ازدواجية اللغة
(١) اللغة العربية الفصحى
لغة العرب القدامى منذ الجاهلية، واللغة التي نزل بها القرآن الكريم، ولغة الأدب التي تستعمل في الشعر والنثر والمواعظ والخطب، وتكتب بها الكتب الرسمية، وتخضع لضوابط معينة تضبطها وتحكم عباراتها، وأهمها القواعد الصرفية والنحوية (المياحي، ٢٠١٥، ٦٨).
وتستعمل هذه اللغة في تدوين الشعر والنثر والإنتاج الفكري عامةً، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في المعاهد والجامعات والمدارس، وتؤلف بها المؤلفات والمجلات، وتستعمل في مختلف نواحي الوعظ والخطب، وسُمِّيَت باللسان العربي الفصيح أو اللغة العربية الفصحى تمييزًا لها عن المستوى الأدنى الذي تشكل فيما بعد، كما أنها تُعد المرجع والأصل لكل اللغات الدارجة في الوطن العربي (المياحي، ٢٠١٥، ٦٨).
(٢) اللغة العربية العامية
هي خلاف الفصحى، وهي لغة العامة التي تمتاز بتحريفٍ في اللفظ وغموض فيه، فلا تحافظ على سلامة اللغة العربية من حيث الإعراب، وتغيير النطق وبناء الكلمة، فهي لغة حديثنا اليومي المتداول في الشئون العامة، لا تخضع لقوانين تضبطها وتحكم عباراتها، لأنها تلقائية متغيرة، تتغير بتغير الأجيال والظروف التي تحيط بهم، وهي الإحساس والعجلة، لغة فجائية تلقائية انفعالية، ومعروف أن الانفعال بيولوجي الطابع، لا يتسع له الوقت للتفكير، ولهذا تظهر العامية على سطح الوجدان، وهي لا تخضع للقواعد النحوية، بل تكتفي بالتعبير عما يجول في نفوسنا ببساطة ويسر (المياحي، ٢٠١٥، ٦٩).
وقد ظلَّ المصطلح محدودًا في استعماله حتى قدَّم اللغوي الأمريكي «شارلز فيرغسون» هذا الاصطلاح إلى الإنجليزية عام ١٩٥٩م، إذ بحث أربع لغات تتميز بهذه الظاهرة، وهي: العربية، واليونانية، والألمانية، والسويسرية، واللغة المُهجَّنة في هايتي.
ومن بين ثلاثة آلاف لغة حية يرى الباحثان عباس المصري وعماد أبو الحسن أن اللغة العربية تخضع لهذه الازدواجية بشكل يفوق غيرها من اللغات في الواقع المعاصر، وهو ما تُفسِّره جغرافيا انتشارها الواسعة والتبايُن والكبير بين لهجاتها العامية المتداولة.
وقد عرف العرب الأوائل هذا الازدواج قديمًا بصورة ظاهرة، حيث اختلفت اللهجات القبلية عن اللغة الرسمية للتدوين الشعري، ولكنه لم يكُن على هذا المستوى الحالي من التباعد بين اللغتَين، فبين محاولات الحفاظ على لغة رسمية مكتوبة تُسجَّل بها أدبيات الأمة وتراثها ولغة دارجة مُتمدِّدة في شِعابها ظهرَ الفصام اللغوي الواسع بين شعوب الأمة العربية، بل بين أقاليم القطر الواحد في بعض البلاد.
وقد تناول المختصون الازدواجية اللغوية من زاويتَين: الأولى فيما يتعلَّق بالمصطلح والمفهوم، والثانية من حيث نشأة الظاهرة والأسباب التي تؤدي لانفصال اللغة المكتوبة عن المتداولة بين العوام.
وقد ظهر في هذا الصدد قولان، أحدهما يعد الازدواجية جزءًا من الظاهرة اللغوية منذ بدايات اللغة، وهو ما يُعزِّزه حضور الازدواجية في وقت مُبكَّر من تاريخ العربية حتى عهد قريب بنزول القرآن.
بينما يقضي الرأي الآخَر بأن الازدواجية لم تكُن إلَّا تطوُّرًا لغويًّا فرضته ظروف خاصة مرَّت بها اللغة خلال تاريخها، وهو لا ينكر وجود الازدواج في الماضي البعيد للغة، ولكنه يؤكِّد على عدم تفاقُمه بهذه الصورة، حيث يرى ابن خلدون أن هذا الازدواج «تحوُّل عن الفصحى — لغة التنزيل — وفساد لما جُبِل عليه — يقصد العرب — من صفة راسخة أو مَلَكة أو طبع بسبب مخالطتهم الأعاجم؛ إذ البُعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجم، ومَن خالط العجم أكثر كانت لغته من ذلك اللسان الأصلي أبعد.»
وهو ما يؤكده ابن منظور في مقدمته لمعجمه «لسان العرب» حيث يقول: «وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن — الخطأ — في الكلام يُعدُّ لحنًا مردودًا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمات في اللغة الأعجمية وتفاصحوا في غير العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.»
وقد ناصر هذا الرأي — القائل بحداثة مفهوم الازدواجية — أغلب اللغويين المعاصرين، والغربيين منهم على وجه الخصوص، ففي دراسة مترجمة عن الوضع اللغوي في الجزيرة العربية بعنوان «دراسات في تاريخ اللغة»، يتفق معظم الباحثين مثل «فيرغسون» في مقاله «اللغة العربية العامية المشتركة» ١٩٥٩م، و«جاشوا بلاو» في دراسته «نشأة الازدواجية العربية» ١٩٧٧م، وكذلك «زويتلر» في كتابه «التقليد الشفهي للشعر العربي القديم» ۱۹۷۸م، على أن الازدواجية العربية طارئة على اللغة وَفْق ما حدَّدَه ابن خلدون وابن منظور سابقًا.
حيث يذهب «إبراهيم كايد» إلى أن اتساع الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي قد أدَّى بدوره لاختلاط العرب بالثقافات المغايرة لثقافتهم مما اضطر المجتمعات المنضمة حديثًا لاصطناع اللغة وتداولها، الأمر الذي ترك أثرًا انحرافيًّا واضحًا على اللسان العربي الفصيح شمل كل مستويات اللغة ومظاهرها، بدءًا من التشكيل الصوتي والصيغ والتراكيب، وانتهاءً بمظاهر الخطاب والنص وطرق التعبير.
وأعتقد أن الاهتمام المتزايد باللغات الأجنبية في الوطن العربي سيما الإنجليزية منها، التي تُستخدم في تدريس مختلف العلوم، قد جعل العرب يتنافسون لإتقان تلك اللغة، بل ويتفاخرون في أيهم يُتقنها، أو يُتقن أية لغة أجنبية أخرى.
- (١)
تراث أدبي وافر محفوظ باللغة الأصلية «الفصحى».
- (٢)
اقتصار الكتابة والتدوين على نخبة قليلة من المجتمع.
- (٣)
مرور فترة زمنية طويلة — تُقدَّر بقرون — على توافر الشرطين السابقين.
وبتوفُّر الشروط الثلاثة في اللغة العربية — أكثر من مرة خلال التاريخ — فإن الازدواج اللغوي يتجلَّى بصورة أقوى من غيره في اللغات الأخرى، غير أن حالة الاتزان الناشئة بين انحراف العامية القوي ورسوخ الأساس الفصيح — عن طريق القرآن والسُّنَّة كمصدرَي أساس للأمة — أدَّى إلى حفظ العربية من «التشظِّي الذي لحق باللاتينية وعدَّدها إلى لغات مختلفة»، وليس مجرد لهجات متباينة.
ولكن «علي عبد الواحد» يذهب في «علم اللغة» إلى أن خطورة هذا الفصام اللغوي تنبع في الأساس من الفصام الثقافي الناشئ على وحدة الأمة الفكرية والشعورية بسبب تعذُّر التواصل اللغوي المُوحَّد، فاللغة وإن كانت «وسيلة التواصل بين أفراد الجماعة الإنسانية الواحدة» فإن العاميات المختلفة لم تحافظ على بقائها كما كانت قبل الازدواج.
وقد يبدو من الناحية الظاهرية أن الازدواجية لا تمثِّل التهديد الذي يُخشى منه، وأنها مُجرَّد حالة لغوية عفوية تنشأ بضرورة الاختلاط والاختلاف، وهو الرأي الذي يرى أصحابه طبيعية الظاهرة وملازمتها لكل اللغات، دون تغلُّب إحدى اللغتين الداخليتين على الأخرى، فلا الفصحى تتغير أو تنتصر، ولا العامية تتبعثر وتندثر.
ولكن ثمَّة خطر يظهر في تصوُّر «لو سيركل» لهذه الازدواجية حين تنعكس الحالة، فتتحوَّل العامية إلى اللغة السائدة والفصحى إلى اللغة المتبقية من القديم، غير أن دورة اللغة لن تنعكس مرة أخرى لتتبدل الأدوار، حيث تعمد العامية — في لعبة الكراسي الموسيقية تلك — إلى تفكيك النظام اللغوي للفصحى حين تسود فوقها، وهو ما لا يصعب تخيُّل أثره على المجتمعات الناطقة بالعربية حين يتفكك المطلق اللغوي الثابت وتسود النسبيات العامية على ما فيها من صعوبة إدراكية بين الأقاليم اللغوية المختلفة.
وفي السياق نفسه، يرى «أحمد المعتوق» أن الازدواجية تؤثِّر على الاستيعاب التعلُّمي عند الأطفال «جرَّاء لغة تتصارع مع مولود غير شرعي لا بُدَّ أن يوهنها صراعه»، فيضيق الطفل المُتعلِّم بها ذرعًا، ويرغب عنها إلى غيرها من العاميات المتاحة أو اللغات الأجنبية التي قد يحرز من خلالها تفوُّقًا ملحوظًا، نظرًا لضحالة العامية وضمور الفصحى أو تعثُّرها، وهو ما يعده البعض قتلًا للإبداع عند الطفل بسبب وجود حالة من التشظِّي والتردُّد بين عامية لا يحسن التفكير عبرها لخلوها من الأنماط الفكرية الإبداعية، واقتصارها على تيسير الحياة اليومية الاعتيادية والنشاط الذهني العادي، وفصحى لم يتقنها ليقوى على التفكير من خلالها.
