الليلة التاسعة والثلاثون
وقال الوزير ليلة: يعجبني الجواب الحاضر واللفظ النادر، والإشارة الحلوة والحركة
الرضية والنغمة المتوسطة، لا نازلةً إلى قعر الحلق ولا طافحةً على الشفة.
فكان من الجواب: اقتراح الشيء على الكمال سهل، ولكن وجدانه على ذلك صعب، لأن التمني
صفوُ النفس الحسية، ونيل المتمنَّى في الفرصة
١ المحشوَّة بالحيلولة.
وقد قال المدائني: أحسن الجواب ما كان حاضرًا مع إصابة المعنى وإيجاز اللفظ وبلوغ
الحجة.
وقال أبو سليمان شارحًا لهذا: أمَّا حضور الجواب فلِيكون الظفر عند الحاجة، وأما
إيجاز اللفظ فلِيكون صافيًا من الحشو، وأما بلوغ الحجة فلِيكون حسمًا للمعارَضة.
قال: ما أحسن ما وشَّح هذه الفقرة بهذه الشَّذْرة!
وحكى المدائني قال: قال مسلمة بن عبد الملك: ما من شيء يؤتاه العبد بعد الإيمان بالله
أحبُّ إليَّ من جوابٍ حاضر، فإن الجواب إذا تُعُقِّب لم يكن له وقع.
وحكى المدائني بإسناده عن عبد الرحمن بن حوشب أن رسول الله
ﷺ قال لعمرو بن
الأهتم التميمي: أخبرني عن الزِّبْرقان بن بدر، فقال: مطاعٌ في أدنيه، شديد العارضة،
مانعٌ لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه
حسدني. فقال عمرو: أما والله يا رسول الله إنه لزَمِر
٢ المروءة، ضيق العطن، لئيم الخال، أحمق الوالد، وما كذبت في الأولى ولقد
صدقت في الأخرى، ولقد رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت. فقال رسول الله
ﷺ: «إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحِكَمًا.»
وقال أبو سليمان: السحر بالقول الأعم والرسم المفيد على أربعة أضرب: سحرٌ عقلي وهو
ما
بدر من الكلام المشتمل على غريب المعنى في أي فن كان، وسحرٌ طبيعي وهو ما يظهر من آثار
الطبيعة في العناصر المتهيئة
٣ والمواد المستجيبة،
٣ وسحرٌ صناعي وهو ما يوجد
٤ بخفة الحركات المباشرة وتصريفها في الوجوه الخفية عن الأبصار المحدقة،
وسحرٌ إلهي وهو ما يبدو من الأنفس الكريمة الطاهرة باللفظ مرة وبالفعل مرة. وعرض كل
واحدٍ من هذه الضروب واسع، وكل حذقٍ ومهارةٍ وبلوغ قاصيةٍ في كل أمر هو سحرٌ وصاحبه
ساحرٌ.
وقال المدائني: نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام فشتمهم، فقال له سعيد
بن عثمان بن عفان: أتشتمهم لأنهم قتلوا أباك؟ فقال: صدقت، ولكن المهاجرين والأنصار
قتلوا أباك.
وقال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد الله بن الزبير: أبوك كان أعلم بك حين شتمك.
فقال: يا أمير المؤمنين، أتدري لم كان يشتمني؟ إني نهيته أن يُقاتل بأهل مكة وأهل
المدينة فإن الله لا ينصره بهما، وقلت له: أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم وأخافوه، ثم جاءوا إلى المدينة فأخرجهم منها وشرَّدهم.
فعرَّض بالحَكم بن أبي العاص — وهو جد عبد الملك — وكان النبي صلى الله عليه وعلى
آله
وسلم نفاه.
وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قُتل بينهم، لم يروا أن يدفعوا عنه. فقال له عبد
الملك: لحاك الله!
وقال عبدُ الرحمن بن خالد بن الوليد لمعاوية: أما والله لو كنتَ بمكة لعلمتَ. فقال
معاوية: كنتُ أكون ابن أبي سفيان ينشق عني الأبطح، وكنتَ أنت ابن خالد منزلك أجياد
أعلاه مَدَرَة وأسفله عَذِرة.
وقال المدائني: قال ابن الضحاك بن قيس الفهري
٥ لهشام بن عبد الملك قبل أن يملِك — وهو يومئذٍ غلامٌ شاب: يابن الخلائف،
لِمَ تطيل شعرك وقميصك؟ قال: أكره أن أكون كما قال الشاعر:
قصير القميص فاحشٌ عند بيته
وشر غراسٍ في قريشٍ مركَّبا
٦
قال: وهذا الشعر لأبي خالدٍ
٧ مروان بن الحكم هجا به الضحاك ابن قيس.
