رحلة جان جاك روسو عام ١٩٩٣م
وكانت رحلة عام ١٩٩٣م رحلة جان جاك روسو بامتياز!
وأصل الحكاية هو قراءتي لتحفة روسو «خواطر جوَّالٍ منفرد» ولإعجابي بها إلى درجة أن عزَمتُ على نقلها إلى العربية؛ فلم أكن أذكُر أنني رأيتُها مترجمةً من قبلُ (وقد علمتُ بعد ذلك أن ترجمةً لها سبق أن صدَرَت مع الأصل الفرنسي عن منظمة اليونسكو، ولكن لم يكن ممكنًا العثور على أي نسخةٍ منها). وقد أمتعَني ذلك الكتاب بأفكار مؤلفه في أخريات حياته، ونظرته إلى الناس والدنيا من موقف المتفرِّد المظلوم؛ ولذلك قرَّرتُ أن أسير في أماكنه، وأعيش في الجو الذي عاش فيه، كمقدمةٍ لي لترجمة تلك الخريدة الرائعة.
وكنت قد حصَلتُ على تأشيرة دخول سويسرا في لحظاتٍ من القنصلية السويسرية بنيويورك. وعليه، فما إن أخذنا السيارة المؤجَّرة كالعادة في باريس، حتى سِرنا إلى مدينة مولد روسو؛ جنيف. ومرَرْنا بالطبع على المدن الفرنسية في الطريق، وحرَصتُ على أن تكون مدنًا لم نرَها من قبلُ، فمَرَرنا على مدينة «صانص»، وبتنا في «أوكسير» الجميلة؛ حيث كانت غرفتنا بالفندق من الأبنوس الأسود الذي يعكس صورتَنا في ظلالاتٍ بديعة. وفي مدينة «ديجون»، تناولنا الغداء من شرائح اللحم كيما ننعم باستخدام المسطردة التي اشتُهرَت بها المدينة، وراجت في العالم بأَسْره. وبعد المرور على بيزانسون، دلَفنا إلى نيوشاتيل في سويسرا بعد أن ختموا جواز سفري الدولي، وألصقوا علامةً على السيارة تسمح لنا بالسير بها في سويسرا. وبقينا يومًا في نيوشاتيل، وهي مدينةٌ سياحيةٌ رائعةٌ نظيفة، بها كل أنواع الراحة والجمال. وقد زُرنا عددًا من متاحفها، وإن لم يكن بها ما يسترعي الانتباه مقارنةً بما تحويه المتاحف المشهورة.
وفي العاصمة «برن» التي كنتُ أحلم بزيارتها ثانيةً بعد زيارتي الأولى لها في ۱۹۷۲م التي فتنَتني، أصِبتُ بخيبة أمل؛ إذ لم أشعُر بنفس الروعة التي شعَرت بها سابقًا، وإن أعجبَتني ما تزال بطابعها الفريد ومقاهيها وعربات الترام الأنيق بها. بيد أن ازدحام المدينة تعذَّر معه علينا أن نجد غرفةً لنا في أي فندق، وخاصةً حين كنا نتعامل باللغة الفرنسية في معقل ألمانية سويسرا، فقضَينا النهار فيها نستمتع بجمالها قبل أن نذهب إلى ضواحيها؛ حيث نزلنا في فندق على الطريق السريع المفضي إلى مونترو. ولا ننسى مشهد برن المزدحمة في وسط الصيف بينما تلوح قريبًا منا قِمَم الجبال المغطَّاة بالثلوج، وكذلك عربات الترام التي كانت تُطارِد آن ماري وهي تقود السيارة فتُضطَر إلى الهروب من طريقها إلى حيث ندري ولا ندري!
وفي مدينة «فريبور» استمتَعنا بنفس الصفاء الذي وجدناه في نيوشاتيل، بسحر النظافة والجمال. وهي نموذجٌ للمدن السويسرية التي تتبدَّى فيها الطبيعة في أبهى صورها، وحيث المنازل لا تخلو من الأزهار في الشرفات، مما يُحيلها إلى جنةٍ مزهرة.
ثم توجَّهنا إلى «مونترو»، وهي مشهورةٌ في ذهني بما عُقد فيها من مؤتمراتٍ دولية ومعاهداتٍ مهمة، وأكثر بما شهَرَها به روسو من جعل مكان روايته «هلويز الجديدة» في «كلارانس» من أعمال مونترو. وقد زُرنا كلارانس، وعادت إلى ذاكرتي رومانسيةُ رواية روسو وبراعتُه في تصوير العاطفة فيها. ومونترو مصيفٌ جميل يشابه الريفييرا الفرنسية، بيد أن الفندق الذي نزلنا فيه كان مجاورًا لشلالاتٍ من المياه أزعجَت نومنا إزعاجًا شديدًا. وفي اليوم التالي توقَّفنا في «إفيان لي بان»، وحاولنا زيارة مصانع مياه إيفيان، ولكنها لم تكن متاحةً للجمهور؛ ومن ثَم، اتخذنا طريقنا إلى جنيف.
