قراءات وكتب
إني إذ أكتب هذه السطور الآن، أتأمل فيما حولي من الكتب التي جمعتُها على مدى ذلك العمر، والتي ضاق بها المنزل الذي نقيم فيه الآن. وقد نظم تراكُم الكتب تنقُّلاتي في أثناء حياتي في نيويورك؛ من استوديو صغير، إلى شقة من غرفةِ نومٍ واحدة، إلى شقة من ثلاث غرف نوم، إلى هذا البيت الخاص المكوَّن من ثلاثة طوابق. وقد ازدحم البيت بالكتب، ولكننا لا نستطيع الانتقال إلى أي منزلٍ آخر، بسبب النفقات وبسبب ما سيستلزمه نقل كل هذه الكتب إلى مكانٍ آخر. وهكذا أصبح البيت على اتساعه أشبه بغرفتي في شقة محمد شكري بالقاهرة حين ازدحمَت بالكتب. وأتطلَّع الآن إلى مجموعات العمر؛ نُسَخ متعدِّدة من القرآن الكريم، وترجماته، وتفاسيره، وكتب الأحاديث النبوية، والكتب الإسلامية الأخرى؛ ونسخ الكتاب المقدَّس وترجماته، ومجموعة نادرة عن تاريخ اليهودية والمسيحية والأديان المقارنة.
وأمُر بعيني على مجموعات أعمال الأدباء والفنانين الذين وقفتُ حياتي على دراستهم والاستمتاع بإبداعاتهم، وأشعُر حين أجدني محاطًا بأعمالهم أنني أجلس في صحبتهم، وأتحاوَر معهم على الدوام. وفي الأرفف، في مكان الكتب بالإنجليزية، هناك ركن جيمس جويس، ويضم كل كُتبه، وكل ما استطعتُ جمعَه من المؤلفات التي كُتبَت عنه، ومنها كتبٌ نادرة، بالإضافة إلى كثير من المتعلقات الأخرى عنه، من أسطواناتٍ مدمجة بها صوتُه يتلو من عوليس وفينجانز ويك، وصورته على العملة الأيرلندية في عهد ما قبل اليورو، وما إلى ذلك. ومن أجمل ما حصَلتُ عليه، صورةٌ رائعة لمارلين مونرو وفي يدها رواية عوليس تقرأ فيها. وقد ترجمتُ لجويس صورةَ الفنان في شبابه، وقصةً للأطفال، وأشعارَه، ونشرتُ مقالاتٍ نقدية عنه. وأمامي ترجماتُ عوليس بالعربية والفرنسية والإسبانية، وأنتظر صدور ترجمة فينجانز ويك التي انتهى منها الدكتور طه قُبيل وفاته، ولا أدري لماذا لم تصدُر حتى الآن.
ويتبع جويس على الأرفف — وفي قلبي — إرنست همنجواي؛ موضوع أول كتابٍ نشرتُه من ترجمتي، وكتاب لقصصه في روايات الهلال، والكثير من المقالات عنه، واشتركتُ في الندوة التي عقَدها المجلس الأعلى للثقافة عن همنجواي ببحث عن «همنجواي والسينما» قرأه نيابةً عني صديقي علي كمال. وبالمثل، جمعتُ كل كتبه والأفلام التي أخِذَت من رواياته، والتي أثَّرَت في تكويني السينمائي منذ رأيتُها في القاهرة. ومن الأشياء الهمنجوية التي أعتزُّ بها، عددٌ من مجلة «لايف» الأمريكية مخصَّص لروايته «العجوز والبحر» كاملة، فيما يُعد أول نشر لها.
ومن المؤلِّفين الذين يكتبون بالإنجليزية ممن اقتنيتُ كل كتابٍ عنهم والت ويتمان، عن أشعاره وحياته وكل ما يُمكِن قراءته لفهم شعره في ديوان أوراق العُشب، حتى إنني اشتريتُ ترجمةَ الديوان إلى الفرنسية والإسبانية.