وحكى أيضًا، قال: مرَّ عطاء بن أبي
٨ صيفي بعبد الرحمن بن حسان بن ثابتٍ وعطاءٌ على فرسٍ له، فقال له عبد
الرحمن: يا عطاء، لو وجدت زمام زق الخمر خاليًا ما كنتَ تصنع به؟ قال: كنت آتي به دور
بني النجار فأعرِّفه فإنه ضالةٌ من ضوالهم، فإن عرفوه
٩ وإلا فهو لك لم يَعْدُك، ولكن أخبرني أي جدَّيْك أكبر أفُرَيْعة أم ثابت؟
قال: لا أدري. قال: فلِمَ يعنيك
١٠ ما في كنائن الرجال وأنت لا تدري أي جديك أكبر؟ بل فريعة أكبر من ثابت، وقد
تزوجها قبله أربعةٌ كلهم يلقاها بمثل ذراع البَكْرِ ثم يطلقها عن قِلًى؟ فقال لها نسوةٌ
من قومها: والله يا فريعة إنك لجميلة فما بال أزواجك يطلقونك؟ قالت: يريدون الضِّيق
ضيَّق الله عليهم!
وحكى أيضًا قال: قال أبو السَّفَر: بينا رسول الله
ﷺ يسير إذ رُفع بين مكة
والمدينة قبر أبي سعيد بن العاص، فقال أبو بكر: لعن الله صاحب هذا القبر، فإنه كان يكذب
الله ورسوله! فقال [خالد بن]
١١ أَسِيد — وهو في القوم: لا، بل لعن الله أبا قحافة! فإنه كان لا يقري الضيف
ولا يمنع الضيم، ولا يقاتل مع رسول الله
ﷺ. فقال رسول الله
ﷺ: «إذا سبني
المشركون فعُمُّوهم بالسب، ولا تسبوا الأموات فإن سب الأموات يغضب الأحياء.»
قال محمد بن عمارة: فذاكرت بهذا الحديث رجلًا من أصحاب الحديث من ولد سعيد بن العاص
فعرفه، فقال: فيه زيادة ليست عندكم. قلت: وما هي؟ فقال: قال خالد بن أسيد: يا رسول
الله، والذي بعثك بالحق ما يسرني أنه في أعلى عليين وأن أبا قحافة ولده. فضحك رسول الله
ﷺ حتى بدت نواجذه، وقال: «لا تسبوا الأموات، فإن سبهم يغضب الأحياء.»
وحَكَى قال: رمى عمر بن هبيرة الفزاري إلى عُرام بن شُتَيْر
١٢ بخاتمٍ له فضة — وقد زُوِّج — فعقد عليه عرام سَيْرًا ورده إلى ابن هبيرة.
أراد ابن هبيرة قول الشاعر:
لقد زَرِقتْ عيناك يابن مُلعَّنٍ
كما كلُّ ضبِّيٍّ من اللؤم أزرقُ
وعرَّض له عُرام بقول ابن دارة:
لا تأمنن فزاريًّا خلوت به
على قلوصك واكتُبها بأسيار
١٣
وقال المدائني: وكان ابن هبيرة يساير هلال
١٤ بن مكَمِّل النميري، فتقدمتْ بغلة النميري بغلةَ ابن هبيرة. فقال: غض من
بغلتك. فالتفت إليه النميري فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة. وإنما أراد ابن هبيرة:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
١٥
وأراد النميري قول سالم بن دارة:
لا تأمنن فزاريًّا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
وقال الوليد العنبري:
١٦ مرت امرأةٌ من بني
١٧ نمير على مجلسٍ لهم، فقال رجل منهم: أيتها الرسحاء.
١٨ فقالت المرأة: يا بني نمير، والله ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر، قال
الله عز وجل:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ.
وقال الشاعر:
فغُضَّ الطرف إنك من نميرٍ
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
وقال: مرَّ الفرزدق بخالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له خالد: يا أبا فراس، ما أنت
الذي فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ، فقال له الفرزدق: ولا أنت الذي قالت الفتاة لأبيها فيه:
يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.
قال: ودخل يزيد بن مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان مصفرًّا نحيفًا، فقال سليمان:
على رجلٍ أجرَّك رَسَنَك
١٩ وسلَّطك على المسلمين لعنةُ الله. فقال: يا أمير المؤمنين إنك رأيتني
والأمر عني مدبرٌ، فلو رأيتني وهو عليَّ مقبلٌ لاستعظمت مني يومئذٍ ما استصغرت اليوم.
قال: فأين الحجاج؟ قال: يجيء يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه حيث شئت.
