الليلة التاسعة
وعُدتُ ليلة أخرى فقال: فاتحةُ الحديث معك، فهاتِ ما عندك. فكان من الجواب أن أخلاق
أصناف الحيوان الكثيرة مؤتلِفةٌ في نوع الإنسان، وذلك أن الإنسان صفوُ الجنس الذي هو
الحيوان، والحيوان كَدَر النوع الذي هو الإنسان، والإنسان صفو الشخص الذي هو واحد من
النوع، وما كان صفوًا ومُصاصًا
١ بهذا النظر انتظم فيه من كل ضرب من الحيوان خُلُق وخُلُقان وأكثر، وظهر ذلك
عليه وبطن
٢ أيضًا بالأقل والأكثر والأغلب والأضعف، كالكُمُون الذي في طباع السبع
والفأرة، والثباتِ الذي في طباع الذئب، والتحرُّز الذي في طباع الجاموس من بنات الليل،
والحذر الذي في طباع الخنزير، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثُّلًا بصاحب
المقدِّمة.
وكذلك ضد ذلك في الخنزير تمثُّلًا بصاحب الساقة، وكالحراسة التي في طباع الكلب،
وكأَوْبِ الطير إلى أوكارها التي تراها كالمعاقل وغيرِها بالدَّغَل
٣ والأشَبِ والغِياض.
ولهذا قال بعض الحكماء: خذ من الخنزير بُكورَه في الحوائج، ومن الكلب نُصحَه لأهله،
ومن الهرَّة لطفَ نَفْسها عند المسألة.
وقالت التُّرْك: ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عشر خصال من ضروب الحيوان: سخاء
الديك، وتحنُّن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحَملة الخنزير، ورَوَغان الثعلب، وصبرُ الكلب،
وحراسةُ الكرْكِيِّ، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسِمَن بعروا،
٤ وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء.
ولما وُهِب الإنسان الفطرة،
٥ وأُعِين بالفكرة، ورُفِد بالعقل؛ جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه
وفي نفسه، وبسبب هذه المزية الظاهرة فَضَل جميع الحيوان حتى صار يبلغ منها مراده بالتسخير
٦ والإعمال واستخراج المنافع منها وإدراكِ الحاجات بها، وهذه المزية التي له
مستفادة بالعقل، لأن العقل ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكرُ بينهما
مستملٍ منهما ومؤدٍّ بعضها إلى بعض بالفيض الإمكاني والتوزيع الإنساني، فصوابُ بديهة
الفكرة من سلامة العقل، وصوابُ رويَّة الفكرة من صحة الطباع، وصحةُ الطباع من موافقة
المزاج، وموافقة المزاج بالمَدَد
٧ الاتفاقي والاتفاقِ الغيبي، أعني بهذا أن وجه الحادث المجهول عندنا اتفاق،
ووجه الحادث المعلوم عند الله عزَّ وجلَّ غيب، فلو ظهر هذا الغيب لبطل الاتفاق، ولو بطل
الاتفاق لارتفع الغيب.
فانقسمت الأحداث [بين ما هو]
٨ على جَديلة
٩ واحدة معروفة وبين نادر لا يدوم العهد به، فدلَّ ما ظهر واستمرَّ على ما
جاد به ووَهَب، ودلَّ ما غاب واستتر على ما تَفرَّد به وغَلَب.
ولما كان الحيوان كلُّه يعمل صنائعَه بالإلهام على وتيرة قائمة، وكان الإنسان يتصرف
فيها بالاختيار؛ صحَّ
١٠ له من الإلهام نصيب حتى يكون رِفْدًا له في اختياره. وكذلك يكون النحل
أيضًا، صحَّ له من الاختيار قسط في إلهامه حتى يكون ذلك مُعِينًا له في اضطراره، إلا
أن
نصيب الإنسان من الإلهام أقل كما أن قسط سائر الحيوان من الاختيار أَنْزَر.
١١ وثمرة اختيار الإنسان إذا كان مُعانًا بالإلهام أشرف وأَدْوَم وأَجْدَى
١٢ وأنفع وأبقى وأرفع من ثمرة غيره من الحيوان إذا كان مرفودًا بالاختيار، لأن
قوة الاختيار في الحيوان كالحُلم كما أن قوة الإلهام في الإنسان كالظلِّ.
