وزارةٌ جديدة وعلاقةٌ عاصفة
في عام ١٩٦٤م، ذهبتُ في مهمة عمل إلى مجلس الأمة (مجلس الشعب فيما بعدُ)، حاملًا معي مِلفًّا عن علاقاتنا الثقافية مع الأرجنتين؛ حيث كان هناك وفدٌ برلماني من ذلك البلد يزور المجلس. ودخلتُ إلى حرم مجلس الأمة بصعوبةٍ شديدة بعد اتصالاتٍ عديدة، وتوجَّهتُ إلى إدارة العلاقات الخارجية به، فوجدتُ عدة مكاتب، واستقبلَتني موظَّفة كان يبدو أنها تنتظرني، فقدَّمتُ نفسي وأعطيتُها الملف فأخذَته شاكرة. وسألتُها عن موعد الانتهاء منه، وأعطيتُها اسمي وتليفون الإدارة كي تُبلغَني متى يمكن أن آتي لتسلُّمه، ولكنها قالت إنه بما أني قد حضرتُ لتسليمه لها، فإنها سوف تُعيده لي بنفسها بعد الانتهاء منه، خاصةً وأن الوزارة على بُعد خطواتٍ من مجلس الأمة. وتركتُ لها رقم غرفتي بالوزارة، وخرجتُ وقد تركَت الفتاة أثرًا عميقًا في نفسي. كانت تتمتع بجمالٍ فائقٍ هادئ، ذات بشرةٍ بيضاء تشوبها حمرةٌ رقيقة، وشعرُها قصيرٌ عصريٌّ جميل، وأناقتُها تتبدى في حسن الذوق في اختيار الألوان الجميلة. أما الرقة في الكلام والمعاملة فحدِّث ولا حرج. وحتى اسمها موسيقيٌّ جميل، نشوى فريد، اسم قابل للشهرة!
وحملتُ طيفَها وصوتَها معي طوال أيام، إلى أن طلبَتْني يومًا بالتليفون لنتفق على موعدٍ تحضُر فيه لتُعيد لي الملف. وحين جاءت، استضفتُها وطلبتُ لها مشروبًا، فكان لا بد وأن نتجاذب أطراف الحديث كما يقولون. وعرفتُ أنها خريجة قسم اللغة الإنجليزية مثلي، ولكن من جامعة عين شمس دفعة ١٩٦٣م، وأنها تعمل بصورةٍ مؤقتة في مجلس الشعب؛ حيث إنه من المفروض أن تنتقل للعمل بالتليفزيون متى انتهت إجراءات نقلها. وجرَّنا الكلام إلى القراءة والكتب، فعرفتُ أنها تُحب قراءة الروايات، فعرضتُ عليها أن أعيرَها بعض روايات همنجواي، ولم تكن قد درَسَته في الكلية. وكنتُ أنا قد جمعتُ معظم أعماله بوصفه من أحب الكُتَّاب لي. وذكرتُ لها قصة العجوز والبحر، واتفقنا على أن أحضِرها لها في الأسبوع التالي، على أن نلتقي عند الخروج من العمل أمام مجلس الأمة، في الساعة الثانية وعشر دقائق.
هكذا بدأ موضوع نشوى. وبالطبع، تطوَّر اللقاء إلى دعوة لتناول مشروبٍ في شرفة فندق سميراميس القريب. وتكرَّرَت اللقاءات، وبدأَت تطول، ويتطور الحديث إلى الأمور الحياتية الخاصة، فالأمور الشخصية. ووجدتُ نفسي بالتدريج واقعًا في حُبها. ورغم أنها كانت تتواصل معي، لم أكن واثقًا هل تُبادِلني مشاعري أم لا.
وجاءت هذه العلاقة مواكبةً للأنشطة العديدة التي أقوم بها في ذلك الوقت. كنتُ أطالِع ديوان المتنبي في المكتب، وأحضُر دروس اللغة الإسبانية بالمركز الإسباني، وأقرأ في المصحف الميسَّر لفريد وجدي في المنزل ليلًا. عرفتُ معاني الكثير من الكلمات القرآنية التي كنتُ أجهلها؛ وكان مقصدي الأساسي هو ارتشاف البلاغة العربية التي يحتويها القرآن؛ لذلك كان طبيعيًّا أن تكون الصور البديعية الحية هي أول ما يَلفِت نظري: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا. أو الصور الدرامية المسرحية، مثلما جاء في شأن أصحاب الجنة: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. صدق الله العظيم. وذهِلتُ من هذا الأسلوب المُعجِز في البيان، وفي التصوير، وفي الإيجاز في التعبير، والتنقُّل السريع بين المَشاهِد. وتعوَّدتُ أن أكتبَ بعض الآيات في ورقٍ صغير، وأحفظَها عن ظهر قلب، غالبًا وأنا ذاهب إلى العمل سيرًا في الصباح الباكر.
