفٌ من القول، وخطلٌ من الرأي،
وتحكمٌ من الظان. ولو احتُمل إيراد كلِّ ما كان يتنفس به هذا الشيخ في حال نشاطه
وانقباضه، لكان ذلك مَرَادًا فسيحًا، ومَشْرعًا واسعًا، ولكن ذلك متعذِّرٌ لعجزي عن
الوفاء به، ولأن هذه الرسالة تتقلص عنه، وإنما أجول في هذه الأكناف لكَلَفي بالحكمة كيف
دارت العبارة بها، وأمكنت الإشارة إليها، لا على التقصي لها وبلوغ الغاية منها، ومن
يقدر على ذلك؟ ومن يحدِّث نفسه بذلك؟ العالم أبعد غورًا وأعلى قُلَّةً وأثقل وزنًا
وأحدُّ غرْبًا وألطف أعراضًا وأكثف أجْرامًا وأعجب تركيبًا وأغرب بساطةً من أن يأتي
عليه إنسانٌ واحد، وكل من
٢٧ كان في مَسْكه، وإن بلغ الغاية في دقة الذهن، وحُسن البيان، وبلاغة اللفظ،
واستنباط الغامض في حاضره
٢٨ وغائبه؛ هذا ما لا يتوهمه العقل.
٢٩
وأنا أعوذ بالله من هذه الدعوى، وأسأله أن يلهمني الشكر على ما فتح وشرح، وهدى إليه
ومنح، وأطلع عليه وندَح،
٣٠ فإن الشكر قرعٌ لباب المزيد، والمزيد باعثٌ على الشكر الجديد، والشكر — وإن
خلَص بالعرفان، وجرى بضروب البيان على اللسان — فإنه يقصُر عن تواتر النعمة بعد النعمة،
وتظاهر الفائدة بعد الفائدة.
وأما الصورة الأُسْطُقُسِّيَّة فهي لائحةٌ لكل ذي حسٍّ
٣١ بالتناظم الموجود فيها، والتباين الآخذ بنصيبه منها، ولها انقسامٌ إلى
آحادها، أعني أن صورة الماء مبايِنةٌ لصورة الهواء، وكذلك صورة الأرض مخالِفةٌ لصورة
النار، فتحديدها بما يقررها مع غوصها في كل أسطُقسٍّ شديد، واللفظ لا يصفو، والمراد لا
ينماز.
وأما الصورة الصناعية فهي أبين من ذلك، لأنها مع غوصها في مادتها بارزةٌ للبصر والسمع
ولجميع الإحساس، كصورة السرير والكرسيِّ والباب والخاتَم وما أشبه ذلك.
وأما الصورة النفسية فهي راجعةٌ إلى العلم والمعرفة وتوابعهما فيما يحققهما أو يخدمهما
٣٢ وهي شقيقةٌ للصورة العقلية بالحق.
وأما الصورة البسيطة فلاختلاف مراتب البسيط ما يعزُّ رسمها إلا بالإيماء إليها، فإن
لحق هذا الإيماء سامعُه فذاك، وإلا فلا طمع في عبارةٍ شافيةٍ عنها.
وأما الصورة المركبة فهي باديةٌ للحس بآثار الطبيعة في مادتها، وباديةٌ أيضًا للنفس
بآثار العقل في سَيْحه عليها، وكما أن بين البسيط والبسيط فرقًا يكاد البسيط يكون به
مركَّبًا، كذلك بين المركَّب والمركب فرقٌ يكاد المركب يكون به بسيطًا، وهذه جملةٌ
تفسيرها مُعْوِز.
وأما الصورة الممزوجة فهي أخت الصورة المركبة، وكذلك الصورة الصافية أخت الصورة
البسيطة، وليس هذا تمايزًا في اللفظ واللفظ، إذ كانتا متصاحبتين
٣٣ ولم تكونا متعاندتَين.
وأما الصورة اليقظيَّة فهي مجموعةٌ من الإحساس، لجريانها
٣٤ على وجدان المشاعر كلها، وما لها وبها.
