مواصلة الكتابة والنشر
وبعد نشر ترجمتي لمسرحية لوركا «الآنسة روزيتا العانس» واصلتُ الكتابة والنشر، سواء المقالات أو الكتب؛ ففي عام ١٩٨٥م، نشَرَت لي المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت ترجمتي لرواية «السيد الرئيس»، تأليف ميجيل آنخل أستورياس، الجواتيمالي الحائز لجائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٧م. والرواية بالإسبانية، وقد عانيتُ في ترجمتِها لصعوبتها؛ فهي تحتوي على تعبيراتٍ محلية وإشاراتٍ فلكلوريةٍ أسطورية خاصة بأمريكا الوسطى والتراث الشعبي الجواتيمالي. وهي مشاركة أستورياس في الكتابة عن الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية، مستلهمًا فيها دكتاتور بلاده «كابريرا» الذي حكَم جواتيمالا في الفترة من ١٨٩٨م إلى ١٩٢٠م. وقد صوَّر أستورياس في روايته الصفاتِ الأساسيةَ في دكتاتوريات أمريكا اللاتينية في تلك الفترة، في قالبٍ قصصي لا ينتفي فيه الحب البريء والتضحية الإنسانية، في مقابل القسوة والجبروت التي يشيعها حُكم الطغاة. وتُعتبَر هذه الرواية — مع رواية «حفلة التيس» لماريو فارجاس يوسا — أفضل روايات الدكتاتور.
وتبع ذلك أن نشَرَت لي سلسلة روايات الهلال ترجمةً لمجموعةٍ قصصية لإرنست همنجواي تحت عنوان «حاضرة الدنيا وقصصٌ أخرى». وقد ضمَّنتُ الكتاب مقدمةً عن المؤلف/ ثم أشهر قصصه القصيرة، ومنها «مكانٌ نظيفٌ حسَن الإضاءة»، وأنهيتُه بالرواية القصيرة «ثلوج كليمنجارو». وبعد ذلك، نشَرَت لي الهيئة العامة للكتاب كتابَين من تأليفي قدَّمتُهما لمحمد عناني؛ الأول عن «لوركا شاعر الأندلس» والثاني روايتي اليتيمة «عزلة النسر». وقد ذكر لي عناني أن كتاب لوركا وزع توزيعًا جيدًا جدًّا. ولمَّا كانت طبعة هذَين الكتابَين مليئة بالأخطاء المطبعية، فقد نشَرتُهما لدى دار «ميريت» بعد ذلك. وقد فازت رواية عزلة النسر بالجائزة الثانية لمسابقة وزارة الثقافة المصرية للروايات العربية، عام ١٩٩٧م.
وفي عام ١٩٩٦م، حقَّقتُ أحد أحلامي بنشر ديوان «شاعر في نيويورك» لفدريكو غرسيه لوركا لدى الهيئة العامة للكتاب، والحُلم الثاني كان نَشْر ديوان «أشعار» لجوستافو أدولفو بكِر؛ إذ إنني بدأتُ العمل في ترجمة هذَين العملَين عام ١٩٧٦م، في برشلونة، في أثناء زيارتي آن ماري. والديوان الأول قصائد كتبها لوركا إبَّان إقامته في نيويورك عام ١٩٢٩م، التي ذهب إليها لتعلُّم الإنجليزية. وهي قصائدُ تُبيِّن الأثَر المهول الذي أحَسَّ به هذا العصفور الغرناطي إزاء مادية نيويورك وناطحاتِ سحابها وإيقاعِ الحياة فيها. وكان في نفس الوقت متأثرًا بالحركة السيريالية في الفنون، ومن مبدعيها صديقه سلفادور دالي، فجاءت قصائد الديوان مليئة بالصور العجيبة التي يحار القارئ في فهمها. ومن قصائده الشهيرة «أنشودة إلى ملك هارلم» و«أنشودة إلى والت ويتمان». ومن الغريب أن هذا الديوانَ ذا القصائد الصعبة، قد نُشر ثلاثَ مرات؛ الأولى عن هيئة الكتاب، والثانية ضمن المشروع القومي للترجمة، والثالثة ضمن مكتبة الأسرة.
أما ديوان أشعار لبكِر، فقد نشَرَه المشروع القومي للترجمة عام ٢٠٠٤م. وكنتُ قد تقدَّمتُ بترجمة الديوان لمسابقة جائزة نجيب محفوظ – سرفانتس للترجمة من الإسبانية إلى العربية، وفزتُ بها في أولى دوراتها. وكان لهذا الفوز صدًى كبير في وسائل الإعلام وفي نفسي؛ إذ إني أجِلُّ قصائد ذلك الديوان كثيرًا، والتي تشبه في رومانسيتها أشعار كيتس وشيلي.