في هذا الصدد أُقيمَ عدد من الندوات، وعُقِدَت عِدَّةُ مؤتمرات في مختلف الدول العربية كالمؤتمر السنوي الأول لمجمع اللغة العربية الفلسطيني في غزة، الذي عُقِد تحت عنوان «اللغة العربية ومواجهة تحديات العصر»، وندوة «اللغات في عصر العولمة، رؤية مستقبلية» التي أُقيمَت في جامعة الملك خالد بأبها سنة ٢٠٠٥م، وقد خرجت تلك المؤتمرات والندوات باستنتاجات وتوصيات لا أهمية لذكرها في هذا البحث، كون الذي يعنينا في هذا الموضع هو معرفة مدى تأثير تلك الازدواجية على عنصري الظاهرة الأدبية — الشعر خاصة: الشاعر والمتلقِّي، وقبل الخوض في هذا الموضوع لا بُدَّ من الإشارة أولًا إلى الأهميتين النفسية والاجتماعية للغة.
(٣) الأهمية النفسية والاجتماعية للغة
للغة أهمية نفسية واجتماعية كبيرة، إذ لم يكُن من الصعب في يوم من الأيام ملاحظة الأثر الواضح والعميق الذي تتركه اللغة في حياة الإنسان، والذي لا تزال تكشف عنه أحدث الدراسات النفسية والاجتماعية، لتعاضد بذلك النظرة الأساسية التي تأسست منذ أمد بعيد، والقائمة على فكرة أن اللغة وباعتبارها نظامًا مُعقَّدًا من الرموز، التي تحمل مجموعة من المضامين التي تخدم مجموعة هامة من الوظائف العقلية العليا في الإنسان، هي وكما قال «فيندغرودوف» — نظام الأنظمة باعتبارها كلًّا متكاملًا من المستويات التي تربط الإنسان بقطاعات حياته المختلفة، سواء كانت داخلية (معرفية وسيكولوجية)، أو خارجية (اجتماعية وعلائقية)، بحيث يترجم السلوك اللغوي هذه الجوانب عبر مختلف الوظائف التي تؤديها اللغة في حدِّ ذاتها (انظر: سامح عودة، ۲۰۱۷؛ والمغربي، ۲۰۰۷).
هنا تظهر أهمية دراسة الأنماط السلوكية التي يستعملها جميع الناس في التعبير عن مختلف حاجاتهم السيكولوجية وإشباعها، سواء عن طريق: الحديث، الغناء، الكتابة، القراءة بل وحتى الإنصات، والتي تتداخل مع بعضها البعض وتشترك في ميزة أساسية، وهي حضور اللغة في كل جانب منها وَفْق النموذج الثلاثي التفاعلي المعروف (مُرسِل، ومُرسَل إليه، ورسالة ذات معنى).
ومن خلال هذا النموذج تتم خدمة الجانب النفسي في حياة الفرد، إذ يتفق كلٌّ من «بوهلر» و«جاكبسون» في تقسيم كلٍّ منهما لوظائف اللغة على الجانب «الانفعالي» كوظيفة أساسية من وظائف اللغة، ذلك أن اللغة وعن طريق كل المفاهيم المحسوسة والمجردة التي تعبر عنها، تُستخدَم لإثارة الوجدان والفِكر لأنها تُحرِّك في نَفْس المستمع أو القارئ، المتحدِّث أو الكاتب، استجابات انفعالية وعقلية مُعيَّنة، بحسب الحالة التي يكون عليها الفرد أثناء توظيف قدراته اللغوية، ومدى خدمة تلك الحالة الوجدانية، واللغة المصاحبة لها للهدف الأصلي الذي تمَّ على أساسه استخدامها.
من أجل تبسيط هذا الأمر، يمكن التطرُّق إلى بعض الأنماط السلوكية، التي تتم من خلالها معالجة الجانب النفسي، وإشباع حاجاته المختلفة اعتمادًا على اللغة، وفق ثنائية اللغة المنطوقة — المسموعة، وثنائية اللغة المكتوبة — المقروءة، رغم أن العلاقات بين هذه الجوانب والجانب الانفعالي من حياتنا معقدة جدًّا ولا يمكن الإلمام بكلِّ أبعادها …
تُثبت لنا تجارب الحياة أن لغة الحديث تلعب دورها النفسي والانفعالي منذ السنوات الأولى من اكتسابها، ونلاحظ ذلك من خلال ألعاب الأطفال في حدود ثلاث وأربع سنوات عندما يتحدثون إلى أنفسهم بأصوات عالية، ويعطون الحياة لألعابهم بحيث يجعلون منها الطرف المُنصِت لهم، وهي المرحلة الانتقالية التي أطلق عليها «جان بياجيه» اسم «فترة ما قبل تكوين المفاهيم»، التي تتفرَّع منها «المرحلة الحدسية» التي تكون ما بين ٤ إلى ٧ سنوات. وهي المرحلة التي يصل فيها الطفل إلى اكتشاف أول فائدة عملية للغة، عندما يدرك أنها وسيلة تساعده على التفاعل مع الآخَرين حين يرى ردود أفعال المحيطين به المستبشرة بلغته الفتية، فيعلم أنها وسيلة تجلب اهتمامهم وتعزِّز مكانته بينهم، مما يشكِّل بوابة خروجه من التمركز حول الذات، والانطلاق في بناء علاقاته الاجتماعية والعاطفية بمَن حوله اعتمادًا على فاعلية الذات، فيتحوَّل السلوك اللفظي بذلك من وسيلة تساعد الطفل على اكتساب السلوكيات اللغوية لمحيطه الاجتماعي واستعمال اللغة في عملية التَّقمُّص بشكل خاصٍّ، إلى سلوك لغوي يستعمله لإثبات ذاته والتكيُّف وسط محيطه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية وما يجلبه ذلك من توافُق وسكينة وطمأنينة واستقرار نفسي.
ويكفي أن نشير إلى أن المشكلات النفسية التي ترافق الأطفال والمراهقين عادةً تعاضدها عوامل مرتبطة بالافتقار اللغوي، مما يجعلهم يدخلون في دوامات الانسحاب والانعزال الاجتماعي في مراحل العمر المبكِّرة.
فعلى مستوى اللغة الموجهة للآخر، يقول الدكتور «جمعة سيد يوسف»: «عند الكلام يضع المتحدثون الأفكار في كلمات، قد يتحدثون عن إدراكاتهم، أو مشاعرهم، أو مقاصدهم التي يريدون نَقْلها للآخَرين، وفي الاستماع يقومون بتحويل الكلمات إلى أفكار، ويحاولون إعادة صياغة أو تركيب الإدراكات، أو المشاعر، أو المقاصد أو البيانات التي يريدون فَهْمها.»
من خلال ما تَقدَّم تتضح لنا العلاقة الوثيقة بين سلوك الكلام (لغة الحديث) وبين سلوك الاستماع أو الإنصات بعبارة أدق، بحيث تَتحدَّد معالِم هذه العلاقة من خلال طرفين يتفاعلان بينهما، فيطرح الطرف الأول أفكاره أو مشاعره أو مقاصده، بعد أن يكون قد حوَّلها من صورتها المعرفية والانفعالية إلى شكل رموز لغوية منطوقة ومفهومة، ثم يتلقاها الطرف أو الأطراف الأخرى بشكلها الرمزي ويُعيدون تفكيكها إلى أفكار ومشاعر ومقاصد، يفهمها كلٌّ منهم ويتفاعل معها وَفْق قيمه ومعتقداته ومخزون تجاربه الذاتية.
وما يهمنا في هذا المستوى هو مدى قدرة المتحدِّث على تحويل انفعالاته إلى تعابير لغوية يصف بها حالاته النفسية المختلفة، وقدرة المتلقي على حسن ترجمة تلك التعابير اللغوية واستنباط معانيها النفسية لفهم ما يعيشه المتحدِّث، من أجل تحقيق حالة من التوافُق والتعاطف الوجداني.
وهنا يُمكننا لَمْس الدور البليغ الذي تلعبه اللغة في إيقاظ مشاعر المتحدث — داخل ذاته — ثم إيصالها إلى الطرف أو الأطراف الأخرى ثانيًا، ثم تحريك مشاعرهم ثالثًا، ثم إيجاد أرضية من الترابُط المعرفي والعاطفي معهم كهدف نهائي، وما ينتج عنه من راحة نفسية واستقرار على مستوى «الأنا».
ليس غريبًا من هذا القبيل أن نلاحظ في حياتنا اليومية أن أكثر الأشخاص بلاغةً ومهارةً في التعبير اللغوي عن أفكارهم ومشاعرهم هم — بشكل عام — أناس يتمتعون بشخصيات قوية ومتزنة، لذلك أثبتت كثير من نظريات سيكولوجيا اللغة أن هناك علاقة طردية بين القدرة المعرفية العالية في صياغة الحالات الفكرية والوجدانية في شكل لغة منطوقة، وبين الشعور بالهدوء والاستقرار مع الذات، وكذا التوافُق الاجتماعي، وذلك ناتج عن الإحساس بالقدرة على الوصول إلى أذهان الآخَرين والتأثير في أفكارهم وأحاسيسهم والتفاعل معهم، بحيث تعتبر هذه الحالة الذروة والقمة من الناحية الاتصالية والتواصلية، التي تجعل الإنسان مُتمكِّنًا ومُتفوِّقًا في حياته وسط بيئته ومجتمعه، وكل ذلك بفضل اللغة.
