العمل يسير
وعملتُ خلال الشهور والأعوام التالية على إكمال تشكيل الوحدة العربية في قسم التحرير، وبدأت عملها بثلاثة محرِّرين وأنا، مع مساعد تحرير وسكرتير. وسار العمل سلسًا، وكانت رئيسة القسم أمريكيةً فنانة وإن كانت عصبيةً بعض الشيء. وبعد عامٍ تلقَّيتُ الترقية الموعودة إلى ف-٤، وكانت سيدةٌ فرنسية قد خلفَت الأمريكية في رئاسة القسم، وبدأَت علاقتي بها بدايةً طيبة، وذكرتُ لها أن زوجتي من مقاطعة نورماندي مثلها. وكان القسم يتشكل من رئيسة بدرجة ف-٥، ورؤساء اللغات — رئيس لكل لغة من اللغات الرسمية الست — بدرجة ف-٤، ورؤساء الأفرقة — حسب موضوعات العمل كفريق القرارات وفريق مجلس الأمن وهكذا — بدرجة ف-٤. وهناك العديد من مساعدي التحرير والسكرتيرين.
وكان عملنا في التحرير يتلخَّص في مراجعة وتوثيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن أساسًا، بالإضافة إلى عددٍ آخر من الوثائق. وكنا نتبع في ذلك وثيقة أمًّا، محَرَّرةً بواسطة رئيس الفريق. وعادةً ما يكون رئيس الفريق محرِّر اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية؛ فقد كانت رئاسة الفرق مقتصرة على هذه اللغات التي يمكن للمحرِّرين متابعتُها. وسرعان ما وجدتُ هناك تفرقةً في المعاملة الوظيفية بين اللغات الثلاث — الإنجليزية والفرنسية والإسبانية — وبين اللغات الأخرى؛ الروسية، والعربية، ثم الصينية حين دخلَت القسم بعد ذلك. كانت اللغات «المحظوظة» تحظى بدرجتَين أو أكثر من الفئة الرابعة، بينما اللغات الأخرى ليس لها إلا درجةٌ واحدة مخصَّصة لرئيس الوحدة. ولم تكن هناك مشكلةٌ في البداية؛ لأن المحرِّرين العرب معي لم يكن لهم أقدميةٌ كافية للترقية إلى الدرجة الرابعة، ولكن بعد ذلك بدأتُ ألمِّح إلى عدم التساوي بين اللغات، وكان الرد الجاهز هو أن تلك الدرجة مرتبطة بتحضير الوثيقة الأم، وهذا التحضير لا يتم إلا في اللغات الثلاث الأولى. وكان ذلك صحيحًا، ولكن يترتب عليه ظلمٌ واضح. وحاولتُ مع زميلي الروسي التفكير في حلولٍ جديدة تضمن حقوق المحرِّرين.
معركة اللغة العربية
وبدأَت المشاكل المباشرة حين رفضَت رئيسة القسم ذهابي إلى القاهرة لإجراء الاختبار الشفوي للناجحين في التحرير لوظيفة المحرِّر العربي في الامتحان التالي الذي أعددتُه، ولم أعلم بذلك إلا في آخر لحظة. وأرسلتُ خطاب احتجاج على ذلك لإدارة الامتحانات وإلى رئيسة القسم. وبعد ذلك، اعترض خميس سكرتير الوحدة العربية على تقرير الأداء الذي وضعَته له رئيسة القسم دون استشارتي، وقدَّم طلبًا لإعادة النظر فيه، وساعدتُه بشهادتي، فكسب فيه، ورفعوا تقدير بعض البنود فيه. وهكذا ساءت العلاقة بيني وبين الرئيسة الفرنسية. وحين ذكرتُ لها في إحدى المناقشات بيننا أنني لُغوي، قالت: وأنا أيضًا، فقلتُ: ولكنك لا تعرفين اللغة العربية. وبعد شهور، التحقَت المديرة بفصول تعليم العربية بالأمم المتحدة! وبعد أن صفا الجو بيننا بعد زمن، كنتُ أساعدها في دروسها العربية.