وأما الصورة النومية فهي أيضًا متميزةٌ عن أختها، أعني اليقظية، لأنها إغضاء عينٍ
وفتح عينٍ، أعني أن النائم قد حيل بينه وبين مثالات الإحساس وعوارض الكون والفساد،
وفُتح عليه بابٌ إلى وجدان شيء آخر يجري كظل الشخص من الشخص، فإن كان ذلك من وادي
الطبيعة أومأ إلى آثار الأخلاط، وإن كان من وادي النفس أومأ إلى نصب التماثيل، وإن كان
من وادي العقل صرَّح بحقائق الغيب في عالم الشهادة إما بالتقريب وإما بالتهذيب، أعني
إما بوقوعه عَقِيب ذلك وإما بعد مهلة.
وأما الصورة الغائبية والشاهدية فقد اتصل الكلام في شرحها بما تقدم من حديث الصورة
اليقظية والنومية، والعبارة عن الشاهد مقصورةٌ على وجدان المشاعر، والعبارة عن الغائب
مقصورةٌ على ما تغلَّق
٣٥ على المشاعر، وفي الغائب شاهدٌ هو الملحوظ
٣٦ من الغائب، وفي الشاهد غائبٌ هو المبحوث عنه في الشاهد، فالشاهد غائبٌ بوجه
والغائب شاهدٌ بوجه، حتى إذا استَجمعا لك كنتَ بهما في شعارهما. والإلهيون من الفلاسفة
هم الذين جمعوا بين هذين النَّعْتَيْن، وعلوْا هاتين الذروتين فتوحدوا عند ذلك بخصائصهم
وانسلخوا عن نقائصهم، فلو قلت: ما هؤلاء
٣٧ بشرٌ، كنتَ صادقًا.
ولقد أحسن الذي قال في وصف العِصابة حيث وصف فقال:
فينا وفيك طبيعةٌ أرضيةٌ
تهوِي بنا أبدًا لشر
٣٨ قرار
لكنها مقسورةٌ مأسورةٌ
مغلوبة السلطان في الأحرارِ
فجسومهمْ من أجلها تهوِي بهم
ونفوسهمْ تسمو سُمُوَّ النارِ
لولا منازعة الجسوم نفوسَهمْ
نفذتْ بسَوْرتها من الأقطار
عرفوا لرُوح الله فيه فضل ما
قد آثَروا من صالح الآثار
فتنزَّهوا وتكرموا وتعظموا
عن لؤم طبعِ الطين والأحجار
نزعوا إلى البحر الذي منه أتتْ
أرواحهمْ وسموْا عن الأغوارِ
وهذا وصفٌ بليغٌ بالإضافة إلى القوم.
٣٩
فأما ما وراء هذا فهناك خبر ثقةٍ
٤٠ بما قرَّر، وقال: وأما الصورة اللفظية فهي مسموعةٌ بالآلة التي هي الأذن، فإن كانت عجماء
فلها حكم، وإن
كانت ناطقةً فلها حكم، وعلى الحالين فهي بين مراتب ثلاث: إما أن يكون المراد بها تحسين
الإفهام، وإما أن يكون المراد بها تحقيق الإفهام، وعلى الجميع فهي موقوفةٌ على خاصِّ
ما
لَها في بروزها من نفس القائل، ووصولها إلى نفس السامع. ولهذه الصورة بعد هذا كله
مرتبةٌ أخرى إذا مازجها اللحن والإيقاع بصناعة الموسيقار، فإنها حينئذٍ تُعطِي أمورًا
ظريفة، أعني أنها تلذُّ الإحساس، وتُلْهب الأنفاس، وتستدعي الكاس والطاس، وتروِّح
الطبع، وتنعم البال، وتُذكِّر بالعالَم
٤١ المَشُوق إليه، المتلهَّف عليه.
هذا منتهى كلامه على ما علقه الحفظ، ولقِنه الذهن، ولو كان مأخوذًا عنه بالإملاء لكان
أقوم وأحكم، ولكن السرد باللسان لا يأتي على جميع الإمكان في كل مكان، فهذا هذا.
