الوظيفة
أتمَمتُ أوراقي اللازمة للوزارة، وطاردتُ ورقةَ نتيجة الكشف الطبي التي تاهت في أروقة وزارة التربية والتعليم، وحين سلَّمتُها أخيرًا إلى إدارة شئون العاملين في الوزارة المركزية، وجَّهَتني الموظفة إلى الذهاب لاستلام عملي بالدور السابع في إدارة العلاقات الثقافية الخارجية. وكان ذلك يوم ١٦ أكتوبر ١٩٦١م.
كنا ما نزال في أعقاب مأساة انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر، وكانت مصر تُحاوِل التعايُش مع الواقع الجديد، وكانت تلك الواقعة ذات أثَرٍ شديدٍ في النفوس؛ فقد كانت أول مرة يَلقَى نظام عبد الناصر مثل هذا التمرُّد عليه وعلى سياساته. وخرج الرئيس في التليفزيون بعد تسليمه بالانفصال يُحاوِل حَصْر الضرر بأن أعلن في جديةٍ صارمة: «لقد دقَّت ساعة العمل الثوري»، حتى إن والدتي قد فُوجئَت بهذه النبرة، وظنَّت أن شيئًا خطيرًا قد وقع، وأبدت خشيَتَها أن تكون هناك حربٌ وشيكة! وتلقَّفَت آلاتُ الإعلام ذلك البيان، وعَملَت كل ما يمكن حتى يعود الحال كما كان عليه قبل ذلك التمرُّد الخطير، كأنما لم يكن هناك سببٌ له أو للتذمُّر والشكوى. أما أنا، فلما كنتُ قد ركَّزتُ حياتي في أمور الفكر والأدب والفن، فإني لم أنخرط في الحياة السياسية بأي شكلٍ رسمي، بل اقتصر الأمر معي ومعها أن أكون شاهدًا على ما يحدُث، وأن أحصُل على أكبر قَدْر من المعلومات عن كل ما يحدُث كيما أستطيع أن أحكُم حكمًا صحيحًا على ما يمُر بنا من وقائعَ وأحداث.
وكانت الوظيفة التي قبلتُها مناسبةً تمامًا لما كنتُ أريد. وقد جرى قبول المتقدمين لهذه الوظيفة بطريقةٍ أعتقد أنها لم تحدُث من قبلُ ولا من بعدُ؛ إذ تم الاختيار بين المتقدمين من واقع مجموع درجاتهم في شهادة الليسانس؛ ولهذا وجدتُ نفسي في وسط دفعةٍ من المقبولين معظمهم حائز على درجة جيد جدًّا. وكانت وزارة التربية والتعليم المركزية قد تغيَّرَت بعد الانفصال السوري، وأصبحَت وزارة التعليم العالي المصرية. وحين ذهبتُ إلى الإدارة التي عيَّنوني بها، وجدتُ مكانًا أنيقًا نظيفًا، وأدخلوني إلى غرفة مدير الإدارة، الأستاذ عبد المجيد مصطفى، فرحَّب بي وسألَني عن مؤهِّلاتي، وقال لي إنني سألتحق بقسم «أوروبا وأمريكا والمهجر» بالإدارة. وجاء رئيس القسم، «الدكتور» عبد الكريم أحمد، واصطحبَني معه إلى القسم. وكانت هناك غرفةٌ مستقلة لرئيس القسم، وإلى جوارها غرفة الأعضاء، وبها الأستاذ علي فهمي، واتخذتُ أنا أحد المكتبَين الخاليَين بالغرفة.
وكان العمل كما كنتُ أرغب وأتمنى؛ فمواقيته من الثامنة صباحًا حتى الثانية بعد الظهر، وبعد ذلك يصبح اليوم لي. ومن حسن الحظ أن جاء العمل في الحقل الثقافي أيضًا، ويتمثِّل في الإشراف على علاقات مصر الثقافية بدول العالم. والإدارة مقسَّمة حسب قطاعات الدول المختلفة؛ قسم الوطن العربي، قسم آسيا، قسم أفريقيا، قسم أوروبا وأمريكا والمَهجَر، وقسم لأعمال السكرتارية. وكنا نقوم بإعداد مِلَف عن كل دولة، يحتوي على جميع المعلومات عنها، وعن حجم علاقاتنا الثقافية بها. وكنا نتراسل أيضًا مع مكاتبنا ومراكزنا الثقافية في الخارج، والتي كانت في أَوْج ازدهارها في ذلك الوقت. وكان علي فهمي دارسًا للغة الفرنسية ويُشرِف على دول أوروبا، وأسنَدوا لي دول أمريكا الشمالية ودول أوروبا الناطقة بالإنجليزية. وبعد أيامٍ وصل الموظف الجديد، «الدكتور» إبراهيم شحاتة، خرِّيج قسم التاريخ، جامعة الإسكندرية، بتقدير جيد جدًّا، وأشرف على دول أمريكا اللاتينية، وهي ما كانوا يقصدونه بمصطلح «المَهجَر».
ومِن بين من التحق بالإدارة معنا من الموظَّفين الجُدُد، عصمت عبد المطلب، خرِّيج الألسن، قسم اللغة الإسبانية، الذي توجَّه لأداء الخدمة العسكرية فور تعيينه؛ و«الدكتور» السعيد بدوي، خريج قسم جغرافيا، الذي التحق بقسم أفريقيا. وكان من الطبيعي أن تنشأ صداقةٌ وثيقة بيني وبين إبراهيم شحاتة والسعيد بدوي.