وهناك، في موطن جان جاك روسو، شاهدنا المنزل الذي وُلد فيه في ٢٦ يونيو ۱۷۱۲م، ولكنه لم يتحوَّل إلى متحف، وكل ما به لوحةٌ تشير إلى أن جان جاك روسو قد وُلد في هذا البيت. والحق أنه عند مطالعة «الاعترافات»، نجد أن مسرح حياة روسو الأولى هي كل المنطقة ما بين جنيف وباريس، وخاصة إقليم السافوا، بمدن آنسي وشامبيري وليون؛ ولذلك فإن مُتحفَي روسو هما في منطقة شامبيري، وفي مونمرنسي، ولكن جنيف بقيَت في ذهني ونحن نجوب بحيرة ليمان التي تغنَّى روسو بجمالها، وطُفنا بداخلها في القارب البخاري السياحي الذي أرانا الفيلَّات الشهيرة على ضفاف البحيرة، ومنها المقَر الذي اجتمع فيه لورد بايرون وشيلِّي وماري شيلِّي التي كتبَت رواية فرانكنشتاين في ذلك المكان.
وقد كرَّمَت بلدية جنيف روسو بإقامة تمثالٍ له في قلب متنزَّه المدينة الرئيسي، وحرَصتُ على التقاط صورٍ له لاستخدامها في الكتاب المنتظَر.
وبالقرب من مدينة شامبيري، زُرنا معقل روسو العتيد، شارميت، التي أقام فيها سنواتٍ مع مدام فارانس، التي أحاطته برعايتها وحبها، والتي انتهى بها الأمر أن قدَّمَت له نفسها كي تحميه من غواية النساء! وشارميت هي الآن من متاحف روسو المهمة، والدار مؤثَّثة بحيث تعطي للزائر فكرةً واضحة عن طريقة معيشة الكاتب فيها، والتعرُّف على حجرته بها. وتقع وراء الدار حديقةٌ واسعة رأينا فيها نفس النباتات التي كانت موجودة أيام روسو، والتي استرعَت انتباهَه فدرَسها وقرأ عنها.
وبعد أن قضى روسو ۱۸ شهرًا في الكوخ الذي أعدَّته له راعيتُه مدام ديبناي في ضاحية مونمورنسي، وأسموه «الإرميتاج»؛ أي الصومعة، انتقل إلى منزلٍ آخر بنفس منطقة مونمورنسي، قضى فيه الأعوام بين ١٧٥٧م و١٧٦٢م، وكان يُطلَق عليه اسم «مون لوي»، فأصبح الآن متحفًا ثانيًا لجان جاك روسو. وقد كتب روسو في هذا البيت أشهر كُتبه، ومنها «هلويز الجديدة»، وإميل، والعَقد الاجتماعي. ويضُم المبنى طابقَين مليئَين بآثار وتَذكارات الفيلسوف العظيم؛ ففي المدخل، نرى البارومتر الذي كان يعتمد عليه روسو في معرفة أحوال الطقس كيما يحدِّد أوقات نُزهاته الخلوية أو عمله خارج البيت، ثم تمثالًا نصفيًّا من صنع النحَّات «أودون». وكان الطابق الأول مخصَّصًا لتيريز، وهي رفيقة روسو التي تزوَّجها بعد ذلك، وغرفة الطعام والمطبخ. أما الطابق العلوي فكان مخصصًا لغرفة نوم روسو، فنرى فيها سريره، وغرفة مكتبه التي لا تزال بها المنضدة التي كتَب عليها روايته «هلويز الجديدة». كما نرى في خارج المبنى المقعَد والنضَد الحجريَّين اللذَين تعوَّد الكاتب أن يعمل عليهما حين يسمح الطقس بذلك. ويضُم المتحف أيضًا المخطوطات والطبعات النادرة لكتبه.
بقية رحلة ١٩٩٣م
وقد ألقى روسو بظلاله أيضًا فيما بقي من الرحلة؛ فبعد شامبيري رحلنا إلى مدينة «فيين»، المشهورة بالمدرَّج الروماني فيها، ثم إلى مدينة ليون، التي تردَّد ذكرها كثيرًا في حياة جان جاك. ومكثنا عدة أيامٍ فيها في فندقٍ صغيرٍ جميل، بعد أن أودَعنا السيارة في جراجٍ أسفل ميدان بلكورت الضخم في وسط المدينة. وكانت ليون قديمًا عاصمة بلاد الغال، فرنسا قديمًا؛ ولذلك تكثُر فيها الآثار الغاليَّة، والرومانية، فزرنا تلك المواقع، والمُتحَف التاريخي للمدينة. وقضَينا وقتًا طويلًا في زيارة مُتحَف الطباعة فيها، المكوَّن من عدة أدوار، وكذلك مُتحَف الفنون الجميلة.
وفي طريقنا من ليون إلى فيشي، مرَرْنا ببلدة «لامبير» وبها مصنعٌ صغير شهير لصنع الورق الثمين المزخرف بالأزهار. وشهدنا كيف يصنعون ذلك النوع من الورق على الطبيعة، ثم ابتعنا عددًا من تلك الأوراق التي طُبع عليها سلفًا قصائدُ مشهورة وأقوالٌ مأثورة.
وقد ذهبنا إلى فيشي لشهرتها بمياهها المعدنية، وبكونها كانت محل الحكومة الفرنسية الموالية للألمان، التي قامت فيها برئاسة الماريشال بيمان. وقد كانت كذلك في طريقنا إلى فونتنبلو، فباريس؛ حيث اختتَمنا تلك الزورة الجميلة.