الليلة الثامنة والثلاثون
وجرَى ليلةً بحضرة الوزير — أعلى الله كلمتَه، وأدام غِبْطته، ووالَى نِعْمتَه! أحقُّ
من دُعِي له، وأشرف من بُوهِي به، وأكملُ من شوهد في عصره — حديثُ ابن يوسف وما هو عليه
من غَثَاثته ورَثَاثته وعِيَارَته
١ وخساسته.
فقلت له: عندي حديثٌ ولا شك أن الوزير مطَّلعٌ عليه عارفٌ به. قال: ما ذاك؟ قلت:
حدثني أبو علي الحسن بن علي القاضي التَّنُوخِيُّ قال: كنت في الصحبة إلى هَمَذان سنة
تسعٍ وستين، وكنا جماعةً وفينا ابن حرنبار
٢ أبو محمد، وكان في جنبه ابن يوسف، فاتفق أن عضد الدولة — برَّد الله مضجعه
— قال لابن شاهَوَيْه: سِرْ إلى ابن حرنبار
٢ وقل له: ينبغي أن تسير إلى البصرة وإنا نجعل
لك فيها معونة، فقد طال مُقامك عندنا، وتوَالَى تبرُّمُنا بك وتبرُّمُك بنا، وليس لك
بحضرتنا ما تُحِبه وتقترحه، والسلامة لك في بعدك عنا قبل أن يُفضي ذلك إلى تغيُّرنا.
وكلامًا في هذا النوع.
قال: ونفَذَ أبو بكر ومعه آخَر من المجلس يشهد التبليغ والأداء،
٣ ويسمع الجواب والابتداء — على رسمٍ كان معهودًا في مثل هذا الباب — فلقِي
ابن حرنبار
٢ وشافهه بالرسالة على التمام. فقال أبو محمد لما سمع: الأمر للملِك، ولا خلاف
عليه. ولَعمري إن الناس بجُدُودهم ينالون حظوظَهم، وبحظوظهم يستديمون جدودَهم. ولو
وُفِّقتُ ما كان عجيبًا، فقد نال من هو أنقص مني، وبلغ المنى من أنا أشرف
٤ منه، ولكن المقادير غالبة، وليس للإنسان عنها مُرْتَحل. وقد قيل: من سَاور
الدهرَ غُلب. ولكن أيها الشيخ لي حاجة: أحب أن تبلغ الملك كلمةً عني. قال: هاتها. قال:
تقول له: أنا صائرٌ إلى ما رسمتَ، وممتثِلٌ ما أمرت، بعد أن تقضي لي وطَرًا في نفسي قد
تَقطَّع عليه نَفَسي، وذاك أن تتقدَّم فيُقام عبدُ العزيز بن يوسف بين اثنين فيصْفعانه
مائتين، ويقولان له: إذا لم تبذل جاهك لمتلهِّف، ولا عندك فرجٌ لمكروب، ولا بِرٌّ
لضعيف، ولا عطاءٌ لسائل، ولا جائزةٌ لشاعر، ولا مرعًى لمنتجِع، ولا مأوًى لضيف؛ فلِمَ
تُخاطَب بسيدنا، وتُقبَّل لك اليد، ويُقام لك إذا طلعتَ؟
قال ابن شاهويه: فَقَبْلَ أنْ لقيتُ الملِك أَفْصح
٥ له الذي كان معي مُشْرِفًا عليَّ. فلما دخلت الدار عُرِّف، فقال: عليَّ به.
فحضرتُه وابن يوسف قاعدٌ بين يديه على رسمه. فقال لي: هات الجواب عما نفذْتَ فيه.
فقلتُ: الجوابُ عندك. فقال: ما أعجب هذا! أنت حُمِّلتَ الرسالة وأطالب غيرَك بالجواب؟!
قال: فتلوَّيتُ حياءً من ابن يوسف. فقال: هات يا هذا الحديثَ بفصِّه، فوالله لا أقنع
إلا به، ما هذا التواني والتكاسل؟! فكرهتُ اللَّجاج، فسردتُه على وجهه، ولم أغادر منه
حرفًا، وابن يوسف يتقدَّد في إهابه،
٦ ويتغير
٧ وجهُه عند كل لفظةٍ تمر به. فأقبل عليه الملك وقال: كيف ترى يا أبا القاسم
الكيِّسَ؟ فقال: يا مولانا، إنما أنا أقضي الحاجة بك، فإذا لم تقضها كيف أكون؟ فإن
الحوائج كلها إليك.
