الليلة السابعة
ولما عدتُ إليه في مجلس آخر، قال: سمعتُ صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم
كنتما؟ قلت: كان يذكر أن كتابة الحساب أنفعُ وأفضل وأعلق بالمُلك والسلطان إليه أحوج،
وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جِدٌّ والأخرى
هزل، ألا ترى أن التشادُق والتفيهُق والكذب والخداع فيها أكثر، وليس كذلك الحسابُ
والتحصيل والاستدراك والتفصيل؟ قال: وبعد هذا فتلك صناعةٌ معروفة بالمبدأ، موصولةٌ
بالغاية، حاضرة الجدوَى، سريعة المنفعة. والبلاغة زخرفة وحيلة، وهي شبيهة بالسراب، كما
أن الأخرى شبيهة بالماء. قال: ومن خساسة البلاغة أن أصحابها يُسترقَعون ويُستحمَقون،
وكان الكتَّاب قديمًا في دُور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون: اللهم إنا نعوذ بك من
رقاعة المنشئين، وحماقة المعلمين، وركاكةِ النحويين! والمنشئُ والمعلِّم والنحويُّ إخوة
وإن كانوا لعَلَّات، والآفة تشملهم، والعادة تجمعهم، والنقص يغمرهم، وإن اختلفت
منازلهم، وتباينت أحوالهم. قال: ولو لم يكن من صنعة الإنشاء إلا أن المملكة العريضة
الواسعة يُكتفَى فيها بمنشئ واحد، ولا يُكتفَى فيها بمائة كاتب حساب …،
١ وإذا كانت الحاجة إلى هذه أمسَّ كانت الأخرى في نفسها أخسَّ. وبعد، فمصالح
أحوال العامة والخاصة معلَّقة بالحساب. على هذه الجَدِيلة
٢ والوتيرة يجري الصغار والكبار والعِلْية والسِّفْلة، وما زال أهل الحزم
والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلم الحساب، ويقولون لهم: هو سلة الخبز.
وهذا كلام مستفيض. ومن عبر عما في نفسه بلفظ ملحونٍ أو محرَّف أو موضوع غيرَ موضعه
وأفهَم غيره وبلغ به إرادته وأبلغ غيرَه؛ فقد كفى. والزائد على الكفاية فضل، والفضلُ
يُستغنَى عنه كثيرًا، والأصل يُفتقَر إليه شديدًا. قال: ومن آفات هذه الكتابة أن
أصحابها يُقرَفون بالريبة، ويُرمَون بالآفة كآل الحسن بن
٣ وهب وآل ابن ثَوَابة. قال: هذه ملحمة منكَرة، فما كان من الجواب؟
قلتُ: ما قام من مجلسه إلا بعد الذل والقَمَاءة، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلَف
والشمس بالكسوف، وانتحل الباطل ونصر المبطِل، وأبطل الحق وزرى على المحقِّ. قلت: أيها
الرجل، قولك هذا كان يسلَّم لو كان الإنشاء والتحرير والبلاغة بائنةً من صناعة الحساب
والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة،
٤ فأمَّا وهي متصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها، فكيف
يطَّرد حُكمك وتسلم دعواك؟ ألا
٥ تعلم أن أعمال الدواوين التي ينفرد أصحابها فيها بعمل الحساب فقيرة إلى
إنشاء الكتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه، بل لا سبيل لهم إلى العمل إلا بعد تقدمة هذه
الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح؟ وذلك يوجد من
الكاتب المنشئ الذي عِبتَه وعَضضته.
٦ وهذه الدواوين معروفة والأعمال فيها موصوفة، وأنا أحصيها لك كي تعلم أنك
غالط وعن الصواب فيها منحرف.