ومن المجموعات الأخرى كتب فرانز كافكا، الذي عرفتُه مبكرًا في القاهرة، وقرأتُ له كل رواياته مترجمةً إلى الإنجليزية. وقد تأثَّرتُ بيومياته من ناحية كتابته لأحلامه، وكانت أول مرةٍ أرى كاتبًا يفعل ذلك، مما حداني إلى اقتفاء أثَره منذ بداية الستينيات. وقد أدركتُ بعد ذلك مدى الأثَر الذي تركَه كافكا في كثير من قصَّاصي العالم، حتى إن ماركيز ذكَر أنه قرَّر أن يصبح روائيًّا بعد أن قرأ رواية «المسخ» لكافكا. كذلك تركَت في نفسي الحياة التي عاشها كافكا أثرًا بالغًا، عن مرضه وضعف صحته، والوظائف المكتبية التي تولَّاها، وغرامياته وخطاباته إلى ميلينا وإلى أصدقائه، ثم وفاته في سنٍّ مبكرة. وكنتُ في ذلك الوقت أشعُر أنني لن أعيش طويلًا، مثلي في ذلك مثل الفنانين الرومانسيين!
وإضافةً إلى هؤلاء، هناك بالطبع أعمال شكسبير، وتي. إس. إليوت، والشعراء الرومانسيين الإنجليز، وروايات وأشعار دي إتش لورانس، وروايات جورج إليوت وتوماس هاردي وسكوت فيتزجيرالد وفوكنر وشتاينبك، وكُل من ظهَر بعدهم في مجالَي الشعر والرواية. وقد جمعتُ أيضًا أشهر الأعمال المترجَمة إلى الإنجليزية من اللغات الأخرى التي لا أعرفها، كالألمانية والروسية والإيطالية وغيرها، مثل أعمال تولستوي ودستويفسكي وتوماس مان وجيته وجونتر جراس ودانتي وريلكه وهايني وتشيكوف وبوشكين وميشيما وكواباتا، وغيرهم كثيرون.
ومن الموضوعات الأثيرة عندي والتي جمعتُ منها الكثير: السيرة الذاتية واليوميات والمذكِّرات والرسائل الخاصة، وكتُب السيرة التي يكتبها متخصِّصون عن الأعلام، في اللغات الأربع التي أقرأ بها؛ فمن الأيام لطه حسين، حتى قصة حياتي لعبد الرحمن بدوي، اقتنيتُ معظم من كتبوا سيرتهم الذاتية؛ لطفي السيد، أحمد أمين، محمد لطفي جمعة، زكي مبارك، عبد الله عنان، عبد الحميد متولي، يحيى الجمل، لويس عوض، محمد عناني، سهيل إدريس، محمد شكري. ويبرُز هنا كتابا زكي نجيب محمود؛ قصة نفس وقصة عقل؛ فهما سيرةٌ ذاتية من نوعٍ خاص في قالبٍ فلسفيٍّ قصصي نادر الوجود. ويكاد لا يُوجَد كتب عن حياة كتَّابنا وفنانينا؛ ذلك أننا لم نعتَد بعدُ على كشف أسرار الحيوات الخاصة للشخصيات العامة. وحتى ما يصدُر عن حياة السياسيين المعروفين، لا يتجاوز نشاطهم السياسي إلى حياتهم الشخصية. هذا برغم أن العرب هم من أوائل من كتبوا ترجمات الحياة منذ كتابة سيرة الرسول ﷺ، إلى كتب السيَر الأخرى مثل وفيات الأعيان وطبقات الأطباء وغيرهما، وغير ذلك. وهذه الندرة الحديثة في كتابة سيَر الحياة بتفاصيلها الكاملة هي عكس ما هو موجود في الدول الغربية؛ حيث أصبحَت الآن كتب السيرة هي أشهر الكتب وأكثرها رواجًا؛ ففي اللغة الإنجليزية يُمكِن للقارئ أن يجد كتبًا تفصِّل حياة أي شخصيةٍ معروفة في أي مجال، بدءًا من اليونان والرومان، فالعصور الوسطى، حتى عصرنا هذا؛ فمن أفلاطون وأرسطو وسوفوكليس إلى غرسيه ماركيز وبيل وهيلاري كلينتون، وكل ما بينهم من شخصياتٍ فنية وسياسية. وكثيرٌ كتَبوا ترجمة حياتهم بنفسهم، ومنهم: القديس أغسطين، جان جاك روسو، بنيامين فرانكلين، تولستوي، وآلاف غيرهم. والترجمة الذاتية معروفة عند العرب من قديم الزمان؛ فقد كتب عن نفسه حنين بن إسحاق ومحمد بن زكريا الرازي وابن الهيثم وابن سينا وابن حزم. واشتُهرَت الترجمة الذاتية «المنقذ من الضلال» للغزالي، وكذلك كتاب أسامة بن منقذ «الاعتبار». ومن المحدَثين هناك الترجمات الذاتية لطه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض وعبد الرحمن بدوي وشوقي ضيف ومحمد عناني، من بين كثيرين.