وفيما بين هذَين الديوانَين، نشَرَت لي هيئة الكتاب مجموعةً مختارة من قصائد بابلو نيرودا بعنوان «إسبانيا في القلب وقصائدُ أخرى» عام ١٩٩٧م، ثم نشَرَت لي دار شرقيات الرواية القصيرة المؤثِّرة «موت فلَّاحٍ إسباني»، تأليف الروائي الإسباني «رامون سندر» عام ١٩٩٨. وبعد ذلك عُدتُ إلى بابلو نيرودا، بترجمة ديوانه «أشعار القبطان» الذي كان قد دبَّج قصائده للتغزُّل في حبيبته الجديدة ماتيلدي أوروتيا، ونشَره في إيطاليا دون اسم المؤلف؛ حيث إنه كان ما يزال مع زوجته ماريا دل كاريل. وقد جاءت قصائد الديوان غزلًا مشبوبًا مليئًا بالصور الحسية الصريحة، حتى إنني جعلتُ عنوانَه «غزليَّات نيرودا»، كي أقدِّم للقارئ العربي وجه الشاعر في نيرودا، الذي يظنُّه كاتبًا سياسيًّا وحسب، رغم دحض نيرودا لهذا بقوله إنهم لو حسبوا أبياته السياسية في كل أعماله لما تجاوزَت أربع صفحاتٍ فقط.
وكنتُ بعد أن انتهيتُ من سلسلة مقالات أفلام أهملَتها الأقلام في مجلة الكواكب، قد بدأتُ مقالاتٍ أخرى تحت العنوان العريض «في خطى نجوم الفن والأدب» بنفس المجلة رغبةً مني في العمل مع رجاء النقاش. وكنتُ أكتُب عن حياة واحد من هؤلاء النجوم، والأماكن التي عاش فيها. وبدأتُ بفان جوخ الذي زُرتُ معظم الأماكن التي عاش فيها، ثم كل من أحبَبتُ وعرَفتُ من الكُتَّاب والفنانين؛ لوركا، جان جاك روسو، بيير لوتي، إرنست همنجواي، جيمس جويس، جورج صاند، شكسبير، آرتير رامبو، وقد زرتُ أماكنَ حياةِ كل هؤلاء. واخترتُ من بين العرب نجيب محفوظ وأحمد شوقي. وقد جمعتُ هذه المقالات في كتابٍ نشَرَته هيئة الكتاب تحت عنوان «بين الفن والأدب»، واختار محمد عناني العنوان بعد أن اعترض سمير سرحان على عنوان «في خطى نجوم الفن والأدب». وقد أصدَرَت مكتبة الأسرة الكتاب بعد ذلك ضمن منشوراتها.
واتجهتُ بعد ذلك إلى جمع مقالاتي المؤلَّفة والمترجَمة عن الرواية والروائيين لإصدارها في كتاب، خاصة أولى المقالات التي نشَرتُها في مجلة الآداب منذ عام ١٩٦٣م، وصدَر الكتاب في لبنان بعنوان «رواة وروائيون من الشرق والغرب»، وقد ضَم مقالاتٍ عن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وكافكا وهمنجواي وماركيز وجيمس جويس وتوني موريسون ونابوكوف.
وكنتُ قبل ذلك قد كتبتُ إلى الدكتور جابر عصفور أشكُره على نشر ديوان شاعر في نيويورك ضمن مهرجان لوركا، وأطلب الرأي في ترجمة كتاب الفن الروائي لديفيد لودج، لنشره ضمن المشروع القومي للترجمة. ولمَّا جاءني الردُّ بالموافقة، شرعتُ في إجراء الترجمة، وكان الكتاب عبارةً عن خمسين مقتطفًا من رواياتٍ معروفة، يعلِّق عليها المؤلف لتبيان ناحيةٍ معيَّنة من نواحي الصنعة القصصية. وقد وجدتُ أن هذا الأسلوب هو الأجدى في تصوير النواحي التقنية في الكتابة الروائية؛ لذلك أقدَمتُ على ترجمته بحماسٍ ووعيٍ رغم صعوبة الترجمة. ولم تكن الصعوبة تكمُن في اللغة، ولكن في تناول الكتاب لخمسينَ رواية، ومنه مقتطفاتٌ من تلك الروايات، فكان يجب على المُترجِم أن يكون محيطًا على الأقل بالمحتوى العام لها. وحتى عناوين بعض الروايات تكون مُلغزةً إذا لم يكن المترجم عليمًا بها، مثل عنوان «هواردز إند» لفورستر، الذي تُرجم قبل ذلك على أنه «نهاية هوارد» رغم أن المقصود بيتٌ بهذا الاسم. وقد جلَبتُ الترجمة الفرنسية للكتاب واستعنتُ بها كثيرًا. وصدَر الكتاب في عام ٢٠٠٢م، وانضم إلى غيره من كتب فنون الرواية والقصة، مثل كتب فورستر ولوكاتش وغيرهما.