ومراتب الإنسان في العلم ثلاث تظهر في ثلاثة أنفس: فأحدهم مُلْهَم فيتعلَّم
١٣ ويعمل، ويصير مبدأً للمقتبِسِين منه، المقتدِين به، الآخذين عنه، الحاذِين
على مثاله، المارِّين على غِراره، القَافِين على آثاره. وواحد يتعلم ولا يُلْهَم، فهو
يماثل الأوَّل في الدرجة الثانية، أعني التعلُّم. وواحد يتعلَّم ويُلْهَم، فتجتمع له
هاتان الخَلَّتان فيصير بقليل ما يَتعلَّم مُكثِرًا للعمل والعلمِ بقوة ما يُلْهَم،
ويعود بكثرة ما يُلْهَم مصفِّيًا لكل ما يتعلم ويعمل.
والكلام في هذه المواضع ربَّما جَمَح فلم يمكن كفُّه، فينبغي أن يضح العذر إذا عرض
تفاوُتٌ في الترتيب، ودخل الخَلَل من ناحية التقريب.
وقال أبو سليمان لنا في هذه الأيام: [الإنسان]
١٤ بين طبيعته وهي عليه وبين نفسِه وهي له كالمنتهَب المتوزَّع، فإن استمد من
العقل نورَه وشعاعَه قَوِيَ ما هو له من النفس وضَعُف ما هو عليه من الطبيعة، [وإلَّا
فقد قَوِيَ ما هو عليه
١٥ من الطبيعة] وضَعُف ما هو له من النفس.
وحكى لنا فقال: كان للحكماء الأَوَّلِين مَثَلٌ يضربونه ويكتبونه في هياكلهم
ومتعبَّداتهم وهو: «المَلَك الموكَّل بالدنيا يقول: إن ها هنا خيرًا وها هنا شرًّا وها
هنا ما ليس بخير ولا شر، فمن عرف هذه الثلاثة حقَّ معرفتِها تخلَّص منِّي، ونجا سليمًا،
وبقي كريمًا، وملك نعيمًا عظيمًا.
ومن لم يعرفها قتَلْتُه شرَّ قِتلة، وذلك أني لا أقتله قتلًا وَحِيًّا
١٦ يستريح به مني، ولكن أقتله أولًا فأولًا في زمان طويل، بحَسَرات على فَوْتِ
مأمول بعد مأمول، وبلايا يكون بها كالمغلول المكبول.
قال:
١٧ هذا كلام شريف في أعلى ذروة الحكمة، لكنك خَلَّيْتَ يدك من طُرَف الحديث في
الخُلُق. قلتُ: إذا طاب الحديث باسترسال السجيَّة ووقوع الطُّمأنينة لَهَا الإنسانُ عن
مباديه، وسال مع الخاطر الذي يستهويه، ولِتحفُّظ الإنسان في قوله وعمله من الخَطَل
والزَّلَل حَدٌّ إذا بلغه كَلَّ الخاطر واختلَّ.
ثم نعود فنقول: أخلاق الإنسان مقسومة على أنفسه الثلاث؛ أعني النفسَ الناطقة، والنفسَ
الغضبيَّة، والنفسَ الشهوانيَّة. وسماتُ هذه الأخلاق مختلِفة بعَرْض واسع.
ويمكن أن يقال في نعتها على مذهب التقريب: إنها بين المحمودة وبين المذمومة، وبين
المشوبة بالحمد والذم، وبين الخارجة منهما. فمن أخلاق النفس الناطقة — إذا صَفَت
١٨ — البحث عن الإنسان ثم عن العالَم، لأنه إذا عَرف الإنسانَ فقد عَرف
العالَم الصغير، وإذا عَرف العالَم فقد عَرف الإنسانَ الكبير، وإذا عَرَف العالَمَيْن
عرف الإله الذي بجُودِه وُجِد ما وُجِد، وبقدرته ثَبَت ما ثَبَت، وبحكمته ترتَّب ما
ترتَّب، وبمجموع هذا كلِّه دام ما دام.
بهذا البحث يتبيَّن له ما تشتمل عليه القوة الغضبية والقوة الشهوية، فإن توابع هاتين
القوَّتَين أكثر لأنهما بالتركيب أظهر، وفي
١٩ الكثرة أَدْخَل، وعن الوحدة أَخْرَج، فإذا ساسَتْهما الناطقة حَذَفتْ
زوائدهما، ونَفَتْ فواضِلَهما، ووَفَّتْ نواقصهما، وذَيَّلت قَوالِصَهما؛
٢٠ أعني إذا رأت غُلْمةً في الشهوية أَخمدتْ نارَها، وإذا وجدت السَّرَفَ
٢١ في الغضبيَّة قصَّرت عِنانها.