ولا يمنع كتابة أحد الأشخاص عن حياته من صدور ترجمة لحياته بأقلام باحثين آخرين. وقد وجدتُ متعةً عظيمة في المقارنة بين حياة كتبها صاحبها وبين نفس الحياة كما كتبها باحثٌ محايد رجع إلى الوثائق والكتب كي يصوِّر الشخصية التي يكتُب عنها، وكثيرًا ما تختلف النسختان اختلافًا كبيرًا! وقد قارنتُ السيرة الذاتية لنيرودا، وكتبًا عن حياته، خاصة كتاب «آدم فينستاين» الشامل عن حياة نيرودا، ووجدتُ كثيرًا من الأشياء التي لم يُشِر إليها نيرودا؛ فنيرودا يتحدَّث عن نفسه غالبًا بوصفه «الماتشو»؛ ولذلك ضحكتُ كثيرًا حين ذكر فينستاين كيف تصرف نيرودا حين طلب صديقه الشاعر التركي ناظم حكمت الخروج مع ماتيلدا زوجة نيرودا كي يشتري لها هديةً حين كان الجميع في موسكو؛ إذ انتفض نيرودا واقفًا وشرَع يرتدي ملابسه وهو يقول إنه يكون مجنونًا لو سمح لزوجته بالخروج وحدها مع أحد الأتراك! وكل ذلك رغم الصداقة العميقة التي ربطَت بين الشاعرَين. وقد كتب نيرودا قصيدتَين من أروع قصائده عن ناظم حكمت.
أما السيرة الذاتية لماركيز فتختلف في منهاجها عن سيرة نيرودا وماركيز، ولم يصدُر منها إلا الجزء الأول، فقرأتُ السيرة التي كتبها عنه «داسو سالديفار» التي توضِّح الكثير عنه، خاصةً عن عمله في كتابة سيناريوهات الأفلام للسينما الكولومبية، وإن كانت السيرة قد كُتبَت عام ١٩٩٧م؛ ولهذا ما زال هناك متسعٌ لسيرٍ أخرى عنه.
وقد درستُ أيضًا السيرة الذاتية التي كتَبَها الرسَّام المكسيكي الأشهر «دييجو ريفيرا»، ووازنتُ بينها وبين سيرة حياته التي كتبَها عنه آخرون، فوجدتُ فروقًا مدهشة! فقد زعم ريفيرا في حكايته لحياته أنه هو وزملاؤه قد جرَّبوا أكل لحوم الموتى من البشر، ووجدوا أنها صحية ومغذِّية! وقال إنه وهو في إسبانيا نقل عدة لوحاتٍ لجويا وإلجريكو وجدَت طريقها بعد ذلك على أنها أصلية! ومن الغريب أيضًا أنني علمتُ من صديقي توفيق عبد الرحمن أن يوسف إدريس كان متزوجًا من ابنة دييجو ريفيرا التي تعرَّف عليها في الاتحاد السوفييتي.
أما كتب اللغة الإسبانية فكان أساسها بعض ما جمعتُه في أثناء مُقامي في مدريد وأحضرته معي إلى نيويورك، ثم ما جلبَتْه آن ماري معها، ثم ما ابتعتُه خلال جولتنا للعمل في أمريكا اللاتينية، وما اخترتُه تدريجيًّا من المكتبة الإسبانية – الفرنسية التي اكتشفتُها في أيامي الأولى في نيويورك. وعماد كتبي الإسبانية مجموعة «أوسترال» التي تشبه مشروع الألف كتاب في مصر من حيث تنوُّعها وتخصيص لونٍ معيَّن لكل موضوع، ومجموعة «لوسادا» الأرجنتينية. ومن بين أدباء اللغة الإسبانية، قرأتُ معظم الكلاسيات الأساسية، مثل أعمال سرفانتس ولوبي دي فيجا وكالديرون، وخوان رويث، صاحب كتاب الحب المحمود، وجوستافو بكِر. ولكن أقربهم إلى قلبي هم لوركا وبابلو نيرودا وغرسيه ماركيز، بالإضافة إلى بكِر. وقد قرأتُ كل أعمال هؤلاء الأربعة، والدراسات التي كُتبَت عنهم.
