رحلة مارسيل بروست وجورج صاند وبيير لوتي عام ١٩٩١م
وفي رحلة زيارة الوطن التالية، عام ١٩٩١م، وبعد زيارةٍ جميلة لمصر، كان دور الترحال الفرنسي إلى منطقة «شارانت ماريتيم» أساسًا، وما حولها من أماكن؛ ذلك أن منزل جوزيت، شقيقة آن ماري، يقع في بلدة روشفور بالقرب من مصيف لا روشيل الشهير. وكالعادة، انطلَقنا من باريس في العَربة المستأجَرة مستهدفين مدينة أورليان، وكنتُ قد زرتُها سابقًا وأعجبَتني آثارها، ومنها كاتدرائيتُها الفخيمة، وشوارعُها التي تحيط بها «البواكي» والمكتظة بالمشترين، وتمثال جان دارك في الميدان الذي يحمل اسمها. ومن أورليان إلى «بورج» ونواحيها التي عاش فيها «آلان فورنييه» مؤلف «مولن الكبير»، رائعته التي تحوَّلَت فيلمًا جذب إليه الأنظار بروعة ألوانه الطيفية، والخيال الدافق الذي تَرجَم ما في الرواية من حِسٍّ مُرهَف.
وكانت ترحالات ذلك العام الأكثر ثراءً من الناحية الأدبية؛ فقد زرنا بلدة «إلييه-كومبريه» التي خلَّدها مارسيل بروست في روايته الضخمة «البحث عن الزمن الضائع»، وهي تقع على مبعدة عشرين كيلومترًا جنوب مدينة شارتر. وكانت البلدة تُسمَّى إلييه فقط حتى عام ١٩٧١م، حين أضيف اليها اسم كومبريه في الاحتفال بمئوية مولد بروست، تخليدًا له، وهو الذي خلَّدها في عمله، وجذبًا للسياح والمهتمين بأدب ذلك الروائي العظيم. وقد دخلنا إلى البلدة بالسيارة على النحو الذي وصَفَه بروست عند ذهابه لها مع والدَيه بالقطار، وأطَلَّ علينا من بعيد برج الكنيسة، وهو أول شيءٍ كان بروست يراه من البلدة على بُعد عشرة كيلومترات. وتجوَّلنا في البلدة الصغيرة على خُطى بروست، وأكلنا كعكات المادلين الصغيرة مع الشاي في ميدان السوق، ثم عبَرنا إلى «طريق سوان»، وسِرنا في مرج كاتلان، الذي ورد ذِكْره كثيرًا في الرواية.
والزيارة الأدبية الهامة الأخرى كانت ضَيعة، «نوهان» مقَر الكاتبة الفرنسية الشهيرة جورج صاند (١٨٠٤–١٨٧٦م)، وهو قصرٌ تُحيط به السهول الخضراء المنبسطة في كل مكان. وقد عاشت صاند في هذا المكان عقب انفصالها قانونيًّا عن زوجها عام ١٨٣٦م، وتقسيم ممتلكاتهما؛ حيث حصلَت هي على ضَيعة نوهان. وفي هذا المكان الساحر، كتَبَت معظم كُتبها، واستقبَلَت مشاهير عصرها، وعاشت مع الموسيقار العظيم فردرك شوبان؛ حيث خصَّصَت له غرفةً في القصر، ومكانًا يعزف فيه على البيانو. وقد عاشت حفيدة صاند في القصر حتى وفاتها في ١٩٦١م، وتحوَّل بعدها إلى مُتحَفٍ للكاتبة الشهيرة. وعند دخولنا للزيارة، كان هناك من يعزف ألحان شوبان العذبة، وقادتنا المرشدة إلى طوابق القصر وهي تحكي لنا عن حياة جورج صاند وكُتبها وعلاقاتها بألفرد موسيه ثم شوبان، وشاهدنا غرفة الطعام حيث المائدة مهيَّأة للطعام، وأمام كل مقعدٍ اسم شاغله، ومنهم: فلوبير، تورجنيف، إسكندر ديما الابن، ديلاكروا. وقد عاصَرَت صاند عودة الملكية بعد نفي نابليون بونابرت، وثورة عام ١٨٤٨م، التي جاءت بالجمهورية الثانية وعلى رأسها لويس نابليون، الذي سرعان ما أعلن نفسه إمبراطورًا باسم نابليون الثالث، وحاول إحياء عهد سلفه بونابرت، ولكنه لم ينجح في ذلك، وانتهى حكمه بهزيمته على يد بسمارك، وقيام الجمهورية الفرنسية الثالثة، التي دامت حتى غداة الحرب العالمية الثانية. وفي المُتحَف كافيتيريا أنيقة تحمل اسم «فاديت الصغيرة»، إحدى روايات صاند، ومحلٌّ لبيع تَذكاراتها وكُتبها.
