أب ومحرر
ومع مولد شريف في ٧ يوليو ١٩٨١م، وإجراءات الامتحانات لشغل وظائف الوحدة الجديدة للتحرير العربي، تمكَّنتُ برغم ذلك من كتابة مقدمةٍ مناسبة لمسرحية لوركا «الآنسة روزيتا العانس»، وأرسلتها للسلسلة التي تصدُر في الكويت. وأتاح لي فراغي النسبي في المساء مداعبةَ شريف والقراءة والكتابة على نحوٍ مستمر. وبمناسبة مولد شريف، اشتريتُ كاميرا فيديو سوني ومسجِّل فيديو «بيتا» لسوني أيضًا، مفضِّلًا البيتا على «في إتش إس» المنافس له. والتقطتُ الكثير من الصور لشريف في أثناء أطوار نُمُوه المختلفة. وكانت آن قد حصلَت على إجازة سنة من المدرسة، فكان ذلك مناسبًا لعنايتها بالطفل، وتركنا ما بعد تلك السنة للظروف.
وتوثَّقَت علاقتي بخميس نظرًا لكوننا نعمل معًا وحدنا، وكان يُسهِّل لي الكثير من الإجراءات. وإن أنسَ لا أنسى يوم ٦ أكتوبر من ذلك العام، حين عرفنا في المكتب أن إطلاق رصاصٍ وقع في أثناء العرض العسكري الذي شهده الرئيس أنور السادات، ولكنه لم يُصَب بسوء. وتتابعَت الأنباء؛ إذ كان هناك فرقٌ في التوقيت بين القاهرة ونيويورك يبلغ سبع ساعات؛ فحين تكون الساعة الثامنة مساء في القاهرة، تكون الواحدة بعد الظهر في نيويورك من اليوم ذاته. ومع التعتيم في الأنباء، انتابنا القلق، وذهب خميس وأحضر تليفزيونًا صغيرًا أخذنا نُتابِع منه ما يحدث. وحين أعلن المذيع أن سفارة مصر في واشنطن قد أنزلَت العلم المصري إلى منتصف السارية؛ علامةَ الحِداد، عرفتُ أن حدثًا جللًا قد وقع. وبعد تعليقاتٍ وأنباءٍ متضاربة، وبعد الإعلان الرسمي من القاهرة، أُعلِن عن وفاة الرئيس أنور السادات، بعد إطلاق الرصاص الذي جرى في العرض العسكري للاحتفال بعيد النصر. وعند الإعلان عن هذا النبأ الأليم، انفجَر خميس في بكاءٍ حار، بينما عقَد الحزن لساني واعتصَر الألم قلبي على بلدي وما يحدث فيها.
وطبعًا تتابعَت الأحداث على النحو الذي يعرفه الجميع، وتابعناها في الصحف المصرية التي كانت تصل إلينا. وقرأتُ عن الصدامات مع رجال الشرطة، وشعَرتُ بالقلق على أخي الأكبر، ثم حدَث ما غمَرني بالقلق والسرور في الوقت نفسه؛ إذ طلبوا مني الذهاب إلى جنيف والقاهرة لإجراء الاختبار الشفوي للناجحين في امتحان المحرِّرين العرب. وكان الوقت ضيقًا، ولكن الإدارة أنجزَت الأوراق المطلوبة للسفَر، وحجَزتُ إلى جنيف فالقاهرة، ثم القاهرة إلى مدريد فنيويورك. وقد وجدتُها فرصةً للتعرُّف مباشرةً على الأحوال في مصر، والاطمئنان على أسرتي القاهرية.
ووجدتُ جنيف غير ما وجدتُها عام ۷٢، ربما بسبب الجو الشتائي، فقضيتُ وقتًا في الفندق المريح أقرأ وأشاهد التليفزيون. وفي اليوم المحدَّد توجَّهَت إلى قصر الأمم، ووجدتُ صعوبةً في العثور على قسم التحرير هناك. واشتركتُ في الاختبارات الشفوية، وكان معنا الأستاذ نزيه الحكيم، وكنتُ أودُّ محادثَتَه ونقل إعجابي بكتاباته وترجماته، ولكنه بدا صموتًا قصيًّا فلم أتمكَّن من ذلك. واشتريتُ عددًا من الهدايا السويسرية — كساعات الكوكو والشوكولاتة — للأهل في القاهرة. وهناك استقبلَني أخواي وسهَّلا لي إجراءات الخروج، وكانت أول مرة منذ زواجي أزور القاهرة وحدي. وقد وجدتُ كل شيء هادئًا، وعرفتُ أن البعيد عن مسرح الأحداث غالبًا ما يتصوَّر مبالغاتٍ لا تكون حقيقيةً في الواقع. وقد استفدتُ من الزيارة التي دامت ما يقرُب من أسبوع التعرُّف على مشاعر الناس، وقالت لي والدتي إنها بكت كثيرًا لمصرع السادات، ووجدتُ الجميع ينتظرون المستقبل القريب بآمال ووعود. وبالطبع، زُرتُ معظم المكتبات وابتعتُ الكثير من كتب اللغة والنحو، بالإضافة إلى مجموعةٍ كاملة أخرى مما صدَر حتى وقته من ترجمة «قصة الحضارة» لويل ديورانت.
وبالطبع، أجريتُ الاختبار الشفوي في مقَر الأمم المتحدة بالقاهرة بالاشتراك مع الممثِّل المقيم، وكان مصريًّا أردني الجنسية، واستقبلوني بحفاوةٍ شديدة. وبعد انتهاء الاختبارات، أشرفتُ على إعداد الأوراق وإرسالها إلى نيويورك. وقد دعاني ممثل المنظمة إلى الغَداء في وسط البلد، ورأيتُ عربته التي يُرفرِف عليها علم الأمم المتحدة. وكان شخصًا كريمًا رأيتُه يعطي النقود لكل من يصادفه من طالبي الإحسان.
وفي طريق العودة إلى نيويورك، توقفتُ لعدة أيامٍ في مدريد؛ حيث زرتُ مجددًا أماكن ذكرياتي فيها، وتعرَّفتُ على التغيُّرات التي تطرأ على تلك العاصمة الفريدة مع مرور السنوات، وتصبغُها بالصبغة الأمريكية الحديثة. وبالطبع زرتُ المعهد المصري الذي عملتُ فيه زُهاء خمس سنوات، ورحَّب بي مديره صلاح فضل، الذي عاصرتُه دارسًا للدكتوراه من قبلُ. ووجدت بالمعهد أيضًا شريف عمر، وظافر عبد الرءوف. وأقام مدير المعهد حفل عَشاءٍ دعاني إليه، وتعرَّفتُ مجددًا إلى زوجته الفاضلة وابنته التي شبَّت الآن عن الطوق، وكان بالحفل سفيرنا في مدريد وبعض أعضاء السفارة. وقد كان الجميع متلهِّفين على سماع أخبار مصر مني بوصفي قادمًا لتوِّي من هناك، فأجبتُهم أن الجميع في حالة ترقُّب وأمل.
ومع العودة إلى نيويورك، بدأَت حقبةٌ جديدة في حياتي، توزَّعَت بين أسرتي، وعملي، وكتاباتي وقراءاتي، ثم الرحلات التي قمنا بها في مصر وفرنسا، وهو ما سأحاوِل نقله في الفصول التالية.