قال: صدقتَ، أنا لا أقضي حاجةً لك، لأنك لا تقصد بها وجه الله، ولا تبغي بها مكرمة،
ولا تحفظ بها مروءة، وإنما ترتشي عليها وتصانع بها، وتجعلني بابًا من أبواب تجارتك
وأرباحك. ولو كنتُ أعلم أنك تقْضي حاجةً لله أو لمكرمةٍ أو لرحمة ورِقَّةٍ، لكان ذلك
سهلًا عليَّ وخفيفًا عندي، لكنك معروف المذهب في الطمع والحيلة، وجرِّ النار إلى
قُرْصِك، وشَرَهك في جميع أحوالك. وليس الذنب لك، ولكن لمن رآك إنسانًا وأنت
كلبٌ.
وصدق — صدَّق الله قولَه — فإنه كان أخسَّ خَلق الله، وأنتن الناس، وأقذر الناس، لا
منظر ولا مخبر.
وكانت أمه مغنيةً من أهل البيضاء، وأبوه من أسقاط الناس، ونشأ مع أشكاله، وكان في
مكتب
٨ الرَّبَضِيِّ على أحوالٍ فاحشة، ووَرَّق زمانًا، ثم إن الزمان نوَّه به،
ونبَّه عليه، ومثلُ هذا يكون والأيام ظهورٌ وبطون، وكما يسقط الفاضل إذا عانده الجَدُّ،
كذلك يرتفع الساقط إذا ساعده الجَدُّ، فهذا هذا.
فقال: ما كان هذا الحديث عندي، وإنه لمن الغريب.
ثم قال: كيف خبرك في الفتنة التي عرضت وانتشرت، وتفاقمت وتعاظمت؟ فكان من الجواب:
خبر
من شَهِد أولَها، وغرِق في وسطها، ونجا في آخرها.
قال: حدِّثني فإن في روايته وسماعه تبصرةً وتعجبًا، وزيادةً في التجربة.
وقد قيل: تجارب المتقدمين مرايا
٩ المتأخرين، كما يُبْصَر فيها ما كان يُتبصَّر بها فيما سيكون، والشاعر قد
قال:
والدهرُ آخرُه شِبْهٌ بأولهِ
ناسٌ كناسٍ وأيامٌ كأيامِ
وليس من حادثةٍ ماضيةٍ إلا وهي تعرفك الخطأ والصواب منها، لتكون على أُهْبةٍ في أخذك
وتركك، وإقدامك ونُكُولك، وقبضك وبسطك، وهذا وإن كان لا يقي كلَّ الوقاية فإنه لا
يُلقِي في التهلكة كلَّ الإلقاء.
كان أول هذه الحادثة الفظيعة البشعة التي حيَّرت العقول وولَّهت الألباب، وسافر عنها
التوفيق، واستولى عليها الخِذْلان، وعُدِمت فيه البصائر؛ شيءٌ كلا شيء، وإذا أراد الله
[تعالى ذكره] أن يعظِّم صغيرًا فعل وإذا شاء أن يصغر عظيمًا قدر، له الخلق والأمر، ولا
معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا صارف لقدره. وقدرة الإنسان محدودة، واستطاعته متناهية،
واختياره قصير، وطاقته معروفة. وكلُّ ما جاوز هذا الحد وهذا
١٠ التناهي فهو الذي يجري على الإنسان شاء أو أبى، كره أو رضي، وها هنا يُفزع
إلى الله من نازل المكروه وحادث المحذور.