وكان ثالث الأدباء الذين زُرنا متاحفهم ذلك العام، بيير لوتي. وسهَّل علينا الأمر أن متحفه يقع في مدينة روشفور التي قضَينا فيها عدة أيامٍ في منزل شقيقة آن ماري. والمُتحَف هو البيت الذي عاش فيه لوتي، والذي أضاف إليه منزلًا مجاورًا حتى يتسع لتَذكاراته التي أتى بها من أسفاره المتعددة؛ فهو قد عمل في البحرية الفرنسية، التي حملَته إلى الكثير من البلاد؛ فقد زار تاهيتي والسنغال والجزائر في البداية، ثم يبدأ غرامياته وهو في سالونيك ثم الآستانة، حين يهيم بسيدةٍ تركية تُسمَّى «آزيادي»، وحاول أن يستدعيها إلى فرنسا بعد وفاة زوجها إلا أنه فشل في ذلك. وحين يذهب بعد ذلك إلى تركيا ويعلم بوفاة آزيادي، يحمل معه شاهِد قبرها — وهو يزعم أنه حقيقي — الذي يُوجَد في الصالون التركي بالطابق الأول من متحفه، مع صورةٍ لها رسمَتها أخته بناءً على وصفه لها. وهو بعد زيارته للجزائر يقيم صالونًا عربيًّا في البيت — المُتحَف. وبعد زواجه وقضائه شهر العسل في إسبانيا وزيارته للآثار الإسلامية هناك، انعَكَس ذلك في تصميمه للتَّذكارات العربية والإسلامية في البيت. وقد صمَّم جامعًا كبيرًا في صَحن البيت، ملأه بالنقوش الإسلامية التي نقلَها معه من البلدان التي زارها. وقد زار لوتي مصر، وتعرَّف على مصطفى كامل، ودعم خطواته في التحرُّر من الاستعمار البريطاني، ووضَع كتابه بعنوان «أنس الوجود» عن زيارته النيلية من القاهرة إلى معابد فيله، وأهداه إلى مصطفى كامل، الذي تُوفي قُبيل نشر الكتاب.
