١٩٧٢–١٩٧٤م
وبدأ العام الجديد بعد احتفالات رأس السنة التقليدية، التي قضيتُها مع خوليا، ولكن علاقتنا أخذَت تتوتَّر عندما ذكرتُ لها أن فترة عملي في إسبانيا تنتهي في وسط العام القادم، فقالت إنه يمكنني البقاء بعد ذلك والعمل لحسابي في إسبانيا. وذكرتُ لها أن ذلك شبه مستحيل؛ فقد كان هناك الكثير من العرب المتزوِّجين بإسبانيات ولا يجدون أي عمل. ولم تكن تقتنع بمثل هذه البراهين. وأحيانًا تطلب مني أن تذهب معي إلى مصر، ولا تتفهَّم عدم استعدادي لذلك الآن، فقالت لي إنها لن تنتظر حتى أسافر إلى مصر وأتركها؛ فهي تفضِّل أن ننفصل قبل ذلك، ثم جاءت الضربة القاضية حين بدأتُ ثانيةً زيارة باريس وحدي، فغضبَت وقطعَت علاقتها بي. وبعد عودتي، حاولتُ الاتصال بها، ولكنها امتنعَت عن استقبال مكالماتي، فعرفتُ أنها نهاية العلاقة، كما قال جراهام جرين في روايته بذلك العنوان.
وتأثَّرتُ طبعًا بفقدان خوليا، فطفِقتُ أبحث عن صديقةٍ أخرى. ولمَّا لم أكن أحسِن التعرُّف على الفتيات في الطريق أو الكافيتيريات، فلم يكن هناك سوى مدرسة اللغات والمعهد الفرنسي. كانت خوليا قد تركَت دراسة الفرنسية منذ فترة، وصادقتُ عدة فتياتٍ في التيرم الحالي، ولكن دون التركيز على واحدةٍ معيَّنة. وفي مدرسة اللغات، خرجتُ عدة مراتٍ مع مارجريتا، وقبَّلتُها، وزارتني في شقتي كي تنقل بعض تسجيلاتها إلى شرائط باستخدام الأجهزة التي عندي، ولكن لم تتطور علاقتُنا أبعَد من ذلك. أما آن ماري فكانت محادثاتي معها أدبيةً وفنية؛ فهي تُحب إسبانيا واللغة الإسبانية، وتعشَق لوركا وأشعاره ومسرحياته.
وكان عام ٧٢ عامًا مثمرًا في العمل والقراءة؛ فقد ساعدَني الاستقرار في إدارة المعهد وأعماله على الدراسة الجدِّية للغتَين الفرنسية والإسبانية، وكنتُ قد انتهيتُ من قراءة البحث عن الزمن المفقود لبروست بالفرنسية، مستعينًا بالترجمتَين الإنجليزية والإسبانية، وبدأَت تُساوِرني فكرة نقلها إلى العربية. واشتركتُ باسم المعهد في مهرجانٍ أدبيٍّ إسباني احتفالًا بكتاب الحب المحمود من تأليف خوان رويث، رئيس أساقفة هيتا، الذي يرجع إلى القرن الرابع عشر. واستمعنا إلى الكثير من الأبحاث عن ذلك الكتاب ومؤلفه من أساتذةٍ متخصصين من مختلف البلدان، ثم حضَرنا في الختام ليلةً «قروسطية» شَهِدنا فيها مسرحيةً للوبي دي فيجا، وتناولنا عَشاءً على العُشب!
وذهبتُ لأداء الامتحان النهائي في الإسبانية بمدرسة اللغات. ولمَّا كان ذلك هو اليوم الأخير لنا في المدرسة، فقد صمَّمتُ على أن أتقرَّب من آن ماري كي نتقابل بعد ذلك. وقضينا وقتًا طويلًا في المدرسة، وكان الامتحان شفويًّا، وانتهيتُ منه قبل أن تنتهي آن؛ ولذلك بقيتُ في انتظارها. ولاحظتُ أن هناك زميلًا من السنغال يحوم حولها أيضًا، وكان ينتظر أيضًا بعد أن انتهى من امتحانه. وحين انتهت آن ماري من امتحانها وخرجَت، جاءت إلينا، فسألناها ماذا فعلَت، فأبدت ارتياحها لأدائها. وعند ذاك قلتُ إنه يجب أن نحتفل بالانتهاء من الدراسة، ودعوتُها لتناول مشروب في المقهى المقابل للمدرسة. ولمَّا كان بيير معنا أيضًا ومنتظرًا فقد دعوتُه هو الآخر، فقبلا، وخرجنا كلنا معًا.