قال الوزير: هذا بابٌ في غاية الإيفاء والاستيفاء، ومن يتحكَّك بالاعتراض عليه فقد
صغَى،
٤٢ وأبدى صفحتَه بالبُهْت، ودلَّ من عقله على الدَّخَل،
٤٣ ومن أخلاقه على الخَلَل.
٤٤ لقد وهب الله لهذا الرجل مقامًا عاليًا، ولا عجب فإنه مُعَوَّض بهذا عما
فاته.
وقال: أنشِدني في الخمر شيئًا غريبًا. فأنشدته:
ومُورَّدِ الوَجَنات يخْـ
ـطِرُ حين يخطِر في مُوَرَّدْ
يسقيك من جَفْن اللُّجين
إذا سقاك دموع عسجدْ
حتى تظنَّ الشمس تنْـ
ـزلُ أو تظن الأرضَ تصعدْ
فإذا سقاك بعينه
وبفِيه ثم سقاك باليدْ
حيَّاك بالياقوت تحْـ
ـت الدُّرِّ من فوق
٤٥ الزَّبَرْجدْ
قال: أحسنتَ والله، هات زيادةً. فقلت:
وعذراءَ
٤٦ تَرْغُو حين يضربُها الفحلُ
كذا البكرُ تنْزو حين يفتضُّها البعلُ
تدير عيونًا في جفونٍ كأنما
حماليقها بيضٌ وأحداقها نُجْلُ
كأن حَبابَ الماء حول إنائها
شذورٌ
٤٧ ودُرٌّ ليس بينهما فصلُ
توهَّمتُها في كأسها فكأنَّما
توهمتُ شيئًا ليس يدركه العقلُ
إذا اشتبكتْ رجْلاي من سَوْرة الكَرَى
درجْتُ إليها مثلَ ما يدرُجُ الطفلُ
وأنشدتُ لآخر:
وكم عائبٍ للخمر لو أنَّ أُمَّه
تبول مُدامًا لم يَزَل يَسْتَبيلُها
ولآخر:
خليليَّ لُوماني
٤٨ على الخمر أو دعا
فلن تجدا عندي على اللوم مطمعا
وشبَّا
٤٩ سنا نارٍ لعلَّ نديمنا
بنجرانَ أن يَلقى سناها فيتْبَعا
فما راعنا إذ أُوقِدتْ فوق ربوةٍ
من الأرض إلا راكبان قد أَوْضَعا
فهشَّا إلينا ثم قالا ألا انعِما
مساءً فقلنا دام ذاك لنا معا
وأنشدتُ لآخر:
سقَوْني وقالوا لا تُغنِّ ولو سقَوْا
جبالَ شَمامٍ
٥٠ ما سقَوْني لغنَّتِ
وأنشدت أيضًا:
الكأسُ لا تدري ولا الخمرُ
من أي شيء عُجِّلَ السُّكْرُ
أَسْكَرَني مِن قَبْل شُرْبي لها
مَن دأبُه الإعراضُ والهَجْرُ
قلتُ له والخمرُ في كأسِه
٥١
كأنها في كفِّه بدرُ
أنتَ لَعمري الخمرُ يا سيدي
ليس الذي سقَّيْتَني الخمرُ
آخر:
تركتُ النبيذ لأهل النبيذ
فخارَ ليَ الله في تَرْكِه
وقد كنتُ قِدْمًا به مُعْجَبًا
فقال: قد جرى هذا أيضًا على التمام. اختم مجلسنا بدعاء الصوفية.
فقلتُ: سمعتُ ابن سمعون يدعو في الجامع في آخر مجلسه ويقول: اللهم اجعل قولنا موصولًا
بالعمل، وعملَنا محقِّقًا للأمل، ولا تضايقنا فيما نتحوَّل به، ونتقلَّبُ لك فيه،
وكنِّفْ علينا بسِترك، وسوِّغْنا بِرَّك، وأَلْهِمْنا شكرك، وخفِّف على أفواهنا ذكرك،
واخصُصْنا بعد ذلك بما هو أليق بذلك! اللهم اسمع واستجب وقرِّبْ. وانصرفتُ.