ورآني الدكتور شعراوي أطالِع في المصحف، ففتَحه على سورة يوسف وقرأ لي بعض آياتها، وطفِقنا نتعجَّب من روعة الوصف واللغة المُعجِزَين. ومن ناحيةٍ أخرى، كان الدكتور شعراوي أكثر من يحدِّثني عن حياته في إسبانيا أيام دراسته هناك، ويُحاوِل أن يجعلني أحادثه ببعض العبارات الإسبانية المتداولة، تدريبًا لي على الحديث بالإسبانية. وكان هو أول من سمعتُ منه — كما ذكرتُ سابقًا — عن الشاعر الإسباني جوستافو أدولفو بكِر، وكان معجبًا بشعره الرومانسي الجميل. وكانت نتيجة حديثه لي عن إسبانيا أن جعلَني في شوق لزيارة تلك البلاد الجميلة المليئة بالآثار العربية الإسلامية. وكنتُ قد ضمَمتُ الشاعر الإسباني غرسيه لوركا ضمن المؤلِّفين الذين يشكِّلون دائرة اهتمامي الأولى، وكان قد اشتُهر في العالم العربي بعد مصرعه غداة الحرب الأهلية الإسبانية، وبسبب الموضوعات الأندلسية في شعره ومسرحياته، ولكن كان من الصعب جدًّا العثور على أي كتابٍ له أو عنه في مصر.
وفي خِضَم هذا النشاط الثقافي والفني والعاطفي، حدث أمرٌ قلب حياتنا العملية رأسًا على عقب؛ ففي خريف عام ١٩٦٤م، جاءت وزارةٌ جديدة برئاسة علي صبري، وأنشأت وزارةً جديدة مستقلة باسم «وزارة العلاقات الثقافية الخارجية»، وتم تعيين الدكتور حسين خلاف، أستاذ المالية العامة، وزيرًا لها. وبالطبع اغتبَطنا جدًّا؛ فقد كان ذلك اعترافًا وتتويجًا لجهودنا ونشاطنا في مجال العلاقات الثقافية مع مختلف دول العالم، وكانت إدارتنا هي نواة الوزارة الجديدة. وبدأَت الصراعات والاتصالات العلنية والخفية تعمل عملَها لتُحدِّد من سيذهب إلى الوزارة الجديدة التي كان الكل يريدها، ومن سيبقى في وزارة التعليم العالي. وظهَر منذ البداية أن رئيس قسمنا عبد الكريم أحمد هو صاحب النفوذ في ذلك الموضوع، ربما لصلته بالدكتور خلاف؛ ولهذا كنتُ مطمئنًّا إلى أنني سأكون معه إنْ هنا أو هناك؛ فقد كانت علاقتُنا قد توثَّقَت إلى حدٍّ عميق، بما بدا له من اهتماماتي الثقافية واللغوية. وبدأَت الاستعدادات لنقل إدارتنا إلى الوزارة الجديدة، مع استبعاد موظَّفين بعينهم، منهم زميلنا «محسن نبيل» الذي توسَّط لدى من يعرفهم ونُقل إلى الوزارة وإن لم يلتحِق بإدارتنا، وسيكون له دورٌ لاحقٌ في إقامة امتحان للعاملين الثقافيين بالخارج بعد ذلك. وكان أهم حدثٍ في ذلك الأمر، استبعاد وكيل الوزارة لشئون العلاقات الثقافية الخارجية من الانتقال إلى الوزارة الجديدة. ولا عجَب؛ فهو كان دومًا على علاقةٍ سيئة بعبد الكريم أحمد. ورغم كل التفاؤل الذي صاحب إنشاء الوزارة الجديدة، وأحاديث منح الصفة الدبلوماسية للعاملين بها، فقد واكب ذلك إجراءٌ يتناقَض كل التناقُض مع إنشاء الوزارة، هو قرار رئيس الوزراء الجديد إلغاء مكاتبنا ومراكزنا الثقافية بالخارج لتوفير النفقات! وكان هذا يمثِّل صورةً واضحة لتضارُب القرارات في ذلك الوقت نتيجةً لتعدُّد مراكز القوة والصراعات بينها، وهو ما أدَّى بعد قليلٍ إلى كارثة ١٩٦٧م.
ولم نبدأ في نقل المكاتب والأثاث والملفات إلا في ديسمبر ١٩٦٤م. وكانت أيام النقل «فوضوية»؛ فنحن نتنقَّل ما بين الوزارتَين (وكانت الوزارة الجديدة في الدقي بالقرب من كوبري الجلاء) ونرى مكاتبنا على ظهور الحمَّالين، ثم ننتظرها في المبنى الجديد لنَطمئِن على وصولها سالمة. ومرَّت أيام قضيناها في غُرف ومكاتبَ متفرقة، نُنجِز العاجل من الأعمال والمذكِّرات الضرورية، إلى أن وضحَت خريطة الغرف، ووجدتُ نفسي في قسم التخطيط، أقوم تقريبًا بنفس العمل الذي كنتُ أقوم به، من تخطيط العلاقات الثقافية مع دول أمريكا اللاتينية وإسبانيا والبرتغال. وكانت النية تتجه إلى تدعيم العلاقات مع تلك الدول، خاصة بعد عودة الدكتور محمود مكي، وكيل المعهد المصري بمدريد، إلى مصر، وإشرافه العام على تلك العلاقات. ووجدتُ مكتبي في حُجرةٍ صغيرة مع زميليَّ محمد وصلاح، برئاسة علي فهمي، الذي كان ملحقًا ثقافيًّا في اليونان، وعاد بعد قرار إغلاق المكاتب والمراكز الثقافية بالخارج. وبعد فَترة التحقَت بقسمنا إحدى خرِّيجات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وعملَت معي في نطاق أمريكا اللاتينية. وكان المطلوب منا إعداد «خطة خمسية» للعلاقات الثقافية مع كل دولة من دول العالم، كل قسمِ فيما يخصُّه. وكان العمل جادًّا، نقوم به ليل نهار، رغم أنني أعدَدتُ مذكِّرة مُسهَبة لإعفائي من العمل المسائي بسبب الدراسات التي أقوم بها. وكنتُ قد التحقتُ بمعهد الدراسات العربية العالية التابع للجامعة العربية، في قسم الدراسات الفلسطينية، وكان ذلك — بالإضافة إلى دراسة اللغة الإسبانية — مما يفيد العمل الذي أقوم به في الوزارة. ورغم التشديد الكامل بضرورة الوجود للعمل المسائي بالنسبة لكل الموظفين، تمكَّن عبد الكريم أحمد من الحصول على موافقة وكيل الوزارة على هذا الاستثناء بالنسبة لي.
