الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف
(١) من السويس إلى جدة ووصف الإحرام والتلبية
فصلنا من ميناء السويس في ٨ مايو على باخرة تقل نحوًا من ١٣٠٠ حاج من إخواننا المصريين، وفيهم بعض المغاربة، فسارت بنا الباخرة رهوًا ورخاء، لم نشعر فيها إلى جدة بأدنى حركة للبحر تزعج الراكب، وإنما كان المزعج هو اكتظاظ السفينة بالراكبين حتى لا يقدر أحد أن يمر من شدة الزحام.
وفي اليوم الثالث من مسيرنا ناوحنا ميناء رابغ، ولما كان الحجيج الوارد من الشمال في البحر الأحمر عليه أن يحرم من رابغ فقد أحرم جميع الحجاج الذين في الباخرة، وارتفعت الأصوات من كل جهة «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»؛ فاستشعر الناس من الخشوع في أثناء ضجيج الحجيج هذا ما اتصل به بأعمال القلوب، وتغلغل في سرائر النفوس، وأحس الجميع أن البيت الذي يخلع الناس تعظيمًا له أثوابهم قبل الوقوف بعتبته بمسيرة يومين، ويشتملون في القصد إليه ما ليس فيه شيء من المخيط، لَبيتٌ مقدس، لا يؤمه الناس كما يؤمون سائر البيوت، وأنه فوق بيوت الملوك، وفوق مقاصير القياصرة، وأواوين الأكاسرة، التي لا يُحرم في الطريق إليها أحد لا من بعيد ولا من قريب.
وما زال الناس مستشعرين الخشوع تلك الليلة، مواظبين على التلبية، مترقبين طلوع الفجر الذي يدنيهم من جدة، ميناء البيت العظيم الذي يؤمونه، إلى أن انفلق الصبح، وأخذت تبدو جبال الحجاز للعين المجردة، فارتفعت الأصوات بالتهليل والتسبيح والتكبير، وازداد ضجيج التلبية للعلي الكبير، وخالط الهيبة والخشوع بالقدوم على البيت الحرام، الفرح والابتهاج بالوصول إلى أطهر بقعة وأقدس مرام، ولم تكن ترى إلا عيونًا شاخصة، ولا تحس إلا قلوبًا راقصة، والجميع متطلعون إلى سواحل الحجاز منتظرين بذهاب الصبر أن يقبلوا على جدة، فلما كان ضحى اليوم الرابع من ذي الحجة دخلت الباخرة مرسى جدة، لكن بتؤدة عظيمة لما في هذا المرسى من الجبال والصخور التي تكاد رءوسها تبرز من تحت لجج البحر، وإذا بخمس عشرة باخرة راسيات في ذلك الميناء على أبعاد متفاوتة من البر.
(٢) وصف جدة وغرابة ألوان بحرها
- أحدهما: رؤية هذه البواخر الواقفة في الميناء ناطقة بلسان حالها: إنه وإن كانت هذه السواحل قفارًا لا تستحق أن ترفأ إليها البوارج ولا السفن فإن وراءها من المعنوي أمرًا عظيمًا، ومقصدًا كريمًا، هذه البواخر الكثيرة ماثلة أمام جدة من أجله، ولقد قيل لي في جدة: ماذا رأيت؟ فمن العادة أن تجتمع في مياه جدة ثلاثون باخرة وأربعون باخرة، وقد يبلغ عدد الراسي فيها إلى خمسين باخرة، حتى يعود البحر هناك غابًّا أشبًا، وتظن نفسك في هامبورغ أو نيويورك.