واخترتُ بعد ذلك مجموعةً من القصص القصيرة لأدباء أمريكا الإسبانية لتقديمها معًا، وكان مقدَّرًا أن تُنشر في مكتبة الأسرة، ولكن لم يتيسَّر ذلك، ونُشرت في سلسلة الألف كتاب الثانية. ويضم الكتاب ١٤ قصةً متنوِّعة، اخترتُها بحيث تغطي أساليبَ قصٍّ مختلفة، ما بين قصة «ليلة الكروان» لماركيز بما فيها من غموض وحداثة، إلى قصة «البوابة رقم ۱۲» لبلدوميرو ليلو من شيلي، وهي واقعيةٌ اجتماعية تدين سُخرة الأطفال في العمل. وفي الكتاب قصصٌ لروبين داريو وأوكتافيو باز وسيزار فاييخو. وكنتُ أفضِّل لو اختارت مكتبة الأسرة هذا الكتاب لإعادة إصداره فيها، بدلًا من ديوان شاعر في نيويورك، ذي القصائد السيريالية المكتوبة للخاصة.
وكنتُ في ذلك الوقت قد بدأتُ في تسطير حُلمٍ من أحلامي القديمة، وهو إعداد كتاب عن «ألف ليلة وليلة» باعتبار أنها من بدايات الأعمال الروائية في العالم، وتأثيرها في كل مَن قرأها. وكانت حكايات ألف ليلة هي من أوائل الحكايات التي سمعتُها في طفولتي، ثم قرأتُ منها ما هو مكتوب للصغار، ثم طبعة صبيح التي اشتريتُها من سور الأزبكية. وكانت دراسة الدكتورة سهير القلماوي عنها علامةً فارقة في معلوماتي عن هذا الكتاب الفريد. ولمَّا درَستُ نشوء الرواية رأيتُهم يعودون إلى الروايات اليونانية القديمة فقط، ولا يذكُرون ألف ليلة وليلة. بيد أن أوائل القصص الأوروبي في العصور الوسطى كان يعتمد على القصص العربية، ووجدتُ في إسبانيا العربية الوصلة التي انتقلَت عن طريقها قصص ألف ليلة وكليلة ودمنة إلى الأدب الشعبي الأوروبي.
وبدأتُ في تسطير كتابي عن أثَر ألف ليلة وليلة في الأدب العالمي في بداية عام ۲۰۰۳م، واستغرق مني عامَين ونيِّفًا، قرأتُ فيها العشرات من المراجع؛ حيث كان كل مرجعٍ يقودني إلى كتبٍ أخرى، فتجمَّعَت عندي مكتبةٌ كاملة عن هذا الموضوع، واقتنَيتُ عن طريق المكتبات من الإنترنت نسخًا نادرة لألف ليلة وليلة بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية. ورجعتُ إلى كُتب محسن مهدي الفائقة القيمة، واعتمدتُ أساسًا على كتبٍ منها «ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي»، تحرير البروفيسور كاراتشيولو. وقد أضفتُ ابتكاراتٍ جديدة، مثل القص البوليسي في ألف ليلة، واحتواء الكتاب على كل أساليب القص والرواية، ومنه ما يُوصَف الآن بالواقعية السحرية. وقد خرج الكتاب في ٤٠٠ صفحة بعد أن حذفتُ الكثير منه حتى لا يتضخَّم. ومع ذلك، فهناك الكثير في ذلك الموضوع بحيث يُمكِن إصدار جزءٍ آخر أو أكثر عنه.
وبعد ألف ليلة عُدتُ إلى ترجمة بعض قصائد أوراق العُشب لوالت ويتمان. ولمَّا كنتُ أحب دائمًا وحدة الموضوع فقد اخترتُ قصائد الحرب الأهلية الأمريكية لترجمتها جميعًا، بالإضافة إلى مرثيات ويتمان لأبراهام لنكولن بعد اغتياله. وقد قضيتُ أيامًا سوداء — باستعارة عبارة طه حسين — في ترجمة قصائد ويتمان؛ فهي — رغم جمالها — غريبة التكوين واللغة، فيها كل ما استحدثَه الشاعر الأمريكي من مضامينَ جديدة وأشكالٍ جديدة؛ إذ لم يتقيَّد بالوزن ولا بالقافية، وابتدع لنفسه أسلوبًا خاصًّا به في طريقة تهجئة الكلمات وقواعد الترقيم والتكرار المقصود والإكثار من الجمل الاعتراضية التي كثيرًا ما يضعُها بين قوَسين. وقد حاولتُ قَدْر إمكاني التعرُّف على طريقة ويتمان الشعرية عن طريق قراءة ما عندي مِن كُتب عن حياته وشِعره، وطالعتُ نماذج من شعره المنقولة إلى الإسبانية، وأخذتُ أترجِم في بطءٍ أشعار لنكولن والحرب الأهلية، وألحقتُ بها عدة قصائدَ طويلة له، منها «سلامًا أيها العالم». وكتبتُ مقدمةً ضافية عنه، وأرسلتُ الكتاب إلى محمد عناني، وصدَر بعد ذلك عن هيئة الكِتاب. وبعد ذلك، جمَعتُ عددًا من مقالاتي السابقة عن بعض الشعراء الإسبان، وترجماتٍ لقصائد، وأصدرتُها بعنوان «السفينة النشوى – قصائد وشعراء» عن هيئة الكتاب أيضًا.