كانت دراستي بالمركز الإسباني قليلة الناتج؛ فالمدرسون في تلك الحقبة لم يكونوا متخصِّصين، معظمهم من موظَّفي السفارة الإداريين ومن الإسبان المقيمين في القاهرة، ويستخدمون إنجليزيةً سقيمة لنقل أفكارهم إلينا؛ ولذلك فقد اعتمَدتُ على نفسي في تطوير دراستي للإسبانية. وكان من أهم الكتب التي وجدتُها في مكتبة شادي كتاب بنجوين الجميل، الذي يحتوي على قصائدَ مختارة للشاعر لوركا، النص الإسباني وبجواره الترجمة الإنجليزية. وكِدتُ أحفظ معظم هذه القصائد في نصها الأصلي الإسباني من فَرْط تَكرار قراءتي لها، وكان منها قصائد القيثارة وأحبك يا أخضر والحرس المدني ومرثية مصارع الثيران سانشز مخِيَّاس. وبدأتُ في مخطَّط ترجمة بعض هذه القصائد إلى العربية.
أما دراستي في معهد الدراسات العربية العالية فكانت مزدهرة. كانت الدراسة لمدة سنتَين، يحصُل الدارس بعدها على دبلومٍ عالٍ يساوي الماجستير ماليًّا. وكان يُدرِّس لنا مجموعةٌ رائعة من الأساتذة، بعضهم من الأقطار العربية الأخرى، وكنا ندرُس تاريخ القضية الفلسطينية، والأحزاب الإسرائيلية، والحضارة العربية، وعلاقات إسرائيل بأفريقيا؛ علاوةً على اللغتَين الإنجليزية والعبرية. وكانت الدكتورة بثينة عبد الحميد هي من تُدرِّسنا الإنجليزية. وفي السنة الثانية، سألت عني؛ فقد كنتُ الحاصل على أعلى درجة في مادتها في السنة الأولى. وكنتُ قد حصَلتُ على تقدير عام جيد جدًّا في تلك السنة، ورجوتُ أن أستمر على ذلك المستوى في العام الثاني والأخير. وكانت هناك شبه منافسةٍ بيني وبين أحد الزملاء الفلسطينيين العاملين بالإذاعة. ولمَّا عُرف أنه قد حصَل على ١٩ من ٢٠ في مادة القانون الدستوري الإسرائيلي التي كان يُدرِّسها لنا الدكتور عبد الحميد متولي، لم يبقَ هناك شكٌّ في تفوُّقه عليَّ في تلك المادة، ولكن … جاءت المفاجأة، وهي حصولي على ١٩ ونصف درجة فيها!
كانت أيامًا حافلةً بالعمل والدراسة والقراءة والحب والصداقة والنشاط الذي لا يَكِل، والطموح الذي لا تحدُّه حدود.
وقد أسهمتُ بمجهود أيضًا في دراسة اللغة العبرية بالمعهد، وتعاونتُ مع الأستاذ النجار الذي كان يُدرِّس لنا هذه المادة؛ فقد كان معظم الزملاء يتشاغلون عن دراستها ويسخَرون منها، بينما وجدتُها فرصةً لبدء دراسة هذه اللغة القريبة من اللغة العربية، وابتعتُ كتابًا لتعليمها، وقاموسًا عبريًّا إنجليزيًّا وبالعكس. وفي السنة الأولى، فاجأتُ الأستاذ النجار بأني قد ترجمتُ الفِقرة التي أعطاها لنا، وعملتُ معه في تحليل القِطَع التي يعطيها لنا مستعينًا بالقاموس. وبدأتُ في حفظ الأفعال العبرية وتصريفاتها، واشتريتُ التوراة باللغة العبرية، وبدأتُ أفكُّ طلاسمها بمعونة القاموس والترجمتَين العربية والإنجليزية للكتاب المقدَّس.
وفي تلك الفترة، اقتنيتُ أحد أهم الكتب قاطبة؛ الغصن الذهبي لجيمس فريزر، في جزأَين من الخط الصغير، وهو موجزٌ وافٍ للكتاب الأصلي الضخم المكوَّن من ثلاثة عشر جزءًا. وقد أدخلَني هذا الكتاب إلى عالم الأساطير والطقوس البدائية المُوغِلة في القدم، وما لها من أهميةٍ بالنسبة للوعي الإنساني، وتأثيرها العميق في الأعمال الأدبية والفنية. ودفعنَي ذلك إلى قراءة كتاب جوزيف كامبل «البطل ذو الألف وجه» قراءةً متأنيةً فاحصة، ونقلتُ منه فِقراتٍ كثيرة ملأتُ بها كرَّاسًا كبيرًا. وهداني ذلك إلى كتاب الدكتور شكري عياد الثمين «البطل في الأساطير»، الذي كان، كما أعتقد، رسالتَه للماجستير.