٢٢ فحينئذٍ يقومان على الصراط المستقيم، فيعود السَّفَه حِلْمًا أو تحالُمًا،
والحسد غِبْطةً أو تغابُطًا، والغضبُ كظْمًا أو تكاظُمًا، والغيُّ رشدًا أو تَراشُدًا،
والطيشُ أناةً أو تآنيًا،
٢٣ وصَرَّفتْ هذه الكوامنَ في المَكامن — إذا سارت سَوْرَتُها، وثارت
ثَوْرَتُها — على مناهج الصواب، تارةً بالعظة واللُّطف، وتارةً بالزجر والعنف، وتارةً
بالأَنَفة وكِبر النفس، وتارةً بإشعار
٢٤ الحذر، وتارةً بعلوِّ الهمة. وهناك يصير العفو عند القادر ألذَّ من
الانتقام، والعفافُ عند الهائج ألذَّ من قضاء الوطر، والقناعةُ عند المحتاج أشرفَ من
الإسفاف، والصداقةُ عند الموتور آثرَ من العداوة، والمداراةُ عند المُحْفَظ
٢٥ أطيبَ من المماراة.
وفي الجملة، الخُلُق الحَسَن
٢٦ مشتقٌّ من الخَلْق، فكما لا سبيل إلى تبديل الخَلْق كذلك لا قدرة على تحويل
الخُلُق. لكنَّ الحضَّ
٢٧ على إصلاح الخُلُق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعَبَث والتجزيف، بل
لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة. ومثالُه أن الحبشيَّ يتدلَّك بالماء والغَسُول لا ليستفيد
٢٨ بياضًا، ولكن ليستفيد نقاءً شبيهًا
٢٩ بالبياض. ويقال للمِهْذار: «اكفُفْ»، لا ليكفَّ
٣٠ عن النطق ولكن ليؤْثِر الصمت.
ويقال للمَوْتُور: «لا تحقد» لا ليزول عنه ما حَنِق
٣١ عليه، ولكن ليتكلَّف الصبر ويتناسى الجزاء على هذا أبدًا.
وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة، أعني أن
كل
ما يدور عليه ويحور إليه
٣٢ مقابل بالضدِّ
٣٣ أو شبيهٍ بالضدِّ كالحياة والموت، والنوم واليقظة، والحَسن والقبيح،
والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف، والعدل والجور، والشجاعة والجُبْن،
والسخاء والبخل، والحلم والسَّفَه، والطَّيْش والوقار، والعلم والجهل، والمعرفة
والنكرة، والعقل والحُمْق، والصحة والمرض، والاعتدال والانحراف، والعفَّة والفجور،
والتنبه والغفلة، والذِّكر والنسيان، والذكاء والبلادة، والغبطة والحسادة، والدماثة والكزَازَة،
٣٤ والحق والباطل، والغيِّ والرُّشْد، والبيان والحَصَر، والثقة والارتياب،
والطمأنينة والتُّهَمة، والحركة والسكون، والشك واليقين، والخلاعة والوقار، والتوقِّي
والتهوُّر، والإلْف والمَلَل، والصدق والكذب، والإخلاص والنفاق، والإحسان والإساءة،
والنصح والغش، والمدح والذم … وعلى هذا الجرُّ والسَّحْب،
٣٥ ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع.
فمما ينبغي أن يُعنَى الإنسانُ المحبُّ للتبصرة، المؤْثِر للتذكرة، الجامع للنافع
له، النافي
٣٦ للضارِّ به في هذه الأحوال التي وصفناها بأسمائها معرَّفةً — ما استطاع — باجتلاب
٣٧ محمودها، واجتناب مذمومها، وتمييزه مما يكمن
٣٨ فيه أو تقليله، أو إطفاءِ جمرته، أو اجتناء ثمرته. والطريق إلى هذا التمييز
واضح قريب، كأن
٣٩ تنظر إلى الحياة والموت فتعلم أن هذين ليسا من الأخلاق ولا مما يُعالَج
بالاجتهاد، وإلى النوم واليقظة فتعلم أنهما ضروريان للبدن من وجه وغيرُ ضروريَّيْن من
وجه، فتَنفي
٤٠ منهما ما خرج عن حد الضرورة، وتُسلِم البدن ما دخل في حد الضرورة. ولا يكثرنَّ
٤١ الإنسانُ نومَه ولا سهرَه، ولكن يطلب العدل بينهما بقدر جهده.