وذاك أن الروم تهايجت على المسلمين، فسارت إلى نصيبين بجمعٍ عظيم زائدٍ على ما عهد
على مر السنين، وكان هذا في آخر سنة اثنتين وستين، فخاف
١١ الناس بالموصل وما حولها، وأخذوا في الانحدار على رعبٍ قُذف في قلوبهم،
ليكون سببًا لما صار إليه [الأمر]، وماج الناس بمدينة السلام واضطربوا، وتقسَّم هذا
الموج والاضطراب بين الخاصة والعامة، وصارت العامة طائفتين: طائفة ترق للدين ولما دهم
المسلمين، وتستعظم ذلك فرَقًا مما يُنتهى إليه، بعد ما يؤتى عليه، وطائفةً وجدت فرصتها
في العيث والفساد، والنهب والغارة بوساطة التعصب للمذهب.
وافترقت الخاصة أيضًا فرقتين: فرقةً أحبت أن تكون للناس حميةٌ
١٢ للإسلام ونهوضٌ إلى الغزو، وانبعاثٌ في نصرة المسلمين؛ إذ قد أضرب السلطان
عن هذا الحديث، لانهماكه في القصف والعزف وإعراضه عن المصالح الدينية والخيرات
السياسية. وطائفةً اختارت السكون والإقبال على ما هو أحسم لمادة الوثوب والهيج، وأقطع
لشغب الشاغب وأقمع لخلاف المتهم، فإن الاختلاف إذا عرض خفي موضع الاتفاق والتبس الأمر
على الصغار والكبار. وبمثل هذا فُتحت البلاد، ومُلكت الحصون، وأزيلت النِّعم، وأُريقت
الدماء، وهُتكت المحارم، وأُبيدت الأمم. ونعوذ بالله من غضب الله، ومما قرب من [سُخط]
الله! وإذا أراد الله أمرًا كثَّر بواعثه وفرَّق نوابثه.
١٣
ولما اشتعلت النائرة، واشتغلت الثائرة صاح الناس: النفير النفير، واإسلاماه!
وامحمداه! واصوماه! واصلاتاه! واحجاه! واغزواه! واأسراه في أيدي الروم والطغاة! وكان
عز
الدولة قد خرج في ذلك الأوان إلى الكوفة للصيد، ولأغراضٍ غير ذلك، فاجتمع الناس عند
الشيوخ والأماثل والوجوه والأشراف والعلماء، وكانت النية
١٤ بعدُ حسنة، وللناس في ظل السلطان مبيتٌ ومقيل، يستعذبون ورده ويستسهلون
صدره، وعجُّوا وضجوا وقالوا: الله الله! انظروا في أمر الضعفاء وأحوال الفقراء، واغضبوا
لله ولدينه، فإن هذا الأمر إذا تفاقم تعدى ضعفاءنا إلى أقويائنا، وبطل رأي كبرائنا في
تدبير صغرائنا، والتدارك واجب وهو الإسلام إن لم نذب عنه غلب الكفرُ، وهو الأمن والسكون
إن لم يُحفظا فهو الخوف والبلاء وذهاب الحرث والنسل، وفضيحة الولد والأهل. فسكَّن
المشايخ منهم وطيبوا أنفسهم، وقوَّوا مُنَّتهم ووعدوهم أن يرتئوا
١٥ فيه متفقين، ويجتمعوا عليه مجتهدين، ويستخيروا الله ضارعين. وانصرف الناس
عنهم واجتمع القوم: أبو تمام الزينبي ومحمد بن صالح بن شيبان وابن معروف القاضي وابن
غسان القاضي وابن مكرَّم — وكان من كبار الشهود في سوق
١٦ يحيى — وابن أيوب القطان العدل وأبو بكر الرازي الفقيه وعلي بن عيسى
والعوامي صاحب الزبيري
١٧ وابن رباطٍ شيخ الكرخ ونائب الشيعة
١٨ ولسان الجماعة وابن آدم التاجر
١٩ والسالوسي أبو محمد، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وتشاوروا وتفاوضوا وقلبوا
الأمر وشعبوا القول، وصوبوا وصعدوا، وقربوا وبعدوا،
٢٠ والتأم لهم من ذلك أن تخرج طائفةٌ وراء الأمير بختيار إلى الكوفة وتلقاه وتعرِّفه
٢١ ما قد شمل مدينة السلام من الاهتمام، وأن الخوف قد غلبهم وأن الذعر قد
ملكهم، وأنهم يقولون: لو كان لنا خليفةٌ أو أميرٌ أو ناظرٌ سائسٌ؛ لم يُفضِ الأمر إلى
هذه الشناعة، وأن أمير المؤمنين المطيع لله إنما ولاه ما وراء بابه ليتيقظ في ليله،
متفكرًا في مصالح الرعايا، وينفذ في نهاره آمرًا وناهيًا ما يعود بمراشد الدين، ومنافع
الدانين والقاصين
٢٢ وإلا فلا طاعة. وكلامًا على هذا الطابع وفي هذا النسج، فاتفق جماعة على
صريمة الرأي في الحركة إلى الكوفة، منهم أبو كعب الأنصاري وأبو الحسن مِدْرَهُ القوم،
وعلي بن عيسى والعوامي وابن حسان القاضي صاحب الوقوف، وأبو أحمد الجرجاني القاضي البليغ
وابن سيَّارٍ القاضي أبو بكر وأبو بكر الرازي. وأما جُعَل فإنه ذكر ما به من وجع النقرس
واستعفى.