وفي المقهى تحادثنا عن الامتحان وعن المدرسة، وحين فرغنا من شرب القهوة باللبن، سألتُهما أن يطلبا مشروبًا آخر. وكان بيير يظن أننا سنغادر المقهى بعد القهوة باللبن، فاضطُر إلى الاستئذان؛ لأن لديه موعدًا ولا بد أن يذهب الآن. وتنفَّستُ الصُّعَداء. وسلَّم علينا وذهب. وتحادثتُ مع آن عن كثير من الأشياء، وحين قمنا قلتُ لها إنني سأسير إلى المنزل فقالت إنها ستسير معي. وخلال سيرنا نجحتُ في أن نتبادل رقمَي تليفونيَنا، كما دعوتُها إلى لقاءٍ آخر بوسط البلد قبل أن أسافر في رحلاتي الصيفية، فقبلَت الدعوة. وحين تقابلنا أمام إحدى دور السينما، كما اتفقنا، فوجئتُ بها في رونقٍ جميل غير الذي تتبدَّى فيه في أيام العمل، فاصطحبتُها إلى إحدى الكافيتيريات الفاخرة، وطلبتُ لها أفضل أصناف الشراب والأطعمة الخفيفة. وتناقشنا عما سنفعل في الصيف؛ فهي ستذهب لزيارة أسرتها في نورماندي بشمال فرنسا، بينما قلتُ لها إنني ذاهب للجري أمام الثيران في مهرجان بمبلونة؛ ولهذا، فحين ودَّعتُها ذلك المساء هتفَت بي ضاحكة: احترِس من الثيران! وعندها علمتُ أن آن قد دلفَت إلى قلبي لكي تستقر فيه.
وعندما حلَّ الصيف كانت إجازتي السنوية، فعزمتُ قضاءها في الترحال لرؤية أماكنَ وتجاربَ جديدة، بدأتُها بالذهاب في رحلةٍ منظَّمة لمدة أسبوع لحضور مهرجان سان فرمين في بمبلونة، كما ذكرتُ لآن ماري. وقد عرفتُ تفاصيل هذا المهرجان من رواية همنجواي «وتشرق الشمس ثانية» حيث أجاد في وصف تفاصيله على نحوٍ مثير للإعجاب. وبالفعل، لا يمكن استيعابُ ما يحدث في ذلك المهرجان إلا بحضوره كاملًا. وهو يبدأ في السادس من يوليو من كل عام، ويستمر عدة أيام كلها موسيقى ورقص وشراب وجري أمام الثيران، ومشاهدة المصارعة كلَّ أصيل. وقضَيتُ ذلك الأسبوع وأنا أتابع كل ذلك، وارتديتُ الإيشارب الأحمر حول العنق والبيريه الأحمر كما يفعل الجميع. وفي أول يومٍ لانطلاق الثيران من حظيرتها إلى ساحة المصارعة في الصباح الباكر، ارتدَيتُ ملابسَ خفيفة استعدادًا للجري أمام الثيران. وحين وصَلتُ إلى المكان، راعني وجود الكثير من عربات الإسعاف على جانبَي الطريق الذي تحدَّد لجري الثيران بحواجزَ خشبية. وقد أثَّر فيَّ ذلك وأجَّلتُ فكرة الجري أمام الثيران لليوم التالي كي أرى كيف يكون الحال. وكان همنجواي يجري مع «الشجعان»؛ أي في مواجهة الثيران، بينما يطلق على الذين تفصلهم مسافةٌ كبيرة عن الثيران الهائجة وصف «الجبناء.»
وانطلقَت الثيران، وجريتُ معها ولكن من الخارج إلى أن وصلنا إلى حلبة المصارعة. ورأيتُ العديد من الشبان الشجعان مطعونين بقرون الثيران يحملهم رجال الإسعاف، فزاد ذلك من شكوكي في المشاركة في الجري. وفي الحلبة، أطلق المسئولون أبقارًا وثيرانًا وديعة، أخذنا نلاغيها كأنما هي مصارعةُ ثيرانٍ حقيقية. وبعدها خرجتُ إلى الميدان المواجه للحلبة، وبه تمثال لإرنست همنجواي تقديرًا له من مدينة بمبلونة وأهلها، وأخذتُ لي عدة صور إلى جوار التمثال. وبعد تناولي إفطارًا شهيًّا من الكرواسان والقهوة باللبن، ظلِلتُ أجوب الطرقات مع أفواج المغَنين والراقصين، يصدَحون بأغاني المهرجان التقليدية. وقد تكرَّر كل هذا طَوال الأيام الأربعة التي استغرقها المهرجان، ولم أكن أنام في تلك الأيام سوى أربع ساعاتٍ فقط.