فأما الحَسن والقبيح فلا بدَّ له من البحث اللطيف عنهما حتى لا يجور
٤٢ فيرى القبيحَ حسنًا والحسنَ قبيحًا، فيأتي القبيحَ على أنه حَسن، ويَرفُض
الحَسن على أنه قبيح. ومَناشئ الحَسن والقبيح كثيرة: منها طبيعي، ومنها بالعادة، ومنها
بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة، فإذا اعتبر هذه المناشئ صدَّق الصادق منها وكذَّب
الكاذب، وكان استحسانُه على قَدْر ذلك. ومثال ذلك الكِبْر، فإنه مَعِيب بالنظر الأول،
لكنه حَسنٌ في موضعه بالعلة
٤٣ الداعية إليه، والحال الموجبةِ له.
وأما الصواب والخطأ فأمران عارضان للأقوال والأفعال والآراء وليسا بخُلُقَين
مَحْضَين، ولكنهما موكولان إلى نور العقل فما أشرَق
٤٤ عليه العقل بنوره فهو صواب، وما أَفَل
٤٥ عنه العقل بنوره فهو خطأ.
وأما الخير والشر فهما في العموم والشمول ليسا بدون الصواب والخطأ لهما مناط بكلِّ
شيء، ويَغلِبان على الأفعال، وإن كان أحدُهما عَدَمًا للآخَر.
وأما الرجاء والخوف فهما عَرَضان للقلب بأسباب بادية وخافية، ولا يدخلان في باب
الخُلُق من كل وجه، [ولا يخرجان أيضًا بكل وجه]، وهما كالعِمادَيْن للإنسان قد استُصلِح
لهما، ورُبِط قِوامُه بغلبتهما وضَعْفِهما.
وأما العدل والجَوْر فقد يكونان خُلُقَين بالفِطْرة، ويكونان فِعْلين بالفكرة،
وجانباهما بالفعل
٤٦ ألصق، وإلى الاكتساب أقرب.
وأما الشجاعة والجبن فهما خُلُقان متصلان بالخَلْق، ولهذا يعِزُّ على الشجاع أن يتحول
جبانًا، ويتعذر على الجبان أن يصير شجاعًا، وكذلك طرفاهما داخلان في الخُلُق أعني
التهوُّرَ والتوقِّي.
٤٧
وأما السخاء والبخل فهما خُلُقان محضان أو قريبان من المَحْض، ولهذا تعلَّق الحمد
والذم بهما وبأصحابهما، والمدح والهَجْو سَرَيا
٤٨ إليهما واتَّصلا بهما. وقد يندم السخيُّ على بذله كثيرًا خوفًا من الإملاق،
فلا يستطيع ذلك إذا أخذتْه الأَرْيَحِيَّة، وحرَّكته اللَّوْذَعِيَّة. وقد يلوم البخيل
نفسه كثيرًا إذا سَلَقته الألسنة الحداد، وجُبِه
٤٩ بالتوبيخ، وشمخ
٥٠ عند رؤيته الأنفُ، وغُضِّن
٥١ الجبين وأُولِمَ
٥٢ بالعذل وقوبل، ومع ذلك فلا يَرْشَح إلا على بطء وكُلْفة وتضجُّر. والكلام
في هذين الخُلُقَين طويل، لأنهما أدخل في تلاقي الناس وتعاطيهم في عِشرتهم
ومعاملتهم.
وأما الحِلم والسَّفه فهما أيضًا خُلُقان، والأخلاق تابعة للمزاج في الأصل، ولذلك
قلنا: إن الخُلُق ابن الخَلْق، والولد شبيهٌ بوالده. وفي الجملة، كل ما يمكن أن يقال
فيه للإنسان: «لا تفعل هذا» و«أقلل من هذا وكُفَّ عنه»، فإنه في باب الأفعال أَدْخَل،
وكل ما لم يَجُزْ أن يقال ذلك فيه فهو في باب الأخلاق أدخل، ثم لبعض هذا نسبة إلى
الخُلُق أو الخَلْق، إما ظاهرة غالبة وإما خفية ضعيفة.