وأما أبو سعيد السيرافي فإنه ذكر ضعفًا وسِنًّا، وقال: أنا
٢٣ أعينُ في هذه النائبة بإقامة رجلٍ جلدٍ مُزاح العلة بالفرس والسلاح. وقعد
الجم الغفير وسارت الجماعة إلى الكوفة، ولحقت عز الدولة في التصيد وانتظرته، فلما عاد
قامت في وجهه واستأذنتْ في الوصول إليه على خلوةٍ وسكون بال وقلة شغل، فلم يلتفت إليهم،
ولا عاج عليهم — وكان وافر الحظ من سوء الأدب، قليل التحاشي من أهل الفضل والحكمة — ثم
قيل له: إن القوم وردوا في مهمٍّ لا يجوز التغافل عنه، والإمساك دونه. فأذن
٢٤ لهم بين المغرب والعتَمة، فجلسوا بحضرته كما اتفق من غير ترتيب، فقال:
تكلموا.
فقال أبو الوفاء المهندس لأبي بكر الرازي: تكلم أيها الشيخ، فإنك رضا الجماعة ومَقنع
العصابة.
فقال أبو بكر: الحمد لله الذي لا موهبة إلا منه ولا بلوى إلا بقضائه ولا مفزع إلا
إليه، ولا يسر إلا فيما يسره ولا مصلحة إلا فيما قدره، له الحكم وإليه المصير، وصلى
الله على سيدنا محمد رسوله المبعوث إلى الوارث والموروث. أما بعد، فإن الله [تعالى] قد
حض على الجهاد وأمر بإعزاز الدين والذَّب عن الحريم والإسلام والمسلمين في الدهر الصالح
والزمان المطمئن، فكيف إذا اضطرب الحبل وانتكثت مريرته وأُبرز مصونه، وعُرِّي حريمه
بالاستباحة ونِيل جانبه بالضيم، وضُعضع مناره بالرغم وقُصد ركنه بالهدم، وأنت أيها
٢٥ المولى من وراء سدة أمير المؤمنين المطيع لله، والحامل لأعباء مهماته
والناهض بأثقال نوائبه وأحداثه، والمَفْزع إليك والمعوَّل عليك، فإن كان منك جدٌّ
وتشميرٌ فما أقرب الفرج مما قد أظل وأزعج! وإن كان منك توانٍ وتقصيرٌ فما أصعبه من خطب!
وما أبعده من شعب! وقد جئناك نحقق عندك ما بلغك من توسط هذه الطاغية أطراف الموصل وما
والاها، وأن الناس قد جلوا عن أوطانهم، وفُتنوا في أديانهم
٢٦ وضعفوا عن حقيقة إيمانهم، للرعب الذي أذهلهم والخوف الذي وهَلَهم، وإنما هم
بين أطفالٍ صغار ونساء ضعاف، وشيوخٍ قد أخذ الزمان منهم فهم أرضٌ لكل واطئ ونهبٌ لكل
يد، وشباب لا يقفون لعدوهم لقلة سلاحهم وسوء تأتِّيهم
٢٧ في القِراع والدفاع، ونحن نسألك أن تتوخى في أمة محمدٍ
ﷺ ما يزلفك
عنده، ويكون لك في ذلك ذخرٌ من شفاعته. وبختيار مطرق.
