الجيل الرائع
الجيل الرائع هو جيل الستينيات. والصفة ليست بالضرورة صادقةً إلا لمن رآها كذلك. وقد اخترتُها لتُقابِل العبارة الشهيرة «الجيل الضائع»، التي أطلقَتها جرترود شتاين على جيل هيمنجواي في العشرينيات من القرن الماضي.
وفي رأيي أن جيل الستينيات يشمل كل من بدأ الكتابة أو الإنتاج الفني خلال عقد الستينيات أو قبله أو بعده بقليل؛ ومنهم من توقَّف ومنهم من استمر، وكثيرٌ أصبحوا من المشهورين في مجالات الفن المختلفة: الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر والفنون التشكيلية وغيرها، ولا يمكن ذكر أحد حتى لا ننسى آخرين؛ فجيل الستينيات يضم المئات إن لم يكن الألوف. ولا يَرِد في هذا الكتاب سوى أفرادٍ معدودين — بعضهم من غير أهل الأدب والفن — وهم من عرَفَهم المؤلف عن قرب؛ ولذلك فهو محدود، ولكنَّ المشهورين من أهل ذلك الجيل معروفون للجميع. وأنا أعتقد أن فناني الستينيات هم وحدهم الذين يشكِّلون «جيلًا» بالمعنى المتعارف عليه؛ أما أن يُطلِق بعض النقاد كلمة الجيل على فناني كل عقدٍ تالٍ، فهو من قبيل التجاوز؛ فالأقرب إطلاق صفة «جماعة» على أولئك المبدعين.
وقد انطلق أفراد جيل الستينيات من خلفيةٍ مزدهرة من الأساتذة والمفكِّرين والأدباء والفنانين الذين أسَّسوا نهضةً ثقافية نهل منها الجميع، أساتذة مثل طه حسين، لطفي السيد، توفيق الحكيم، المازني، عباس العقاد، سلامة موسى، أحمد أمين، محمد فريد أبو حديد، عبد الرحمن شكري، يحيى حقي، عبد الحميد يونس، حسين مؤنس، محمد حسين هيكل، أحمد شوقي. ثم عبد الرحمن بدوي، شوقي ضيف، سهير القلماوي، محمد مندور، أنور المعداوي، شكري عياد، لويس عوض، زكي نجيب محمود، نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، عبد الحليم عبد الله، يوسف إدريس، فؤاد زكريا، صلاح عبد الصبور، عبد المعطي حجازي، فتحي غانم، إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي، سعد مكاوي، فاروق خورشيد، وغيرهم.
والجيل له روَّاد، منهم إدوار الخراط، رجاء النقاش، محمد عناني، بهاء طاهر، الطاهر مكي، وغيرهم.
وجيل الستينيات يشمل المئات؛ ولذلك لا يمكن ذكرهم بالاسم، وقد اشتُهر منهم الكثيرون فهم معروفون. أما من عرفَهم الكاتب من هذا الجيل عن قربٍ فهم من عُرفوا باسم «جماعة الدكاترة»: محمد عناني، عبد العزيز حمودة، سمير سرحان، فاروق عبد الوهاب. ودكاترةٌ آخرون هم: نبيل راغب، جابر عصفور، ماهر شفيق فريد، عبادة كحيلة، نصار عبد الله. ومن الأصدقاء الآخرين: علي كمال زغلول، أيمن الأمير، حلمي جرجس، وهيب يوسف، وديع كيرلس، عبد الفتاح العدوي، محمد عتريس، توفيق عبد الرحمن.
ومن الطبيعي أن كل تلك الأسماء تختلف باختلاف الفرد من أفراد ذلك الجيل، بحكم تخصُّصه وبحكم ظروف حياته؛ فالكاتب غير الرسام وغير الموسيقار وغير السينمائي أو المسرحي؛ فلكلٍّ من هؤلاء أساتذةٌ وأقرانٌ غير ما ذكرتُ ها هنا؛ فقد نبغ من هذا الجيل أفراد في كل منحًى من مناحي الفنون. كذلك فقد اقتصرتُ أيضًا — بوجهٍ عام — على ذكر المصريين إلا فيما ندر.
كما أن أفراد ذلك الجيل قد عاصروا أحداثًا جسامًا في تاريخ وطنهم وأمتهم والعالم أجمع؛ فهم قد عاصروا الاحتلال البريطاني لمصر، وعاشوا عَبْر خمسة حكام لبلادهم: الملك فاروق، الرئيس محمد نجيب، الرئيس جمال عبد الناصر، الرئيس أنور السادات، الرئيس حسني مبارك. وهم قد عاصروا حروبًا كثيرة: الحرب العالمية الثانية، حرب فلسطين ١٩٤٨م، العدوان الثلاثي، حرب ١٩٦٧م، حرب ١٩٧٣م. وقد تأثر كل فردٍ من أفراد جيل الستينيات بتلك الأحداث على نحوٍ مختلف، كما أن منهم من انخرط في العمل السياسي، ومنهم من راقب الأحداث ودرسها دون أن يتَّبِع جماعةً معيَّنة، أو ينقاد إلى أيديولوجية تُعمي أبصاره عن أفكار الحياة.
وهناك صفاتٌ عامة تميِّز أفراد ذلك الجيل، قد يشتركون فيها مع غيرهم، وقد لا يعترف بها البعض، ولكني أُثبِتها هنا كفكرةٍ شخصية:
-
حب التجديد والتجريب في الشكل والمضمون.
-
الارتباط بأفكار وبأيديولوجياتٍ معيَّنة تسود الأعمال الإبداعية والنقدية.
-
تأثير العامل الجنسي والمشكلة الجنسية حتى بعد عبورها.
-
الاستغراق في الذات وعشق الذات إلى درجة النرجسية.
-
الولع بالسفر والترحال لأسبابٍ متعددةٍ مختلفة.
-
الإحساس بالغربة والاختلاف عن الآخرين.
-
التشاحُن والتنافُس والبغضاء فيما بين من اشتُهر من أفراد الجيل.
-
ردود الفعل العميقة لهزيمة عام ١٩٦٧م.
وكما ذكَرْت، تتباين تلك الصفات ودرجتها من فردٍ إلى آخر، وتزيد أو تنقص بحسب ظروف كل شخصٍ وانتماءاته. وتظهر روعة ذلك الجيل في قدرته على تجاوز المحن — لا الفردية والخاصة فحسب، بل والقومية الشاملة التي كان يمكن أن تعصف بأي طموح أو موهبة — والقدرة على الإبداع وسط العواصف والأنواء والتشاحُن والبغضاء، والخروج من أَسْر «الشلَلية» إلى فضاء التعبير والخَلْق الرفيعَين. وإذا كانت شتاين قد أطلقَت اسم الجيل الضائع على همنجواي ورفاقه وهم قد أصبحوا جيلًا رائعًا، فقد كان جيل الستينيات جيلًا رائعًا اسمًا ومضمونًا.
وهذا الكتاب وقائعُ أحداثٍ عاشها فردٌ من أبناء ذلك الجيل، ليس من ورائها مقصدٌ غير سرد الأحداث كما هي في حياة ذلك الفرد، دون هدف خلق عملٍ فني عميق أو رسم شخصياتٍ روائية؛ فهو كعنوانه، مجرَّد وقائع ليس أكثر، بعضها حقيقي وبعضها وهمي.