هذه العلاقة الطردية لا تقتصر فقط على لغة الحديث المسموعة، بل تشمل أيضًا الشكل الآخَر من اللغة وهو «الكتابة»، والذي يعتبره البعض الجانب الأهم من حيث التعبير عن هوية الشخص، بسبب علاقته المباشرة مع الجانب الثقافي والتراثي للمجتمع.
ويظهر الدور النفسي الذي تؤدِّيه اللغة في هذا الجانب جليًّا من خلال بعض السلوكيات التي يلجأ إليها الأشخاص ذوو الملكات الأدبية، للتنفيس والتفريغ عن شحناتهم الانفعالية، عن طريق كتابة ما يختلج صدورهم ويملأ عقولهم من أفكار وأحاسيس مُتنوِّعة، وهو سبيل آخَر ومُهِمٌّ للحصول على السكينة مع الذات والوصول إلى مستوًى مُعيَّن من خفض الضغط والتوتر النفسي، ولهذا نجد أشخاصًا ينزعون إلى كتابة الشعر والخواطر اليومية لتحقيق ذلك التفريغ بأكبر قدر ممكن، وهذا ما يُفسِّر الأهمية التي يحظى بها هذا النوع من استراتيجيات الدفاع النفسية في مجال العلاج النفسي الحديث.
ويرى الدكتور «أحمد المعتوق» في هذا السياق أن من أهم الصور الكتابية للغة التي تستعمل في إثارة الفِكر والوجدان، والولوج إلى أعماق النفس والتغلغل في دهاليزها المختلفة المُعقَّدة، هو «الأدب»، الذي يُعتبَر أرقى مستوًى من اللغة المكتوبة، والذي تتقنه فئة من الناس الذين بلغوا قَدْرًا عاليًا من القدرة على الاستبصار المزدوج في الذات وفي الكون، وغالبًا ما تُقاس براعة الأديب بمدى قدرته على صياغة أحاسيسه الانفعالية ورُؤَاه العقلية لغويًّا، وإيصالها في قالبها اللغوي المكتوب إلى عقل القارئ ومشاعره، وجعله يغوص في معاني النص ويفهم ما يريد الكاتب التعبير عنه بدقة، ثم الانتقال إلى معالجة مختلف المواضيع التي تشغل حياة الناس بنفس الأسلوب، بحيث تُسخَّر اللغة المكتوبة لإشباع الحاجات الانفعالية للقارئ، وهنا يكمن ذكاء الأديب، وهذا الأمر يتطابق مع ما ذُكِر آنِفًا حول لغة الحديث، فنجد أنَّه كلما امتلك الأديب أو الكاتب القدرة والزاد الانفعالي واللغوي اللذين يسيران مع بعضهما، لإيصال ما يود إيصاله إلى المتلقِّي أو القارئ والتواصُل معه عبر النصوص المكتوبة، كلما خدم ذلك الصحة النفسية لكلِّ طرف.
ويضيف أحمد المعتوق مُعلِّقًا على الوظيفة النفسية التي تلعبها لغة الأدب: «… إن الموضوعات الأدبية كما سبقت الإشارة تخاطب عقل القارئ وعاطفته، وتهدف إلى التأثير في نفسه وشدِّ أحاسيسه وهزِّ مشاعره وإيقاظ فِكره بكل ما يمكن من وسائل التعبير وأساليب القول» (انظر: یوسف، ۱۹۹۰؛ والمعتوق، ١٩٩٦؛ وممو، ٢٠١٦).
نستنتج مما سبق أن للغة أهمية نفسية واجتماعية تؤديهما باستمرار شرط أن تكون اللغة مفهومة لجميع الأطراف بحيث يستطيع المتكلم باستعمالها إيصال انفعالاته إلى المجتمع، فيفهمها المجتمع ويتفاعل معها، وهذا التفاعل يخدم الطرفين (المتكلِّم والمتلقِّي).
ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت كبار أدباء الفصحى للكتابة باللهجة العامية، ﻓ «توفيق الحكيم» رغم كتابته كل أعماله بالفصحى، لجأ إلى العامية ليكتب «الشقة» و«يا طالع الشجرة» وكذا ما كتب بالعامية من قبل «شوقي» و«مظفر النواب» و«أحمد فؤاد نجم» و«محمد بيرم التونسي» (إبراهيم، ٢٠٠٦). كما أن بعضهم قام بتضمين قصائده الفصحى عباراتٍ أو كلمات عاميةً على نحوِ ما فعلَ «قاسم حداد صبحي» و«راشد عیسی».
إذ إن هؤلاء الأدباء والشعراء والفنانين الكبار — وعلى اختلافهم الفكري — عرفوا ما عرفه الشعراء القدامى وبعض النقاد والبلاغيين الأقدمين من أنه ينبغي للإنسان أن يفهم لغة مُحدِّثه ويُحْسنها كي يتفاهم معه، عدا عن أن يؤثِّر فيه ويقنعه، ولمَّا وجدوا اللهجة العامية واقعًا ملموسًا في بيئةٍ تغلب عليها الأُميَّة لا بد من تعريفها بأفكارهم فلا بأس من طرح هذه الأفكار عليها باللغة التي تفهمها دون مترجم، خصوصًا وأنهم يمتلكون أدواتها والقدرة على استعمالها، فلم يعقهم — في هذا الاتجاه — عائق، فليست المشكلة مشكلة اللغة، لكنها مشكلة قدرة المتكلِّم بها أو مستعملها على التعبير عن أفكاره من خلالها مع تمكُّن القارئ أو السامع من متابعتها وفَهْمها فَهْمًا مناسبًا، إضافة إلى قدرة المؤدِّي على إيصالها إلى المتلقِّي بكفاءة مُشجِّعة على المتابعة، من هنا نجحت أعمالٌ كُتبت بالفصحى أو بالعامية، وفشلت أخرى كُتبت بإحدى اللهجتين، مما يُبيِّن أن لغة النص الأدبي ليست العامل الوحيد لنجاح الأدب (إبراهيم، ٢٠٠٦).
ما يعني أن شيوع ازدواجية اللغة فرضَ علينا ازدواجية الأدب بكافة فنونه، فظهر الأدب العامي إلى جانب الأدب الفصيح، وبمرور الزمن شاع الأدب العامي وانسحب الفصيح من المجتمع إلى الطبقة الخاصة الضيِّقة، وفقدَ الكثير من وظائفه النفسية والاجتماعية، ما فرض إجراء هذه الدراسة للتعرُّف إلى أسباب انتشار الشعر العامي وانسحاب الفصيح، ولأجل تحقيق هذا الهدف، أجريتُ استطلاع رأي شملَ خمسةً من شعراء الفصحى وروائيًّا واحدًا، وثلاثةً من شعراء العامية، طبعًا إلى جانب الاطِّلاع على الدراسات السابقة، وكان سؤال الاستطلاع:
• ما الفرق بين شعر الفصحى وشعر الدارجة من حيث مساحة التأثير النفسي والاجتماعي وحجمه وفترته الزمنية؟ وهل هناك فروقات أخرى حسب رأيك؟
(٤) الإجابات
قاسم العابدي (الديوانية ١٩٧١م)
من حيث مساحة التأثير في العراق أستطيع القول إن الشعر العامي يحتل مساحة اجتماعية أكبر من الشعر الفصيح، كَوْن اللهجة العراقية تتناول الهموم اليومية للفرد العراقي، أمَّا من حيث الفترة الزمنية فيمتلك الشعر الفصيح الحظ الأوفر بذلك، كَوْنه يُعالج المواضيع الآنية والمستقبلية، ومن حيث الفروقات بالتأكيد هناك فروقات كثيرة من حيث المعالجة والأوزان والأفكار ونمط وأسلوب المعالجة، وفي النهاية الإمكانية التي يحظى بها الشاعر والتي تُعتبر الرقم السري في كلِّ ما تقدَّم.
ياس السعيدي (ديالى ١٩٨٢م)
الشِّعر واحد، لكنَّ اللهجة تختلف، خُذ مثلًا أنك لا تستطيع أنْ تناقش منجزات الثقافة العراقية وتتجاهل البنفسج أو تل الورد أو روائع الكاطع العظيم، والإسفاف موجود في الشِّعر العامي، وكذلك موجود في الشِّعر الفصيح، والاختلاف في مساحة التأثير الاجتماعي حيث إنها تميل للشعبي لأنه يكتب بلهجة الناس لا لغتهم الأم. أما فترة التأثير فالقصيدة الرائعة تخلد، بغض النظر عن كَوْنها شعبية أو فصيحة.
شاكر الغزي (الناصرية ١٩٧٨م)
الأدب العامي عمومًا أكثر شيوعًا وذيوعًا بين عامة النَّاس، خلافًا للأدب الفصيح — على فرض صحة هذه التسمية — المنحصر بين النخبة المثقفة، وهذا لا يعني أنَّ جمهور الأدب العامي كله ليس مثقفًا، كما لا يعني أنَّ في العامة مَن لا يتذوق الأدب الفصيح، ولكن مدار الكلام حول الأعم الأغلب، ومردُّ ذلك في رأيي هو تراجع الذوق العام. على أنَّ هذا لا يعني أنَّ الإعجاب بالأدب العامي أو حفظه أو كتابته ليست من الذوق إطلاقًا، بل مقصدنا أنَّ حساسية عامة الناس تجاه الجمال تعرَّضَت لكثير من التشوُّه وهذا انعكس ليس على الأدب الفصيح فقط، بل على الأغاني والتي معظمها من الأدب العامي أيضًا، وهنا أشير إلى أنَّ الحديث عن تردِّي الأغاني العراقية مُتَّفَق عليه بالإجماع، ولأن النص الغنائي هو جزءٌ من الأدب العامي فهكذا يعكس ضمنيًّا حالة تقهقُر الذوق العامي كتابةً وتلقِّيًا، وإذا قارنَّا بين قصائد الشعر العامي في حقبتَي الستينيات والسبعينيات وبين ما هو سائد الآن مما يُسمَّى جزافًا بالشعر العامي، لتوضح لنا جليًّا ما نتكلم عنه من انحسار للذائقة بصورة عامة.