فمنها ديوان الجيش، وديوان بيت المال، وديوان التوقيع والدار، وديوان الخاتَم، وديوان
الفَضِّ،
٧ وديوان النقد والعيار ودُور الضرب، وديوان المظالم، وديوان الشرطة
والأحداث. هذا إلى توابع هذه الدواوين، مثل باب العين
٨ والمؤامرات، وباب النوادر
٩ والتواريخ، وإدارة الكتب ومجالس الديوان، وقبْل وبعد. كما
١٠ يلزم كاتب الحساب أن يعرف وجوهَ الأموال،
١١ حتى إذا جباها وحصَّلها عمل الحساب أعماله فيها، فلا يمكنه
١٢ أن يَجْبِي
١٣ إلا بالكتب البليغة والحجج اللازمة واللطائف المستعملة، ومن تلك الوجوه
الفيء، وهو أرض العَنْوة وأرض الصلح وإحياء الأرض والقطائع والصفايا والمقاسمة والوضائع
وجزية رءوس أهل الذمة وصدقات الإبل والبقر والغنم وأخماسُ الغنائم والمعادن والركاز
١٤ والمال المدفون، وما يخرج من البحر وما يؤخذ من التجار إذا مروا بالعاشر
١٥ واللُّقَطة والضالَّة وميراث من لا وارث له ومال
١٦ الصدقة، إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم
المعتادة والعادات الجارية، كعهد يُنشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب، وكتاب في العمارة
وإعادة ما نقص منها، وفي
١٧ حَزْر الغلة
١٨ والدِّيَاس،
١٩ وفي الدوالي والدواليب والغرَّافات، وفي القلب والقسمة، وفي تقدير الخُضَر
٢٠ المبكرة وفي المساحة وفي الطراز،
٢١ وفي الجوالي،
٢٢ وفي قبض فرائض الصدقات، وفي افتتاح الخَراجات، إلى غير ذلك من كتب
٢٣ المحاسبين.
فإن قلت: «هذا كلُّه مستغنًى عنه»، كابرتَ وبهتَّ، لأن مدار المال ودُرورَه وزيادتَه
ووفورَه على هذه الدواوين، التي إما أن يكون حظ البلاغة فيها أكثر، وإما أن يكون أثر
الحساب فيها أظهر، وإما أن يتكافآ. فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملًا ولا لاسمه
مستحقًّا، إلا بعد أن يَنهض بهذه الأثقال، ويجمع إليها أصولًا من الفقه مخلوطة
٢٤ بفروعها، وآيات من القرآن مضمومةً إلى سعته
٢٥ فيها، وأخبارًا كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عُدَّة عند الحاجة إليها،
مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة والفِقَر البديعة، والتجارب المعهودة والمجالس
المشهودة، مع خطٍّ كتبر مسبوك ولفظٍ كوشْيٍ مَحُوك. ولهذا عز الكامل في هذه الصناعة حتى
قال أصحابنا: ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفر بن يحيى، فإن كتابته كانت سواديةً،
وبلاغتَه سَحبانيةً، وسياستَه يونانية، وآدابه عربية،
٢٦ وشمائله عراقية. أفلا ترى كيف غرق الحساب في غِمار هذه الأبواب؟ ثم اعلم أن
البليغ مُستملٍ بلاغته من العقل، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح، وليس كذلك الحساب في
متناوَله. [فلو]
٢٧ ظن ظانٌّ بأن مدار المُلك على الحساب، [فهو]
٢٧ صحيح ولكن بعد بلاغة المنشئ،
لأن السلطان يأمر وينهَى ويلاطف ويخاطب ويحتج ويعنِّف ويوعِد ويعد ويَضمن ويمنِّي
ويعلِّق الأمل ويؤكِّد الرجاء ويحسم المادة الضارة، ويذيق الرعية حلاوة العدل ويجنبهم
مرارة الجور. ثم يجبي فإذا جبى احتاج إلى الحساب حتى يكون بالحاصل عالمًا، ثم يتقدم
بتوزيع ذلك على الحسَّاب حتى يكون من الغلط آمنًا. فانظر إلى المنزلتين كيف اختلفتا،
وكيف حصلت المزية لإحداهما. ولو أنصفتَ لعلمتَ أن الصناعة جامعة بين الأمرين، أعني
الحساب والبلاغة، والإنسان لا يأتي إلى صناعة فيشقَّها نصفين ويشرِّف
٢٨ أحد النصفين على الآخر.