كانت الأمور ما تزال على نضارتها في القاهرة، رغم نكسة الانفصال السوري. كانت الطرق نظيفة، والخدمات العامة معقولة باستثناء المواصلات العامة، والآمال معقودة على المشروع القومي الذي تقدِّمه الثورة في صورة جمال عبد الناصر. وكان العمل الحكومي جادًّا، والمبنى الذي نعمل فيه نظيفًا مهندمًا، وكل مَن فيه يعرف دوره بالتحديد. وانتظمَت حياتي كما كنت أرسم لها؛ أخرج من المنزل حوالي السابعة صباحًا، وأبحث عن أوتوبيس يحملني إلى أقرب نقطة من شارع المبتديان. وقبل دخولي إلى مبنى الوزارة، أشتري ما أريد من الدوريات من بائع صحفٍ قريب، بالإضافة إلى الأهرام، وكان سعره قرش صاغ واحدًا. وعند الدخول إلى الوزارة، أنتظم في طابور الموظَّفين لأستقل المصعد الكهربائي، وأتوجَّه إلى مكتبي. وبعد التحية والأحاديث المعتادة، أطالِع الأهرام بسرعةٍ تاركًا قراءتَه الكاملة واستعراضَ ما ابتعتُه من كتبٍ دورية إلى حين العودة إلى المنزل. ونبدأ العمل، مع تناوُل شايِ الصباح أو قهوتِه، وما تيسَّر من مشروباتٍ بعد ذلك، ونستقبل من يزورنا من زملاء العمل في الأقسام الأخرى. وفي الثانية بعد الظهر، ينتهي موعد الدوام، ونخرج.
وتراوَح ما أفعل بعد الخروج من الوزارة، ما بين المشي إلى وسط البلد؛ حيث أتناوَل بعض الساندويتشات أو وجبةَ غداءٍ في مقهى «ريش» أو غيره، ثم أجلس في جروبي سليمان. وبعدها أتوجَّه إلى سور الأزبكية للاطلاع وشراءِ ما أجده نافعًا لي، ثم أستقل الأوتوبيس من العتبة إلى العجوزة. وأحيانًا أخرى، أذهب لحضور فيلم في السينما في حفلة ٣–٦. وأحيانًا يكون عندي موعد مع صديق أو أكثر، فنأكل في أحد المطاعم الرخيصة، ونقضي بقية اليوم في كافيتيريا، أو نذهب إلى السينما. كان الزمان رخيًّا؛ فرغم بدء مرتَّبي بمبلغ ۱۲ جنيهًا لمدة ثلاثة أشهر، زاد بعدها إلى حوالي ١٦ جنيهًا، كانت المصروفات محدودة، والكتب الدورية تبدأ من قرشَين (المكتبة الثقافية) إلى عشرة قروش. وكنتُ أمُر على سور الأزبكية كل يوم تقريبًا، وقد عَرفَني الباعة هناك منذ أيام الدراسة، فأحمل منه ما أجده مناسبًا لقراءاتي التي أخذَت تتوسع منذ هذه الفترة، وتأخذ منحًى متنوعًا جديدًا. بدأتُ أركِّز على إجادة اللغة العربية، نحوًا وبلاغةً وفهمًا، فطالعتُ نسخة القرآن الكريم الموجودة بالمنزل، ولكنَّها لم تشفِ غليلي في التفسير، فاشتريتُ مجلَّد «المصحف المفسَّر» لفريد وجدي من دار الشعب، وتفسير الجلالَين من مكتبات الأزهر. وبدأتُ بمعاني الكلماتِ التي لا أعرفها، ثم الشرح الميسَّر الرائع لفريد وجدي. وأحسستُ أنني أمضي قدمًا في فهم القرآن وبلاغته وصُوره ومعانيه، ثم حقَّقتُ أمنيةً كانت تراودني منذ درسنا الشعر العربي في الكلية، فاشتريتُ ديوان المتنبي كاملًا في أربعة أجزاءٍ كبيرة بشرح العُكْبري، وقرَّرتُ دراسته وليس مجرد قراءته؛ فالشرح كان يحتوي على الإعراب والمعاني وكل شيء. وبدأتُ في تنفيذ الخطة التي أسميتُها «خطة إليوت» بأن أخصِّص جانبًا من عملي للقراءة، ولم أجد في ذلك ما يجعله «سرقة لوقت الحكومة»؛ فقد كنتُ أحرص على أداء عملي بدقةٍ وسرعةٍ جعلت حصيلةَ ما أقوم به أكثَر بكثير مما هو مطلوب، أو مما يقوم به الآخرون. كما أنني كنتُ أقرأ ما يفيد عملي في كتابة التقارير الثقافية بلغةٍ عربيةٍ سليمة دون أخطاء، وذلك بدلًا من قضاء الوقت في الدردشة والضحك وتناقُل الأخبار.
وتوثَّقَت علاقتي بإبراهيم شحاتة والسعيد بدوي، وكنتُ أحيانًا أخرج مع السعيد في الإجازات. أما إبراهيم فكان يقضي أي إجازة في الإسكندرية. كان جو العمل رائعًا؛ وسرعان ما أدركتُ الهدف الأسمى لكل من يعمل في هذه الإدارة، وهو الانتداب للعمل في المراكز والمكاتب الثقافية لمصر في الخارج، وهي تَتْبع وزارتنا، بما يعنيه ذلك من مزايا عديدة أهمُّها المرتَّب الضخم. وكانت العقَبة هي أن الانتداب للعمل بالخارج لا يتم إلا عَبْر «واسطة» من الحجم الكبير، بغض النظر عن مؤهِّلات الموظف وعمله، وكثيرًا ما كان يسافر للعمل هناك موظَّفون من وزاراتٍ أخرى غير التعليم العالي.