وبعد العودة من بمبلونة، استعدَدتُ لرحلة العمر الكبرى؛ فقد كنتُ قد حجزتُ مكانًا في رحلة — منظمة وبالأوتوكار أيضًا — من مدريد إلى فيينا والعودة، مرورًا بدولٍ ومدنٍ عديدة. ووجدتُ نفسي في أفضل مكانٍ في الأوتوكار، في المقدمة حيث أرى كل شيء بانوراميًّا واضحًا. ولما كنتُ مسافرًا وحدي، فقد وجدتُ إلى جواري فتاةً وحدها كذلك. وطبعًا تبادلنا التحية والحديث للتعارف؛ فسوف نكون رفيقَي سفر لمدةٍ طويلة، فعرفتُ أنها تعمل في مكتب رئيس وزراء إسبانيا — كاريرو بلانكو — وذكَرتُ لها عملي واهتماماتي الأدبية. وكان حديثها يبين عن ذكاءٍ حاد، وإن كانت للأسف خاليةً من الجمال. وسرعان ما عاملَتني بوصفي من المثقَّفين، بينما نظر لنا رفاق الرحلة على أننا عاشقان محتمَلان؛ ففي الإفطار والعَشاء كنا نجلس إلى نفس المائدة، والجميع يترك لي مكانًا معها دائمًا. وكانت مجموعة الرحلة منوَّعة؛ ففيها فتاتان إسبانيتان في غاية الجمال، وأربعة برتغاليين — زوجان وزوجتاهما — واثنان من القسس الإسبان، وغيرهم. وتوقفنا في برشلونة، واستعَدتُ ذكرياتي فيها، وكنتُ أحرص كعادتي على الخروج والتجوال وحدي، إلا إذا كانت هناك زيارةٌ منظَّمة داخلة في برنامج الرحلة.
ومررنا على مونبلييه وشامبيري في فرنسا، وعرفتُ أن الفتاتَين تُجيدان التحدث بالفرنسية، وكنتُ موزَّعًا بين رفقتهما مع الحرمان من حريتي في الزيارات الحرة، وبين انطلاقي وحدي لأرى ما أحب رؤيته، بإيقاعي الخاص، الذي لا يتفق مع اصطحاب آخرين وخاصةً من الفتيات. وأعجبَتني مونبلييه، واعتزمتُ أن أزورها ثانيةً وحدي للتعرُّف على الجامعة التي درَس فيها طه حسين.
وحين دلَفنا إلى سويسرا لفتَت نظري الخضرة الشاسعة على الجانبَين، واختلاف الطبيعة عن المَشاهد التي رأيناها في حقول فرنسا؛ حيث تغلب فيها حقول القمح الصفراء. وأخذَت «كونصويلو» — جارتي في الأوتوكار — تشرح لي خصائصَ سويسرا وشعبها؛ فقد زارتها من قبلُ. وتجوَّلتُ في جنيف وحدي، وشاهدتُ كيف تنام المدينة في الثامنة مساءً، ودخلتُ «السكس شوب» ورأيتُ فيه ما لا يُرى في إسبانيا، كما شاهدتُ أحد أفلام البورنو، ولاحظتُ أنها من النوع «السوفت»؛ أي الذي لا يعرض الجنس الكامل، وقد جاء ذلك تدريجيًّا إلى الغرب. وأعجبَتني زيوريخ أكثر من جنيف رغم لغتها الألمانية؛ فالحياة فيها أكثر تنوعًا، وقد زرتُ هناك قبر جيمس جويس بعد بحثٍ شاق عن مقبرته. ومرَرنا على إمارة لختنشتاين، في طريقنا إلى إنسبروك بالنمسا، وهي تُشتهَر بألعاب الجليد، ومحاطةٌ بالجبال.
وكيما يذهب الأوتوكار من إنسبروك إلى سالزبورج — وكلتاهما في النمسا — لا بد أن يعبُر أراضيَ ألمانيةً تابعة لميونخ. وللأسف لم يذكُروا لنا ذلك من قبلُ، فلم أحصُل على فيزا دخول ألمانيا، وكان موقفًا محرجًا بالنسبة لي؛ فالإسبان غير مطالبين بفيزا حين يمُرون بألمانيا، ولكن كانت هناك عربةٌ مخصوصة تحمل من ليس لديهم فيزات من إنسبروك إلى سالزبورج دون توقُّف. وكان معنا سيدةٌ جنسيتُها كوبية نزلَت لركوب تلك العربة، وصَعِد موظَّف الحدود إلى باصنا، وقال: الباقي كلهم أوروبيون؟ فقال المشرف المرافق لنا: نعم. وغمَز لي بعينه! وانطلق الأوتوكار بنا إلى ألمانيا وأنا فيه دون أن يكون مسموحًا لي بذلك.