وأما الطَّيْش والوقار فهما يختلطان بالحلم والسَّفَه ويجريان معهما، فليس ينبغي أن
يُنْشَر الكلامُ ويطول الشرح.
وأما الجهل والعلم فليسا
٥٣ من الأخلاق ولا من الخَلْق، وإنما
٥٤ يُبْرِزان من صاحب الأخلاق والخَلْق للمزاج أثرَين قويَّيْن
٥٥ واحدهما عَدَم والآخر وجدان، والعدم
٥٦ لا يكون أعدمَ من عدم، والوِجدان يكون أبينَ من وجدان.
وأما المعرفة والنكرة فهما في جوار العلم وضده، ولكنهما أعلق بالحِسِّ وألصق
بالنفسَيْن، أي الشَّهْوِيَّة والغضبيَّة.
وأما العقل والحُمق فليسا من الخُلُق، والكلام في تفسير العقل مشهور،
٥٧ وعدمه الحمق.
وأما الصحة والمرض فليسا أيضًا من الأخلاق، ولكنهما يوجدان في الإنسان بواسطة النفس
إما في البدن وإما في العقل، ولذلك يقال «أمراض البدن وأمراض النفس» [و«صحة البدن]
٥٨ وصحة النفس».
وأما الاعتدال والانحراف فهما يدخلان في الخُلُق بوجه، ويخلصان منه بوجه، ويعمَّان
أعراض البدن وأعراضَ النفس ويُوصَف بهما الإنسان. على أن الانحراف المطلَق لا يوجد
والاعتدال المطلق لا يوجد، ولكنْ كلاهما بالإضافة.
وأما العفة والفجور فخُلُقان لهما جَمْرة
٥٩ وهُمُود، والحاجة تمسُّ إلى العدل في استعمال العفة ونَفي
٦٠ الفجور، وإذا قويت العفة حالت عصمة، وإذا غلب الفجور صار عدوانًا.
وأما التنبُّه والغفلة فقريبان من الخُلُق ويغلبان على الإنسان، إلا أن فرط التنبُّه
موصولٌ بالوَحْي، وفرطَ الغفلة موصول بالبهيمية.
وأما الذكر والنسيان فليسا بخُلُقين محضَين، ومنشؤهما بالمِزاج، وأحدهما من علائق
النفس العالمة، والآخر من علائق النفس البهيمية.
[وأما الذكاء والبلادة]
٦١ فهما خُلُقان، ونعتهما كنعت الذِّكر والنسيان، إلا أن هذين
٦٢ يَعرضان في الحين
٦٣ بعد الحين، والأخريان
٦٤ كالراسخَين في الطينة.
وأما الغِبطة والحسد فخلقان رُسِم الأول منهما بأن تتمنى لنفسك ما أُوتِيَه صاحبُك
[ورُسِم الثاني بأن تتمنى زوال ما أُوتِيَه صاحبُك]
٦٥ وإن لم يصل إليك. ورسوم هذه الأخلاق أسهل من تحديدها، لكنَّا تركنا ذلك لأن
الكلام الذي كان يجري هو على مذهب الخدمة.
على أن مراتب هذه الأخلاق مختلفة فيبعد أن يعمَّها حد واحد، وإنما اختلفت منازلها
لأنها
٦٦ تارة تصفو بقوة النفس الناطقة، وتارة تكدر بالقوَّتَين الأُخْرَيَيْن،
ولبعضها حِدَّة بالزيادة ولبعضها كَلَّة بالنقص، فلم يكن التحديد يُفَصِّل
٦٧ كلَّ ذاك، فلم نعرج
٦٨ على شيء عجزْنا عنه قبل أخذنا فيه. ونُتِمُّ بقية ما عَلِق بهذه الجملة
فنقول:
وأما الدماثة والكَزَازة فخلُقان محضان تابعان للمزاج، ثم المِران يزيدهما قوَّة
وضعفًا. وهما للنعت أقرب كالسهولة والعسر، ولذلك يقال: «ما أَدْمَثَ هذه الأرض!» أي ما
أرخاها وألْيَنها! وفي المَثَل: «دَمِّثْ لجَنْبِك قبل النوم
٦٩ مضطجَعًا.»
وأما الحق والباطل فليسا من الخُلُق ولا الخَلْق في شيء، وهما من نتائج المعرفة
والنكرة، لأنك تعرف الحق وتنكر الباطل، وذلك لأغراض تتبعهما ولواحقَ تلتبس بهما.