وما سبق أعلاه صحيح في حدود التصوُّر المناطقي الضيِّق، فإذا كان الأدب العامي العراقي أكثر رواجًا وتأثيرًا في العراق فإن نسبة التأثير والمشاعية تلك ربما ستنحسر إلى الصفر في مصر أو تونس أو ليبيا على سبيل المثال، حيث إن لكلِّ بلد من هذا البلدان أدبه العامي الخاص به، في حين أن الأدب الفصيح واحد في كل البلدان العربية، ولهذا فإن المساحة الجغرافية للأدب الفصيح في المُجمَل أكبر بكثير من مساحة الأدب العامي الذي هو أدب مناطقي حيزي.
ولعل الابتعاد عن اللغة العربية الأم، والسير تجاه لهجات محلية هو السبب الذي جعل الأدب العامي ألصق بحياة الناس اليومية وأقرب إلى أفهامهم، ولكن هذا يصح فيما يتعلَّق بالشعر العامي المباشر الذي يعتمد نبرة الخطابية الفجَّة القائمة على الوعظ والتوجيه ورفع منسوب الأدرينالين، أما الشعر البلاغي أو ما يُسمَّى «الحسجة» فأجزم بأنه الآخَر بعيد عن متناول أفهام الناس، خُذ مثلًا على ذلك قصيدة خسارة للراحل علي الشباني.
بالنسبة لي لا أنظر إلى ثنائية «الأدب الفصيح – الأدب العامي» على أنها تضاد أو تعارُض، فهما ليستا ضرتَين في بيت واحد، ولا عدوَّين في حلبة نزال، ولا كيلَين في كفتَي ميزان يجب أن يرجح أحدهما، بل هما فرعان مُهِمَّان من تراث الإنسانية العظيم، لكلٍّ منهما خصوصيته وخصائصه، ولا تصح المقارنة بينهما أبدًا، ولعلَّ أجلَى مظاهر عدم صحة المقارنة هو أن كل الشعر الفصيح ومهما بلغ من التكثيف والإيجاز (حتى أدب الومضة والهايكو) لن يبلغ كم الاختزال الهائل في بيت قصير من الدارمي قالته امرأة تعيسة! فمثلًا خذ هذه الأبيات الأربعة المنسوبة لقيس بن الملوح:
كيف استحالت بمهارة فنية لا تُضاهى إلى هذا الدارمي المشحون بالبلاغة والتكثيف:
سامي مهدي (بغداد ١٩٤٠م)
حين نتحدث عن أدب فصيح وأدب شعبي فهذا يعني أننا نتحدث عن مجتمع يعاني من ازدواجية لغوية، مجتمع ذي لغتين: لغة مكتوبة ولغة محكية.
والأدب الفصيح في مجتمع كهذا أدب نخبوي بطبيعته، وخاصةً إذا كانت الأمية متفشيَّةً فيه، ويبدو الأدب العامي في هذا المجتمع أيسَر في التلقِّي وأوسَع مساحةً في الانتشار وأكثر تأثيرًا في النفس.
ولكن هذا الانطباع سريع خادع، فالأدب العامي أدب عاطفي يتسم بالبساطة والضحالة ومحدودية الأفق، وتأثيره عاطفي آنِيٌّ وسطحي، أمَّا الأدب الفصيح فله تأثيران: ظاهر سريع، وخفيٌّ عميق، أما الظاهر منه فهو انطباع اللحظة الأولى عند التلقِّي، وأمَّا الخفي فهو ما يتركه في أعماق النفس من تأثير وما يقضي إلى تنشيط حركة العقل وتوسيع أفق الثقافة.
الأدب العامي يثير عواطف العامة ويشحن نفوسها، ولكنه نادرًا ما يُغني ثقافتها ويوسِّع آفاقها المعرفية بعكس الأدب الفصيح.
سعد محمد رحيم (ديالى ١٩٥٧، السليمانية ٢٠١٨)
بقي تأثير الأدب العامي وهو المكتوب باللغة العامية الدارجة أكبر بكثير، لا سيما في أفكار ومزاج الأغلبية في المجتمع، وحتى أولئك الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، فالشعر العامي والأغنية التي تتوسل ذلك الشعر والتمثيلية العامية والمسرح العامي والإعلام الذي يعتمد اللغة الدارجة باللهجات المحلية وعَبْر الإذاعة والتليفزيون وجد له منافذ إلى عقول وقلوب كثر من الناس، فيما بقي الجزء الأهم من تأثير الأدب المكتوب باللغة الفصحى مقتصرًا على النخب الثقافية والأكاديمية وقسم من المتعلمين وهؤلاء لا يشكِّلون نسبةً عاليةً من السكان، على الرغم من القيمة الفكرية والجمالية للأدب الفصيح، ولعلَّ الشعر العمودي كان منافسًا للأدب العامي إلى حدٍّ ما، أمَّا القصة القصيرة والرواية العراقية فلا تزال تبحث عن قنواتِ تلقٍّ وتأثير أكبر، وأحيانًا وهنا المفارقة في تحويلها إلى دراما وتمثيليات وعروض مسرحية باللغة الدارجة.
وهناك نماذج متقدِّمة للأدب العامي عراقيًّا، يمتلك قيمته الجمالية، وأرى أن تطوُّر الأدب العامي كما الأدب الفصيح هو حاجة مجتمعية لكن بشرط أن يبتعد عن الإسفاف والسطحية والتهريج وتزييف وَعْي المجتمع.
نزار النداوي
إنَّ طرح السؤال بهذا الشكل يأخذنا إلى تحديد الوظيفة المجتمعية والإنسانية التي يؤديها الشعر، وعن مدى انسجامه ونجاحه في أداء وظائفه المعرفية، في حال اتفقنا أن للشعر أدوارًا مُحدَّدةً يلتزم بها، ويعمل على الإمساك بعلائقها في كل حركته.
أنا من المؤمنين بأن الشعر بحدِّ ذاته هو قضية مستقلة بحدِّ ذاتها، وأنا من القائلين بعدم حَصْر وتحديد الفرضية للشعر، فإن فعلنا ذلك أو قُمنا بتحديد إطار التعبير عن قضايا المجتمعات وإشكالياتها، فإنما نحن نقوم بتحديد حركته وتقليص وظائفه التي تنطلق في إطارَيها العام والخاص، وعندما أقول العام فهذا يعني أن تترك للشعر مساحة من التحرُّر من تلك السياقات، في انطلاقته لرسم مساراته الفنية والإبداعية، بينما يعمل على تحديد هويته المستقبلية باعتبار أن التجدُّد في حركته داخل الزمان والمكان.
وأما ما يتعلَّق بالفرق بين الشعر الذي يُكتب باللغة العربية الفصحى، وذاك الذي يُكتب باللهجات العامية للشعوب، فذلك يُرجعنا إلى ما تقدَّمَ من تحديد المسارات العامة والخاصة للشعر، وما ينبغي له من تسجيل حضوره في كلا المقامَين.
كم واكب الشعر بنمطَيه تلك الحركة؟ وكم تواءمَ مع مُتغيِّراتها؟
وبناءً عليه، تُصبح الإجابة شبه واضحة لكل مُتتبِّع بما فيهم المُتتبِّع البسيط، شرط امتلاك الحس النقدي، لكن بالقَدْر الذي يستطيع معه التعامل مع هذا السؤال داخل البند الوظيفي للنقد الأدبي، وأحاول هنا أنْ أتجنَّب الإجابات القطعية رغم ما لنشأة الشعر العامي من دلالة غير إيجابية في تاريخ اللغة واستخداماتها اليومية، ولمَن يطالبني بأجوبة أكثر تحديدًا لا سيَّما عن الشعر العامي، أقول:
إن الشعر العامي بات يمتلك قاعدةً جماهيريةً واسعةً أفرزتها الظروف الموضوعية للفترات التي عاشها العراق بداية الثمانينيات من حروب وحصار وما إلى ذلك، منذ تلك الفترة أصبح الفرد العراقي بحُكم تفشِّي حالةٍ من الضعف التربوي والثقافي وانشغاله بمواجهة فكرة الموت والحصار، جعلته يعود إلى اللغة الدارجة، كونها الأكثر التصاقًا بتعبيراته اليومية، وكونها اللغة التي يتحدَّثها الشارع المُحاط بفقدانه كل الكماليات المعيشية ومنها كمالية اللغة الفصحى، ممَّا أدى إلى توسُّع القاعدة الجماهيرية التي يشتغل عليها الشعر العامي في مقابل المكتوب باللغة الفصحى، وبالتالي توسع التأثير الذي يتركه على المتلقِّي الذي وجد في العامي ما يُعبِّر عن همومه وتطلُّعاته اليومية، وربما مثل ذلك — في بعض تجلياته — ردة فعل على طغيان ما تعارف عليه في الثمانينيات بقصيدة النثر، التي لم تعتد انفلاتاتها الموسيقية أُذُن المتلقِّي العراقي.
في المقابل سعى شعراء الفصحى إلى تأكيد الحضور الفاعل في الساحة العراقية، باعتباره الفن النخبوي الذي يمثِّل حركة مُتقدِّمة في اللغة والثقافة لمريديه وجمهوره، في تمايُز تام عن نظيره العامي، الذي يُؤخَذ عليه استقاؤه مفرداته ودلالاته من قاعدته العامية، المُتَّهَمة دائمًا بالقصور المعرفي واللغوي، لما يستمد مفرداته وصوره الفنية من طبيعة الثقافة العامة لجمهوره، المعني بتوفير الحد الأدنى من الفرص المتبقية من عناصر الحياة، أكثر من أي شيء آخَر بمثل حاجة كمالية، كما سبق الإشارة إليه.