وكانت كل هذه القراءات والأعمال في الوزارة على خلفية عاصفةٍ عاطفية كنتُ أعيش فيها مع نشوى؛ ذلك أن تلك العلاقة، التي بدأَت حبًّا جميلًا هادئًا، يُلهِم الجمال والسكينة، لم يلبَث أن تطوَّر إلى ما يشبه الاستحواذ من جانبي، وذلك بعد قليلٍ من انتقال نشوى للعمل بالتليفزيون. وبدأتُ ألاحظ تعليقات نشوى على زملائها، وعلى الفنانين الذين تراهم بحكم عملها. وزاد على ذلك ما كنا نقرأ عن الجو المحيط بالممثلين والممثلات، والأفلام والبرامج، مما أدخل في نفسي بطريقةٍ تدريجيةٍ غريبة، غَيرةً مَرَضيةً شديدة على نشوى، وندمتُ على تشجيعي السابق لها للانتقال للعمل بالتليفزيون. وبدأتُ أسألها عن علاقاتها بزملائها في العمل، ثم الملابس التي ترتديها هناك، ثم بدأتُ أطلب منها مطالب تتعلق بعلاقاتها بزملائها. وحاولَت جهدها أن تبيِّن لي أنها لا تهتم بأحدٍ غيري، وأن عملَها يقتضيها أن تظهر بمظهرٍ لائقٍ مناسب، وأن تتعامل مع الكثير من الناس والزملاء، ولكن ذلك كان يهدِّئ من ثَورتي أحيانًا وإن لم يُطفِئ ما بداخلي من قلقٍ وشكوك. وتطوَّر الأمر تدريجيًّا، وتداعت أفكار الغَيرة والاستحواذ من مرحلةٍ إلى أخرى، وصلَت إلى تقديس الذكريات، مما دفعَني إلى العمل على أن يرتبط كل شيء في ذهن نشوى بي، فكنتُ أواعدها للقاء في أماكنَ مختلفة، مصممًا على أن نجلس معًا في كل كافيتيريا موجودة بالقاهرة، حتى تتذكَّرني إذا ذهبَت إلى أيٍّ منها بعد ذلك. وكنا في البداية نلتقي مرةً في الأسبوع، ولكن، كلما زادت شكوكي وتساؤلاتي، زادت مرَّات اللقاء. وأصبحَت العلاقة عبئًا وألمًا أكثر منها حبًّا ولذةً، وجاء ذلك في الوقت الذي كنتُ مستغرقًا فيه في أكثر من دراسة، وعملٍ مستمر، وقراءات وكتاباتٍ متصلة. ولا أعرف كيف كنتُ أتحمل كل ذلك. كنت أشعر أنني على شفا جُرُفٍ هارٍ، وأصارع كل يوم كي لا أسقط. ولا أدري كيف أمكنَني أن أحرِز نجاحًا في كل ما كنت أفعلُه وأنا في مثل هذه الدوَّامة الرهيبة، ولكن، هل كنتُ ناجحًا أيضًا في علاقتي بنشوى؟ من وجهة نظري المتسلطة يمكن الإجابة بنعم متحفِّظة. كنتُ أضغط عليها كي لا تخالط زملاءها في العمل، وكي لا ترتدي تلك الفساتين «الجابونيز» التي يمكن لمن يجلس إلى جوارها أن يرى جسدها من خلالها، أو التاييرات الضيقة والقصيرة. وكانت نشوى منساقةً معي بفضل بدايات علاقتنا؛ حيث كنتُ جادًّا وطبيعيًّا، ولكنها أيضًا لم تكن تُوافِق على مطالبي إلا بعد معاركَ مستمرة. وفي أيام الصفاء، كنا نفوز بسويعاتٍ رائعة، في حديقة الأسماك، وحديقة الحيوانات، والقناطر الخيرية، ودور السينما؛ حيث كنا نتبادل القبلات والأحضان واللمسات. وقد شاهَدنا الفيلم الهندي «سانجام» في سينما روكسي بمصر الجديدة مراتٍ عديدة، كانت شاهدةً على عواطفنا الجامحة واستكشافاتنا للألعاب المحرَّمة! وانتهى الأمر بأن أصبحتُ أقابلها كل يومٍ تقريبًا. وكانت أماكنُ لقائنا معروفة؛ شرفة سميراميس، والنايت آند داي، وهارون الرشيد، وكازينور وسان سوسي والحمَام في الجيزة، بالإضافة إلى مطاعم الهرم، وفوق كل شيء كازينو عوامة الزمالك الذي يُتيح لنا حريةً كبيرة.