ثم اندفع علي بن عيسى فقال: أيها الأمير، إن الصغير يتدارك قبل أن يكبر، فكيف يجوز
ألا يستقبل بالجد والاجتهاد وهو قد عسا وكبر؟ والله إنْ
٢٨ بنا إلا أن يظن أهل الجبل وأذربيجان وخراسان أنه ليس لنا ذابٌّ عن حريمنا،
ولا ناصرٌ لديننا، ولا حافظٌ لبيضتنا، ولا مفرجٌ لكربتنا، ولا من يهمه شيءٌ من أمورنا،
فالله الله! لا تجرنَّ علينا شماتتهم بنا وخذ بأيدينا بقوتك، وحسن نيتك وحميد طويتك،
وعزك وسلطانك وأوليائك وأعوانك، واكتب قبل هذا إلى عدة الدولة بما يبعثه على حفظ أطرافه
وحراسة أكنافه، مع استطلاع الرأي من جهتك ومطالعة أمير المؤمنين برأيك ومشورتك.
ثم رفع الأنصاري رأسه وقال: ليس في تكرير الكلام — أطال الله بقاء الأمير — فائدةٌ
كبيرة، ولئن كان الإيجاز في هذا الباب لا يكفي، فالإطناب فيه أيضًا لا يغني، والله لو
نهضت بنا ونحن أحراضٌ
٢٩ كما ترى لا نقلب مخصرة
٣٠ بكف، ولا نرمي دحروجةً
٣١ بيد، ولا نعرف سلاحًا إلا بالاسم؛ لنهضنا وسرنا تحت رايتك وتصرفنا بين أمرك
ونهيك، وفديناك بأرواحنا ضنًّا بك، وبعثنا على مثل ذلك أحداثنا وأولادنا الذين ربيناهم
بنعمتك، وخرجناهم في أيامك وادخرناهم للنوازل إذا قامت والحوادث إذا ترامت، فإن كان في
المال قلةٌ فخذ من موسرنا وممن له فضل في حاله، فإنه يفرج عنه طاعةً لك، وطمعًا فيما
عند الله من الثواب.
وقال العوامي:
٣٢ والله ما سُميت للدولة عزًّا إلا لأن الله تعالى قد ذخرك للمسلمين كنزًا،
وجعل لهم على يديك وبتدبيرك راحةً وفوزًا، ولم يعرضك لهذه الفادحة إلا ليخصك بانفراجها
[على يدك] ويبقي لك بها ذكرًا يطبِّق الأرض ويبلغ أمراء خراسان ومصر والحجاز واليمن
فيصيبهم الحسد على ما هيأ
٣٣ الله لك منها.
ونظر بختيار إلى ابن حسان القاضي — وكان منبسطًا معه لقديم خدمته — فقال: أيها
القاضي، أنت لا تقول شيئًا؟ قال: أيها الأمير، وما القول وعندك هؤلاء العلماء والمصاقع
الألباء؟ وإن سراجي لا يزدهر في شمسهم، وإن سحابتي لا تبل على بلالهم،
٣٤ وقد قالوا فأنعموا
٣٥ وجَرَوا
٣٦ فأمعنوا، وليس قدامهم إمام ولا وراءهم إمام، لكني أقول: ما جشمنا إليك هذه
الكُلَف إلا لتنظر على ضعف أركاننا وعلو أسناننا
٣٧ وقلة أعواننا؛
٣٨ لأنا
٣٩ رأيناك أهلًا للنظر في أمرنا والاهتمام بحالنا وبما يعود نفعه على صغيرنا
وكبيرنا.