وقال عباد بن زياد: كنت عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه أبو يوسف حاجبه، فقال: يا
أمير المؤمنين، هذه بثينة. قال: أبثينة جميل؟ قال: نعم. قال: أدخلها. فدخلت امرأةٌ
أدماء طويلةٌ يُعلم أنها كانت جميلة، فقال له: يا أبا يوسف، ألق لها كرسيًّا. فألقاه
لها. فقال لها عبد الملك: ويحك! ما رجا منك جميل؟ قالت: الذي رجت منك الأمة حين ولتك
أمرها.
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: إن رهطًا من الأنصار دخلوا على معاوية، فقال: يا
معشر الأنصار، قريشٌ خيرٌ لكم منكم لهم، فإن يكن ذلك لقتلى أحد فقد قتلتم يوم بدرٍ
مثلهم، وإن يكن لإمرةٍ
٢٠ فوالله ما جعلتم لي إلى صلتكم سبيلًا، خذلتم عثمان يوم الدار وقتلتم أنصاره
يوم الجمل وصَلِيتم بالأمر يوم صفين. فتكلم رجلٌ منهم فقال: يا أمير المؤمنين، أما قولك
إن يكن لقتلى أحد، فإن قتيلنا شهيد وحيَّنا تائق.
٢١ وأما ذكرك الإمرة فإن رسول الله
ﷺ أمر بالصبر عليها. وأما قولك إنا
خذلنا عثمان، فإن الأمر في عثمان إلى قتلته،
٢٢ وأما قولك إنا قتلنا أنصاره يوم الجمل، فذلك ما لا نعتذر منه. وأما قولك
إنا صلينا بالأمر يوم صفين، فإنما كنا مع رجل لم نأْلُه خُبْرًا، فإن لمتنا فُربَّ
ملومٍ لا ذنب له.
ثم قام هو وأصحابه يجر ثوبه مغضبًا فقال معاوية: ردوهم. فرُدُّوا، فترضاهم حتى رضوا
ثم انصرفوا. وأقبل معاوية على رهطٍ من قريشٍ فقال: والله ما فرغ من منطقه حتى ضاق بي
مجلسي.
قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: دخل قيس بن سعد بن عبادة مع قومٍ من الأنصار على
معاوية. فقال معاوية: يا معشر الأنصار، لمَ تطلبون ما قِبلي، فوالله لقد كنتم قليلًا
معي كثيرًا عليَّ، ولقد قتلتم جندي
٢٣ يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظَّى في أسنتكم، وهجوتموني
٢٤ بأشد من وخز الأشافي
٢٥ حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله
٢٦ قلتم: ارع فينا وصية رسول الله
ﷺ، هيهات، «أبَى الحَقِين العِذْرَة.»
٢٧ فقال قيس: نطلب ما قِبلك بالإسلام الكافي به اللهُ لا سواه، لا بما تمُتُّ
به إليك الأحزاب، وأما عداؤنا لك فلو شئت كففنا عنك، وأما هجاؤنا إياك فقولٌ يزول
باطله، ويثبت حقُّه، وأما قتلنا جندك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى أن طاعته طاعة الله،
وأما استقامة الأمر لك فعلى كرهٍ كان منا، وأما وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم فينا، فمن آمن به رعاها، وأما قولك «أبى الحقين العذرة»، فليس دون الله يدٌ تحجزك،
فشأنَك. فقام معاوية فدخل وخرج قيسٌ ومن كان معه.
وقال محمد بن خالد القرشي: دَخَل زُفَرُ بن الحارث الكلابي على عبد الملك بن مروان
وعنده خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله بن خالد، فقال زفر: لو كان
لعبد الله سخاء مصعب وكان لمصعب عبادة عبد الله لكانا ما شاء المتمني. فقال عبد الملك:
ما كان سخاء مصعب إلا لعبًا، ولا كانت عبادة عبد الله إلا عبثًا، ولكن لو كان للضحاك
بن
قيسٍ مثل رجال مروان لكانت قيس أربابًا بالشام، فقال زفر: لو كانت لمروان صحبة الضحاك
لكان، فقال عبد الملك: والله ما أحب له مثلَ صحبته ومصرعه، فقال خالد: لولا أن أمير
المؤمنين لا يبصر مرعًى
٢٨ لما تركناك والكلامَ. فقال زفر: اربَعا
٢٩ على أنفسكما، ودعانا وخليفتنا واسحبا ذيولكما على خيانة خراسان وسجستان
والبصرة.
وقال المدائني: غاب مولى للزبير عن المدينة حينًا، فقال له رجل من قريش لما رجع: أما
والله لقد أتيت قومًا يبغضون طلعتك، وفارقت قومًا لا يحبون رجعتك. قال المولى: فلا أنعم
الله ممن قدمت عليه عينًا، ولا أخلف الله على من فارقتُ بخير.