ومكثنا يومَين في سالزبورج نستمتع بالموسيقى وبمتحف موزار وبالقلعة التي هناك وتُشرِف على المدينة كلها، ثم انطلق الباص بنا إلى العاصمة الخالدة فيِنَّا. وفي الطريق، مرَرنا على أجمل المَشاهد الطبيعية قاطبة؛ جبال التيرول وأشجارها الفخيمة التي سحَرَت أبصارنا وعقولنا، وكانت أشبه بالأحلام. وبعدها بدأنا نطرُق أبواب فيِنَّا، كما كانت تطرُقها الدولة العثمانية قبل قرون. وراعني جمال المدينة ونظافتها الفائقة. وزرتُ الأماكن المُدرَجة مع رفاق الرحلة، ومنها عرضٌ موسيقي لألحان شتراوس وراقصات للفالس يَدْعون من يرغب في الرقص لدقائق، تبدَّت لي وقتَها أسمهان وهي تغَني ليالي الأنس في فيِنَّا؛ وزيارة لكاتدرائية سان اسطفان، والعجَلة الدوَّارة التي أصابَتني بدُوار الأماكن المرتفعة حين بلغَت القمة، ثم قمنا بزيارتَين مشهودتَين في ضواحي فيِنَّا؛ الأولى لقصر «مايرلنج» التاريخي، الذي شهد واقعة انتحار الأمير رودلف وماريا فتسيرا، والتي أبدَع في تمثيلها عمر الشريف في الفيلم المأخوذ عن هذه الواقعة، وقد وجدتُ في تلك البلدة مكتبةً بها كتبٌ إنجليزية ابتعتُ منها رواية سالنجر «الحارس في الحقول». وزرنا ليلةً أخرى ضاحية «جرينزنج» المشهورة بنبيذها، وقضَينا وقتًا في إحدى حاناتها المشهورة؛ حيث النادلات فيها يرتدين الثياب النمساوية التقليدية، وتبرُز منها صُدورُهن الناهدة التي تبدو كالضياء وهن يرُحن ويجئن بالمشروبات، مما جعل أحد الرفاق البرتغاليين يغمز لي بعينه حين انحنَت إحدى هاته الحوريات لتصُب لنا الشراب فيتبدَّى لنا نهداها النافران. وما كان يجرؤ على الإفصاح بأكثر من تلك الغمزة؛ إذ كانت زوجته تجلس إلى جواره!
وباستثناء هذه الزيارات، انطلقتُ وحدي أرى ما أريد رؤيته في هذه المدينة الفريدة. زرتُ دار الأوبرا المشهورة زيارةً مشروحة طفنا فيها بكل أنحائها، ثم حجزتُ فيها لمشاهدة أوبرا «الأرملة الطروب»، وهي الوحيدة التي وجدتُ فيها أماكنَ غير محجوزة، وكان عرضُها جميلًا يأخذ بالألباب. وحضَرتُ عرضًا مسرحيًّا باللغة الإنجليزية في أحد المقاهي المخصَّصة لذلك، وكان نصًّا خاصًّا لم أعرِفه من قبلُ، ولكن التجربة كانت جديدةً ومفيدة.
ولم أغفُل عن مطالب الحس؛ ففي الأمسيات المتأخرة كنتُ أعبُر الشارع الرئيسي في فيِنَّا؛ ماريا هفلر، فأرى فاتناتٍ حسانًا ينتظرن مَن يصطحبُهن من الزبائن. وورغبتُ في ذلك لولا عدم معرفتي باللغة، مما قد يؤدي إلى عدم التفاهُم والخداع. وقد حدَث أن دخلتُ من قبلُ محلًّا للأكل ذاتي الخدمة، وتناولت صينية، وعند أول أصناف الأكل كلَّمَتني إحدى النادلات بالألمانية، فأجبتُ بالإنجليزية، ولكن لم يكن التفاهُم ممكنًا، فأعدتُ الصينية إلى مكانها وخرَجْت؛ ولذلك عدَلتُ عن هذه المتعة الجمالية والحسية المتاحة، ولكن منظر أولئك الحوريات النمساويات لا يمكن أن تمحُوَه الذاكرة!
ومن النمسا عبَرنا إلى إيطاليا، متوقفين عند مدن «أودين» و«فينيسيا» و«ميلانو» و«جنوة». وكانت فينيسيا حُلمًا تحقَّق، بركوب الجندول والتغَني وأنا فيه بأغنية عبد الوهاب وقصائد علي محمود طه. وتمثَّلتُ أخيرًا كيف تكون المدينة يحوطها الماء ويتخلل ثناياها، وتعمل القوارب والفابورتو مكان العربات وسيارات الأجرة. وسَهِرنا في ميدان سان ماركوس على أنغام البيانو الساحرة، وزُرنا قصور الحكام، وجسر التنهُّدات الذي لا علاقة له بتنهُّدات الحب، بل تنهُّدات الحسرة لدى عبور الجسر لدخول السجن. وفي ميلانو زُرنا الكاتدرائية ومسرح سكالا الذي تُعرض فيه أشهر الأوبرات.
ومن إيطاليا اتجهنا مرةً أخرى إلى فرنسا، إلى منطقة الريفييرا هذه المرة، في نيس و«كان»؛ حيث الحسان على الشواطئ يختَلن شبه عاريات. ولاحظتُ النظافة الشديدة في كان، وشاهدتُ مبنى المهرجان السينمائي الشهير هناك. وفي إمارة موناكو استمتَعنا بالهدوء الجمالي، ودخلنا الكازينو الشهير؛ حيث لعبنا كرمزٍ لزيارتنا تلك الإمارة الصغيرة. وعُدنا إلى أفينيون وزُرنا مقر البابوات. وكانت المدينة عامرةً بالمهرجان المسرحي السنوي الذي يُقام بها، فشاهدتُ بعض العروض الشبابية التجريبية. وكان الشباب ينامون في الحدائق والأركان، كلٌّ في أحضان صاحبته أو صاحبه.