ومنذ البداية، كان ملجئي في حياة الأدب والفن هو حبل النجاة من الانغماس في «حياة القطيع» كما كنتُ أسمِّيها أنا وجماعة أصدقائي. وبالفعل، اعتبرتُ نفسي فيما يشبه جبل الأولمب، أطِل من علٍ على صراعات الثراء والجاه، لا يعنيني منها شيء، ولا أطمع في أي جانبٍ منها، ولا يهمُّني من يُحرِز شيئًا من هذا المتاع المبتذَل، ووضعتُ تحت زجاج مكتبي ورقةً دوَّنتُ فيها ما ذكره توفيق الحكيم في نهاية كتابه الآسر «زهرة العمر» الذي وقعتُ تحت سطوته منذ ذلك الوقت وحتى الآن. وكانت الفقرة التي تقع تحت بصري دائمًا تقول:
«إني أومن بأبولون … أومن بأبولون إله الفن الذي عفَّرتُ جبيني أعوامًا في تراب هيكله … إنه ليعلَم كم جاهدتُ من أجله وكم كافحتُ وناضلتُ وكددتُ باسمه أخوض المعركة الكبرى وأنازل كل مجتمع، وكل حياة، وكل عقبةٍ تحول بيني وبين فني الذي منحتُه زهرة أيامي التي لن تعود …»
كان همي كله هو الابتعاد عن «التقليدية» في كل أشكالها، وأن أخُط لنفسي حياةً مختلفة عن حياة «القطيع»، فإذا كانت آمال الجميع تتركز في المال والوجاهة الاجتماعية، فأنا لا أسعى إلى أي شيءٍ من هذا، بل إن مسعاي هو المعرفة والفن، وتحصيل ذلك بكل وُسْعي. وقد انتقيتُ وظيفةً متواضعةً محدَّدة الوقت والجهد، كما فعل ت. س. إليوت ونجيب محفوظ من قبلُ، حتى أتفرَّغ للقراءة والكتابة. ولم أكن أحسُد أي شخصٍ نال وجاهة أو مالًا، ولا ألقيتُ بالًا لمقارناتٍ أسمعها بيني وبين غيري؛ فلم يكن يخطُر على بالي أصلًا أيٌّ من هاته الأمور. وكنتُ أتخذ لنفسي مقياسًا حادًّا بألا أخونَ مبادئي بأي شكلٍ من الأشكال ولا بأي ثمن، وأن أقف إلى جانب الحق في أي صورة من صوره، وإلى جانب المظلوم، ومساندة الأضعف ما دام على حق. وقد التزَمتُ بذلك في كل الظروف والأحوال، مما عرَّضني لكثيرٍ من الأزمات والمخاطر التي نالت أحيانًا من حقوقي وإن لم تنَل من عزمي.
وتنوَّعَت قراءاتي في تلك الفترة، وامتدَّت لتعبُر مجال الأدب لتشمل الدراسات التاريخية والفلسفية والفكرية. وكان من أسهَم في إدخال هذا التنويع في كتبي التي أقرؤها هو أحمد السودة، الذي كان يُحب تلك الموضوعات، ولا يقرأ القصة والرواية إلا نادرًا. كنتُ أعتبر نفسي أديبًا يقرأ عن الأدب ويكتب عن الأدب، فتغيَّرَت فكرتي تمامًا، ووجدتُ أن الثقافة الكلية تتطلب الإحاطة بأنواع الفكر المختلفة. وجذبَني ما كان يقرؤه أحمد السودة، وكانت لنا جولاتٌ عديدة في مكتبات القاهرة، خاصة مكتبة النهضة ومكتبة الأنجلو. واشتريتُ قصة الفلسفة اليونانية في مجلد، وقصة الفلسفة الحديثة في مجلدَين، وهي عبارة عن تعريبٍ لكتاب ويل ديورانت عن قصة الفلسفة. وأقبلتُ على الكتب الثلاثة أستوعبها، وأعلِّق في هوامشها. وأعجبَني هيجل، رغم صعوبته، وشُغِفتُ ببركلي وإنكاره كل ما يخرُج عن دائرة الحواس. أما شوبنهاور فقد كان مثالًا يُحتذَى لي بدعوته إلى نبذ الرغبات؛ ولذلك اقتنيتُ كتاب عبد الرحمن بدوي عن شوبنهاور وفهمتُ منه ما فهمتُ، تمامًا مثل كتاب بدوي «الزمان الوجودي»، وملزمة «هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟». بيد أن عبد الرحمن بدوي بدا لي في ضوءٍ مختلف في كتابه البديع «الحور والنور» الذي قرأتُه مرارًا، وطفتُ معه فيه في مغاني لبنان وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، ومثَّل لي الكتاب في صورة النثر الشعري ما مثَّلَته لي قصائد علي محمود طه الرومانسية وبعض مقدِّماتها الحالمة، وكنتُ قد اشتريتُ أعماله الكاملة التي صدَرَت في لبنان، واستمتعتُ بها وبقراءتها مع أحمد السودة.