قال المدائني: كان مَرْثَد بن حوشب عند سليمان بن عبد الملك، فجرى بينه وبين أبيه
كلامٌ حتى تسابَّا، فقال له أبوه: والله ما أنت بابني، قال: والله لأنا أشبه بك منك
بأبيك، ولأنت كنت أغير على أمي من أبيك على أمك. فقال له سليمان: قاتلك الله، إنك
لابنه.
وسابَّ مرثد أخاه ثمامة، فقال له ثمامة: يا حَلَقِيُّ.
٣٠ فقال له مرثد: يا خبيث، أتسابُّني مُسابَّة الصبيان؟ فوالله إنك لابني،
ولقد غلبني حوشب على أمك، وقد ألقحتها بك.
٣١
وقال ابن عياش المَنْتُوف
٣٢ لأبي شاكر بن هشام بن عبد الملك: لو قصَّرت قميصك، قال له: ما يضرك من
طوله؟ قال: تدوسه في الطين، قال: وما ينفعك من دوسه؟
وقال: كان على تبالة
٣٣ رجل من قريش، فقال لرجل من باهلة: من الذي يقول:
إن كنت ترجو أن تنال غنيمةً
في دور باهلة بن يعفر فارحل
قومٌ قتيبة أمهم وأبوهمُ
لولا قتيبة أصبحوا في مجهلِ
فقال الباهلي: ما أدري غير أني أظنه الذي يقول:
يا شدةً ما شددنا غير كاذبةٍ
على سخينةَ لولا الليل والحرمُ
٣٤
قال: وتكلم ابن ظبيان التيمي يومًا فأكثر، فقال له مالك بن مِسْمَع: إيهًا أبا مطر،
٣٥ فإن للقوم في الكلام نصيبًا. فقال: والله ما إليك جئت، ولو أن بكر بن وائل
اجتمعت في بيت بقالٍ لأتيتهم. فقال له مالك: إنما أنت سهمٌ من سهام كنانتي. فقال ابن
ظبيان: أنا سهمٌ من سهام كنانتك؟ فوالله لو قمتُ فيها لطلتُها ولو قعدتُ فيها لخرقتها،
وايم الله ما أراك تنتهي حتى أرميك بسهمٍ لم يُرَش،
٣٦ تذبل به شفتاك ويجف له ريقك.
وقال رجلٌ للأحنف: بأي شيء سُدتَ تميمًا؟ فوالله ما أنت بأجودهم ولا أشجعهم ولا
أجملهم ولا أشرفهم. قال: بخلاف ما أنت فيه. قال: وما خلاف ما أنا فيه؟ قال: تركي ما لا
يعنيني من أمور الناس كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
ووفد عُليم بن خالد الهجيميُّ على هشامٍ وعنده الأبرش [الكلبي]، فقال له الأبرش
الكلبي: يا أخا بني الهُجيم، من القائل:
لو يسمعون بأكلةٍ أو شربةٍ
بعمان أصبح جمعهم بعمان
ألكم يقوله؟ قال: نعم، لنا يقوله ولكنكم يا معشر كلبٍ تُعبِرون
٣٧ النساء وتجزُّون
٣٨ الشاء وتكدرون العطاء، وتؤخرون العشاء وتبيعون الماء. فضحك هشام فلما خرجا
قال الأبرش: يا أخا بني الهجيم، أما كانت عندك بقية؟ قال: بلى، لو كان عندك
بقية.
قدَّمت امرأةٌ زوجها إلى زياد تنازعه، وقد كانت سِنُّه أعلى من سنها، فجعلت تعيب
زوجها وتقع فيه، فقال زوجها: أيها الأمير، إن شر شطري المرأة آخرها وخير شطرَي الرجل
آخره. المرأة إذا كبرت عقمت رحمُها، وحدَّ لسانُها، وساء خلُقها، وإن الرجل إذا كبرت
سنُّه استحكم رأيُه وكثر حلمُه وقلَّ جهله.
وقال أعشى هَمْدان لامرأته: إنكِ لَسَلِسَة الثَّقْبة، سريعة الوثبة، حديدة الركبة.
فقالت: والله إنك لسريع الإراقة بطيء الإفاقة قليل الطاقة.
٣٩ فطلقها وقال:
تقادم عهدُك أمَّ الجلالِ
وطاشتْ نبالُك عند النضال
وقد بُتَّ
٤٠ حبلك فاستيقني
بأني طرحتُك ذات الشِّمال
٤١
وأن لا رجوع فلا تكذبيـ
ـن ما حنَّتِ
٤٢ النِّيبُ إثر الفصال
قال الغلابيُّ عن غيره: قال رجل لامرأته: أما إنك ما علمتُ لسئولٌ مُنَعة جزوعٌ هلعة،
تمشين الدِّفقِيَّ
٤٣ وتقعدين الهبنقعة. فقالت: أما والله إن كان زادي منك لهدية
٤٤ وإن كانت حُظوتي منك لحَذِيَّة،
٤٥ فإنك لابن خبيثة يهودية.