فقال عز الدولة: ما زُوِيَ عني ما طرق هذه البلاد، ولقد أشرفت عليه وفكرت فيه، وما
أحببت تجشم هذه الطائفة على هذا الوجه. وما أعجبني هذا التقريع من الصغير والكبير، وما
كان يجوز لي أن أنعس على هذه الكارثة وأنعم بالعيش معها، ولعمري إن الغفلة [علينا] أغلب
والسهو فينا أعمل، ولكن فيما ركبتموه
٤٠ مني تهجينٌ شديد وتوبيخٌ فاحشٌ، وإن هذا المجلس لمما يُتَهادى حديثه
بالزائد والناقص والحسن والقبيح، وإنكم لتظنون أنكم مظلومون بسلطاني عليكم وولايتي
لأموركم، كلا، ولكن كما تكونون يولَّى عليكم، هكذا قول صاحب الشريعة فينا وفيكم، والله
لو لم تكونوا أشباهي لما وَلِيتكم، ولولا
٤١ أني كواحدٍ منكم لما جُعلت قيمًا عليكم، ولو خلا كل واحد منا بعيب نفسه
لعلم أنه لا يسعه وعظ غيره وتهجين سلطانه، أيظن هذا الشيخ أبو بكر الرازي أنني غير
عالمٍ بنفاقه، ولا عارفٍ بما يشتمل عليه من خيره وشره؟ يلقاني بوجهٍ صلب، ولسانٍ هدار
يرى من نفسه أنه الحسن البصري يعظ الحجاج بن يوسف، أو واصل بن عطاء يأمر بالمعروف، أو
ابن السماك يرهب الفجار، هذا قبيح، ولو سكت عن هذا لكان عيًّا وعجزًا، جزى الله أبا عبد
الله شيخنا خيرًا حين جلس، وكذلك أحسن الله عنا مكافأة أبي سعيدٍ السيرافي، فإنه لو علم
أن في مساعدتكم رشدًا لما توقف! وأما أنت يا أبا الحسن — يريد علي بن عيسى — فوحق أبي
إني لأحب لقاءك وأوثر قربك، ولولا ما يبلغني من ملازمتك لمجلسك وتدريسك لمختلفتك،
٤٢ وإكبابك على كتابك في القرآن؛ لغلبتك على زمانك ولاستكثرت مما قل حظي منه
في هذه الحال التي أنا مدفوعٌ إليها، فإنها وازعةٌ على هوى النفس وطاعة الشيطان،
ومنازعة الأكفاء وجمع المال، وأخذه من حيث يجب أو لا يجب، وتفرقته فيمن يستحق ومن لا
يستحق، وإلى الله أفزع في قليل أمري وكثيره. إذا شئتم.
قال لي أبو الوفاء — وهو الذي شرح لي المجلس من أوله إلى آخره: لقد شاهدت من عز
الدولة في ذلك المجلس المنصور
٤٣ في جده وشهامته وثبات قلبه وقوة لسانه مع بَحَحٍ لذيذٍ ولثغةٍ حلوة.
قال: ولقد قلت له بعد ذلك: أيها الأمير، ما ظننت أنك إذا خلعت رداءك ونزعت حذاءك
تقول
ذلك المقال، وتجول ذلك المجال وتنال ذلك المنال، لقد انصرف ذلك الرهط على هيبةٍ لك
شديدة وتعظيمٍ بالغ، ولقد تداولوا لفظك وتتبعوا معانيك وتشاحوا
٤٤ على نظمك، وقالوا: ما ينبغي لأحدٍ أن يسيء ظنه بأحدٍ إلا بعد الخبرة
والعيان وإلا بعد الشهادة والبيان، أهذا يقال له متخلف أو ناقص؟ لله دره من شخص! ولله
أبوه من فتى مدره!
ولما بلغ هذا المجلس الذين قعدوا عن المسير إليه — أعني عز الدولة — حمدوا الله
تعالى، وعلموا أن الخيرة كانت قرينة اختيارهم.
قال الوزير: قرأت ما دوَّنه الصابي أبو إسحاق في «التاجي» فما وجدت هذا الحديث فيه.
قلتُ: لعله لم يقع إليه أو لعله لم ير التطويل به، أو لعله لم يستخف ذكر عز الدولة على
هذا الوجه. قال: هذا ممكن، فهل سمعت في أيام الفتنة بغريبة؟
قلت: كلُّ ما كنا فيه [كان] غريبًا بديعًا عجيبًا شنيعًا، حصل لنا من العَيَّارين
قُوَّاد،
٤٥ وأشهرهم
٤٦ ابن كَبْرويه وأبو الدود،
٤٧ وأبو الذباب وأَسْود الزُّبْد وأبو الأَرَضة
٤٨ وأبو النوابح، وشُنَّت الغارة واتصل النهب وتوالَى الحريق حتى لم يصل إلينا
الماء من دجلة، أعني الكرخ.