وأمضينا سنواتٍ بين جذبٍ ومد إلى أن تفجَّر الموقف ثانيةً حين أرادت المديرة معاقبة محرِّرٍ لبناني في فريقي دون وجه حق — فقد كان عمله ممتازًا — وأرادت أن أساعدها في ذلك بوصفي رئيس الوحدة العربية. وكان ذلك المحرِّر نابهًا في عمله وإن كان يتحدث كثيرًا ويفخر بنفسه مما أثار حتى زملاءه العرب. وحاولتُ ملاينة المديرة إلى أن يذهب غضبُها، ورفضتُ أن أكتب أي شيءٍ ضد نوعية عمل المحرِّر اللبناني مخالفًا للحقيقة، فكان أن أثارت المديرة بعض المحرِّرين والمساعدين العرب ضدي. وتبادلنا مذكراتٍ قاسية، ومثُلنا أمام الرؤساء، بلا حل. وأصبح القسم حلبةً بيني ومعي عددٌ ضئيل من النفوس العادلة، وبين كثيرين من أفراد القسم الذين انحازوا إلى المديرة طمعًا في المزايا. وكان أن أغلقتُ بابي عليَّ أعمل في هدوء، وتجاهلتُ المظاهر العدوانية التي نلاقيها من الجبهة المضادة التي ازدادت هياجًا بعد أن اختير المحرِّر اللبناني رئيسًا لديوان المظالم لموظَّفي الأمم المتحدة!
ورغم ضيقي بالوضع العدواني بالقسم، عاملتُ الجميع على نحوٍ طبيعي، واستغلَلتُ الوقت الحر في القراءة التي أفادتني كثيرًا. وبدلًا من أن تستمر المديرة الفرنسية في مطالبها الحقَّة بتحويل القسم إلى إدارة، انهمكَت في النزاعات الصغيرة، يشجِّعها في ذلك حلقةٌ من المستفيدين، مما أضر بالعمل وبسمعة القسم كله وسمعتها الوظيفية، فلم تنجح في الحصول على درجةٍ أعلى كما كانت تأمُل، وجاء تاريخ خروجها إلى التقاعد، فغادرَت القسم في حالةٍ مزرية يؤسف لها. وحين جرى تعيين مديرٍ مؤقَّت للقسم أحدثَ مني، أقمتُ دعوى على الأمم المتحدة أمام المحكمة الإدارية الخاصة بموظَّفي الأمم المتحدة. ولم يكن دافعي لذلك أي غرض لأن أصبح مديرًا، ولا كنتُ أعتقد أن المحكمة ستكون في صفي — فهي تنفي على الدوام وجود أي تمييز في الأمم المتحدة — ولكني رغبتُ أن تتضمن أرشيفات المحكمة المذكرات والالتماسات التي قدَّمَتها المديرة السابقة ضدنا، والتي لم تَلقَ إلا الإهمال. ولقد حفظني الله من كيد هؤلاء الشانئين فلم تُصِبني مؤامراتهم بشيء رغم وجود كبار الموظَّفين معهم، من وكيل الأمين العام، إلى رئيس الشعبة، إلى ممثلة القسم في اتحاد الموظفين — التي كانت تدافع عن مزاعم مديرة القسم بدلًا من حقوق الموظَّفين. وقد نجحَت شكواي في اضطرارهم إلى تعيين مديرةٍ أقدمَ مني، فاعتبرتُ هذا مقبولًا.
ومضت المديرة الجديدة على نهج سابقتها في إهمال اللغات الثلاث، ولكنها كانت ودودةً معي. وكانت الضجة التي قمتُ بها قد أفلحَت في تخصيص درجةٍ رابعة أخرى للمحرِّرة العربية الأقدم — فكانت هي الوحيدة التي استفادت من تلك الأزمة — رغم أنها لم تساعد في مطالبتنا بحقوقنا. وركَّزتُ على عملي كمحرِّر، وتبقَّى لي من فائض الوقت الكثير للقراءة والكتابة. وكنتُ أتوجه بصفةٍ شبه يومية إلى المكتبات، وأعود محملًا بما أشتريه منها. كما كنت أتوجه لتأجير أشرطة أفلام الفيديو التي كنتُ أراها كثيرًا. وهكذا عشتُ حياةً فنيةً خالصة، وتركتُ النضال الوظيفي لفترة.
ثم حدث أن تقدَّمَت المديرة الجديدة — وهي أمريكية — بطلب للإحالة إلى المعاش المبكِّر، مما أخلى وظيفتها في رئاسة القسم، فتقدَّمنا لشغل الوظيفة. وكانوا قد وضعوا محرِّرةً أمريكية قائمًا بالأعمال، مما يعطيها ميزةً على المتقدمين، وكانت هي الفتاة التي تمثِّل القسم في رابطة الموظفين! وحدث أن عرضوا عليها بعد قليل وظيفةً بالدرجة الخامسة في مكتب الأمين العام للمنظمة، قدَّمَت إليها هي وإحدى المحرِّرات في إدارة مستر ترومان، مدير الإدارة. وقرَّرَت فتاة القسم قبول وظيفة مكتب الأمين العام، فقرَّر مستر ترومان تعييني قائمًا بأعمال رئيس القسم إلى حين عودة السيدة الإنجليزية من إجازةٍ طويلة. ودعت فتاة القسم إلى اجتماعٍ عامٍّ مهم أعلنَت فيه رحيلَها وأنني سأدير القسم. وكانت مفاجأةً كبرى للجميع، وجاءني بعض الذين حاربوني بالأمس يهنِّئونني، فقبلتُ تهنئتهم صادقًا، وعملتُ على إصلاح ذات البين بيني وبين الجميع بلا تفرقة.