وقال المدائني: قبض كسرى أرضًا لرجل من الدهاقين وأقطعها البحرجان،
٤٦ فقدم صاحب الأرض متظلمًا فأقام بباب كسرى، فركب كسرى يومًا فقعد له الرجل
على طريقه يكلمه، فلما حاذاه شد عليه حتى صك بصدره ركبته، ووضع يده على فخذه، فوقف له
كسرى وكلمه، فقال له: أرضٌ كانت لأجدادي ورثتها من آبائي قبضتها فأقطعتها البحرجان؟
ارددها عليَّ، فقال له كسرى: مذ كم هذه الأرض في أيدي أجدادك وآبائك؟ فذكر دهرًا
طويلًا، فقال له كسرى: والله لقد أكلتموها دهرًا طويلًا، فما عليك في أن تدعها في يد
البحرجان عارِيَّةً سُنَيَّاتٍ يستمتع بها ثم يردها عليك، فقال: أيها الملك، قد علمت
حسن بلاء بهرام جور في طاعتكم أهل البيت، وما كفاكم من حد عدوكم، ودفعه عنكم كيد الترك،
وحسن بلاء آبائه قبل ذلك في طاعة آبائك، فما كان عليك لو أعرته ملكك سنياتٍ يستمتع به
ثم يرده إليك؟ فقال كسرى: يا بحرجان، أنت رميتني بهذا السهم اردد عليه أرضه
[فردها].
قال رجل من القحاطنة
٤٧ لرجل من أبناء الأعاجم: ما يقول الشعر منكم إلا من كانت أمه زنى بها رجلٌ
منا فنزع إلينا. فقال له الثنوي: وكذلك كل من [لم] يقل الشعر منكم، فإنما زنى بأمه رجلٌ
منا فحملت به فنزع إلينا، فمن ثم لم يقل الشعر.
وقال رجلٌ من العرب لرجلٍ من أبناء العجم: رأيت في النوم كأني دخلت الجنة فلم أر فيها
ثنويًّا. فقال له الثنوي: أصعدت الغرف؟ قال: لا. قال: فمن ثم لم ترهم، هم في
الغرف.
قال ابن عياش: ما قطعني إلا رجلٌ من قريشٍ من آل أبي مُعَيْط، وكان ماجنًا
٤٨ شارب خمرٍ، وذاك أني وقفت على بيان التبان
٤٩ الذي أتى
٥٠ به ابن هبيرة الفزاري فأمر بصلبه، فقال لي: ما وقوفك ها هنا يا أبا الجراح؟
قلت: أنظر إلى هذا الشقي الذي يقول إنه نبي. قال: وما أتى به في نبوته؟ قلت: بتحليل
الخمر والزنا — وأنا أعرِّض به — فقال: لا، والله لا يُقبل ذلك منه حتى يبرئ الأكمه
والأبرص.
قال المدائني: ابن عياش أبرص.
وقال: دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زيادٍ، فقال له ابن زياد — وهو يهزأ
به: [أمسيت يا أبا الأسود العشية جميلًا، فلو علقت تميمةً تنفي بها عنك العين؟ فعرف أنه
يهزأ به]، فقال: أصلح الله الأمير!
أفنى الشباب الذي فارقتُ بهجته
مرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلقِ
لم يتركا لي في طول اختلافهما
شيئًا تُخاف عليه لدغةُ
٥١ الحَدَقِ
وقال المدائني: وقع بين العريان بن الهيثم النخعي وبين بلال بن أبي بردة بن أبي
موسى
الأشعري كلامٌ بين يدي خالد بن عبد الله القسري
٥٢ وخالدٌ يومئذٍ على العراق — وكان متحاملًا على بلال، وكان العريان على
شُرطة خالد — فقال العريان لبلال: إني والله ما أنا بأبيض الراحتين ولا منتشر المنخرين،
ولا أروَح القدمين ولا محدَّد الأسنان ولا جعدٍ قَطَط. فقال بلال: يا عريان، أتعنيني
٥٣ بهذا؟ قال: لا والله، ولكن كلامٌ يتلو بعضه بعضًا. فقال بلال: يا عريان،
أتريد أن تشتم أبا بردة وأشتم أباك، وتشتم أبا موسى وأشتم جدك؟ هذا والله ما لا يكون.