أما في الأرفُف التي تضُم الكتب الفرنسية، فهناك المجموعة الكاملة لمؤلفات ألبير كامي، وجان بول سارتر، ومارسيل بروست، وآرتير رامبو، وأندريه جيد. وقد اهتمَمتُ بتجميع كتاب الأمير الصغير لسانت إكزوبري بلغاتٍ عديدة. ولا أنسى بالطبع الكُتب الأساس، مؤلَّفات جوستاف فلوبير، فكتور هوجو، ستندال، أناتول فرانس، وكل الكلاسيات الأخرى التي قرأتُها وآن ماري، ثم درَسها شريف بعد ذلك في الليسيه فرانسيه بنيويورك.
وفي الكتب العربية، تبرُز عندي مجموعة «الأستاذ»، وهو ما يعني نجيب محفوظ. وكانت كُتبه من أول ما قرأتُ وجمَعْت، حتى إنني أذكُر أنني اشتريت الثلاثية ما يقرب من خمس مرات؛ فقد كان الجميع يستعيرونها بلا عودة. وها هي أمامي مع ترجمتها الإنجليزية والفرنسية. وقد كتبتُ أول مقالٍ نُشر لي عن شخصية كمال عبد الجواد، عام ١٩٦٣م، ثم كتبتُ عن أولاد حارتنا ومشكلة الشر، عام ١٩٦٧م. وفي رأيي أنه مع كثرة الأعمال النقدية التي تناولَت روايات الأستاذ، ما نزال نفتقر إلى أعمالٍ تتناولها تناولًا نقديًّا عميقًا، مقارنةً بأعمالِ مماثليه، كتوماس هاردي وجورج إليوت وثاكري وغيرهم. وقد اقتنَيتُ كل ما صدَر عن نجيب محفوظ وكل ما تُرجم من أعماله إلى الإنجليزية، وكذلك معظم الأشرطة التي تضم أعمالًا سينمائيةً مأخوذة عن قصصه ورواياته.
ومع الكتب العربية، أفردتُ مكانًا للكاتب الذي تأثَّرتُ به أيما تأثُّر؛ الدكتور لويس عوض. وقد تأثَّرتُ به منذ قرأتُ مقالاته، وأعجِبتُ بأسلوبه اللغوي في الكتابة، حتى إنني كنتُ أميِّزه دون حاجة إلى معرفة مَن هو المؤلف. وجمعتُ كل كُتبه حتى أوراق العمر، التي لم يُمهِله العمر حتى يكتُب تكملتَها.
أما ثالث العمالقة العرب الذين كانوا في مقدِّمة قراءاتي فهو المتنبي العظيم، مع عدد من الكتب عنه وعن شعره.
ولكن ذلك لا يعني اقتصاري على هؤلاء؛ فقد اقتنَيتُ وقرأتُ طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد وأحمد شوقي وزكي نجيب محمود وأحمد أمين وعبد الرحمن بدوي وجبران خليل جبران ويحيى حقي وإدوار الخراط وبهاء طاهر ورءوف مسعد وصنع الله إبراهيم وسلوى بكر وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وإبراهيم أصلان والورداني وإبراهيم عبد المجيد وعلاء الديب، وغيرهم كثيرين. وأعجبَتني بصفةٍ خاصة روايات سهام البيومي، كما أنني أتابع الروايات الجديدة التي تصدُر عن دار شرقيات ودار ميريت ودار الهلال.