وبدأتُ أيضًا في دراسة التاريخ. وردَّدتُ مع العقاد قوله:
واهتديتُ إلى موجَز تاريخ العالم من تأليف ﻫ. ج. ويلز، ثم اشتريتُ ترجمةَ جاويد الرائعة لموجز تاريخ الإنسانية في أربعة أجزاءٍ لنفس المؤلف. وكان كل ذلك مقدمةً لقراءة السِّفر الكبير تاريخ الحضارة ﻟ «ويل ديورانت»، وكانت ترجمتُه العربية قد بدأَت تباعًا صادرةً عن دار النهضة المصرية بأقلام جهابذة المترجمين. ولكن الترجمة لم تكتمل إلا في أواخر التسعينيات، بعد أن قرأتُ السفر كاملًا بالإنجليزية في مقامي بالعالم الجديد!
وتوسَّعَت دائرة أصدقائي الدائمين، كان هناك محمد عناني وأحمد السودة وعبد الفتاح العدوي في مجموعة، ثم إبراهيم محمد وعاطف مرسي، ثم الجماعة التي انتظمَتنا وأطلقنا عليها جماعة «العُجول» (العُقول)، وهي نبيل راغب ووهيب يوسف وحلمي جرجس وأنا. وكنا نجتمع عادةً مرة في الأسبوع مساءً في إحدى الكافيتيريات؛ حيث نأكل هناك شيئًا. ومع زيادة أوزان البعض، انطبق لقب العُجول خير انطباق!
كان عبد الفتاح العدوي يعمل بالإذاعة، ويكتب تعليقاتٍ سياسية رائعة لصوت العرب، وكان قارئًا ممتازًا كذلك، ومجاله الفكر السياسي أساسًا، وقد كتب بعد ذلك عدة كتب في ذلك الموضوع. وكنتُ عادةً أجتمع معه وأحمد السودة ومحمد عناني في بهو فندق شبرد الفخيم أيام الجمعة؛ حيث نحتسي القهوة باللبن، وأحدنا يقرأ لنا المقالات الأدبية في أهرام الجمعة، ومنها مقالة الدكتور لويس عوض. وكان لويس عوض من أقرب الكُتَّاب إلى نفسي، وكنتُ أطالع أي كتابٍ جديد يظهر له بشغَف، وأحضُر المحاضرات التي يُلقيها في نادي الخرِّيجين وغيره، وأُعجَب بلغته المميَّزة وطريقة عرضه وسعة ثقافته. وقد التقيتُ بالدكتور عوض حين طلب مني عبد الكريم أحمد رئيس القسم أن أكتب مذكرةً عن مسرحية «الراهب»، التي صدَرَت حديثًا للدكتور عوض، باقتراح إرسال نُسخٍ منها إلى مكتبات مراكزنا ومكاتبنا الثقافية بالخارج. وكنتُ قد ابتعتُ المسرحية فور صدورها وقرأتُها، فكتبتُ مذكرةً هي أقرب للمقالة النقدية الأدبية، وفوجئتُ بالمديح الجزيل الذي نلتُه عليها من عبد الكريم أحمد، الذي أصبح هو الآخر من أكبر المعلِّمين لي بثقافته وطريقة سلوكه ومعيشته البعيدة عن نمط الموظَّفين التقليديين. وبعدها بأيام، طلبني الدكتور عبد الكريم إلى غرفته، فوجدتُ عنده الدكتور لويس عوض، الذي أراد أن يشكُرني بنفسه على المذكِّرة التي أعدَدتُها عن مسرحيته.
وكان عام ١٩٦٢م حافلًا ثقافيًّا. كان المسرح أيامها هو «ديوان العرب»؛ فمسرحيات الحكيم ونعمان عاشور ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ورشاد رشدي تغزو المسارح. وأصدر الدكتور رشدي مجلة المسرح، وعمل فيها معه محمد عناني وسمير سرحان. وقد اجتذَب سمير عناني إليه، وجعلا يكتبان معًا مسرحياتٍ للإذاعة والمسرح. وكتب عبد العزيز حمودة مسرحية بعنوان «البرواز الفاضي» وقرأتُها في شقَّته بالجيزة وأعجِبتُ بها. وكتب محمد عناني مسرحية «البر الغربي» وقُدِّمَت فعلًا على مسرح الحكيم، وحضرناها أكثر من مرة. وأصدر توفيق الحكيم مسرحيته «يا طالع الشجرة» ففجَّر بها مسألة الحداثة واللامعقول في الأدب العربي. وحضرتُ ندواتٍ عديدةً لمناقشتها، إحداها في «نادي الخرِّيجين» بوسط البلد. وكان الجو الثقافي يضجُّ بالتجديد والحداثة، فتم إنشاء مسرح الجيب ليُقدِّم المسرحيات الطليعية، واشتركتُ فيه، وشاهدتُ مسرحيات صمويل بيكيت وبريشت، ومنها المسرحية الشهيرة «في انتظار جودو» التي قرأتُها وأعجِبتُ بها كثيرًا. كانت حركة «الشبان الغاضبون» في أَوْجها أيضًا، بمسرحيات «جون أوزبورن» التي بدأَها بمسرحيَّته «انظر وراءك في غضب». غير أنني لم أجد في المسرح ما يشفي غليلي من العُمق التحليلي للعمل الفني، برغم متابعتي كلَّ ما كان يقدِّمه من أعمالٍ تجريبيةٍ حديثة، ومنها مسرحياتُ ألبير كامي وجان بول سارتر.