فقال العريان: إني والله ما أجعل أبا موسى فداء الأسود ولا أبا بردة فداء الهيثم،
فمثَلي ومثلك في ذلك كما قال مسكينٌ الدارمي:
٥٤
أنا مسكينٌ لمن أنكرني
ولمن يعرفني جِدُّ نَطِقْ
٥٥
لا أبيع الناس عرضي إنني
لو أبيع الناسَ عرضي لنَفَقْ
قال المدائني: جرى بين وكيع بن الجراح وبين رجل من أصحابه كلامٌ في معاوية واختلفا،
فقال الرجل لوكيع: ألم يبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن أبا سفيان
ومعاوية وعتبة فقال: لعن الله الراكب والقائد والسائق؟ فقال وكيع: إن رسول الله
ﷺ قال: «أيما عبدٍ دعوتُ عليه فاجعل ذلك — له أو عليه — رحمةً!» فقال الرجل:
أفيسرك أن رسول الله ﷺ لعن والديك فكان ذلك لهما رحمةً؟ فلم يَحر إليه
جوابًا.
تكلم صعصعة عند معاوية فعَرق، فقال: وبَهَرَك القول يا صعصعة؟ فقال: إن الجياد
نضَّاحةٌ بالماء.
هكذا قال لنا السيرافي، وقد قرأتُ عليه هذه الفِقَر كلَّها، وإنما جمعتها للوزير بعد
إحكامها وروايتها.
قال علي بن عبد الله: شهدت الحجاج خارجًا من عند عبد الملك بن مروان، فقال له خالد
بن
يزيد بن معاوية: إلى متى تقتل أهل العراق يا أبا محمد؟! فقال: إلى أن يكفوا عن قولهم
في
أبيك إنه كان يشرب الخمر.
قال المدائني: أسَرَتْ مزينة حسان بن ثابتٍ — وكان قد هجاهم — فقال:
مزينة لا يُرى فيها خطيبُ
ولا فَلِجٌ يُطاف به خضيبُ
أناسٌ تَهْلِك الأحسابُ فيهم
يرون التيس يعدله الحبيب
فأتتهم الخزرج يفتدونه فقالوا:
٥٦ نفاديه بتيس. فغضبوا وقاموا، فقال لهم حسان: يا إخوتي، خذوا أخاكم وادفعوا
إليهم أخاهم.
وقال المدائني: فرَّق عمر بن الخطاب بين منظور بن أبان وبين امرأته — وكان خَلَف
عليها بعد أبيه — فتزوجها طلحة بن عبد الله، فلقيه منظور فقال له: كيف وجدتَ سُؤْري؟
فقال: كما وجدتَ سُؤْر أبيك. فأفحمه.
وقال حاطب بن أبي بلتعة: بعثني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المقوقِس ملك
الإسكندرية، فأتيته بكتاب رسول الله ﷺ وأبلغته رسالته، فضحك ثم قال: كتب إليَّ
صاحبك أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبيًّا أن يدعو الله أن يسلط عليَّ البحر
فيغرقني فيكتفي مئونتي ويأخذ ملكي؟ قلت: فما صنع عيسى إذ أخذته اليهود فربطوه في حبل
وحلقوا وسط رأسه، وجعلوا عليه إكليل شوك، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه، ثم
أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة، ثم طعنوه حيًّا بحربة حتى مات، هذا على زعمكم،
فما منعه أن يسأل الله فينجيه ويهلكهم فيكفى مئونتهم ويظهر هو وأصحابه عليهم؟ وما منع
يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملكِ الملكَ أن يقتله فقتله وبعث برأسه إليها حتى وُضع
بين يديها؛ أن يسأل الله تعالى أن ينجيه ويُهلك الناس؟ فأقبل على جلسائه وقال: إنه
والله لحكيمٌ، وما يخرج الحكيم إلا من عند الحكماء.
قال المدائني: أبطأ على رجلٍ من أصحاب الجنيد بن عبد الرحمن ما قِبَله
٥٧ — وهو على خراسان — وكان يقال للرجل زامل بن عمرٍو من بني أسد بن خزيمة،
فدخل على الجنيد يومًا فقال: أصلح الله الأمير! قد طال انتظاري، فإن رأى الأمير أن يضرب
لي موعدًا أصير إليه فعل. فقال: موعدك الحشر. فخرج زاملٌ متوجهًا إلى أهله، ودخل على
الجنيد بعد ذلك رجلٌ من أصحابه فقال: أصلح الله الأمير!
أرحني بخير منك إن كنتَ فاعلًا
وإلا فميعادٌ كميعاد زاملِ
قال: وما فعل زامل؟ قال: لحق بأهله. فأبرد الجنيد في أثره بريدًا وبعث يُعْهده إلى
الكورة
٥٨ التي يُدرَك بها، [فأُدْرِك]
٥٩ بنيسابور فنزلها.
وامتدح رجلٌ الحسن بن علي عليه السلام بشعرٍ، فأمر له بشيء، فقيل:
٦٠ أتعطي على كلام الشيطان؟ فقال: أبتغي الخير لنفي الشر.