وكنتُ أستجوبها في كل مرة عما حدث في العمل، ومع من تحادثَت، وفي أي شأن. كانت لحظاتٍ مؤلمة لي ولها؛ ولذلك كانت الأيام التي لا تذهب فيها إلى العمل مريحةً لنا؛ فقد كنتُ أقضيها دون قلق، وفي صحبة أصدقائي. وحدَث ذات مرة أن قالتْ لي إنها لن تذهب إلى العمل في اليوم التالي؛ ولهذا خرجتُ في صحبة صديقي إبراهيم، وكنا نركب تاكسيًا من عند مبنى وزارتنا إلى مصر الجديدة، حين رأيتُ نشوى تخرج من مبنى التليفزيون. ولم ينسَ إبراهيم حتى اليوم ما انتابني من هياجٍ وثورةٍ لأوقف التاكسي وأقول له إنني سأقابله في شقَّته بعد ذلك. وجريتُ عابرًا شارع الكورنيش دون أن أشعُر بما أفعل، وجريتُ حتى لحقتُ بنشوى وأمسكتُها من ذراعها بعنفٍ شديد. وبُهتَت نشوى بالطبع، وحاولَت أن تتملَّص من قبضتي دون جدوى، فسارت معي بعيدًا عن المبنى وأنا في حالةٍ عصبيةٍ شديدة. وقلتُ لها ها أنا أرى أنها تكذب عليَّ، فكيف أصدِّق أيَّ كلام تقوله لي بعد ذلك؟! وثارت هي الأخرى وقالت إنها حرة، وإنها ضاقت بما أفرِضُه عليها من قيودٍ تضطَرُّها إلى الكذب عليَّ. وأضافت أنها منذ الآن ستفعل كل ما تريده. فقلتُ لها إن هذا مجرد أوهام، ولا بد أن تأتي معي الآن حتى نُصفِّي هذا الموضوع. ورفضَت الذهاب معي إلى الكافيتيريا، ولكني أمسكتُ بمِعصَمها لأجُرَّها، وعندها مالت بوجهها إلى يدي وعضَّتني فيها عضَّةً شديدة. ولم أحرِّك ساكنًا، وإن بدأ بعض المارة يرَونَ ما يحدُث ويضحكون. ولم تهتزَّ مني شعرةٌ واحدة حتى من عضَّتها الأليمة ومن سُخرية الناس وأنا الأشد كرهًا لمثل هذه الاستعراضات العاطفية. وأخيرًا، رضخَت لطلبي وتوجَّهنا إلى كازينو قريب؛ حيث قضينا ساعةً كاملة، شرحَت لي فيها أن ذلك محاولة منها للتخفُّف من قيودي عليها، ولإثبات شخصيتها المستقلة. وجعلتُها تُقسِم على المصحف الشريف أنها لن تقوم بمثل هذه الكذبة مرةً أخرى. وكان واضحًا أن حُبنا لا يسير مساره المعتاد، وأن هناك شروخًا قد حدثَت بيننا ولا يُمكِن إصلاحها. وتبدى ذلك خلال مقابلاتنا التالية؛ حيث انحصَرَت العلاقة في طلبي منها أن تنتقل من عملها بالتليفزيون إلى عملٍ آخر، وقولها هي إنها تُحاوِل ذلك. كان واضحًا أن العلاقة تُحتضَر، وكنا نلتمس لنا مخرجًا نسلُكُه.
وفي الوقت نفسه، كان عملي في الوزارة الجديدة في ازدهار؛ فقد مضيتُ قُدمًا في إعداد الخطة الخمسية لعلاقاتنا الثقافية مع أمريكا اللاتينية، من إنشاء المراكز الثقافية، إلى إرسال وفود، وتخصيص منحٍ دراسية للطلبة هناك، للحضور لدراسة اللغة والأدب العربيَّين في مصر. وكان مديرنا عبد الكريم أحمد دائمًا يُشيد بي وبنشاطي وبالمذكِّرات التي أكتبها. وفي مارس ٦٥، نشرَت لي مجلة الثقافة، التي يرأس تحريرها محمد فريد أبو حديد، عرضًا لكتاب «آمال جديدة في عالم متغير»، لبرتراند راسل، من ترجمة عبد الكريم أحمد. وكانت فرحةً كبرى لي أن يظهر اسمي مقترنًا باسم أستاذي ومديري في العمل، وقدَّمتُ له نسخةً من المجلة، فاغتبط بالمقال وإن اختلف معي في بعض تعليقاتي. وأذكُر أنني تقاضيتُ سبعة جنيهاتٍ مكافأةً عن ذلك المقال، بزيادة جنيهَين عما تدفعه المجلات الأخرى. كنتُ قد نشَرتُ أيضًا عدة مقالات في مجلة الآداب البيروتية، بالمجَّان طبعًا، بالإضافة إلى مقالٍ مُترجَم عن كافكا في مجلة «القصة» المصرية، وترجمة قصيدة سفينة الموت ﻟ د. ﻫ. لورانس، في مجلة الشعر، التي كان يُشرِف عليها غالي شكري. وأذكُر أنه أبدى إعجابه الشديد بترجمتي، وذكَر ذلك لمحمد عناني، الذي نقل لي إعجابه (وقد ذكر لي بعد ذلك الدكتور محمود صبح في مدريد أن غالي شكري كتب في أحد مقالاته أن أفضل مُترجِمي الشعر هما صلاح عبد الصبور وماهر البطوطي — مما رفع من شأني لدى أوساط المثقَّفين العرب في مدريد). وقد كان ذلك التقدير عاملًا حاسمًا لدفعي إلى ترجمة المزيد من الشعر الأجنبي طوال مسيرتي الثقافية.