وهكذا تمَّت كلمة الله العليا، وتحقَّق قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وهي سنة الله في خلقه ولكن لا يُلقَّاها إلا الصابرون. وقمتُ بإدارة القسم لمدة شهرَين، ساعدتُ فيهما قَدْر استطاعتي كل من له حاجةٌ إدارية، وشعَرتُ بتعاطُف الزملاء معي، حتى مَن كانوا ضدي في السابق. ولم أفكِّر قط في محاولة الاستيلاء على المنصب لنفسي، وحين وصلَت المحررة الإنجليزية رحَّبتُ بها، وقمتُ بتقديمها إلى أعضاء القسم بوصفها مديرتنا الجديدة. وعملتُ بعد ذلك بالقرب منها، فكانت لا تثق إلا بي؛ ورغم أنني طلبتُ منها أن يكون القائم بعمل المديرة في غيابها بالتناوب بين كل قُدامى المحرِّرين، فإنها رفضَت وقالت إنها ستعهد لي بذلك وحدي لثقتها التامة بي. وكنتُ أعرف أنها من سني تقريبًا؛ ولهذا فسنخرج على التقاعد معًا وأنْ لا فرصة لي في خلافتها للحصول على الترقية إلى الدرجة الخامسة، وعرفتُ أنها تخطِّط كي تخلُفَها رئيسة الوحدة الإنجليزية، وهي من جزر البهاما، وقديرة في عملها وشخصيتها.
وهكذا أمضيتُ سنوات العمل، منذ ١٩٩٦م، وحتى تقاعُدي في ۲۰۰۰م، في هدوء وانسجام مع الجميع. وكانت هذه هي الفترة التي تميَّزَت بالهدوء في العمل؛ ولذلك قرأتُ الكثير وكتبتُ الكثير بعد ساعات العمل بالمنزل. وقد مدَّدوا لي بعد سن الستين مدة ستة أشهر، أفدتُ منها؛ لأنها غطَّت منحة التعليم إلى آخر السنة الدراسية لشريف، الذي كان يدرُس علم النفس في جامعة سيراكيوز. وقد اعتذرتُ عن عدم إقامة الاحتفال الوداعي عند التقاعُد جريًا على عادتي في تجنُّب تلك الاحتفالات عند انتقالي من عملٍ لآخر، وكتبتُ رسالة على الإيميل لكل الزميلات والزملاء كان هذا نص ترجمتها العربية:
«أصدقائي الأعزاء …
بمناسبة تقاعدي من العمل هذا الأسبوع، أودُّ أن أعرِب لكل فردٍ من زملائي عن عميق شكري وامتناني للعلاقة الدفيئة والودية التي قامت بيننا. إني أشعُر بأنني محظوظ أن عرفتُكم وعملتُ معكم.
وبرغم أنني سأكون بعيدًا بجسدي عن قسم تحرير الوثائق الرسمية، فستكونون دائمًا في خاطري. ولا عجب؛ فهذا القسم هو المكان الذي عملتُ به أطول فترة من حياتي الوظيفية، التي بدأَت عام ١٩٦١م في القاهرة. وقد التحقتُ بالأمم المتحدة عام ١٩٧٨م، وانتقلتُ إلى القسم عام ١٩٨١م مُزمِعًا البقاء فيه سنةً أو سنتَين، فبقيتُ فيه عشرين عامًا!
لقد كانت الحياة كريمة معي؛ ذلك أنني عملتُ دومًا في الميادين التي أحبها؛ اللغات، الكتابة، الفن. وأنا إذ أتطلع إلى الماضي، أجدُني ممتنًّا أن حقَّقتُ قسمًا كبيرًا من أحلامي وأهدافي المبكرة.
إني أدعو لكل فردٍ منكم بأفضل الأمنيات؛ الصحة، العلاقات الأسرية القوية، العمل المثمر، وأن تتحقَّق معظم أحلامكم.
أشكركم مرةً أخرى على الكلمات الرقيقة الكريمة التي سطَّرتموها لي في نسخة كتاب «أوراق العُشب». لقد تحوَّلَت تلك النسخة بذلك إلى أثمن الكتب في مكتبتي.