فمن غريب ما جرى أن أسود الزبد كان عبدًا يأوي إلى قنطرة
٤٩ الزبد ويلتقط النوى ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهوٍ ولعب، وهو عريان لا
يتوارى إلا بخرقة ولا يُؤبَه له ولا يُبالَى به، ومضى على هذا دهر، فلما حلَّت النفرة
٥٠ أعني لما وقعت الفتنة وفشا الهرْج والمرْج، ورأى هذا الأسود من هو أضعف منه
قد أخذ السيف وأعمله، طلب سيفًا وشحذه ونهب وأغار وسلب، وظهر منه شيطانٌ في مَسْك إنسان
وصبُح وجهه وعذُب لفظه، وحسُن جسمه وعُشق وعَشق، والأيام تأتي بالغرائب والعجائب، وكان
الحسن البصري يقول في مواعظه: المعتَبَر كثير والمعتبِر قليل. فلما دُعي قائدًا وأطاعه
رجالٌ وأعطاهم وفرَّق
٥١ فيهم وطلب الرئاسة عليهم صار جانبه لا يُرام وحماه لا يُضام.
فمما ظهر من حُسن
٥٢ خُلقه — مع شرِّه
٥٣ ولعنته، وسفكه للدم وهتكه للحرمة وركوبه للفاحشة، وتمرده على ربه القادر
ومالكه القاهر؛ أنه اشترى جاريةً كانت في النخَّاسين عند الموصلي بألف دينار، وكانت
حسناء جميلة، فلما حصلت عنده حاول منها حاجته فامتنعت عليه، فقال لها: ما تكرهين مني؟
قالت: أكرهك كما أنت. فقال لها: فما تحبين؟ قالت: أن تبيعني. قال لها: أو خيرٌ من ذلك
أعتقك وأهب لك ألف دينار؟ قالت: نعم. فأعتقها وأعطاها ألف دينار بحضرة القاضي ابن الدقاق
عند مسجد ابن رَغْبان،
٥٤ فعجب الناس من نفسه وهمته وسماحته، ومن صبره على كلامها، وترك مكافأتها على
كراهتها، فلو قتلها ما كان أتى ما ليس من فعله في مثلها.
قال الوزير: هذا والله طريف، فما كان آخر أمره؟ قلت: صار في جانب أبي أحمد الموسويِّ
وحماه، ثم سيَّره إلى الشأم فهلك بها.
قال: وكيف سلمتَ في هذه الحالات؟ قلتُ: ومتى سلمتُ؟ جاءت النهَّابة إلى بين السورين
٥٥ وشنوا الغارة واكتسحوا ما وجدوا في منزلي من ذهب وثيابٍ وأثاث، وما كنت
ذخرتُه من تراث العمر، وجردوا السكاكين على الجارية في الدار يطالبونها بالمال، فانشقت
مرارتها ودُفِنت في يومها، [وأمسيتُ] وما أملك مع الشيطان فَجْرَة
٥٦ ولا مع الغراب نَقْرة.
أيها الشيخ — وفَّقك الله في جميع أحوالك، وكان لك في كل مقالك وفعالك — إنما نثرتُ
بالقلم ما لاق به. فأما الحديث الذي كان يجري بيني وبين الوزير فكان على قدر الحال
والوقت [والواجب]، والاتساعُ يتبع القلم ما لا يتبع اللسان، والرَّوِيَّة
٥٧ تتبع الخطَّ ما لا تتبع العبارة. ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك وألقيه
إليك أن يبقى الحديث بعدي وبعدك، لم أجد بدًّا من تنميقٍ يزدان به الحديث وإصلاحٍ يحسن
معه المغزى، وتكلُّفٍ يبلغ بالمراد الغاية، فليقم العذر عندك على هذا الوصف حتى يزول
العَتْب، ويُستحقَّ الحمد والشكر.