مَن يكسب الساحة اليوم من كِلا النمطَين، الفصيح والعامي، في العراق؟
أعتقد أن الغلبة ما زالت للشعبي على حساب الآخَر الذي عمل ويعمل على تجديد نفسه، إنما ظلَّ يُمارس أُبُوَّته البطركية على الشعر، بالشكل الذي خلق حالة من الانفصال بينه وبين عموم الجمهور المتلقي.
هذا لا يعني أن شعر اللغة الفصحى قد تراجع في العراق، ولست أرى نفسي بحاجة للدفاع عنه، فهو كما يدرك الجميع يمتلك خصوصيته التي يتمايز بها عن غيره، ويحتل واجهةً متقدمةً عريضةً من مساحة الإبداع في عالم الشعر العربي عمومًا، وإنما مدار الحديث هو حول اشتغال مساحة من الانتشار لكلا النمطَين الشِّعريَّين.
ربما علينا انتظار نهضة تربوية ثقافية أخرى مثل تلك التي شهدها العراق أواخر السبعينيات، لكي يستعيد الشعر الفصيح الكثير من المواقع التي خسرها دون ذلك، سيظل يخوض معاركه الصعبة.
أمين أبو غربان (شاعر عامي)
وُلد الشعر العامي في بيت مجاور لبيت وُلدت فيه قصيدة الفصحى، وحينما كانت اللغة كلها فصحى، كانت القصيدة العامية تُكتب بالفصحى أيضًا، ثم مع ظهور اللهجات واتجاه اللغة بشكل واضح نحوها، اتجهت القصيدة العامية إلى لهجتها الجديدة، لتبقى ذا تأثير ساحر في المجتمعات، فهي لا تقل أهمية عن قصيدة الفصحى، ولو أنها بُنيت بناءً جيدًا ومُتقَنًا قد يفوق تأثيرها ووَقْعها على الأنفس من قصيدة الفصحى، لكن القصيدة العامية تعاني الكثير من المتطفلين على الشعر من الإساءة إليها، فالقصيدة الفصحى أكثر الذين يكتبونها هم أهل لغة ومثقفون، أما العامية فيحاول كتابتها حتى الجُهَّال وغير المثقفين، لذلك فالقصيدة العامية أكثر تعرُّضًا للخطأ، وتتعرَّض للإساءة أكثر، رغم أن قوانينها وأوزانها نفس القوانين والأوزان في نظيرتها الفصحى وهذا ما قد لا يفهمه الكثير.
لؤي الكرعاوي (شاعر عامي)
بالنسبة لقصيدة الفصحى فبالتأكيد هي صاحبة العمر الأطول من الشعر العامي، وكان آنذاك هو صاحب المساحة الأكبر بسبب شيوع لغته وانتشارها، لكن الشعر العامي استطاع أن يحتل المركز الأول في الساحة الشعرية بسبب سيادة مفرداته، واستطاعته الوصول إلى واقع المتلقي، ويحاكي مشاعره ويفهم ما يقوله الشاعر ويؤثر به، رسم الصورة الشعرية بطريقة جميلة جدًّا يصعب على الشعر الفصيح رسمها، وإنْ رسمَها فلا تصل إلى أذن المتلقي بسهولة وسلاسة.
أما أوزان الشعر العامي فإنها موسيقية تناغم الأحاسيس والمشاعر بشتى أنواعها، وكان لدخول الشعر العامي عالَم المسرح أثرًا أكبر في انتشارها، كما أن غياب مهرجانات الشعر الفصيح وغياب جمهوره أدَّى إلى اختفاء قصيدة الفصحى، ولن ننسى أن القصيدة العامية سهلة النظم والحفظ على المتعلِّم والأُمِّي.
علي الطائي (شاعر عامي)
لقد تراجع الشعر الفصيح كثيرًا من حيث مساحة الذين يتأثرون به، بسبب اللغة الدخيلة على المجتمع، وبالتالي فقد أصبح الشعر العامي أكثر تداولًا ورواجًا، وأمَّا من جانب الإبداع فلا فرق بينهما، الإبداعُ إبداعٌ سواء في العامي أو الفصيح، لكنَّ الصور الشعرية في الفصيح أكثر وأكبر وأسبَكُ للوعي الذي يتمتع به شاعر القصيدة الفصحى: الوعي اللغوي والثقافة العامة، التي استجمعها بكثرة اطلاعه.
(٥) تعليق
اتفقت الآراء السابقة على أن الشعر العامي أوسع مساحةً، وأكثر تأثيرًا في النَّفْس، لأنه يُكتب باللغة الدارجة التي يفهمها المتعلِّم والأُمِّي، كما أن الشاعر العامي لا يعيش مع الناس حياتهم، ويعاني معاناتهم فقط، بل عبَّرَ عن الواقع بلغة الواقع، فكان أقرب إلى نفوس الناس من تلك القصيدة التي تُكتب بلغة تبدو صعبةً بالنسبة لغالبية المجتمع، بل وغريبة لبعض منه، فأصبح الفصيح شعرًا نخبويًّا، يتذوقه القليل.
لكنهم اختلفوا في أسباب ظهور وانتشار القصيدة العامية كل هذا الانتشار، فقد عدَّهُ بعضُهم ظاهرةً طبيعيةً، كَوْن المجتمع مُتغيِّرًا، واللغة مُتغيِّرة من عصر إلى عصر، ولا بد للشعر أن يواكب الحياة ويُعبِّر عنها بلغةٍ يَفْهمها الناس، بينما عدَّهُ آخَرون ناتجًا عن ضعف التعليم، ونقص الثقافة وتدهوُر الذائقة الفنية، وإن الفصيح لن يعود إلى مساحته السابقة ما لم يتَّصف التعليم بالجودة.
كما أنهم اختلفوا في تحديد أيهم أكثر إبداعًا، فوصفَ بعضُهم الشِّعرَ بأنه شِعر بصرف النظر عن اللهجة التي يُكتب فيها، والإبداع موجود في كليهما، وكذا الرداءة.
بينما قال البعض الآخَر بسذاجة الشعر العامي وأنه نتجَ عن انتشار التخلُّف وضعف الثقافة، وانخفاض جودة التعليم، وسوء الذائقة، فنسبوا الإبداع إلى الفصيح ونفوه عن العامي.
وإن بعض الآراء لم تخلُ من التعصُّب، والميل للدفاع عن اللون الشِّعري الذي يكتب به صاحب الرأي، أو يعشقه، فكلما حاول الإنسان أن يكون موضوعيًّا في الحكم فإن العاطفة ستؤثر عليه من حيث لا يشعر، وتوجِّه رأيَه بالاتجاه الذي ترتضيه نفسه.
فالشاعر والناقد سامي مهدي، هاجمَ الشِّعر العامي بقوة، واستعمل عبارات كثَّف فيها هجومه «الأدب العاميُّ أدبٌ عاطفي، يتَّسم بالبساطة والضحالة ومحدودية الأفق، وتأثيره عاطفي وآنِيٌّ وسطحي» والحق أني لا أوافقه الرأي، ولا أظنه رأيًا صادرًا عن باحث مُتفحِّص، بل عن نفس تكره الشعر العامي، ففي هذا اللون من الشعر قصائد جميلة، ذات صور ساحرة.
أما الشاعر العامي لؤي الكرعاوي فكأنه أخذ دور الراد، المدافع عن لونه، فاتَّهمَ شعراء الفصحى بعبارته «رسم الشعر العامي صُورَه بطريقة جميلة جدًّا يصعب على شاعر الفصحى رَسْمها» وهذا، يا سادتي، كلام يُجافي الحقيقة، فشاعر الفصحى أكثر إمكانيةً ومعرفةً بفنون اللغة وآلية رَسْم الصورة، كما أنه يملك لغةً أكثر مفردات، ويبدو أن النظرة المُسبَقة أثَّرَت في رأيهما، فأخرجتهما بهذا الشكل.
لكني أوافق الشاعر أمين أبو غربان رأيه نسبيًّا، فالشعر العامي حسب رأيه شعر بسيط، يمكن أن ينظمه المتعلِّم والجاهل، ما جعلَهُ عُرضةً لكثير من ضعاف الموهبة، فتشوَّهَت سُمعته بسببهم، ولربما أصبح ساذجًا بنظر المُثقَّفِين بسبب شيوع القصائد الساذجة، وإلَّا فإن القصائد الجيدة موجودة، لكنها لا يمكن أن تبرز بشكل واضح في ساحةٍ تكتَظُّ بالرديء.
غير أنه أغفل حقيقة أن الشعر الفصيح تعرَّض للتشويه أيضًا، من قِبل ضعاف الموهبة الذين حاولوا إجبار الشعر على الانصياع لهم، وطلبوا من الإلهام أن يأتيهم قسرًا، فكثيرٌ اعتقدوا أن دخولهم الدراسة الدينية، أو حصولهم على شهادة أوَّليَّة أو عُليا في اللغة العربية تُؤهِّلهم لكتابة الشعر الفصيح، فنشأ شِعر مُتصنع، ثقيل على الأذن، لا تستسيغه الذائقة، ولا تطرب له النفوس.
كون المجتمعات في تغيُّر مستمر، ولا يمكن للغة أن تبقى على حالها في زمنٍ تعقَّدَت فيه الحياة، وتطوَّرَت فيه وسائل الاتصال فأنتجت عالمًا أشبه بقرية صغيرة، يتأثَّر سكانها بعضهم ببعض، فإنْ تأثَّرَت العربية باللغات: الإنجليزية، والتركية، والفارسية، بفعل الفتوحات والاحتلالات وتطوُّر تكنولوجيا الاتصال فإن تلك اللغات قد تأثَّرَت بالعربية وأخذت منها، ثم إننا نعيش في زمن السرعة الذي لا يجد فيه الفرد الوقت للعناية بالضمة والفتحة والكسرة وهمزة الوصل …، لكن تحديدنا لمستوى الإبداع والجمال في القصيدة العامية العراقية، هو الذي يقودنا إلى القول بثقافة المجتمع أو تخلُّفه.