قال المدائني: أتى العبْدانيُّ حمادَ بن أبي حنيفة وقد ملأ عينه كحلًا قد ظهر من
محاجر عينه، وعند حمادٍ جماعةٌ. فقال له حماد: كأنك امرأة نُفَساء. قال: لا، ولكني
ثَكلى. قال: على من؟ قال: على أبي حنيفة.
وقال مروان بن الحكم ليحيى:
٦١ إن ابنتك تشكو تزويجك وتزعم أنه
٦٢ يبول في دِثاره.
٦٣ قال: فهو يبول منها فيما هو أعظم من دثاره.
٦٣
وقال معاوية: هذا عقيلٌ عمه أبو لهب. فقال عقيل: هذا معاوية عمته حمالة الحطب.
قال: ودخل معن بن زائدة على أبي جعفرٍ فقارب في خطوه، فقال أبو جعفر: كبرت سنك يا
معن. قال: في طاعتك. قال: وإنك لجَلْد. قال: على أعدائك. قال: إن فيك لبقية. قال: هي
لك
يا أمير المؤمنين.
قال المنصور لسفيان بن معاوية المهلَّبي: ما أسرع الناسَ إلى قومك! قال سفيان:
إن العَرانين
٦٤ تلقاها محسَّدةً
ولن ترى للئام الناس حُسَّادا
فقال: صدقتَ.
قال المدائني: حضرَ قومٌ من قريش مجلس معاوية وفيهم عمرو بن العاص وعبد الله بن صفوان
بن أمية الجمحي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال عمرو: احمدوا الله يا معشر قريش
إذ
جعل والي أموركم من يغضي
٦٥ على القذى، ويتصامم عن العوراء، ويجر ذيله على الخدائع. قال عبد الله بن
صفوان: لو لم يكن هذا لمشينا إليه الضَّرَاء، ودببنا
٦٦ له الخمر، وقلبنا له ظهر المِجَنِّ، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال
مصر.
وقال معاوية: يا معشر قريش، حتى متى لا تنصفون من أنفسكم؟
فقال عبد الرحمن بن الحارث: إن عَمرًا وذوي عمرٍو أفسدوك علينا وأفسدونا عليك، ما
كان
لو أغضيت على هذه؟ فقال: إن عَمرًا لي ناصح. قال: أطعمنا مما
٦٧ أطعمته ثم خذنا بمثل نصيحته، إنك يا معاوية تضرب عوامَّ قريشٍ بأياديك في
خواصها كأنك ترى أن كرامها جارَوْك
٦٨ دون لئامها، وايم الله إنك لتفرغ
٦٩ من إناء فَعْم في إناء ضخم، ولكأنك بالحرب قد حُلَّ عقالها ثم لا تُنْظرك.
فقال معاوية: يابن أخي،
٧٠ ما أحوج أهلك إليك! ثم أنشد معاوية:
أغرَّ رجالًا من قُريشٍ تشايعوا
على سفهٍ منا الحيا والتكرُّم؟
وقال المدائني: كان عروة بن الزبير عند عبد الملك بن مروان يحدثه — وعند الحجاج بن
يوسف — فقال له عروة في بعض حديثه: قال أبو بكر — يعني عبد الله بن الزبير — فقال
الحجاج: أعند أمير المؤمنين تكنى ذلك الفاسق؟ لا أمَّ لك! فقال عروة: ألي تقول هذا لا
أمَّ لك، وأنا ابن عجائز الجنة خديجة وصفية وأسماء وعائشة؟! بل لا أم لك أنت يابن المستفرمة
٧١ بعَجَم زبيب الطائف.
وقال: لما صنع هشام بن عبد الملك بغيلان الواعظ ما صنع، قال له رجلٌ: ما ظلمك الله
ولا سلط عليك أمير المؤمنين إلا وأنت مستحق، فقال غيلان: قاتلك الله! إنك جاهلٌ بأصحاب
الأخدود.
قال عمرو بن العاص: أعجبتني كلمةٌ من أمةٍ، قلت لها ومعها طبق: ما عليه يا جارية؟
قالت: فلِمَ غطيناه إذن؟
وقع ابن الزبير في معاوية ثم دخل عليه فأخبره معاوية ببعضه، فقال: أنى علمتَ ذلك؟
فقال معاوية: أما علمتَ أن ظن الحكيم كهانة؟
وقيل لعمر بن عبد العزيز: ما تقول في علي وعثمان وفي حرب الجمل وصفين؟ قال: تلك
دِماءٌ كفَّ الله يدي عنها، فأنا أكره أن أغمس لساني فيها.
وقال: طلق أبو الخِنْدف امرأته أم الخندف، فقالت له: يا أبا الخندف، طلقتني بعد خمسين
سنة؟! فقال: ما لك
٧٢ عندي ذنْبٌ غيره.