وجاءت لي الأنباء بنجاحي في السنة التمهيدية للماجستير بجامعة عين شمس، ونجاحي بتقدير جيد جدًّا في دبلوم معهد الدراسات العربية العالية، وهو أمر لم أكن أتوقَّعه نظرًا للحالة العصبية التي كنتُ عليها وأنا أؤدي الامتحان. كما أتممتُ أيضًا كورس دراسة اللغة الإسبانية المكوَّن من ثلاث سنوات، وحصَلتُ على شهادة المركز الإسباني بالقاهرة. وركَّزتُ طموحي بعد ذلك في إعداد رسالة للماجستير في معهد الدراسات العربية، نظرًا لحصولي على دُبلُومِه بمرتبةٍ متميزة. ولمَّا كانت دراستي في قسم الدراسات الفلسطينية، كان أول مَن فكَّرتُ فيه عميد الأكاديميين الفلسطينيين بالقاهرة، الأستاذ الدكتور إسحاق موسى الحسيني، وكان أيامها أستاذًا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وحصَلتُ على موعد معه؛ حيث قابلتُه في مكتبه الفاخر هناك في أجواء الجامعة المزهرة، وبحث معي خطَطي لإعداد رسالة الماجستير في موضوع «اللاسامية». وقد شرح لي الأستاذ مدى ما لديه من الارتباطات، من تدريس ومحاضرات وسفريات، تجعل من إشرافه على الرسالة شيئًا غاية في الصعوبة، وقد يُعيق سَيْرها. وقد ذكَر لي أن أفضل من يُمكِنه الإشراف على مثل هذه الرسالة هو الدكتور حسن ظاظا، الذي كان يُدرِّس لنا في المعهد أيضًا. وكتب لي الدكتور الحسيني رسالةً قصيرةً رقيقة يوصي بي فيها لدى الدكتور ظاظا.
وكان الدكتور ظاظا أستاذًا بجامعة الإسكندرية، ولكنه يُنتدَب يومًا لإلقاء محاضرات في كليات القاهرة ومعاهدها، فارتقبتُه في معهد الدراسات العربية يومًا وسألتُه إن كان لديه وقتُ لأحادِثه، فجلس معي بكرمه المعهود، ووافق على الإشراف على رسالتي، بعد أن أطلعته على سجل دراستي بالمعهد، ولكنه طلب تغيير عنوان الرسالة من اللاسامية — وهي من الترجمات الحرفية التي شاعت أيامها — إلى عنوان «مناهضة اليهود». وأضاف أنه يريد أيضًا إدخال تعديلات على فصول الرسالة، فأجبتُه بأن ذلك متروكٌ له. وكان الدكتور ظاظا قد انتُدب للعمل أستاذًا في جامعة بيروت العربية، فتَرك لي عنوانَه هناك، ووعد بأن نتراسل حتى تكتمل فصول الرسالة على النحو المرجُو. ومن المناسب أن أكمل هنا تتمة الأحداث التي مرَّت بموضوع الرسالة بعد ذلك، حتى تكتمل قصتها في ذهن القارئ، بدلًا من الانتظار إلى زمن وقوعها: تراسلتُ كثيرًا مع الدكتور ظاظا في بيروت، ومنحني بكرمه الكثير من وقته وجهده حتى اكتملَت فصول الرسالة، وأرسل لي مذكِّرة لتقديمها للمعهد تُفيد قَبوله الإشراف على الرسالة. وكان ذلك في الربع الأول من عام ١٩٦٧م. وتقدَّمتُ بطلب التسجيل بالفعل إلى معهد الدراسات العربية، ثم جاءت كارثة حرب يونيو في أعقاب ذلك، ولم يعُد أحد يفكِّر في دراسات عن فلسطين واليهود، فلم أسأل عما حدَث لطلبي تسجيل الرسالة، كما لم يعُد الدكتور ظاظا إلى الحديث عنها هو الآخر. وانتهى الأمر عند هذا الحد (وقد علمتُ بعد ذلك أن مجلس إدارة المعهد لم يُوافِق على تسجيل الرسالة نظرًا لحساسية موضوعها!).
أعود إلى عام ١٩٦٦م، فأقول إنه كان عامًا مزدهرًا في نصفه الأول، عدا طبعًا علاقتي بنشوى التي ظلَّت في توتُّرها المعتاد. وفي مجال الكتابة والنشر، واصلتُ موافاة مجلة الآداب البيروتية بمقالاتي المؤلَّفة والمترجَمة، فنشَرت فيها مقالًا شاملًا عن جيمس جويس من تأليفي، ثم حلقتَين من يوميات ألبير كامي، وترجمةً لقصة «حاضرة الدنيا» لهمنجواي. وكنتُ قد ركَّزتُ اهتمامي الشديد على همنجواي وجويس، فقرأتُ كل ما وجدتُه عن الأول، ومنه «صورة لهمنجواي» أفادني كثيرًا في الاستفادة من خصال الكاتب الجبَّارة، من أنه كان بوسعه عمل أشياءَ عدةٍ في نفس الوقت، والاستماع إلى حديث الآخرين بينما ذهنُه يعمل في مجالٍ آخر. واشتريتُ رواية جويس الأساسية «عوليس»، وبدأتُ في قراءتها، إلى جوار الشرح الذي كتبَه لها ستيوارت جلبرت. وكان أكبر أحلامي هو ترجمة رواية جويس الأولى «صورة الفنان في شبابه»، فبدأتُ أعِدُّ العُدة لذلك.