- وأما المنظر «الثاني»: فهو منظر مياه هذا الميناء، فلقد طفت كثيرًا في البحار وعرفت أكثر البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر البلطيك، وبحر المانش، والأوقيانوس الأطلانتيك، ولم يقع بصري على شيء يشبه مياه بحر جدة في البهاء واللمعان، كنت كيفما نظرت يَمْنَةً أو يَسرةً أشاهد خطوطًا طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدد الألوان، وتألق الأنوار، من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنابي وبرتقالي وأخضر … إلخ، ولا فرق بين هذه الخطوط وبين قوس قزح سوى أن هذه الخطوط مستقيمة وأن قسي قزح مقوسة، وأن هذه في السماء، وهاتيك في الماء، وقد تشبه هذه الخطوط ذيول الطواويس، لا فرق بينهما إلا في كون هذه الذيول المنسحبة على وجه البحر عظيمة جدًّا تمتد مئات من الأمتار وبعرض عشرات منها، ولكن في تعدد الألوان وموازاة بعضها لبعض وشدة تألقها الآخذ بالأبصار لا تجد بينها بونًا، فكأن في كل جهة من بحر جدة مسرح طواويس سابحة في اللجج الخضر، وظهورها إلى سطح الماء الواحد منها بقدر ألف طاوس مما نعهد.
قضيت العجب من هذا المنظر وقلت: إن مثل هذا الميناء لا تمله النواظر، ولا تشبهه المناظر، مهما كانت نواضر، ثم سألت ربان الباخرة — وهي من البواخر الهندية ربانها إنكليزيون — عما إذا كان رأى هذا المنظر في بحر آخر، وقلت له: إني جلت كثيرًا في الدنيا، ورأيت أبحرًا وبحيرات وأنهارًا لا تحصى، ولم أعهد مسرح لمحة على سطح ماء يحاكي في البهاء هذا الميناء، فما قولك أنت؟
قال لي: مهما يكن من سيرك في الأرض ومعرفتك للبحار فلا تعرف منها جزءًا مما أعرف، وأنا أقول لك: إني لا أعهد هذه المناظر البديعة إلا لهذا الميناء وحده.
فسألته عن السبب في تشكل هذه الألوان، فقال: إن قعر البحر هنا ليس ببعيد وإن فيه أضلاعًا مكسوة نباتًا بحريًّا متنوع الألوان والأشكال، وإن هذه الأضلاع ناتئة قريبة من سطح الماء، فتنعكس مناظرها إلى الخارج، ويزيدها نور الشمس رونقًا وإشعاعًا.
وقيل لي فيما بعد: إن ملوحة البحر الأحمر زائدة، وإن هذه الملوحة هي السبب في تكون هذه الشعاب التي تكثر في هذا البحر وتجعل مسالكه خطرة، وإن هذه الشعاب تنمو وتعلو حتى تقارب سطح الماء، ومنها ما يبرز عن سطح الماء فيكون جزيرة، وإن هذه الشعاب متكونة من أعشاب وحيوانات بحرية من طبقة الإسفنج، وهي ذوات ألوان شتى كلها ناصع، ومنها ما هو أحمر ساطع، ومنها ما هو أخضر ناضر، ومنها ما هو أصفر فاقع، ومنها ما هو دون ذلك، وقد يقتلع الملاحة والغواصة منها أشجارًا تسمى بشجر المرجان، وهي في غاية الجمال، ومن أبهى ما يوضع في أبهاء القصور للزينة.
فهذه الشعاب هي التي تنعكس ألوانها على سطح الماء فتكون أشبه بذيول الطواويس أو بقسي السحاب، وهي في الوقت نفسه الأخطار الدائمة على السفن، والغيلان المتحفزة لابتلاعها، فسبحان الذي أودع فيها الحسن، ولكنه أنزل فيها البأس، وجعلها غائلة للمراكب، ولقد صدق المثل «إن من الحسن لشقوة.»
قالوا: وإن آمن مرسى في الحجاز مرسى رابغ؛ ذلك لعمق غوره وقلة شعابه، وعللوا ندور الشعاب فيه بكون ملوحة بحر رابغ أقل من ملوحة سائر المراسي، وهذا من كثرة السيول المنصبة على رابغ، فالماء الحلو قد نقص من ملوحة ميناء رابغ، وعافاه من تلك الشعاب التي هي آفة المواني الأخرى في البحر الأحمر.
وحبذا لو قامت هيئة جيولوجية بالفحص اللازم لأحوال البحر الأحمر الطبيعية وأعطت حكمها في أسباب تكوُّن هذه الشعاب وكثرتها في هذه المواني، وفي منشأ هذه المناظر الجميلة التي تلوح للرائي إذا أقبل عليها، فإن الأسباب التي ذكرناها لم نتوكأ فيها على تقرير فني، بل على الكلام الذي يدور على ألسنة الناس.