وكانت الرحلة قد وصلَت إلى منتهاها، وبلغ بنا الإرهاق مبلغه، وازدحم القلب والعقل بما شاهدنا؛ ولذلك فحين بلغنا برشلونة في طريق العودة، سَعِدنا بالحديث بالإسبانية ثانية، وبالطعام الإسباني، وكل ما تعوَّدنا عليه. وكانت خاتمة المطاف في مدريد؛ حيث تبادلتُ مع كونصويلو أرقام التليفون، وتواعدنا على اللقاء.
ولكن أفكاري كانت مع آن ماري. وزادها ذلك أن وجدتُ في انتظاري بالمعهد خطابًا منها به بطاقةٌ تتمنَّى لي فيها صيفًا سعيدًا. وعليه فقد اتصلتُ بها تليفونيًّا، وتحادثنا، وعرفتُ أنها قد عادت لتوِّها من فرنسا، فقلتُ لها أن تتصل بي حالما تستقر من الرحلة كيما نتقابل. وبعد أسبوعَين من الانتظار، اتصلَت بي، وتواعدنا على اللقاء عصر السبت لمشاهدة أحد الأفلام. وهكذا بدأَت علاقتي بآن ماري؛ زوجتي.
وران على أفكاري منذ ذلك الحين قربُ انتهاء انتدابي؛ فهو ينتهي في أغسطس ٧٣. كان عليَّ أن أشتريَ كل ما يجب أن أعود به إلى مصر، كما يفعل الجميع، ولكني لم أنسَقْ وراء الأحلام البرجوازية الضيقة؛ فمثلًا لم أكن أفكِّر في اصطحاب سيارة، وهي حُلم كل مصري بالخارج، ولكني أريد العودة بالجرامافون الستيريو، والمُسجِّل السوني، وكل ما أريد من الأسطوانات. كذلك لا بد من تكملة الكتب التي أريدها، ما تبقَّى من دواوين نيرودا، وكُتب تاريخ الأدب الإسباني، والكتب التي تعرض كُتَّابًا بعينهم مثل خيمينيث، ولكن ذلك لن يمنع أن أعود بأدواتٍ منزليةٍ مطلوبة، مثل ثلاجة وبوتاجاز وغسَّالة وسخَّان، وهو ما قمتُ بشرائه في الأشهر التالية.
وقابلت آن ماري «في الساعة الخامسة في كاياو»، وهي العبارة التي أصبحَت عادةً بيننا على موعد اللقاءات (وكاياو هو اسم ميدانٍ صغيرٍ متفرع من خوسيه أنطونيو). وكنتُ أرغب في إبهارها، فذهبنا أولًا لشراء عدسةٍ مكبِّرة لكاميرتي، ثم عرَضتُ عليها أن نرى فيلم «الموت في فينيسيا» فوافقَت. وكان اختيارًا موفقًا؛ فالفيلم رائع، مأخوذ من رواية توماس مان المعروفة، بتمثيلٍ رائع وموسيقى مبدعة من السيمفونية الخامسة للموسيقار النمسوي جوستاف مالر. وخرجنا نتناقش في الفيلم، واصطحبتُها إلى موريسون حيث تناولنا الفطائر بالعسل التي أعجبَتها جدًّا. وحين خرجنا كانت الساعة قد جاوزَت الحادية عشرة، فقرَّرتُ مرافقتها حتى باب منزلها. وهناك قبَّلتُها قبلةً سريعة ومشيتُ على موعد للقاء السبت التالي.
وهكذا تطوَّرَت علاقتي بآن ماري إلى أن أصبحنا نُمضي عطلة السبت والأحد معًا. وأصبحَت هي تُعرِب عن قلقها من اقتراب عودتي إلى مصر، ولكني كنتُ أضحك وأنصحُها بنسيان ذلك، ولكن مع مُضي الوقت بدأتُ أنا أيضًا أشعُر بالقلق، وأدركتُ مغزى ما فعلَته خوليا بالابتعاد قبل أن أرحل عن إسبانيا، ولكن الحياة تسير، وقضَينا الشهور المتبقية في أسعد حالٍ ما بين المتاحف والأفلام والشعر والفن والكتب. كما أننا زرنا مدينة شلمنقة سويًّا. وفي أعياد الميلاد والملوك أهدَتني صندوقًا جميلًا لحفظ الأسطوانات.