وأما الغَيُّ والرُّشْد فليسا من الخُلُق، لكنهما من علائق الأفعال الحميدة والذميمة،
وللرأي والعقل
٧٠ فيهما مدخل قويٌّ وحظٌّ تامٌّ.
وأما البيان والحَصَر فليس بينهما وبين الخُلُق عَلاقة وإنما يتبعان المِزاج، ويزيد
فيهما وينقص الجهدُ والتواني والطلب والقُصور.
وأما الثقة والارتياب فخُلُقان يغلبان، ينفعان ويضرَّان، ويُحمدان ويُذَمَّان، ألا
ترى
٧١ أنه يقال: لا تثق بكل أحد، «ولا تَرْتَبْ بكلِّ إنسان»، وهكذا الطمأنينة
والتُّهَمَة لأنهما في طيِّهما.
وأما الحركة والسكون فليسا
٧٢ من حديث الخُلُق في شيء، لأنهما عامَّان
٧٣ لجميع الأحوال سواء كان العمل مباشرًا أم كان معتقَدًا. وفي الحركة والسكون
كلامٌ واسع، وذلك أن ها هنا حركةً إلهيةً، وحركةً عقلية، وحركةً نفسية، وحركةً طبيعية،
وحركة بدنية، وحركة فلكيَّة، وحركة كوكبيَّة، وحركةً كأنها سكون، فأما السكون فهو ضرب
واحد، لأنه في مقابلة كلِّ حركة ذكرناها. فإذا اعتُبِرتْ هذه المقابلةُ في كلِّ مقابَل
لُحِظ الانقسام في السكون، كما وُجِد الانقسام في الحركة.
والحركة أوضح برهان على كلِّ موجود حِسِّيٍّ، والسكونُ أقوى دليل على كلِّ موجودٍ
عقليٍّ. وهذا القدر كافٍ في هذا الموضع.
وأما الشك واليقين فمن علائق النفس الناطقة، ولهذا لا يقال في الحيوان الذي لا ينطق:
له يقين وشك.
وأما الخلاعة والوقار فقد تقدم البحث عنهما.
٧٤
وأما التوقِّي والتهوُّر فهما خُلُقان في جميع الحيوان، ويَغلبان على نوع الإنسان،
لأن العقل يُبطل
٧٥ أحدهما،
٧٦ والحسَّ
٧٧ يَغلب الآخَر.
٧٨
وأما الإلف والمَلَل فخُلُقان محضان، يُذَمَّان ويُحْمَدان على قدر المألوف والمملول،
وإن كان جَرَيان العادة قد وفَّر الحمدَ على الإلف والذمَّ على الملل.
وقد مُدِح زيد فقيل: هو أَلُوف. وذُمَّ عمرٌو فقيل: هو مَلُول.
وأما الصدق والكذب فمن علائق النفس الناقصة والكاملة، وقد يكونان
٧٩ [راسخَين]
٨٠ فيُلحَقان بالخُلُق. إلا أن الصدق ممدوح، والكذبَ مذموم، هذا في النظر
الأول، وقد يَعرِض ما يوجب المصير إلى الكذب ليُنجى به، فهما إذن بعد الحقيقة الأولى
وقفٌ على الإضافة، وقد وجدنا مَن كَذَب لينتفع ولم نجد مَن صَدَق ليكتسب الضرر.
وأما الإخلاص والنفاق فهما يُلْحَقان بالخُلُق، ولكنهما يَصدُران عن عقيدة القلب
وضمير النفس.
وأما الإحسان والإساءة فهما يعمَّان الأفعال والأقوال، فإذا رَسَخ اعتيادُهما استحالا
خُلُقين.
وأما النُّصح والغِشُّ فهما خُلُقان، وطَرَفاهما يتعلَّقان بالخَلق.
وكذلك الطمع واليأس، والحب والبغض، واللَّهَج والسُّلُوُّ، وما شاكل هذا
الباب.
ولم يَجْر هذا كلُّه في المذاكَرة بالحضرة، ولكن رأيتُ من تمام الرسالة أن أضمَّ
هذا
كلَّه إلى حَوْمَته،
٨١ وأَبلُغَ الممكنَ من مقتضاه في تتمَّته.
وقال
٨٢ لي: هاتِ الوداع، فإن الليل قد همَّ بالإقلاع.