وبعد أن تقاعدتُ من عملي بالأمم المتحدة، طرأَت عندي هوايةٌ جديدة هي اقتناء توقيعات الأدباء على كُتبهم. وبالطبع، هي هواية واستثمار، ولكني لم أقتنِ إلا توقيعاتِ من أحب من المؤلفين. وهكذا كان أول توقيعٍ أشتريه هو توقيع جيمس جويس، الذي كنتُ أحلم باقتنائه منذ رأيتُ إعلاناتٍ عنه حين وصلتُ إلى نيويورك في عام ١٩٧٨م، وكانت الأثمان أقل بكثير مما أصبحَت عليه في عام ٢٠٠٠م، ولكن المرتَّبات أيضًا كانت أقل. ولما اشتريتُ، لم أصِل إلا لكتيب «أنَّا ليفيا بلورابل» الذي صدر عام ١٩٢٨م، من حوالي ۸۰۰ نسخة مرقَّمة وموقَّعة من جويس. وكانت نسختي تحمل رقم ١٣، وكلما كان الرقم أقل، كانت النسخة أكثر قيمةً. وإني لأشعُر بفرحةٍ غامرة عند التطلُّع إلى توقيع الأستاذ العظيم، وأتخيَّله جالسًا إلى المكتب وهو يوقِّع الكتاب الذي عندي الآن، وأتلمَّس ملمسَه عليه وكأني أخاطِبه وأكلِّمه وهو جالسٌ أمامي. وشيئًا فشيئًا اقتنَيتُ توقيعات الكثير ممن أحبَبْت؛ ألبير كامي، كولن ويلسون، ماركيز، بابلو نيرودا. وقد تعبتُ جدًّا في الحصول على توقيع نيرودا، ثم تعرَّفتُ على أحد أصدقائه في شيلي، الذي باعني الكثير من كُتبه الثمينة. واشتريتُ أيضًا الطبعة الأولى من «النشيد العام» الذي صدر في المكسيك عام ١٩٥٠م، مرقَّمًا وموقَّعًا من نيرودا ودييجو ريفيرا وسيكييروس، اللذَين زوَّدا الطبعة بلوحتَين رائعتَين، واحتوى على أسماء المشتركين مسبقًا فيه، ومنهم بيكاسو وبول روبصون وإليا إهرنبورج وكثيرٌ غيرهم من المشاهير. وقد فاتني الحصول على توقيع لوركا حيث كان غالي الثمن جدًّا، وعُرضَت لوحاتٌ أصلية برسمه ولكنها كانت أغلى ثمنًا. وبعد ذلك، عزمتُ على التخصُّص في جمع توقيعات من فازوا بجائزة نوبل للآداب، ونجحتُ على مَر السنين في جمع توقيعات ٨٠ في المائة منهم، غير أن ذلك اضطَرَّني إلى اقتناء كُتبٍ لمن لا أهتم إلا بقراءتهم فقط، مثل سولجنتسين وتشرشل وكبلنج. والغريب أن الكتب الموقَّعة من تشرشل هي الأندر والأغلى ثمنًا، رغم أنه دخيل على الأدب وجائزته! وكان أعز توقيع عندي هو توقيع «الأستاذ» نجيب محفوظ، الذي طلبتُه من الأستاذ محمد سلماوي، فتكرَّم بإرساله لي على عنواني بنيويورك. ثم حصَلتُ على توقيعٍ آخر من الأستاذ حين زرتُه في ندوته بالمقطَّم على ترجمة كتابه عبث الأقدار إلى الإنجليزية. وأذكُر في هذا المجال عدوى تلك الهواية لمن أحكي عنها له؛ مثل صديقنا الطبيب في نيويورك، الذي قال لي مرةً إنه سيحضُر حفلًا فيه إدوارد سعيد، فطلبتُ منه أن يأخذ لي توقيع البروفيسور على كتابه الشهير لسيرته الذاتية، فكان أن حصَل الطبيب على التوقيع لنفسه هو وليس لي! وذلك يُماثِل من وكَّل رئيسه كي يخطب له إحدى زميلاته في العمل، فكان أن خطَبها الرئيس لنفسه وتزوَّجها، وقد حدث ذلك بالفعل أيضًا.
أما التصوير؛ أي الرسم، فقد اهتمَمتُ به في إسبانيا مع زيارة متحف البرادو العريق، ومشاهدة أعمال العمالقة الإسبان؛ جويا، فيلاسكيث، إلجريكو؛ علاوةً على كثيرينَ آخرين. وزُرتُ بعد ذلك متحف اللوفر والجي دي بوم الذي انتقل إلى مُتحَف دورساي بعد ذلك. والآن، حين أزور اللوفر، أبدأ برؤية الموناليزا ثم تمثال فينوس، قبل أن أجوس في أبهاء المتحف الأخرى. وفي نيويورك، أدمنتُ التردُّد على متحف الفن الحديث لأغرق في لوحة جرنيكا لبيكاسو قبل أن تنتقل إلى إسبانيا، ولوحة الليلة المرصَّعة بالنجوم، التي بدأتُ معها عشقًا للوحات فان جوخ وحياته الغريبة. وقد قادنا حُبنا لفان جوخ أنا وآن ماري إلى الذهاب إلى كل الأماكن التي عاش فيها في فرنسا؛ آرل، بروفانس، بونتواز، ثم زُرنا مُتحفَه في أمستردام. وقد سُرِرتُ أن نجيب محفوظ قال إنه يحب لوحته المسماة «فترة الراحة للسجناء» وكتبتُ مقالًا عن ذلك نشرَتْه مجلة الهلال القاهرية.