ومضت الأيام ما بين العمل واللهو، وعاد إلى تفكيري أنني لم أكتب شيئًا طَوال فترة إقامتي في إسبانيا، ولكني عزَّيتُ نفسي بأني أستجمع قواي وأخزن تجاربي حتى أعود فأعاوِد الكتابة والنشر من جديد. وفي يونيو جاء ما يفيد إنهاء ندبي، وعودتي في أغسطس. وأرسل مدير المعهد يطلب مد فترة انتدابي عامًا آخر. وبعد فترةٍ جاء ما يفيد الموافقة على المد لفترة ثلاثة أشهر. وقرَّرتُ قضاء تلك الأشهر بتركيزٍ شديد والاستعداد للعودة. وكانت المشكلة في آن ماري؛ فقد نمَت العلاقة بيننا، وأصبحنا لا نستغني عن بعض. وكانت فكرة ذهابها معي إلى مصر مستحيلة، وشرحتُ لها ذلك، كما أن بقائي في إسبانيا بعد انتهاء الندب غير عملي؛ إذ كان هناك الكثير من العرب لا يجدون عملًا فيها، ويعيشون إما عالةً على زوجاتهن أو في بؤسٍ مادي.
وانتهزتُ فترة المد، وسفَر آن ماري إلى أهلها في فرنسا، وحجزتُ في رحلةٍ إلى لندن؛ فلم يكن من المعقول أن أعود إلى مصر دون زيارة إنجلترا، خاصةً أن محمد عناني كان ما يزال هناك. وعليه، ففي أغسطس ركبنا الطائرة الشارتر «سبانتاكس» التي هبطَت بنا في مطار هيثرو. وأخذنا «باص» إلى وسط البلد. وبدا الطريق ساحرًا، ورأيتُ الريف الإنجليزي في روعته كأنما هو لوحةٌ من لوحات الرسامين الرومانسيين، أو مجسمات الحكايات الخيالية. وحين دخلنا إلى أطراف العاصمة، تغيَّرت الصورة إلى ما هو معهود في المدن الضخمة، مع المزيد من عدم الترتيب والنظافة. ومرَرنا على مبنى البرلمان وساعة بج بن وكاتدرائية القديس بول، فهالَتني المَسْحة السوداء التي تغَطي هذه المباني الجميلة التشكيل.
وحين وصلنا إلى الفندق الذي اختاروه لنا وجدتُه على النظام الفكتوري الجميل، ووجدتُ غرفتي صغيرة وإنما أنيقة. وحين فتحتُ الراديو العام الذي بالغرفة، تعجَّبتُ من طريقة الكلام وإذاعة الأخبار؛ فقد كانت مختلفةً عما تعودتُ سماعه في مدريد، ومنها الإعلان عن درجات الحرارة؛ فهم يذكرونها بالفهرنهايت، بعكس إسبانيا التي تعتمد السنتيجراد. ولسوف أرى بعد ذلك الكثير من الاختلافات بين البلدَين، هي في الواقع الاختلاف بين الأنجلو سكسون واللاتين. وقد اتضحَت لي تلك النظرة أكثر حين عشتُ في نيويورك بعد ذلك.
وخرجتُ من فوري أستكشف تلك المدينة التي سيطَرَت في زمنٍ على نصف العالم. وكما حدث عند رؤيتي مدريد لأول مرة، لم أعثُر مما رأيتُ من مبانٍ وأناسٍ على أي تميُّز، وطبعًا كان التميز في التخطيط والإدارة، وقبل كل شيء العَسْف والجَوْر والاستعلاء على باقي الأمم. وكان معي كالعادة خريطةٌ مفصَّلة للندن مكَّنَتني من التحرُّك بسرعة وحرية، فوقفتُ في وسط «بيكاديللي سيركس» متفكرًا في أحلام الصبا حين كنا نتخيل زيارتنا لهذا الميدان وغيره من معالم أوروبا البارزة. وطبعًا، كتذكار للزيارة، أطعمتُ الحمام المتجمِّع في الميدان بحبوبٍ اشتريتُها لذلك الغرض. وزرتُ المحلات المجاورة للميدان، ورأيتُ محلًّا للجنس فدخلتُ أتفرج، وتعجَّبتُ من أن الباعة كلهن من الفتيات، يشرحن للزبائن ما يريدون الاستفسار عنه دون حرجٍ أو حياء، وكان معظم الزبائن من الإسبان والعرب. ودخلتُ مطعمًا هنديًّا لتناول العشاء، وكانت طريقة الطلب والحساب والدفع مختلفة، مما تسبَّب في بعض المواقف الطريفة.