وتابعتُ بصورةٍ أكبر كتب كولن ويلسون التي تلَت كتابه اللامنتمي؛ «سقوط الحضارة» — الذي تضمن مختصرًا لحياة المؤلف وجدتُ فيه تجربةً فريدة في حياة من يبتغي الكتابة — و«الشعر والصوفية». وقد اكتشفتُ فيما بعدُ أن العناوين الأصلية لبعض تلك الكتب مختلفةٌ عن العناوين التي صدَرَت بها بالعربية. وقرأنا أيضًا ترجمات ثلاثية «دروب الحرية» لسارتر، وروايته القيِّمة «الغثيان»، ورواية «لوليتا» لنابوكوف التي وجدناها يومًا لدى مكتبة مدبولي.
نابوكوف
ونابوكوف لا بد أن يُقرأ بالإنجليزية، لأن جَودَة أعماله تقوم — كما عرفتُ بعد ذلك — على أسلوبه النثري الإنجليزي، برغم أصله الروسي.
وقد وُلد فلاديمير نابوكوف في سان بطرسبرج في ٢٢ أبريل ١٨٩٩م، وعاش مع أسرته الميسورة الحال في روسيا حتى عام ١٩١٩م. واشترك والده في الحكومة التي تألَّفَت في بداية الثورة برئاسة كيرنسكي، ولكن بعد استيلاء السوفييت على السلطة، غادرَت الأسرة البلاد إلى المنفى الأوروبي. ويحكي نابوكوف عن حياته في سان بطرسبرج، في مذكِّراته التي كتبها بعنوان «تكلمي يا ذاكرتي» وصدَرَت عام ١٩٥١م، ثم صدَرَت طبعتُها المزيدة عام ١٩٦٧م؛ فقد توجَّه نابوكوف بعد الرحيل من روسيا إلى إنجلترا؛ حيث التحَق بجامعة كمبردج ليدرُس بها الآداب الفرنسية والروسية، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٣م. وانضَم بعد ذلك إلى أسرته في برلين التي كان بها جاليةٌ روسية كبيرة، وبدأ يكتب دراساتٍ أدبية تحت اسم «سيرين». وتزوَّج عام ١٩٢٥م من فيرا، وأنجبا ابنًا وحيدًا هو ديمتري. وقد اضطُر نابوكوف وأسرته إلى الرحيل من ألمانيا بعد سيطرة النازيين على البلاد، فتوجَّهوا إلى باريس؛ حيث كتب أول رواية له باللغة الإنجليزية مباشرة، بعنوان «الحياة الحقيقية لسبستيان نايت». وقد شجَّع اختيار الكاتب للإنجليزية لغةً لإنتاجه المقبل على هجرته بعد ذلك إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٠م، في أعقاب سقوط فرنسا تحت الاحتلال النازي. وفي أمريكا، عمل مدرسًا للأدب الروسي في كلية «ولزلي» بولاية ماساشوستس، ثم أستاذًا للآداب الروسية والأوروبية بجامعة كورنيل بنيويورك. واقتَرن عملُه الأكاديمي بنشاطٍ أدبيٍّ واسع من التأليف والترجمة.
وأشهر أعمال نابوكوف روايته «لوليتا»، التي أدخلَته إلى عالم الأضواء والثراء. وحين أتمَّها المؤلف عام ١٩٥٤م، لم يجد من ينشُرها إلا مطبعة أولومبيا بباريس، فوافَق دون أن يعلم أن تلك المطبعة متخصصة في نشر المطبوعات الإيروسية، وإن كانت معظم إصداراتها قد أصبحَت الآن من الكلاسيكيات الأدبية. وقد قُوبل صدورها بالصمت، إلى أن ذكر الكاتب «جراهام جرين» أنها واحدةٌ من أفضل ثلاث رواياتٍ لعام ١٩٥٦م، مما جعلها تقفز إلى مصافِّ الكتب الأكثر رواجًا، مما جعل نابوكوف يقرِّر الاستقالة من عمله بالجامعة والتفرُّغ للكتابة في مدينة مونترو بسويسرا. ومن أشهر أعماله الأخرى «بنين» و«نيران ذابلة» و«آدا» و«ضحك في الظلام». وقد تضمَّنَت قائمة أفضل مائة رواية انتشارًا رواية «لوليتا» في المركز الرابع، ورواية «نيران ذابلة» في المركز الثالث والخمسين.
وأهم ما يركِّز عليه النقاد الجادُّون في رواية «لوليتا» لدفع اتهامها بصفة الإباحية، هو الأسلوب اللغوي الرفيع الذي كتَب به نابوكوف روايتَه، وامتلاؤها بالعديد من الإشارات والإحالات الأدبية والتاريخية، والبراعة الفنية التي رسَم بها شخصيتَي همبرت ولوليتا بطلي الرواية، بالإضافة إلى الغَور النفسي العميق الذي صوَّر به خواطر وأحلام وهواجس هاتَين الشخصيتَين الفريدتَين.
•••
ومن ناحية دراساتي الأكاديمية، تقدَّمت لدراسة الماجستير في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة؛ حيث تخرَّجت، ودرَستُ السنة التمهيدية في محاضرات للدكتور رشاد رشدي والدكتور أمين روفائيل. وكان معنا بالطبع الحاصلون على تقديرَي ممتاز وجيد جدًّا، ومنهم سمير سرحان الذي أصبح مُقرَّبًا جدًّا من رئيس القسم، فتم انتدابه آخر الأمر معيدًا بالقسم. وقد وجدتُ أنه لا أمل على الإطلاق في إمكانية الحصول على الماجستير لمن لم يُنتدَبوا للعمل بالقسم؛ لذلك لم أستكمل الدراسة هناك، وعزمتُ أن أتقدم لهذه الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس، لعلَّ وعسى. وقمتُ بذلك بالفعل، ووصلتُ إلى حد النجاح في السنة التمهيدية للماجستير، وبقي الأمر حول تسجيل رسالةٍ مع أحد أساتذة القسم، وهو ما لم يكن إليه من سبيل كذلك.