قلتُ: قال أبو سعيد الذهبيُّ الطبيب: لو علم الذي يَحمل الباذنجان أن على ظهره
باذنجانًا لَصَال على الثِّيران.
٨٣
فضحِك — أضحَك اللهُ سِنَّه، وحقَّق في كلِّ خير ظنَّه — وقال: إن كنتَ تحفظ في غرائب
أخلاق الحيوان شيئًا فاذكره إذا حضرتَ، فقد مرَّ في أخلاق الإنسان ما يكفي مجلسَ
الإمتاع والمؤانسة، فإذا ضُمَّ هذا إلى ذاك كان للإنسان فيه تبصُّرٌ كافٍ وتذكُّرٌ
شافٍ.
وصدق — صدَّق الله قولَه — لأن الإنسان أشرفُ الحيوان، وإنما كان هكذا لأنه حاز جميعَ
قوى الحيوان ثم زاد عليه بما ليس لشيء منه، فصار ربًّا له سائسًا، ومصرِّفًا له حارسًا،
ونظر إلى ما سُخِّر له منه فاعتبر، وقاد
٨٤ نفسَه إلى حَسَن ما رأى، وعَزَفَها عن
٨٥ قبيح ما وَجَد، ولم يَجُزْ في الحكمة أن يُحْرَم الإنسانُ هذا مع ما فيه من
المواهب السَّنِيَّة، والمنائح الهنية. فإن قال قائل: فالملائكة إذن قد حُرِمتْ هذه
الفضيلة، فليعلم هذا القائلُ أن المَلَك لمَّا خُلِق كاملًا لم يكلَّف أن يَكمُل
ويَتكامَل ويَستكمل، فصار كل شيء يطلبه ويتوقَّاه سببًا إلى كماله المُعَدِّ له وغايته
المقصودة. فإن زاد فقال: فهلَّا خُلِق
٨٦ كاملًا؟ فليعلم أن كلامه على طريق الجدل، لا على طريق البحث عن العلل، لأنه
قد جهل أنه بالحكمة وجَب أن يكون الأمر مقسومًا بين ما يحوز الكمال بالجِبلَّة،
٨٧ وبين ما يَكسِب الكمالَ بالقصد.
ولمَّا وجب هذا بالحكمة سَرَت إليه القدرة، وساح به الجود، واشتملت عليه المشيئة،
وأحاطت به الحكمة، وشاعت فيه الربوبية.
وها هنا زيادةٌ في شرح الخُلُق يتم بها الكلام، فليس من الرأي أن يقع الإخلال بذكرها
لأنها مكشوفة ظاهرة، وهي أن الإنسان إذا غلبت الحرارةُ عليه في مزاج القلب يكون شجاعًا
نَزَّالًا
٨٨ ملتهِبًا، سريعَ الحركة والغضب، قليلَ الحقد، زكيَّ الخاطر، حسن
الإدراك.
وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليدًا، غليظَ الطباع، ثقيلَ الروح.
وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون ليِّن الجانب، سمحَ النفس، سهلَ التقبُّل، كثيرَ
النسيان.
وإذا غلبتْ عليه اليُبوسة يكون صابرًا، ثابتَ الرأي، صعبَ القبول، يضبط ويحتدُّ،
٨٩ ويُمسِك ويبخل.
وهذا النعت على هذا التنزيل وإن كان مفهومًا فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفية،
٩٠ وفيها بدائع لا تكاد تنتهي، وعجائبُ لا تنقضي، وقد قال الأول:
كلُّ امرئٍ راجعٌ يومًا لشيمتِه
وإنْ تخلَّقَ أخلاقًا إلى حِينِ
وقال آخر:
ارْجِعْ إلى خِيمِكَ المعروفِ دَيْدَنُهُ
إنَّ التخلُّقَ يأتي دُونَه الخُلُقُ
ولولا أن النزوع عن الخُلُق شاقٌّ لمَا قالوا: تخلَّق فلان.
وقد قيل أيضًا: «وخالقِ الناسَ بخلُق حسَن.» وعلى هذا يجري أمرُ الضريبة، والطبيعة،
والنَّحيتَة، والغريزة، والنَّحِيزَة، والسَّجِيَّة، والشِّيمة، وربما قيل الطبيعة
أيضًا، ثم العادة تاليةٌ لهذه كلِّها، أو زائدة فيما نقص فيها، ومُوقِدَة لما خَمَد
منها.