واستمرَّت مقابلاتي العديدة لجماعة العجول، وانضَم إلينا علي كمال الذي كان قد نشَر عدة مراجعاتٍ أدبية في مجلة المجلة، وكان يترجم إحدى روايات هنري ميلَّر. وكان يخطِّط لكتابة رواية على نسق ثلاثية الصَّلْب الوردي لذلك المؤلِّف، وأعطى لها عنوانًا مؤقتًا «الدخول، المكوث، الخروج». وفي هذه الفترة، وقعتُ على روايةٍ هائلة شكَّلَت نقلةً كبيرة في شعوري الأدبي، وهي «رباعية الإسكندرية» للورانس داريل. وابتعتُ طبعة فابر آند فابر الورقية من مكتبة شادي، وعكفتُ على قراءتها باستمتاعٍ شديد، خاصة وأنني شغوف بطريقة تقديم الأحداث من منظوراتٍ أو وجهاتِ نظرٍ مختلفة. وفي حالة هذه الرباعية، كانت الأحداث تكتمل في دائرةٍ مع كل كتابٍ منها. وقد قرأ جيلي هذه الرواية وتأثَّر بها، خاصةً من طريقة السرد. وقد كتب فتحي غانم رواية «الرجل الذي فقد ظله» بسردية أربع وجهات نظر. كذلك فعل محمود دياب في روايته «الظلال في الجانب الآخر»، التي صدَرَت عن الكتاب الماسي، والتي أحببتُها كثيرًا.
وفي رباعية الإسكندرية، شكَّلَت المبالغة في تصوير بعض الأحداث مثل كرنفال مدينة الإسكندرية، نوعًا من الواقعية السحرية، قبل أن نعرف هذا الاصطلاح، وكان أول من عَرَفْنا من أدباء هذا النوع من الكتابة التشيكي فرانز كافكا. وقد فُتِنتُ بكافكا من أول قراءاتي له، فاقتنيتُ كل كتبه، وفكَّرتُ في ترجمة أجزاءٍ من يومياته، كما فعلتُ مع ألبير كامي. وسُرِرتُ إذ وجدتُه يسجِّل جانبًا من أحلامه؛ فقد كنتُ قد بدأتُ أفعل ذلك منذ عام ١٩٥٨م.
وفي أواخر عام ٦٦، حدث شيء وقع علينا وقع الصاعقة الحقيقية. كنا نعمل بهمَّة وجِد في وزارة العلاقات الثقافية الخارجية، لدرجة توقَّعنا معها إنشاء كادرٍ خاص لموظَّفي الوزارة أسوةً بوزارة الخارجية، ولكن إذا بوزارة علي صبري تستقيل، ويُشكِّل زكريا محيي الدين وزارةً جديدة ألغِيَت منها وزارة العلاقات الثقافية الخارجية! هكذا — كما ذكرت سابقًا — كان التخبُّط في اتخاذ القرارات دون تخطيط أو دراسات جدوى مسبقة. وأصبحنا كلنا في دوامةٍ من القلق والإحباط لا نعرف ما سيكون عليه مصيرنا. وكان عبد الكريم أحمد أشد المتأثِّرين بذلك؛ فقد انهارت مشروعاته في إقرار العلاقات الثقافية بوصفها مدخلًا وأساسًا يرفد العلاقات الأخرى بين مصر ودول العالم، واعتكف في غرفته. أما أنا فقد اعتكفتُ كذلك، ولكن مع القراءة والكتابة؛ حيث تركونا لشأننا دون إشرافٍ من أي أحدٍ لفترةٍ طويلة، وأتاحت لي هذه الحرية الزمنية البدء في حُلمي الكبير بترجمة «صورة الفنان» لجويس، ومضيتُ فيها بهمَّةٍ وعزمٍ آملًا أن أرسِلها للدكتور سهيل إدريس لنشرها عن داره في بيروت.
وشَهدَت علاقتي بنشوى تصاعُدًا جديدًا مع حرية التنقُّل طوال اليوم بعد إلغاء الوزارة، وصرتُ أبحثُ عن أماكنَ جديدةٍ نلتقي فيها؛ حيث يمكننا العِراك والتصافي وتبادُل العِناق وما هو أكثر من ذلك دون رُقباء.
وصدر قرارٌ جمهوري بتعيين الدكتور خلاف مندوبًا دائمًا للجمهورية العربية المتحدة في جنيف، ولكن، ماذا عنا نحن بقيةَ الموظَّفين؟ كان كل موظَّف يعرف أحدًا في مركز المسئولية ينجح في نقله إلى وظيفةٍ جيدة. وكنتُ أنتظر ما سيفعله عبد الكريم أحمد؛ حيث إن مساري الوظيفي كان دائمًا مرتبطًا به. وقد عُرض علينا الانتقال إلى وزارة الخارجية للعمل هناك كإداريين وليس دبلوماسيين، وقبل عددٌ كبير من زملائنا ذلك، ولكني لم أقبل، مُفضِّلًا الانتظار. وكنا نسمع أننا سنعود إلى وزارة التعليم العالي، بالعلاقات الثقافية الخارجية، كما كنا من قبلُ. وكان وكيل الوزارة المشرف على ذلك القطاع هو الدكتور مصطفى كمال طلبة، بعد انتداب الوكيل السابق إلى جامعة بيروت العربية. وكانت مديرة مكتب الدكتور طلبة هي السيدة سعاد بدير، التي سبق أن قضت معنا عدة أشهر في إدارة العلاقات الثقافية بالتعليم العالي، قبل أن تذهب للعمل بقطاع البحث العلمي. وكنتُ قد احتفيتُ بها إبَّان إقامتها القصيرة معنا، فقد أعجِبتُ بنشاطها ومشروعاتها الثقافية والعلمية، وكانت هي مندهشةً من أفكاري الطليعية وحبي للأدب والفن.