بالنسبة لي أرى نسبةً كبيرةً من الشعر العامي العراقي تندرج تحت «الأعمال السيكولوجية» التي يرى يونج أنَّها ليست أعمالًا إبداعيةً بقَدْر ما هي أعمال للتعبير عن المضمون الشعوري وصبِّ ما يدور في البيئة من مصائب في قالب الشعر.
وأعتقد أن ضعف القصيدة العامية يرجع بالدرجة الأساس إلى أن اللهجة العامية لغة حديث وأمور يومية لا تتسع مفرداتها للتعبير عن خيال الإنسان الواسع، سيما إذا ما علمنا «أننا نرى العالَم وفقًا للإطار الذي تفرضه لغتنا علينا، ونعبِّر عنه بالقَدْر الذي تسمح به» (ديفيد لودن في الشريف ٢٠١٨م). وقد أثبت ذلك الباحثون الذين درسوا تأثير اللغة على ذكاء الإنسان وإبداعه ومستوى تفكيره، ففي دراسة مثيرة تناول الباحثون فيها قبيلةً بدائيةً تعيش على شاطئ نهر الأمازون، لديهم نظام عددي مُكوَّن فقط من واحد أو اثنين إذا كان أكثر من واحد، أي ليس لديهم فرق بين الأرقام ۲ و۳ و۲۰ و١۰۰ في التسمية!
في البداية افترض الباحثون أن نظام عيشهم البسيط القائم على صيد الأسماك جعلهم يكتفون بهذا العد البسيط في لغتهم، وبالتأكيد يستوعبون مفهوم الأرقام، وإن لم تكن هناك ألفاظ تصفها، لكن التجربة أثبتت أنهم لا يعرفون مفهوم العد والأرقام من الأصل، حيث وضع القائمون على التجربة أمامهم ١٥ سمكةً، وطالبوهم بوضع عدد مماثل من الأسماك في الجهة الأخرى، ففشلوا في ذلك تمامًا.
أما سر انتشار الشعر العامي بهذا الشكل اللافت، فيعود إلى سهولة فهم اللغة التي يكتب بها، سيما إذا ما علمنا أن الفهم أهم شروط التذوُّق الفني، فوَفْق رأي «أرنست كريس» التذوُّق: عملية دائرية تشتمل على مراحل ثلاث هي: التعرُّف على العمل الفني، ثم التوحُّد معه، ثم التوحُّد مع الطريقة التي أُنتِجَ من خلالها العمل الفني ثم ننتهي ونحن مبدعون مشاركون لهذا الفنان أي أصبحنا جزءًا من العالم الذي أبدعه (صالح، ۲۰۰۳، ۱۰). على عكس قصيدة الفصحى التي قد تتطلَّب من سامعها العودة إلى المعجم لترجمة بعض الكلمات.
وما لا ينبغي إغفاله أن الشعر العامي يُكتَب لا لقيمةٍ جمالية وإنما ليشارك المجتمع أحواله اليومية، خُذ مثالًا الوضع الحالي للمجتمع العراقي، الذي يعاني من تراكم المشكلات التي صنعت كمًّا هائلًا من المصائب، وأصبح الناس في ظِلِّها يبحثون عمَّن يُواسيهم وينوح معهم، فأخذ الشعر العامي هذا الدور، «فما أن يحصل تفجير ما أو أي حدث آخَر في شتى مجالات الحياة حتى ينظم فيها من الشعر ما يجعل الحادثة مأتمًا حسينيًّا» (صالح، ٢٠١٥، مقال)، إذ يتولَّى الشعر دور «الندَّابة» المُفوَّهة البارعة التي تؤجِّج الحزن بمتعة صار التلذُّذ به وبها مزاجًا عامًّا (صالح، ۲۰۱۲، مقال) خُذ مثالًا ما كتبَه الشعراء العاميون في الحادثة التي اشتهرت باسم «حادثة النستلة» وقصتها أن خطيب جُمعة مسجد براثا، وهو عضو سابق في مجلس النواب العراقي، قال في إحدى خطبه ما مضمونه: على الشعب مساعدة الحكومة في مواجهة الأزمة الاقتصادية، من خلال ترك الأشياء غير الضرورية كالنستلة وغيرها، إذ كتب الشعراء في هذه الحادثة من القصائد ما يفجع القلب، وبالغوا في نقدها ووصفها وسرد مصائبهم خلالها.
كما أن الشاعر العامي وبحُكم تدنِّي مستواه الثقافي مصاب باضطرابات نفسية واجتماعية تشبه تلك التي أصيب بها عامة الناس الذين يمثِّلون السَّواد الأعظم في البلاد، فهو كغالبية الشعب يحب العنف، ويرى فيه حلًّا لكل شيء، بل الشجاعة لديه تتمثَّل بالمقاتلة فقط، كما أنه «ابن الدلة والفنجان والافراضة والعشائر الأصيلة»، وهو كبقية المجتمع يرى في المرأة شرًّا، وبالتالي فإن كل ما يكتبه من شعر ينسجم وتوجُّهات المجتمع، وهذا ما لا يستسيغه شاعر الفصحى، بعد أن صار مُثقَّفًا أو على الأقل مُتعلِّمًا، وعرف ما فيه خير الناس وشرها، وقد سمعتُ من بعض الناس غيرَ مرَّةٍ كلامًا يتهمون فيه الكُتَّاب والأدباء بنشر السخف عن طريق ما يُسمَّى بحرية المرأة، وما تتضمنه من حرية اختيار الزوج، ومشاركة الرجل في مختلف الأعمال، وأن الأدباء ملحدون لا تجوز مخالطتهم، وأنهم يدعون إلى أفكار أخرى لا تنسجم وتقاليد المجتمع العريق، وعممت هذه النظرة على شعراء الفصحى رغم تشابه بعضهم مع شعراء العامية.
هناك عنصر آخَر أسهم بشكل واضح في تقريب قصيدة العامية من المجتمع، هي أن هذا اللون يكتب كي يلقى، أي يُكتَب للتداول شفهيًّا، على عكس الفصحى الذي غالبًا ما يكتب للقراءة، فالشاعر العامي حين يهم بكتابة قصيدته يتصوَّر نفسه واقفًا خلف المنصة، ينظر إلى جمهوره، يتخيلهم يُصفِّقون لهذا البيت ويُعجَبون به، ويمتعضون لبيت آخَر، ويسخرون منه أنه يتصور انفعالاتهم، ويتخيل ملامحهم، إذ يفرض المتلقي في هذا اللون على الشاعر الصورة والموضوع وطبيعة الإلقاء، وما يدل على شفاهية الشعر العامي كثرة استعماله أسلوب التحدُّث إلى المخاطب وليس الغائب، إضافةً إلى استعمال حركات وإيماءات يخطط لها أثناء كتابته القصيدة، كالتظاهر بالنسيان، أو الإشارة إلى أحد الحضور، وغير ذلك.
وإن شيوع ظاهرة العنف والعصبية في المجتمع العراقي قد أثَّر ليس في مضمون القصيدة العامية فحسب، وإنما في طريقة إلقائها، إذ تُلقى غالبية القصائد بطريقة تصل حدَّ الصراخ إلى جانب عبوس الوجه طبعًا في كثير منها، خلافًا للهدوء الذي يتسم به إلقاء قصيدة الفصحى والذي يتسبَّب بالنعاس! وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي استطاع نيل إعجاب جمع هائل من الناس في مختلف أنحاء الوطن العربي معتمدًا على حماسه في الإلقاء وعصبيته وارتفاع صوته، ما يثبت أهمية هذا العنصر في جذب الجمهور العربي.
-
جاذبية الجسم والمظهر.
-
قدرة الشاعر على الصراخ خلف المنصة.
-
إمكانية إثارة الحزن في نفس المتلقِّي.
-
قدرة الشاعر على التعبير عن مكبوتات المجتمع الجنسية وغيرها، وعن المصائب ومصاعب الحياة.
-
خلو قصائده من المفردات العامية المندثرة، والمفردات المحدودة الاستعمال.
ولأن هذه العناصر توافرت في الشاعر «إيهاب المالكي» فقد حصد المركز الأول كشاعر مُفضَّل لغالبية المستجيبين على استطلاع رأي أجريته في مواقع التواصُل الاجتماعي (مَن هو شاعرك المفضل؟).
(٦) أما عن أسباب شيوع ظاهرة كتابة الشعر
الحاجة إلى التقدير الاجتماعي وتحقيق الذات تنشأ مع الفرد منذ ولادته، وتستمر معه حتى الممات، حيث يمارس الطفل سلوكيات مُتنوِّعة يحاول من خلالها لفت انتباه الأسرة إليه، والحصول على إعجابهم واهتمامهم، وتقديرهم، ومع نمو الفرد أكثر، ووصوله إلى مرحلة المراهقة تزداد هذه الحاجة إلحاحًا، وتتطلب إشباعًا مستمرًّا والغاية في هذه المرحلة تُبرِّر الوسيلة، إذ يحاول المراهق إثبات نفسه أمام زملائه وأمام المجتمع بصفته رجلًا عظيمًا يجب الاهتمام به وتقديره، ووَضْع وزن له، فتراه يأخذ بالتمرُّد على قيم المجتمع، وتقاليده، بل حتى على الأنظمة القانونية والدينية، وما هي إلا رغبة منه لإثارة الانتباه، والحصول على الاهتمام، فإن لم يستطع تحقيق ذاته، انحرف، ونظَّمَ أو انتمى إلى عصابة عدوانية.
والشعر العامي يا سادتي أصبح إحدى وسائل تحقيق الذات، فما إنْ يصل الفرد مرحلة المراهقة حتى تراه كتب قصيدة أو قصيدتين، وأعلن عن نفسه شاعرًا مجيدًا، على الجميع احترامه والإعجاب به، والوقوف إجلالًا لأبياته.