وقال: لقي جريرٌ الأخطل فقال: يا مالك، ما فعلتْ خنازيرك؟! قال: كثيرةٌ في مرجٍ أفيح،
فإن شئت قريناك منها. ثم قال الأخطل: يا أبا حَزْرة، ما فعلتْ أعنازك؟ قال: كثيرةٌ في
وادٍ أروح، فإن شئتَ أنزيناك
٧٣ على بعضها.
وقال الشعبي: ذَكر عمرو بن العاص عليًّا فقال: فيه دعابةً، فبلغ ذلك عليًّا فقال:
زعم
أن النابغة أنى تَلْعابةٌ تَمْراحةٌ ذو دعابةٍ أُعافِس وأُمارس، هيهات! يمنع من العِفاس
والمِراس ذكر الموت وخوف البعث والحساب ومن كان له قلبٌ ففي هذا عن هذا له واعظ وزاجر،
أما وشر القول الكذب، إنه ليعد فيُخلف، ويحدِّث فيكذب، فإذا كان يوم البأس فإنه زاجرٌ
وآمرٌ ما لم تأخذ السيوف بهام الرجال، فإذا كان ذاك فأعظم مكيدته في نفسه أن يمنح القوم
استَه.
قال المدائني: بعث المفضَّل [الضبي] إلى رجل بأضحية، ثم لقيه فقال: كيف كانت أضحيتك؟
فقال: قليلة الدم. وأراد قول الشاعر:
ولو ذُبِح الضبي بالسيف لم تجد
من اللؤم للضبي لحمًا ولا دما
وقال المدائني: مر عقيل بن أبي طالب على أخيه علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه تيسٌ،
فقال له علي: إن أحد ثلاثتنا أحمق. فقال عقيل: أما أنا وتيسي فلا.
وكلم عامر بن عبد قيسٍ حُمران يومًا في المسجد. فقال له حمران: لا أكثر الله فينا
مثلك! فقال عامر: لكن أكثر الله فينا مثلك! فقال له القوم: يا عامر، يقول لك حمران ما
لا تقول مثلَه؟ فقال: نعم، يكسحون طرقنا ويحوكون
٧٤ ثيابنا ويخرزون خفافنا. فقيل له: ما كنا نرى أنك تعرف مثل هذا! قال: ما
أكثر ما نعرف مما لا تظنون بنا!
وقال: مَرَّ جرير بن عطية على الأحوص وهو على بغلٍ، فأدلى البغلُ فقال الأحوص: بغلك
يا أبا حزرة على خمس قوائم. قال جرير: والخامسة أحب إليك.
ومر جريرٌ بالأحوص
٧٥ وهو يفسق بامرأة وينشد:
يقر بعيني ما يقر بعينها
وأحسن شيء ما به العين قرتِ
فقال له جرير: فإنه يقر بعينها أن تقعد على مثل ذراع البَكْر، أفتراك تفعل
ذلك؟
فقال الوزير: من رأيت من الكبار
٧٦ كان يحفظ هذا الفن وله فيه غزارةٌ وانبعاثٌ وجسارةٌ على الإيراد؟ قلت: ابن عباد على
هذا، ويبلغ من قوته أنه يفتعل
٧٧ أشياء شبيهةً بهذا الضرب على من حضر. فقال: الكذب لا خير فيه ولا حلاوة
لراويه ولا قبول عند سامعيه.
وقال: أرسل بلال بن أبي بردة إلى أبي علقمة فأتاه، فقال: أتدري لأي شيء أرسلتُ إليك؟
قال: نعم، لتصنع بي خيرًا. قال: أخطأتَ ولكن لأسيء بك. فقال: أما إذ قلت ذاك لقد حكَّم
المسلمون حكمين، فسخر أحدهما بالآخر. فقال الوزير: أيقال سَخِر به؟! فكان الجواب أن أبا
زيد حكاه وصاحب التصنيف قد رواه، وسخر منه أيضًا كلامٌ، وإنما يقال هو أفصح لأنه في
كتاب الله عز وجل وإلا فكلاهما جائز.
وقال حمزة بن بيض الحنفي للفرزدق: يا أبا فراس، أيما أحب إليك أن تسبق الخير أم
يسبقك؟ قال: ما أريد أن أسبقه ولا أن يسبقني، بل نكون معًا. ولكن حدِّثني أيما أحب
إليك: أن تدخل منزلك فتجد رجلًا على حرامك، أو تجدها قابضةً على قُمُدِّ الرجل؟
فأفحمه.
فلما قرأت الجزء في ضروب الجواب المفحم. قال: ما أفتح
٧٨ هذا النوع من الكلام لأبواب
٧٩ البديهة! وأبعثه لرواقد الذهن! وما يتفاضل الناس عندي بشيء [أحسن]
٨٠ من هذه الكلمات الفوائق الروائق، ما أحسن ما جمعتَ وأتيت به!