وبقينا زُهاء تسعة أشهر في الوزارة الملغاة دون عمل أو توجيه، في انتظار النقل. وكان هناك على الأقل وكيل وزارة إنساني النزعة في زمنٍ عزَّت فيه هذه الصفة، عمل جاهدًا على تنفيذ حركة ترقياتٍ كانت مُعدَّة قبل إلغاء الوزارة، وتم ذلك فعلًا، ونالني منها نصيب؛ إذ رُقِّيت إلى الدرجة السادسة، مما كان له أثَر في رفع معنوياتي. وقد استغلَلتُ شهور البطالة أفضل استغلال؛ فقد أخذتُ أقرأ في الفترة التي أقضيها في المكتب — وكنت مواظبًا على الذهاب كل يوم مرتبطًا بالعادة وبالإحساس بالمسئولية — كتاب «الصور الشعرية عند شكسبير ودلالاتها» لكارولاين سبيرجن، وقد عرفتُه عن طريق محمد عناني؛ وكنت أحلم بتطبيق منهجها البحثي الفريد ذاك على الصور الشعرية عند المتنبي أو أحمد شوقي؛ لذلك قرأتُ الكتاب بتأنٍّ شديد وتمعُّن، حتى أخرُج منه بأكبر قَدْر من الفائدة.
وكنت في المنزل أقرأ القرآن الكريم أيضًا قراءةً متأنيةً فاحصة متفهِّمة، بعد أن أكملتُ قراءته من قبلُ عدة مرات. كنتُ أبدأ القراءة في المساء، وأكشف عن معنى أي كلمةٍ لا تكون واضحةً في ذهني، وأحفَظها، وأقرأ أسباب نزول الآية، وكانت عندي في كتابٍ مستقل، ثم أطالع التفسير العام لفريد وجدي، وشيئًا فشيئًا، شعَرتُ أن كلمات القرآن ومعانيه قد أخذَت تتخلَّل مسامِّي العقلية والروحية. وأحسستُ أن لغة القرآن لا يمكن أن تكون صادرةً عن بشر. ما هذا قول البشر. ودلفتُ مع منظومة تركيبات لغة القرآن المسبوكة على نحوٍ مُعجِز، منطلقًا من سورة إلى أخرى، وفي كل مرةٍ أفهم شيئًا لم أكن قد أدركتُه من قبلُ في القراءة السابقة. ثم عمَدَت بعض الآيات إلى الأخذ بمجامعي كلية، وكنتُ أحيانًا أصحو فأجد نفسي أردِّد آياتٍ بعينها. وانتابَتْني حالةٌ من الترقُّب شَملَت كياني كله. ثم انثالت لديَّ الليالي الغريبة. وفي ليلة، وأنا أقرأ في سورة النور، أحسستُ وكأن غاشيةً قد غشِيَتني. أو كأنني غفوتُ وأنا أقرأ، وإن كنتُ أشعر بكل ما يحدث لي. أحسستُ كأنني أطير في سماء لا ملامح لها ولا حدود، صاعدًا إلى أعلى، وثمَّة شعورٌ داخلي ينبئني بأني ذاهب إلى لقاء والدي في السماء. وشاهدتُني أمرق مخترقًا الأجواء وجسمي يرقُّ حتى لم أعُد أشعُر بنفسي وأنا أدخل إلى ساحاتٍ واسعة تتخطَّفها الأضواء من كل جانب. وخيِّل لي أنني أرى أشخاصًا أعرفهم بسيماهم، ولكن إدراكي ومنطقي كانا معطَّلَين فلا أعرف هل ما أرى حقيقة أم خيال. وعبَرتُ سماواتٍ وسماوات، حتى أبصرتُ الأرض وقد أصبحَت كرةً صغيرة أسفل مني، وإذ عيني تنصَبُّ على بقعةٍ معينة من الأرض التي هي خارج الزمان والمكان، وأجد نفسي منجذبًا إلى تلك البقعة، في مركز الكرة الأرضية، وأطير إليها في لحظة عين. أجد نفسي أعرابيًّا رقيق الحال، يرافقونه كيما يعلن إسلامه، وأنا منذهل من كوني سأرى رسولًا مبعوثًا من لدُن رب العالمين، وأشعُر برجفةٍ تشمل جسمي من جرَّاء ذلك. ومع اقترابنا، أشعر بالنور من حولي، والصفاء الرُّوحاني يُحيط بكل شيء، وأسمع كلماتٍ نورانية تطمئنني: لا عليك يا أخا العرب، فما أنا إلا ابن امرأة من قريشٍ كانت تأكل القديد. وما عتمتُ أن رفعتُ عيني إلى مصدر الضياء فشمِلَني سلامٌ وصفاءٌ لا يمكن وصفُهما، ونطقتُ بالشهادتَين في صوتٍ هادئ بينما نفسي يغمُرها الإشراق والنور والإيمان. وشمِلَني نورٌ من كل الأنحاء وأنا في نشوةٍ وتجلٍّ عميقَين.
وظل الحال على هذا المنوال عدة ساعات، شعَرتُ بنفسي بعدها مُقعِيًا في وسط سريري، وقد غمَر النور المصحف الذي أقرأ منه. وتطلَّعتُ إلى ذلك النور الغريب، فأجده يتحرَّك في كتلةٍ كهرمانيةٍ سائلة ويتجه إلى داخل جوفي ويستقر فيه، ولم يغادرني منذ ذلك أبدًا.
ولم تعُد لي تلك الرؤيا إلا بعد استيقاظي في الصباح، ووجود المصحف إلى جواري عادت تفاصيل كل ما جرى لي إلى ذهني، في وضوحٍ ساطع لا شِيَة فيه. ومنذ ذلك الحدَث، لم يهتزَّ إيماني بعد ذلك لحظةً واحدة.