وفي اليوم التالي كان إفطار الفندق شهيًّا وفيرًا، فيه الأصناف الإنجليزية كالبيض، والكونتننتال؛ أي مما يُستخدم في باقي أوروبا. وخرجتُ عازمًا الاتصال بمحمد عناني في مدينة «ريدنج» حيث يقيم حتى ألقاه وأراه بعد كل هذه السنوات. وتجوَّلتُ سائرًا في الطرقات، وتعجَّبتُ من أكياس القمامة السوداء الملقاة على الأرصفة أمام البيوت والمحلات في انتظار عربات القمامة، وهو ما لم أرَه أبدًا في إسبانيا. وبدأتُ بمشاهدة الآثار السياحية الهامة، مثل برج لندن، وجواهر الملكة، وتغيير الحرس أمام قصر بكنجهام، ثم توجَّهتُ إلى كشكٍ تليفوني من تلك الأكشاك الحمراء الجميلة، وقرأتُ طريقة الاتصال، وطلبتُ نمرة محمد عناني، وسرعان ما جاءني صوته المألوف الضاحك مستغربًا من وجودي في لندن، وأعطاني موعدًا في المساء ليلقاني أمام أحد المحلات الشهيرة. وإلى أن يحين موعد اللقاء، زرتُ شارع بيكر موطن شرلوك هولمز، ثم متحف الشمع الشهير. وتجوَّلتُ في منتَزه هايد بارك الشهير حيث الخضرة والماء والوجوه والأجساد الحسنة.
وقد حجَزتُ في الرحلة زيارتَين مهمتَين؛ الأولى لبلدة شكسبير ستراتفورد أبون إيفون، والثانية إلى جامعة أكسفورد. وكانت الزيارة الشكسبيرية وليمةً دسمة، طافت بنا في الأماكن التي عاش فيها الشاعر العظيم، واستعَدتُ في أثنائها ما درَستُه وقرأتُه له، واشتريتُ من هناك نسخةً جديدة من مسرحية هملت تذكارًا لهذه الزيارة. أما رحلة أكسفورد فقد أفادتني في التعرُّف على أجواء جامعتها العريقة التي درَس بها الكثير من المصريين، وحكى عنها الدكتور لويس عوض في كتابه «مذكِّرات طالب بعثة»، كما أعجِبتُ جدًّا بالمدينة؛ فقد كانت نظيفةً أنيقة تُناسِب الجو العلمي الذي يرتبط باسمها.
وقضَيتُ يومًا جميلًا في بلدة ريدنج بمنزل محمد عناني. كان يقطن منزلًا صغيرًا من دَورَين تابعًا للجامعة، ورأيتُ الكتب في كل مكان، وإن كان أيضًا طباخًا ماهرًا، أمسك بالمغرَفة يُحرِّك بها ما في الآنية الضخمة على الموقد، وطبخ لنا أكلةً مصريةً شهية. وتكلمنا في كل شيء، وعن الآمال والأحلام بعد العودة إلى مصر؛ فقد كان يخطِّط لغزوٍ ثقافي يجدِّد الحياة الأدبية في مصر، ولديه أفكارٌ عديدة لمسرحيات ومُترجَمات؛ فقد كان يرى أن الكثير من الكلاسيات الإنجليزية لم تُترجَم بعدُ إلى العربية، وأهمها «الفردوس المفقود» لجون ملتون. كما أنه لم يكن راضيًا عن ترجمات شكسبير العربية، ويرغب في ترجمة روائعه الدرامية ترجمةً لائقة. وجعلَتني هذه الأحاديث أتوق للعمل الأدبي، وإلى أن ألقاه مجدَّدًا في القاهرة بعد حصوله على الدكتوراه.
وقد غطَّيتُ في أثناء الزيارة التردُّد على المتاحف المهمة في لندن، فقضَيتُ يومًا كاملًا في المتحف البريطاني، وقضَيتُ وقتًا أمام حجر رشيد المعروض قائمًا وراء صندوقٍ زجاجي، وأخذتُ له عدة صور، قُدر لإحداها أن تُنشَر في الهلال مع مقالٍ لي عن حجَر رشيد. والمتحف يغُص بالآثار المصرية المتعدِّدة، خاصة توابيت المومياوات الفرعونية الزاهية الألوان. وفي «تيت جاليري» تعرَّفتُ على لوحات كبار الرسَّامين الإنجليز الذين لم أكن أليفًا بهم، مثل كونستابل وهوبر، وأعجبَني حُسن التنسيق فيها.
وفي رحلة العودة إلى مدريد، اقتربتُ من حافة الموت للمرة الثانية (الأولى في شبين الكوم، والثالثة ستكون في القاهرة عام ٢٠٠٣م) حين فاجأَت طائرتَنا عاصفةٌ رعدية تلاعبَت بها وجعلَت عددًا من المسافرين يصرخون هلعًا بينما المضيفات يُهرَعن بأنابيب الأوكسجين للبعض، بينما أنا أتلو آيات القرآن الكريم والشهادتَين. وكانت شركة سبانتاكس مشهورةً بكثرة حوادثها وبأنها توظِّف طيَّارين مبتدئين (وقد وقع أخطر حوادثها في أوائل الثمانينيات، وراحت فيه ضحايا كثيرة) وظلَّت الطائرة تتأرجح، والبعض يقول إنها ستهبط في مطارٍ آخر، حتى أخذَت في الهبوط بالفعل، واكتشفنا أننا في مطار مدريد. وحَمِدتُ الله على السلامة، وعزَمتُ على استخدام الباخرة في رحلاتي كلما تيسَّر ذلك.