وأما قولك: «إحدى الصناعتين هزلٌ والأخرى جِدٌّ»، فبئسما سولتْ لك نفسك على البلاغة!
هي الجد، وهي الجامعة لثمرات العقل، لأنها تُحِقُّ الحقَّ وتبطل الباطل على ما يجب أن
يكون الأمر عليه. ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف وأغراض تأتلف، وأمورٍ لا
تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر، وإباءٍ وإذعان، وطاعةٍ وعصيان، وعدلٍ وعدول،
٢٩ وكفر وإيمان، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان
والخطابة. وهذا هو حد العقل والآخَر حد العمل.
وأما قولك: «الإنشاء صناعة مجهولة المبدأ، والحساب معروف المبدأ»، فقد خَرَقْت،
٣٠ لأن مبدأها من العقل، وممرَّها على اللفظ وقرارها في الخطِّ، وأنت إذا قلتَ
هذا دللتَ من نفسك على أنه ليس لك [ما]
٣١ تبصر
٣٢ به هذا المبدأ الشريف وهذا الأوَّل اللطيف.
وأما قولك: «والبلاغة زخرفة وهي شبيهة بالسراب»، فقد أوضحنا لك فيه ما كفى، فإن لم
يكفِ فأنت محتاج إلى بينة أخرى.
وأما قولك: «إن أصحابها يُسترقَعون»، فهذا شنعٌ من القول، ولو عرفتَ الصدق
٣٣ فيه لم تَنبِس به ولم تنطق بحرف منه، فإن فيه زِرايةً على السلف الصالح
والصدر الأول. ولو وجب أن يُسترقَع البليغ إذا كان عاقلًا، لوجب أن يُستعقَل العَيِيُّ
٣٤ إذا كان أحمق. وهذا خُلف.
وأما قولك: «المنشئ والمعلم والنحوي إخوة في الركاكة»، فما يتعلم الناس إلا من المعلم
والعالم والنحوي، وإن ندر منهم واحد قليل البضاعة من الحق.
وأما قولك: «إن المملكة تكتفي بمنشئ واحد»، فقد صدقتَ، وذلك أن هذا الواحد في قوته
يفي بآحاد كثيرة، وهؤلاء الآحادُ ليس في جميعهم وفاء بهذا الواحد. وهذا عليك لا لك. لكن
بقي أن تفهم أنك محتاج إلى الأساكفة أكثر مما تحتاج إلى العطارين، ولا يدل هذا على أن
الإسكاف أشرف من العطار والعطار دون الإسكاف. والأطباء أقل من الخياطين، ونحن إليهم
أحوج، ولا يدل على أن الطبيب دون الخياط.
وأما قولك: «ما زال الناس يحثون أولادهم على تعلم الحساب ويقولون: هو سلة الخبز»،
فهو
كما قلتَ، لأن الحاجة إليه عامة للكبار والصغار. وأشرف الصناعات يحتاج إليها أشرف
الناس، وأشرف الناس الملِك، فهو محتاج إلى البليغ والمنشئ والمحرر لأنه لسانه الذي به
ينطق، وعينُه التي بها يبصر، وعيبتُه التي منها يستخرج الرأي ويستبصر في الأمر، ولأنه
بهذه الخاصة لا يجوز أن يكون له شريك، لأنه حامل الأسرار والمحدَّث بالمكنونات
والمُفضَى إليه ببنات الصدور.