وعدا الزيارات الأدبية والفنية التي قمنا بها ذلك العام، ألقت بنا المصادفة إلى أحضان التاريخ؛ فقد مرَرْنا على بلدة تُدعى «أورادور-سير-جلان»، ووجدنا أنه قد وقع بها حدثٌ مأساوي رهيب في نهايات الحرب العالمية الثانية لا يعلم عنه إلا قليلٌ من الناس؛ فبعد أن بدأ الحلفاء غزو نورماندي كمدخل لإزاحة الألمان من فرنسا، نشِطَت المقاومة الفرنسية في كل الأراضي التي تحتلها ألمانيا، وأراد الألمان أن يوجِّهوا تحذيرًا للسكان بعدم التعاون مع المقاومة، فكان أن اختاروا بلدةً مسالمة لا حول لها ولا طول، كيما تكون عبرةً لمن يعتبر؛ فقد وقع اختيارهم على قرية «أورادور-سير-جلان» الواقعة بالقرب من مدينة ليموج، فأمَرَت القيادة الألمانية هناك أهالي البلدة — يوم ١٠ يونيو ١٩٤٤م — بالتجمُّع كلهم في الميدان الرئيسي بها، للتفتيش على أوراق الهوية. وبعدها أدخلوا النساء والأطفال إلى كنيسة القرية، وبدأ الجنود في إطلاق النيران على مَن بقي في الميدان، وبعد أن قضَوا على كل مَن كان هناك، تحوَّلوا إلى الكنيسة وأضرموا فيها النيران بمن فيها من نساء وأطفال، ثم أغلقوا أبواب كل شيء في البلدة، وأشعلوا النار فيها حتى أصبَحَت أطلالًا وخرابًا. وقد قضى في هذه المذبحة ٦٥٠ نسمة، ولم ينجُ منها إلا بضعة أفراد كي يقُصُّوا ما حدث. وقد اختلفَت الأقوال في سبب المذبحة؛ فقد ذكر البعض أن السبب هو أَسْر المقاومة لضابطٍ ألماني، بيد أن ردَّة الفعل، أيًّا كان السبب، كانت وحشيةً تفوق الوصف. وبعد انتهاء الحرب، قرَّر الجنرال دي جول الإبقاء على القرية المحترقة كما هي، كذكرى وتذكرة.
وقد دخلتُ أنا وزوجتي لرؤية تلك الأطلال، وكانت على درجةٍ من البشاعة، حتى أن آن ماري لم تَقوَ على متابعة الزيارة، وبقيَت عند المدخل حتى انتهيتُ أنا من رؤية تفاصيل المأساة؛ بيوت محترقة، سيارات محطَّمة، محلات القرية لم يتَبقَّ منها إلا آثار الحريق، وعلى كل مكانٍ اسم صاحبه أو صاحبته، وكلهم من المواطنين المسالمين الذين كانوا يعيشون في تضامُن وسلم. وحين لحقتُ آن ماري بعد ذلك وجدتُها تبكي، وقالت إنها لم تتحمَّل مشاهدة تلك المناظر المُريعة بينما الشمس تسطع والطيور تغرِّد والأزهار متفتِّحة، كأنما ليست هناك مجزرةٌ قائمة أمامنا. وتذكَّرتُ المجازر التي تُسبِّبها الحروب على مدى الزمن، وكم عانى فيها أناسٌ عاديون لا ذنب لهم، وخسروا فيها ممتلكاتهم وبيوتهم وأنفسهم، وما أبناء فلسطين منا ببعيد؛ إذ العالم كله لا يشعر بآلامهم ومعاناتهم.
وقد بقيَت ذكرى تلك الحادثة تخيِّم علينا مدةً طويلة؛ فقد كانت أقرب ما شاهدنا من حيواتٍ بشرية استحالت رمادًا بسبب الشر والقسوة والجبروت.
المسارات الأخرى للرحلة
وفي رحلة ذلك العام — ۱۹۹۱م — زُرنا مدنًا أخرى عديدة، منها مدينتا تور وبواتييه، وهما المدينتان اللتان شَهِدتا معارك العرب مع الفرنسيين عند تقدُّم العرب في فتوحهم في الأراضي الفرنسية. وقد حاولتُ أن أعثُر على أي دليل أو لافتة تبيِّن أو تدُل على أماكن تلك المعارك فلم أعثُر على أي شيء، رغم أهمية تلك المعارك في التاريخَين الفرنسي والعربي، حتى سمَّى العرب معركة تور «بلاط الشهداء» لكثرة مَن استُشهِدوا فيها من الجانب العربي.
كذلك حَرَصتُ على المرور بمدينة «نيفير» التي جرت فيها بعض أحداث فيلم مارجريت ديراس الشهير «هيروشيما حبي»، بيد أنني لم أجد أي إشارة في أماكنها المختلفة إلى ذلك، كما لم أستطع تمثُّل المشاهد التي ظهَرَت في الفيلم. ولكننا استمتعنا بجمال المدينة، كما استمتعنا بمدن تور وبواتييه وأنجوليم وألانسون، التي طفنا بها في تلك الرحلة.