هذا التوجُّه نحو الشعر العامي جاء نتيجة أسباب عديدة، لعل سهولة كتابة الشعر العامي في مقدمتها، فهو يكتب بلهجتنا الدارجة التي ينظمها الفرد ويصبها في قالب الوزن والقافية، وبالتالي تكون أسهل بكثير من نظم الشعر الفصيح وفنون الأدب الأخرى، ثم إن جمهور الشعر العامي كبير جدًّا، حيث ينال ناظموه شهرةً ومكانةً اجتماعيةً لا ينالها طبيب، ولا عالم، ولا أديب، وهذا لم يأتِ من فراغ، إنما من سهولة وصول هذا النوع من القصائد إلى الجمهور وسهولة فهمه والتأثُّر به.
ولا ينبغي تناسي دور المؤسسة التربوية — التعليمية بما فيها من كوادر وطلبة في دعم الشعر العامي، إذ يكون الشاعر في المدرسة والكلية أكثر شهرةً وبروزًا من الطلبة الأذكياء والأوائل وذوي المواهب العلمية والأدبية وأكثر احترامًا، وكذا أكثر جماهيريةً وأصدقاء، فهو مَن يعتلي منصة المدرسة مُلقِيًا ومكرمًا، وهو مَن يمثل المدرسة في محافلها.
كما أن الفيسبوك باعتباره واقعًا بديلًا للواقع المعاش، فبإمكانك تنقيح هذا الواقع وتعديله، فتلغي صداقة مَن ترغب عنه، وترتبط بصداقة من ترغب به، وتتخلَّص ممَّن يزعجك، في وقت لا يمكنك فيه فعل ذلك في الواقع الحقيقي، إذ لا تستطيع مثلًا حذف جارك من حياتك أو طرده من بيته (إسماعيلي، ٢٠١٦، ٤١) والجمهور الموجود على الفيسبوك لا يختلف كثيرًا عن الجمهور الحقيقي، فهو يهوى الشعر العامي، ويفهمه من جهة، ويتخذ الفيسبوك وسيلةً للمجاملة من جهة أخرى، فترى الشاب بمجرد نشره لبيت شعري (سخيف) تنهال عليه التعليقات الرنانة التي تجعله فوق المتنبي (مبدع، كبير، رائع، جميل، …) وهناك تعليقات تصل إلى جمل طويلة، وبالتالي أصبح الفيسبوك وسيلةً لتحقيق الذات، فالناس العاديون يُصبحون فيه شعراء وكُتَّاب وعظماء.
إضافةً إلى الإعلام الذي أخذ دورًا واسعًا في توجيه الشباب إلى الشعر العامي كوسيلة يسيرة لتحقيق ذواتهم، لأن الإعلام بشتى صنوفه، ومنظمات المجتمع المدني مستعدة لإقامة ونقل عشرات المهرجانات العامية، ولساعات طويلة، بينما تستثقل أن تقيم أو تبث مهرجانًا أو حفلًا للأدب الفصيح، وتستصعب إعداد تقرير مُفصَّل تكشف فيه عن ابتكار علمي مُعيَّن، فنادرًا ما يُخصِّصون تقريرًا إخباريًّا لن يتعدى الخمس دقائق يسلط فيه الضوء على تلك الأمور الهامة، وهذا يكشف عن حقيقة أن الإعلام لا يريد تثقيف الشعب، بقَدْر ما تتنافس الوسائل فيما بينها من أجل الحصول على متابعين أكبر، وما دامت تلك غايتهم فهم مستعدون لبث أتفه البرامج، وأسخفها لجلب مزيد من الجمهور.
(٧) الآن أخبروني
تحقيق الذات حاجة مُلِحَّة تحتاج إلى إشباع، وبالتأكيد فالإنسان يبحث عن أبسط الطرق وأقصرها لإشباع أية حاجة، والشعر العامي بسيط النَّظْم، كثير الجمهور، تعتني به الجهات الرسمية وغير الرسمية، فهل يترك هذا الطريق اليسير نحو الشهرة؟ ويذهب ليمضي وقته في البحث العلمي، أو قراءة اللغة من أجل كتابة الأدب الفصيح؟ وهو يعرف ألا فائدة من هذه الأمور، وأنها لن توصله إلى الشهرة التي يبتغيها، سيما إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار حجم عقلية المراهق، فهو لا يفكِّر للمستقبل البعيد، أو لجمهور خارج محيطه الاجتماعي، فلو كان كذلك لاختار أدب الفصحى الذي يتعدى حدود الزمان والمكان.
إلا أن الحاجة إلى التقدير الاجتماعي وتحقيق الذات ليست الدافع الوحيد لكتابة الشعر العامي، وإنما هناك أسباب أخرى لا تقل أهميةً عنها، من بينها الكَبْت الذي يُعاني منه الفرد العراقي في ظِلِّ النظامَين الديني والاجتماعي، فأصبح بحاجة إلى الشعر باعتباره حيلة لاشعورية لإشباع الدوافع غير المقبولة اجتماعيًّا، إذ يعمل على إعلائها كي يشعر باللذة دون تخطِّي حدود المجتمع.
ولو تابعتم مجتمع الشعر العامي في العراق، وقرأتم سير حياة الشعراء، لوجدتهم كتبوا الشعر في إحدى سِنيِّ المراهقة، وما لا يعرفه البعض أن هذه المرحلة تتميز بكثرة الاضطرابات النفسية، وضغط الدوافع غير المقبولة اجتماعيًّا، وضغطها هذا إما أن يؤدي بالمراهق إلى الانحراف أو إلى العزلة والانطوائية والخجل والانسحاب، أو قد تتسبب باضطرابات نفسية مُعيَّنة، وقلَّما ينجو مراهق من الوقوع فريسةً لهذه الاضطرابات.
وقد توصلت بعد إجرائي لدراسة شخصيات من كتبوا الشعر في هذه المرحلة — المراهقة — فوجدتهم يتسمون بمستوًى جيد من الاستقرار النفسي مقارنةً بأقرانهم، ما يعني أنهم قد أشبعوا دوافعهم الضاغطة بعالم من الخيال (الشِّعر).
ولعل تزايد مصائب العراقيين، وتراكم مشكلاتهم، وكثرة حزنهم، ونواحهم، وشعورهم بالاغتراب، جعلهم بحاجة إلى شيوع هذا اللون من الشعر كي يشرح همومهم، ويساعدهم في تفريغ انفعالاتهم، سيما إذا ما أدركنا قدرة الأحداث التي يمر بها العراق على «إبكاء الصخر» وربما جعل الصخرة تكتب الشعر أيضًا!
تقول الفنانة «نوفا» نجلة الفنانة العراقية «سيتا هاكوبيان» في لقاء لقناة الشرقية (برنامج تراجي): «لكن فكرة أن أكون مغنيةً لم تكن موجودةً في ذهني إلا بعد وصولي كندا، ورغبتي بالتعبير عن شعوري بالغربة، ومن هنا بدأت رحلتي بالكتابة والغناء» الأمر الذي يوضح مدى قدرة الأحداث في تأجيج المشاعر وبالتالي الإبداع بكتابة الشعر أو غنائه، فتفريغ الهموم والانفعالات الأخرى بهذه الطريقة يعيد الفرد إلى شيء من الاستقرار النفسي، ما يجعله مواظبًا على الكتابة.
المشكلة أن الشعر موهبة، وليس كل من نظمه أصبح شاعرًا، فضلًا عن أن يكون مشهورًا، فهو يغتر بنفسه في أهم مراحل عمره، ويعتقد أن موهبته في الشعر، فلمَّا يفشل فيه، يُصيبه الإحباط، وللإحباط آثار سلبية كثيرة كما تعلمون، وقد تابعت انتشار هذه الحالة غير مرَّة، ففي كل سنة هناك عدد غير قليل يعتزلون كتابة الشعر نتيجة الإحباط، يتركونه وهم ناقمون على المجتمع الذي لم يسمح لهم بالظهور والبروز، فهم عظماء في الشعر لكن المجتمع لا يعي!
وبالتالي لا استفدنا منهم في ميدان الشعر، ولا تناسوه واتجهوا ليبحثوا عن موهبتهم في مجال آخَر.
(٨) هل الشعر العامي ساذج بحد ذاته
ليس من السليم أن نقول بسذاجة الشعر العامي، فهناك كمٌّ من القصائد الرائعة والشعراء المبدعين، يدلل على أن هذا اللون ليس ساذجًا بحدِّ ذاته، لكن سهولة نظمه جعلت الكثيرين يتجهون لكتابته، ظانين الشعر سلعة بائع كما يقول شاعرنا الجواهري:
فصار الشائع (وهو الذي يعنينا) شعرًا يخلو من الخيال الواسع، والصور العميقة التي تتطلب تفكيرًا أو ثقافة لفهمها، فالشاعر العامي يوظِّف في قصائده أشياء حسيةً قريبةً من فهم العامة وإدراكهم، كالدلة والفنجان، والشمس والقمر، وقلَّما يتجاوزها ليرسم صورًا عميقة.
وحين يحاول شاعر العامية توظيف نظرية علمية، أو قصة ما فإنه يتأكد ما إذا كانت مفهومةً لدى المجتمع، ونادرًا ما تجد المعلومات العظيمة معروفة لديه، وبالتالي يقيده الجمهور ويمنعه من استعمالها، لأن التذوق الفني أساسًا يعتمد على المخططات المعرفية (الخبرة السابقة) للمتلقِّي، فكيف له أن يتفاعل مع قصيدة استعمل الشاعر في أبياتها قصة أو معلومات لم يسمع بها من قبل؟ سيما أن الشاعر لا يستعمل القصة أو النظرية كما هي في الواقع، بل يُغيِّر فيها ويصورها بطريقة مختلفة، ولن يتذوقها المتلقي إلا إذا كان فاهمًا القصة أو المعلومة فهمًا كاملًا.
بل إني وجدت شعراء عاميِّين رائعين جدًّا ومبدعين، لكنهم مغمورون لأنهم يرسمون صورًا مُعقَّدةً يصعب على المجتمع فهمها، فأصبحوا محطَّ إعجاب بعض الشباب المُثقَّف فقط.