أما السينما والأفلام فأمرُها يطول. فكما ذكَرتُ من قبلُ، اهتمَمتُ بالأفلام منذ كنا في شبين الكوم، وتابعتُها مصريةً وأجنبية، وحتى الآن. وكنتُ من أوائل المنضمين إلى نادي السينما الذي أنشأه الأستاذ الحضري عام ١٩٦٨م، وشاهدنا فيه أول فيلم وهو «القناع» السويدي. وحين ذهبتُ إلى إسبانيا أتيحَت لي فرصة رؤية الأفلام التي لم تُعرَض بمصر، مثل دكتور زيفاجو والوصايا العشر. وتذكَّرتُ دهشة سيسيل دي ميل من عدم عرض الفيلم الأخير في مصر؛ لأنه حافظ في روايته على النظرة الإسلامية لتاريخ تلك الفترة، ولكنه نسي أن الإسلام يمنع تشخيص الأنبياء، فما بالك بصوت الذات الإلهية؟! وكان بمدريد صالاتُ عرضٍ للأفلام العالية القيمة الفنية شاهدنا فيها عددًا من الأفلام الإيطالية والفرنسية الجيدة. ولمَّا كانت الرقابة شديدةً في إسبانيا بعهد فرانكو، اضطُر الإسبان إلى العبور إلى فرنسا لمشاهدة «التانجو الأخير في باريس» الذي مُنع، وأفلام لويس بونيويل كاملة؛ حيث كانت تُعرَض داخل إسبانيا وبها حذوفاتٌ عديدة. وكذلك لمشاهدة أفلام البورنو، والتردُّد على محلات الجنس المنتشرة في بلدان غرب أوروبا.
وفي نيويورك، كانت أفلام البورنو متاحةً في كل مكان، وكذلك الأفلام الفنية الراقية التي نهلنا منها، ولكن النقلة الهائلة جاءت مع انتشار الفيديو كاسيت بأسعارٍ معقولة، تدنَّت حتى أصبحَت في متناول الجميع. وقد اشتريتُ أول مسجل للفيديو أتبعتُه بكاميرا بعد مولد ابني شريف في يوليو ٨١ كيما أصوِّره وهو صغير. وقد اخترتُ كما قلتُ ما كان يوصي به الخبراء في ذلك الوقت وهو نظام «بيتاماكس» لسوني عوضًا عن نظام «في إتش إس». وكان اختيارًا خاطئًا؛ إذ توقف البيتا بعد عدة سنوات، وانتشر النظام الآخر حتى قضى عليه بعد ذلك اﻟ «دي في دي». ولكني سَعِدتُ بالفيديو منذ اقتنيتُه، وأذكُر الدهشة والرعدة التي شعَرت بها وأنا أرى أول فيلم في بيتي، وكان فيلم «محل العاديات القديمة» عن رواية تشارلز ديكنز، ثم توالت الأفلام، وتعلَّمتُ أن أسجِّل من التليفزيون. وكانت أول أفلامٍ عربية اشتريتُها من المكتبة العربية في بروكلين هي «غزل البنات» و«سفر برلك» و«أيامنا الحلوة». وسجَّلتُ بالكاميرا لي ولشريف وللأسرة معًا.
وقد تكاثَرَت الأشرطة تدريجيًّا حتى أصبح عندي معظم الأفلام الكلاسيكية المشهورة. وعرفنا محلًّا يبيع الأفلام والمسرحيات العربية بأسعارٍ مُنخفِضة فاستفدتُ منه. وقد استفدتُ من المكتبة الفيلمية التي عندي لكتابة سلسلةٍ من المقالات عن الأفلام الفنية العالمية التي لم تَلقَ الإقبال الذي تستحقُّه، ونشَرتُها في مجلة الكواكب بتشجيع من الأستاذ رجاء النقاش، ثم جمعتُها بعد ذلك في كتاب «أفلام أهملَتها الأقلام» الذي نشرَتْه الهيئة العامة للكتاب بمصر. وقد عرضتُ فيه لعشرين فيلمًا من جنسياتٍ مختلفة، منها «عشاق الموسيقى»، «ثلاثية الفلامنكو» لكارلوس ساورا، «ثلاثية من الهند»، لساتيا جيت راي، واخترتُ من السينما العربية أفلام: السراب، دنانير المصريان، والفيلم الجزائري باب الواد مقارنًا بفيلم ثورة الجزائر. وقد وزع الكتاب جيدًا، واختير كمادةٍ للمناقشة في المعهد العالي للسينما بأكاديمية الفنون في مصر.