وفي تلك الأثناء، قامت إدارتنا — العلاقات الثقافية الخارجية — بتنظيم الأعمال الإدارية لمؤتمر اللجنة الثقافية المنبثقة عن مؤتمر الدار البيضاء، وهو مؤتمرٌ دولي لعدة دولٍ أفريقية جرى الإعداد له بصورةٍ لائقةٍ مشرِّفة. وعملتُ أنا مع الأستاذ عبد الحكيم في لجنة الكتب والصحافة، وذهبتُ إلى المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون (أيامها) بالزمالك؛ حيث قابلتُ أحد المسئولين الكبار من زملاء يوسف السباعي، فأذِن لنا بعددٍ كبير من كُتب المجلس لتوزيعها على أعضاء المؤتمر. وأعدَدنا لفائفَ عديدة بالكتب التي تسلَّمناها، وكانت سعادة أعضاء الوفود بها عظيمة. وأذكُر أنه كان من بين تلك الكُتب ترجمةُ كتاب قرية ظالمة للدكتور محمد كامل حسين بالإنجليزية، وترجمة رواية الرجل الذي فقد ظلَّه لفتحي غانم.
وعُهد إلى الإدارة بعد ذلك بالإشراف على مؤتمرٍ آخر عُقد في القاهرة، ولكني كنتُ قد بدأتُ دراساتي المسائية في الماجستير وفي اللغة الإسبانية، فاعتذرتُ عن عدم المشاركة فيه رغم العائد المادي المجزي الذي نتلقَّاه مقابل ذلك. وجاءت دراستي للغة الإسبانية بعد انتقال زميلي إبراهيم شحاتة من الإدارة، وتسلُّمي الإشراف على دول أمريكا اللاتينية أيضًا. وكنتُ قد قرأتُ إعلانًا بطلب معيدين في تخصُّص التاريخ لجامعة القاهرة فرع الخرطوم، ووجدتُ تردُّدًا من إبراهيم للتقدم للوظيفة، بتصوُّره أنها مهيَّأةٌ لشخصٍ بعينه، ولكني خالفتُه في الرأي باعتبار أنه لن يخسر شيئًا من التقدُّم لها، وابتعتُ له «عرضحال الدمغة» وظلِلْتُ معه حتى كتَب الطلب وأرسلَه. وكانت المفاجأة أن تم قبوله للوظيفة، وانتقل من الوزارة إليها. وأذكُر أنه في أول إجازة له بعد ذلك في مصر، زارني وأهداني قلمَ حبرٍ فاخرًا هديةً لي من الخارج.
وترتَّب على عملي في دول أمريكا اللاتينية أفضلية دراستي اللغة الإسبانية، فالتحَقتُ بالمركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، وكان مقره آنذاك في ممر كوداك بوسط البلد. وأقبلتُ على الدراسة بهمَّة ونشاط. واللغة الإسبانية لغةٌ ثريةٌ رائعة، سهلة، وهي نافذةٌ فتحَت لي أدبًا وثقافةً وفنًّا جديدًا زاخرًا بكل ثمينٍ وجميل. وبدأتُ أقتني كتبًا لتعليم الإسبانية، وبعض الكتب المبسَّطة للقراءة. وكان مركزانا الثقافيان في إسبانيا وفي الأرجنتين يُرسِلان لنا أحيانًا بعض المطبوعات الإسبانية، فتوفَّر لديَّ ترجماتٌ للأيام لطه حسين، وقرية ظالمة، وعدد من مسرحيات توفيق الحكيم. ووجدتُ على سور الأزبكية ترجمةً إسبانية لكليلة ودمنة، وكتابًا به مقتطفات من أعمال جبران خليل جبران. وقد طفِقتُ أتدرب في هذه الكتب على القراءة بالإسبانية بالاستعانة بالأصول العربية لها.
واتخذتُ عادة المشي إلى العمل في الصباح الباكر بعد أن ازدادت صعوبة المواصلات؛ فكنتُ أخرج من شارع الدري (الفردوس) بالعجوزة إلى شارع النيل العريض، وأعبُر كوبري الجلاء، فكوبري قصر النيل، وأسير محاذيًا فندق شبرد فجاردن سيتي ومنها إلى شارع القصر العيني فالمبتديان حيث مبنى الوزارة، وقد تعوَّدتُ تدريجيًّا على أن أستذكر تصريف الأفعال الإسبانية في أثناء السير، وكذلك حفظ بعض الفِقرات التي تُساعِد على تنمية المعرفة باللغة.