ورغم سذاجة أغلب الشعر العامي، وسطحيته، فإنه أدب مهمٌّ يشبع الحاجات النفسية لغالبية أفراد المجتمع كونه يكتب بلغتهم، وأرى أنه لا بد للمؤرخين والباحثين في التاريخ أن يأخذوا الشعر العامي بعين الاعتبار، ويجعلونه ضمن السبل المؤدية لمعرفة واقع وماضي المجتمع، فهو أصبح رفيق العراقيين في حربهم وسلمهم، بحيث لا تفوته شاردةً ولا واردةً إلا ودوَّنها، فنجد عددًا من الشعراء كتب عن حادثة «النستلة» رغم عدم أهميتها وقد تطرقت لها سلفًا، لكنها أغضبتهم، لأنهم متوترون ويمكن لأية شرارة أن تشعلهم غضبًا، إضافةً إلى حوادث أخرى أكثر تفاهةً دوَّنها هذا اللون من الشعر، ما يجعلنا نتيقن أن الشعر العامي لا تفوته حادثة أبدًا.
أما الشعر الفصيح فرغم كون أغلبه شعر عظيم يفوق الشعر العامي فإنه أبعد عن هموم الناس وأذواقهم لأنه يُكتب بلغة لا يفهمها غالبية المجتمع، وبأفكار مختلفة أيضًا، فهو إذَن يكشف عن سلوك وأفكار الطبقة التي تهتم به.
هناك فَرْق جوهري آخَر، هو أن شعر اللغة الدارجة لا يمكن أن يخلد، لأن الدارجة مقيدة بالزمان والمكان؛ فالقصيدة التي كُتبت في العراق لا يمكن فَهْمها بصورة تامة في دول عربية أخرى، أو على الأقل لا يطرب لها مواطن من تلك الدول إلا ما ندر، بل قد تكتب قصيدة في محافظة الناصرية مثلًا، تضمَّنَت مفردات عامية لا يفهمها إلا أبناء تلك المحافظة، مثل هذه الأبيات لا يُكتب لها الانتشار في المحافظات الأخرى، بل إن أبناء المحافظة أنفسهم لن يطربوا لها بعد مرور فترة زمنية طويلة يحدث خلالها تغيُّر في اللهجة بحذف أو إضافة مفردات جديدة، على عكس الشعر الفصيح الذي يمكن فَهْمه في أي زمن بالاعتماد على المعاجم، ثم إنْ تخلَّيْنا عن الأدب الفصيح تمامًا يعني ملئ الساحة بأدب رديء يكتبه كلُّ مَن هبَّ ودبَّ، وقد يعني طمس الهوية العربية، وجعل اللغة العربية من اللغات الميتة، وربما ينجم عنه تفتت البلاد العربية بفعل زيادة الهوة بين اللهجات.
وقد أضحكني أحدهم حين اقترح أن يؤسِّس معجمًا للهجة العامية، كون هذه اللغة غير صالحة للتدوين، فهي لغة شفاهية تتطور باستمرار فتتغير وتتبدل من وقت لآخَر، كما أن جمع مفرداتها ليس أمرًا سهلًا كما يعتقد، إنما يترتَّب عليه كمٌّ من المشكلات، فهناك كثير من الكلمات التي يختلف معناها من منطقة إلى أخرى ما يتطلب التجوال حتى في القرى الصغيرة، إذ ربما تجد فيها من المفردات ما لم تسمع به من قبل، وإذا افترضنا نجاح أحدهم في جمع مفرداتها، فإن هذا الشعر سيكون بعيدًا عن الطبقتَين؛ لأن العوام يبحثون عن شيء يفهمونه في آنه وليس لديهم الرغبة بالاطلاع على أي كتاب، أمَّا متذوقو الشعر الفصيح فهم ليسوا بحاجة إلى الشعر العامي، ولا يهمهم أمره، اللهم إلا القليل منهم.
ومن حيث التأثير النفسي، والقدرة على توجيه المجتمع نحو وجهة معينة، فإن الشعر العامي أكثر تأثيرًا في النفس، وباستطاعته أن يؤثِّر تأثيرًا إيجابيًّا أو سلبيًّا في شخصية الفرد، وحتى شعراء الفصحى أنفسهم يتأثرون بالقصيدة العامية، وتطرب لها نفوسهم، وقد رأيت كثيرًا منهم نشر أبياتًا من الشعر العامي قال إنها أعجبته، بل نلاحظ الشاعر «شاكر الغزي» أعلن صراحة عن حُبه للون «الدارمي» أحد أنواع الشعر العامي.
وقد أسهم الشعر العامي طوال عمره القصير في توجيه المجتمع باتجاهات مختلفة، من أبرزها رفع الروح المعنوية للمقاتلين في جبهات القتال.
إن الفرد حين يسمع أنشودة حماس كتبت بالدارجة التي يفهمها، يودُّ لو أن القتال لا يتوقف أبدًا، فهو مستعد لأنْ يرمي نفسه بالنار، إذ تثير الحماس والشجاعة في نفسه، ويكون مفهوم الذات والثقة بالنفس في أعلى مستوياتهما.
كما أنه يشكِّل دافعًا لأمور إيجابية أخرى، فالذي يستمع لقصيدة الشاعر كريم العراقي عن الأم التي غنَّاها الفنان «سعدون جابر»:
يشعر بالحنين إلى الأم، ويتحسَّس دورها في حياته، وتوجهه توجيهًا تربويًّا عاطفيًّا صحيحًا تجاه الأم، وقِس على ذلك عدة قصائد في الصداقة وحب الوطن، وعكس ذلك يُحدِثه الشعر العامي في الفرد والمجتمع حين يكتب قصائد سلبية، والحق أن السلبي أكثر من الإيجابي في زماننا هذا، من «يا طابخين النومي يا كلكم وفه» مرورًا ﺑ «باك محفظتي وقهرني» وصولًا إلى «وكف عباس بيه وصاح ع السجين».
(٩) اختلاف مع الوردي
تطرق الدكتور علي الوردي (رحمه الله) في كتابه «أسطورة الأدب الرفيع» إلى مسألة تبسيط اللغة، كون صعوبتها تُبقينا في برج عاجي بعيد عن مستوى الناس الثقافي، فنكون بعيدين عن هموهم وآلامهم، فيبصقون علينا ويتركوننا خلف ظهورهم، وقد اختلف القرَّاء في تحديد مفهوم التبسيط الذي دعا إليه الدكتور، فمنهم عدَّه دعوة للكتابة باللغة العامية، ومنهم مَن فهمه بمعنًى آخَر، لكن الوردي ردَّ على من اتهمه بأنه يدعو إلى الكتابة بالعامية، بكلام مضمونه: إن اللهجة العامية تختلف من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى آخَر في البلد الواحد ومن زمن إلى زمن أيضًا، أما اللغة الفصحى فهي موحدة في البلاد العربية أجمع، ولست سخيفًا لأدعو إلى الكتابة بالعامية.
ولما أعدت قراءة كتابه «أسطورة الأدب الرفيع»، لاحظت فيه استهزاءً بالنحو (الإعراب) بل ذكر صراحةً أن الخطيب العربي لا يستطيع أن يستجمع معانيه بسبب خوفه، من الخطأ بالرفع أو النصب أو الجر، وكذا نجد له استهزاءً بمترادفات اللغة، كاستعمالات «هل، والهمزة» وغير ذلك، ما يدل على أن الدكتور الوردي أراد تبسيط اللغة إلى حدٍّ يتم فيه تجاهل الحركات الصرفية والإعرابية، وتجنب كثرة المفردات، وإلى ترك التفريق بين الأمور البسيطة! ﮐ «هل، والهمزة» الاستفهاميتَين.
الحق أني أؤيد الدكتور علي الوردي في كون اللغة هي من صُنع المجتمع، وله الحق في تطويرها متى شاء، وعلى اللغة شاءت أم أبَتْ أن تتغير بتغيُّر المجتمع وتطوُّره، لأن أهم وظائفها تحقيق الحاجات النفسية والاجتماعية، وإن صعوبة اللغة يفقدها إمكانية تحقيق هاتين الوظيفتين، فليس باستطاعة الفرد أن يتفاعل مع لغة لا يفهمها، وكذا لا يمكن للغة أن تخدم المجتمع وهي في مستوى أعلى من فهمه، لكن تأييدي هذا يقتصر على لغة العلم والخطاب، إذ لا ينبغي أن نُلقي خطابًا على العامة بلغة لا يفهمونها، ولا يجوز أن يُكتب العِلم بلغة مُعقَّدة، كون العلم يستخدم اللغة للتوضيح فقط واللغة فيه وسيلة لا غاية، لكن هذا لا يعني أني أدعو إلى نبذ الحركات الاعرابية والصرفية، وإنما أدعو إلى استعمال المفهوم من المفردات وأساليب التوضيح.
أما لغة الأدب فإني لا أوافق الدكتور الوردي رأيه في تبسيطها نسبيًّا، لأسباب أهمها أن الأدب أساسًا هو فن استعمال اللغة، وأن تبسيط اللغة يعني التقليل من مفرداتها، والتخلِّي عن كثير من أساليبها، ما يؤدي بلا شك إلى ضعف النص الأدبي بشكل عام والقصيدة على وجه الخصوص، ولو أخذنا اليوم برأي الدكتور الوردي، وبسَّطنا لغة الأدب فصدقوني لن يحدث أي تغيير سوى أن يسوء الأدب بسبب نقص الأساليب والمفردات، لأن الفرد حتى وإن فهم الشعر فنفسه لا تطرب للغة غير تلك التي يستعملها باستمرار، خذ مثالًا بساطة اللغة التي استعملها الشاعران «أحمد مطر» و«نزار قباني» وجمهورهما في الدول العربية لا يصل حجم جماهير شعراء العامية في العراق خاصة، ولا يصل تأثيرهما على الجماهير تأثير الشاعر العامي.