إنكم تعرفونني منذ مدةٍ طويلة؛ لذلك فإني على ثقة أنكم ستتفهَّمون رغبتي الصادقة بأن أغادر العمل دون أي نوعٍ من الحفلات. إن هذا تقليدٌ مقدَّس اتبعتُه طَوال حياتي. وإني أترك رقم هاتفي وعنوان بريدي الإلكتروني حتى يكون بوسعنا أن نبقى على اتصال.
بهذا، أصدقائي الأعزاء، أستأذنكم في الرحيل.»
وقد تلقَّيتُ — كالعادة — خطاب شُكرٍ من الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، وكان كوفي عنان.
وقد أمضيتُ في قسم التحرير ما يربو على عشرين عامًا، من مارس ١٩٨١م إلى يونيو ٢٠٠١م. ولم تؤثِّر معركتي تلك في استمتاعي بالعمل على تأسيس فكرة تحرير الوثائق العربية، وهو أمرٌ غير موجود في دور النشر العربية؛ ذلك أننا نتلقى الوثائق بعد ترجمتها في دائرة الترجمة العربية — حيث عملتُ سنواتٍ ثلاثًا — فنطالعها بدقة، ونضيف إليها الحواشي المناسبة، ونصحِّح أي أخطاءٍ مطبعية أو هفواتٍ مضمونية جاءت من العمل تحت ضغط الوقت والسرعة. والواقع أن فريق العمل في دائرة الترجمة العربية يضُم متخصِّصين بارعين في اللغة العربية واللغات الأخرى، التحقوا بالدائرة بعد امتحاناتٍ عسيرةٍ صعبة من بين آلافٍ من المتقدِّمين. وهم يقومون بعملٍ رائع في مجال الترجمة إلى العربية، ويقدِّمون المصطلحات المناسبة لكل موضوعٍ مهما بلغ تعقيده؛ فهم يترجمون وثائقَ متعمِّقة في الاقتصاد والعلوم وشئون البيئة والقانون وعلوم البحار والمواد العسكرية، بمهارة وانتظام شَهِد بها العاملون الآخرون بالمنظمة، فليس من المبالغة القول إنهم يشكِّلون ما يشبه المجمع اللغوي العربي الموحَّد؛ حيث إن أفراده جاءوا من الأقطار العربية المختلفة، وهم يعتمدون لغةً واصطلاحاتٍ مناسبةً لتلك الأقطار كلها. ويا ليت المجامع العربية الموجودة تقيم صلةً لها بدائرة الترجمة العربية هذه؛ فلا شك أن التعاون معها سيكون له فوائدُ كثيرة لكل الأطراف.
وهكذا يبدأ عمل المحرِّر العربي بعد انتهاء عمل المترجم؛ فنحن نتناول الوثيقة ونُدخِل عليها التوضيحات والحواشي التي يُدخِلها رئيس الفريق الذي يستخدم لغته الأم؛ إنجليزية أو فرنسية أو إسبانية؛ ولذلك كلما كان المحرِّر العربي عارفًا بكل تلك اللغات كان ذلك أفضل. وذلك كان السبب وراء عدم إمكان إجراء تلك التعديلات باللغات العربية أو الروسية أو الصينية؛ حيث لا أحد من المحرِّرين من اللغات الأخرى يجيد تلك اللغات. ولمَّا كان ذلك ليس من أخطائنا، فقد طالبنا توفير درجة ف-٤ إضافية لكل لغةٍ من تلك اللغات، كما سبق بيانه. وقد نجحَت مطالبتي وأثمرَت في تخصيص درجةٍ أخرى للغة العربية، شغلَتها أقدم الزميلات في الوحدة العربية، بيد أن الدرجة ما لبثَت أن ألغِيَت بعد تقاعُد الزميلة!
وقد عاصرتُ مدة عملي في الأمم المتحدة أربعةَ أمناءَ عامِّين هم كورت فالدهايم، وبيريز دي كويار، وبطرس غالي، وكوفي عنان. وفي وسط معركتي من أجل اللغة العربية في قسم التحرير جرى انتخاب الدكتور بطرس غالي أمينًا عامًّا، مما بعث بقُشَعريرة في نفوس الكبار الذين لم يساندوني. وقد كتبتُ للدكتور غالي بالمشكلة، فأمر ببحث الموضوع الذي تاه بعد ذلك وسط البيروقراطية والروتين. ورغم ذلك، لم يمنع الأمر أن أشعُر مع وجود أمينٍ عامٍّ مصري بالسعادة، وأصبحتُ أشعُر كلما ذهبتُ إلى مبنى المقَر أنني أدخل «إلى بيت أبي». وأفادني العمل في وسطٍ يجمع أفرادًا من اللغات الست في التعرُّف على الثقافات والطباع المختلفة والوجود في مجتمعٍ دوليٍّ متعدِّد اللغات بالفعل.