وفي تلك المسيرات الصباحية، كنتُ أرى أحيانًا أستاذنا نجيب محفوظ يسير على مبعدة، وأحيانًا يدلُف إلى إحدى العوامات الراسية في شارع النيل. وبدأتُ من هنا تردُّدي مع بعض الأصدقاء على ندوات الأستاذ التي كان يعقدها في المقهى بميدان الأوبرا، وإن كنتُ أبقى بعيدًا أسمع وأرى دون أن أختلط بأحدٍ من رواد الندوة، وكان معظمهم من أفراد الجيل الرائع، مستمتعًا بالنقاش وبحديث نجيب محفوظ الطلي. ونبعَت في ذهني من هذه الظروف فكرة أول مقالٍ نقدي أكتبه، عن شخصية كمال عبد الجواد في الثلاثية المحفوظية، وتحليلها على ضوء نظرية كولن ولسون عن اللامنتمي. وتبلوَرَت الفكرة في أثناء عُطلة قضيتُها مع نبيل ووهيب في الإسكندرية؛ حيث بلغَت عدوى نجيب محفوظ إلى نبيل، فبدأ هو الآخر في تأليف كتابٍ كامل عنه. وكنا نلتقي بعد ذلك فنتبادل أخبار القراءة والتأليف والكتابة، وكان نبيل يحكي لنا في كل لقاءٍ عن الفصل الذي يكتب فيه، حتى اكتمَل الكتاب ونجَح في نشره بمثابرته وجده وصبره العجيب، في عام ١٩٦٧م، عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر (آنذاك). وقد أصبح كتابه «قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ» من المراجع الأساسية المهمة عن أدب أستاذنا العظيم.
أما مقالي فقد حبَّرتُه وأرسلتُ به إلى الدكتور سهيل إدريس لمجلة الآداب البيروتية التي يُصدِرها؛ إذ وجدتُ أن النشر في المجلات المصرية يخضع للمعرفة والاتصالات، ولم أكن أحب أن أطلب شيئًا يتعلق بالنشر ممن أعرفهم، بل فضَّلتُ دائمًا — وحتى الآن — أن أُرسِل أعمالي بالبريد حتى يكون للمجلة أو الدار الحرية الكاملة في نشرها من عدمه. ونشَرَت الآداب مقالي في عدد يونيو ١٩٦٣م، بعنوان «كمال عبد الجواد اللامنتمي»، وكان أول عملٍ أدبي يُنشَر لي. وملأَتني سعادةٌ غامرة بنشره، خاصةً في تلك المجلة الرفيعة المستوى، ومن دون سابق معرفةٍ لي بالمشرفين عليها. وقد أرسل لي الدكتور سهيل إدريس رسالةً قصيرة يُرحِّب فيها بمقالاتي، ومعها عددٌ من رواياته بإهداءٍ منه لي. وكانت هذه أولى خطواتي في عالم الكتابة الرحيب الخلَّاق. وابتعتُ عدة أعدادٍ من المجلة التي بها مقالي، أهديتُ بعضًا منها لأصدقائي، وعرضتُ المقال على البعض الآخر.
وأنتقل من حديث الأدب والنشر للحديث عن مجالٍ مختلف كان له أثَرٌ أساسي على أبناء جيلي، وهي مشكلة الجنس والكبت الجنسي، فأقول إن العاطفة والمشاعر الحسية والعلاقات مع الفتيات كانت شاغلَنا جميعًا، وكانت مشكلة الجنس هي أكبر مشاكلنا، وكل واحدٍ منا يلتمس حلولًا لها حسبما تتيح له ظروفه، وهي متعددةٌ بتعدُّد الخيال وقدراته. ومع كل هذا، ظل هذا الهاجس هو المسيطر علينا جميعًا بنسبٍ متفاوتة. كان البعض قد وجد حلولًا فردية لها، والآخر حلَّها عن طريق صداقاتٍ مع وافدين عرب لهم شقتهم الخاصة التي يتردَّد عليها أمثال «راء» وشوشو وغيرهما! أما الكثرة الغالبة منا فكانت في التماس معرفة أي دارٍ للبغاء يُمكِن التردُّد عليها في أمن وسلامة. أما صديقي إبراهيم فقد كانت له شقتُه بمصر الجديدة، التي كان يتردَّد عليها بعضٌ من بائعات الهوى. وقد حاولنا مرة أن نستلقط صيدًا من حديقة الأزبكية، فقابلنا أحد الشبان الذي أقنعَنا أنه يعمل في تلك «المهنة»، وأن لديه ما نطلب. وذهبنا معه في سيارة أجرة إلى العباسية، وطلب منا أن ننتظره في الشارع الرئيسي كي يذهب لإحضار الفتاة بعد أن حصل على خمسة جنيهات، ولكن إبراهيم أصر على الذهاب معه. وبقيتُ وحدي أتشاغل بمشاهدة المحلات والمارَّة. ومضى وقتٌ طويل، إلى أن رأيت إبراهيم عائدًا، متهدِّل الأذنين، وحده، متجهِّمًا، فعرفت على الفور أنها كانت خدعةً وقعنا فيها. وشرح لي صديقي أن الرجل قاده وسط حوارٍ وأزقَّة، ثم أفلَت منه مارقًا يجري، ولما جرى إبراهيم وراءه هدَّده بأنه سيُثير أهل الحتة ضده، ثم جرى واختفى تمامًا عنه. وهوَّنتُ على إبراهيم الأمر، وأدركتُ كيف تَعْمى البصيرة والعقل عن إدراك أوضح الأمور حين تغلِب الرغبة وتشتعِل الغرائز؛ فقد كان كل شيءٍ في ذلك الرجل وما يقوله يشي بالخداع والمخاتلة حتى للأغبياء ومتوسِّطي الذكاء، ولكنه خال علينا أنا وإبراهيم!