وركَّزتُ جهدي في الأشهر الثلاثة الباقية — على المستوى الشخصي — في الاستزادة من الكتب التي أرى أنها ستفيدني في مصر، والأسطوانات والمواد الفنية الأخرى التي لن أجدها هناك. كذلك أمضيتُ وقتًا أكبر مع آن ماري، أختزنُ فيه ما أجترُّه بعيدًا عنها بعد ذلك. كنتُ أشعُر أن علاقتنا ستنتهي بمغادرتي مدريد؛ فسفري بعد ذلك أمرٌ صعب، وحضورها إلى مصر أصعب. وكانت هي ترفُض ذلك المنطق، بوجهة نظرها المتفائلة الشبابية، وعدم إدراكها ظروفَ الحياة في مصر. وهكذا تركتُ هذا الأمر للأقدار. وتحدَّد أوائل نوفمبر لشحن منقولاتي إلى مصر، وأعدَدتُ قوائمَ بها لاعتمادها من السفارة للحصول على الإعفاء الجمركي المقرَّر للعاملين في الخارج.
وفي يوم ٦ أكتوبر، وكان يوم سبت، خرجتُ بعد الظهيرة بقليلٍ للقاء آن ماري في الخامسة في «كاياو» كالعادة. وحين حضَرَت قالت لي إنها سمعَت في الراديو قبل حضورها أن حربًا نشبَت بين مصر وإسرائيل. ولم أصدِّق، وحسِبتُها مجرَّد مناوشات كالتي تحدُث بين الجنود في الجبهة، من التي كان يحدِّثنا بها أحمد نوار. وأسرعتُ بشراء جريدةٍ مسائية وإذا بها تحفِل بأنباء معاركَ ضاريةٍ ناشبة في جبهة قناة السويس. واشتَد وجيب قلبي؛ فقد كانت الأخبار المتواترة قبل ذلك لا تُنبئ بحُسن استعداد مصر لخوض حربٍ قريبة. وذهبتُ إلى أقرب تليفونٍ عام، واتصلتُ بالمستشار الثقافي مدير المعهد، الذي أكَّد لي نشوب الحرب بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهةٍ أخرى، وأنه قد اتصل بالسفارة لمعرفة المزيد من التفاصيل.
وتتابعَت الأنباء، وسَعِدنا بعبور قواتنا إلى الضفة الشرقية وتدميرها لخط بارليف، الذي أثبت ضعفه أمام تخطيط مهندسينا وجنودنا. وكنا نتلهَّف على سماع انتصاراتنا وتحريرنا لسيناء كلها، حين عَلِمنا بنبأ الثغرة، ثم قرار وقف إطلاق النار، ومفاوضات على أرض المعركة. وكان المعهد ميدانًا لكثيرٍ من المناقشات والمتابعات بين الطلاب المصريين، الذين توافَدوا عليه للتعبير عن سعادتهم بتحرُّك الجيش المصري، ونجاحه في عبور القناة.
وفي أوائل نوفمبر جاء مندوبو شركة الشحن، وعملوا طوال اليوم في تغليف حاجياتي ومنقولاتي، وكان معظمها من الكتب والمجلات. ولمَّا كنتُ مستأجرًا شقةً مفروشة، واصلتُ الإقامة فيها إلى يوم سفري. ونظرًا لقيام الحرب وما تَبِعها من مناوشات، لم تستقرَّ حركة الطيران المدني ولا البواخر المتجهة إلى تلك المنطقة سريعًا؛ ولذلك تلقَّينا قرارًا وزاريًّا بمد ندبي شهرًا آخر ينتهي في ديسمبر ٧٣. وصدر كذلك قرار بإنهاء ندب مدير المعهد، الدكتور العبادي، بعد تغيير الوزارة. وتولَّى وزارةَ التعليم العالي وزيرٌ جديد قصَر المدة الكلية لإعارة أساتذة الجامعات إلى الخارج على عشر سنوات، وكان ذلك ينطبق على مدير المعهد، الذي سبق أن قضى عدة سنواتٍ في المغرب.
وبالطبع، كانت فترتي الأخيرة في مدريد يُغلِّفها الأسى لفراق آن ماري وتلك المدينة التي أحببتُها، وذلك الشعب الذي عشتُ بينه وعشقتُ لغته وثقافته. وأخذتُ أتطلع إلى كل ما أمُر به كيما أحتفظ به في وعيي لأستعيده في مصر، وتواعدت مع آن ماري على التواصل عن طريق الخطابات، ولكني شجَّعتُها على السفر إلى فرنسا لزيارة أسرتها قبل موعد سفري أنا إلى القاهرة. ومع ذلك كان يوم سفرها أليمًا لنا نحن الاثنَين، بينما الدنيا من حولنا تحتفل بالكريسماس والعام الجديد.