وأما قولك: «من عبَّر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرَّف وأفهم غيرَه، فقد كفى»، فكيف
يصح هذا الحكم ويُقبَل هذا الرأي والكلام يتغير المراد فيه باختلاف الإعراب، كما يتغير
الحكم فيه باختلاف الأسماء، وكما يتغير المفهوم باختلاف الأفعال، وكما ينقلب المعنى
باختلاف الحروف؟ ولقد قال رجل بالرَّيِّ كان نبيلًا في حاله جليلًا في مرتبته عظيمًا
عند نفسه: «اقعد حتى تتغدَّى بنا»، وهو يريد: «حتى تتغدَّى معنا»، فانظر إلى هذا
المُحال الذي ركبه بلفظه وإلى المراد الذي جانبه بجهله! ولهذا نظائر غيرُ خافية عليك
ولا ساقطةٍ دونك، وكفى بالبلاغة شرفًا أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة، ولم تهتد إلى
الكلام عليها إلا بقوتها، فانظر كيف وجدتَ في استقلالها بنفسها ما يُقلَّها ويقل غيرها.
وهذا أمر بديع وشأنٌ عجيب.
وأما قولك: «ومن آفاتها أن أصحابها يُقْرَفون بالريبة ويُنالون بالعيب»، فهذا ما لا
يستحق الجواب، وما يضر الشمسَ نُباح الكلاب، وصيانة اللسان عن هذا النوع أحسن، قال الله
تعالى:
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا
سَلَامًا، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان المرء أقوَمَ من قِدْحٍ
لوُجِد له غامز. وآل ابن وهب وابن ثوابة كانوا أنبل وأفضل وأعقل من أن يُظن بهم ما لا
يُظن بخساس العبيد وسفهاء الناس وداصة
٣٥ الرعية وسِفْلة العامة. على أنا ما سمعنا هذا إلا في مجلس ابن عبَّاد، منه
وممن كان يَخبِط
٣٦ في هواه، ويتحرى بمثل هذه الأحاديث رضاه. وحسدُه لهم في صناعتهم يبعثه على
هذه الأكاذيب عليهم. فالعجب أنه يظن أن كذبه إلى غيره ينفي الصدق عن نفسه، ولو نَزَّه
٣٧ لسانه ومجلسه ومذهبه وأبوته لكان أولى به وأزيَن له، ولكن النعمة والقدرة
إذا عَدِمتا عقلًا سائسًا وحزمًا حارسًا ودِينًا متينًا وطريقًا قويمًا؛ أوردَتا ولم
تُصدرا وخذَلتا ولم تَنصُرا. ونعوذ بالله من نعمة تحورُ بلاءً، ومرحبًا ببلاءٍ يورِث
يقظة ويكون تمحيصًا لما نقص من التقصير! ولكن مَن هذا الذي يشرب فلا يَسكَر ولا يَثمَل؟
ومن هذا الذي إذا سَكِر عَقَل؟ ومن هذا الذي إذا صحا لا يعتقب من شرابه خُمارًا يصدِّع
الراس ويمكِّن الوسواس؟
فقال: هذه جملة قامعة لمن ادعى دعواه أو نحا منحاه، وأنى لك هذا؟ لمَ لا تداخل صاحبَ
ديوان، ولمَ ترضى لنفسك بهذا اللَّبوس؟ فقلت: «أنا رجلٌ حب السلامة غالبٌ عليَّ،
والقناعة بالطفيف محبوبة عندي.» فقال: كنيتَ عن الكسل بحب السلامة، وعن الفُسُولة
بالرضا باليسير. قلت: إذا كنت لا أصل إلى السلامة إلا بالفسولة، ولا أتطعم الراحة إلا
بالكسل؛ فمرحبًا بهما.
فقال: لكل إنسان رأيٌ واختيار وعادة ومنشأ ومألوف وقرناء متى زُحزح عنها قَلِق، ومتى
أُرِيغ
٣٨ على سواها فَرِق. أظن أنه قد نصف الليل. قلت: لعله. قال: في الدَّعَة، قد
خبأتُ لك مسألة، وسألقيها عليك بعدها — إن شاء الله تعالى — وانصرفتُ.