وهكذا كانت حدة المشكلة الجنسية بين أبناء جيلي. وتحضُرني إحدى الصور البشِعة لأحد الأصدقاء، اعتاد التردُّد على منزل بغيٍّ في حيٍّ شعبي، وكانت مشكلته معها هي الرائحة التي لا يتحمَّلها لجسدها، حتى إنه فكَّر في حلٍّ فريد، هو أن يضع في فتحتَي أنفه قطنًا مُبلَّلًا بماء الكولونيا أو العطر وهو معها! وقد انعكَس هذا الحرمان العاطفي والكبت الجنسي لدى جيلي بأكمله في ذلك الهوَس بالجنس الذي نراه في كثيرٍ من كتابات أفراده، على نحوٍ أوضحَ بكثير مما نجده في كتابات الأجيال السابقة.
وأعود من هذا الحديث إلى حديث العمل في إدارتنا للعلاقات الثقافية، فأذكُر أنه مَرَّ بها شخصان متميزان، واحدٌ بعد الآخر؛ إذ كانا يقضيان فترة انتقالٍ معنا إلى حين انتقالهما إلى الجامعة، بعد أن حصلا على درجة الدكتوراه من إسبانيا؛ فأولًا، وفد إلينا الدكتور أحمد شعراوي، المتخصص في التاريخ، وهو شخصيةٌ مثقَّفة جذابة، هادئ الطبع، طليُّ الحديث، واسع المعرفة، وكان متزوجًا من ألمانية تخصَّصَت في الدراسات العربية في إسبانيا؛ حيث التقاها هناك، وحضَرَت معه إلى القاهرة بعد انتهاء بعثته. ولمَّا كنتُ أدرُس الإسبانية، فقد وجدتُ فيه مَعينًا لا ينضب من العَون في المحادثة بتلك اللغة، والمعرفة بالأدب والحياة في إسبانيا. وكان هو أول من عَرفتُ منه الشاعر الإسباني الرومانسي «جوستافو أدولفو بكِر» الذي سيكون بعد ذلك أحد الشعراء المقرَّبين إلى قلبي. وبعد تعيين الدكتور شعراوي في كلية البنات عين شمس، استمرَّت علاقتُنا ولقاءاتُنا، ولم تنقطع صِلتُنا حتى عهد مَهجَري النيويوركي.
والشخصية الثانية هي الدكتور الطاهر مكي، وكان عائدًا أيضًا من إسبانيا بعد حصوله على الدكتوراه في الأدب، وكان صعيديًّا صاحب نكتة وعارفًا بالأصول، وهو أكاديميٌّ بارع، انتُدب بعد ذلك للعمل في بوجوتا عاصمة كولومبيا، ولكنه لم يسترح هناك، وعاد إلى مكانه في كلية دار العلوم التي تخرَّج فيها. وكانت صلتُنا رقيقةً إلى أن انتُدبتُ للعمل في إسبانيا، فتجدَّدَت علاقتنا؛ إذ كان يزور إسبانيا كثيرًا إبَّان عمله بعد ذلك في الجزائر، وكان صاحب فضلٍ في انتدابي لتدريس اللغة الإنجليزية في كلية دار العلوم، في الفترة التي عُدتُ فيها من إسبانيا.
وهكذا كانت صداقاتي الأساسية عشية معرفتي بنشوى في عام ١٩٦٤م: محمد عناني، أحمد السودة، عبد الفتاح العدوي، أحمد البكري، أحمد ساهر، توفيق عبد الرحمن، إبراهيم محمد، علي كمال، عبادة كحيلة، ماهر شفيق، عاطف مرسي، أحمد شعراوي، نبيل راغب، وهيب يوسف، حلمي جرجس، السعيد بدوي. ولتوضيح بعض الأمور أذكُر أنني تعرَّفتُ على ساهر من بعض الأصدقاء المشتركين، وكان يدرُس في القسم ولكن بعدي بسنتَين، وهو عرَّفني بأحمد البكري زميله، الذي سافر بعد تخرُّجه إلى العراق وعاد بعد سنةٍ واحدة ومعه مسجِّلٌ صغير استمتعنا به في سماع تسجيلات فيروز وأم كلثوم وعبد الوهاب. وفي أحد الأيام، زارني أحمد البكري ولم يجدني، فترك لي ورقةً كتب فيها: «حضرتُ ولم أجدك وكان معي علي صاحب لورانس.» وكانت بداية معرفتي بعلي كمال، تلك المعرفة التي فاقت بعد ذلك صلتي بساهر وأحمد البكري نتيجة ظروف سفرهما. وعلي خرِّيج قسمنا أيضًا ومن المهتمين بالكتب والقراءة والكتابة، ونَشَر مراجعاتٍ في مجلة «المجلة» وترجماتٍ كثيرةً في صحفٍ أخرى. وقد تخصَّص في د. ﻫ. لورانس وأفكاره وكُتبه. وكان من المهتمين بالأغاني العربية والأجنبية، وحاز الكثير من الأسطوانات التي كانت نادرةً في تلك الأيام. وقد سافر علي عام ١٩٧٢م، معارًا إلى إذاعة اليابان في طوكيو، وأقام ما بين طوكيو والقاهرة حتى الآن، وهو مرجعٌ ثقة في أمور الترجمة، وتخصَّص أيضًا في متابعة الأفلام.
وكان علي كمال هو الذي عرَّفني على ماهر شفيق فريد؛ إذ اصطحبه معه يومًا لزيارتي في غرفتي بشارع محمد شكري، وامتزجَت كيميائياتُنا على الفَور، وتحادَثْنا في أمور الأدب، وكان مُتخصِّصًا في ت. س. إليوت، وامتدَّت صلتُنا متينةً حتى الآن.