هذا ما كان من تأثير بحر جدة في خاطري، فأما بر جدة فالبلدة لا بأس بها، ولا يوحش الداخل منظرها، نعم إن بناءها لا يزال كأنه من القرون الوسطى، ولكن بناء القرون الوسطى ليس كله منبوذًا، وقد بدأ المهندسون يقلدونه ويرجعون إلى كثير منه، ولعمري لست ممن يحب الجدة لجدة في طرز البناء، ولكني أتمناها لها في استعمال الآلات الميكانيكية الحديثة، والطرق العصرية في مرافق الحياة وفي الصناعة والتجارة وسائر أركان العمران، وأما أسلوب البناء فليس فيه ما يستهجن، بل أرى تجارة الأبنية فيها راقية، وهذه الرواشن الكثيرة اللطيفة التي قد أعجبت الكولونل لورانس الإنكليزي — يوم جاء جدة في الحرب الكبرى — قد أعجبتني أنا أيضًا.
وقد أخنت الحرب الكبرى على معظم عمران جدة فيما أخنت عليه من عمران هذا العالم، وازداد جزرها في الحصار الأخير قبل أن استولى عليها الملك ابن سعود فلما ألقت بمقاليدها إلى جلالته بدأ يتراجع إليها العمران، واستؤنف النشوء، ولا تمضي سنوات ممدودات حتى تسترجع درجة عمرانها السابقة.
(٣) شعوري القومي في جدة والحجاز
يلِذُّ الإنسان عند دخوله إلى جدة تَذَكُّرُه أنها باب مكة المشرفة، وأن المزار أصبح قريبًا، وقد لذَّني أنا يوم دخولي إليها زيادة على ذلك ما شعرت به من أني هنا لست تحت سيطرة أوروبية، نعم شعرت منذ وطئت بقدمي رصيف جدة أني عربي حر في بلاد عربية حرة، شعرت أني تملصت من حكم الأجنبي الثقيل الملقي بكلكه على جميع البلاد العربية — ويا للأسف — حاشا مملكتي الإمامين عبد العزيز ابن سعود ويحيى بن محمد حميد الدين.
شعرت أني حر في بلادي، وبين أبناء جلدتي، لا يتحكم في رقبتي المسيو فلان ولا المستر فلان … إلخ، بحجة انتداب أو احتلال، أو سيطرة أو حماية أو وصاية، أو غير ذلك من الأسماء المخترعة التي يراد بها تنغيم مس «الفتوحات» وتخفيف مرارتها في الأذواق.
شعرت أني إن كنت خاضعًا هنا لحكومة فكخضوع لويد جورج لحكومة إنجلترا، وكخضوع كليمنسو لحكومة فرنسا؛ أي إني خاضع لحكومة عربية بحتة رأسها وأعضاؤها منِّي وإليَّ وأنا منها وإليها، وبعبارة أخرى: إني هنا خاضع لنفسي، وإن كل من أراه من رعاياها إنما هو خاضع لنفسه، وإن الأمر في هذه الديار مع العرب هو على حد ما قال الصوفية: المكلف هو المكلف، وإن تعداد الوجودات هو تعداد ألوان لا تعداد أنواع.
شعرت أن رئيسي هنا هو ابن جلدتي الذي يغار عليَّ كما أغار على نفسي، وأن الجند الذي يحيط بي ويحفظ الأمنة عليَّ وعلى غيري هم ممن أجتمعُ وإياهم في أرومة واحدة، وممن أرمي وإياهم إلى هدف واحد، فلا تثقل عليَّ سلطتهم، ولا يتكاءدني الخضوع لنظامهم؛ لأني أرى فيه نظام أمتي وانتظام شملي، وليس هنا ذلك الرئيس الغاشم، الثقيل الوطأة، السيئ النية، المتكبر المتجبر المتغطرس، الغريب عني، الذي لست منه ولا هو مني، الآتي إلى بلادي ليتحكم في أمورها ويستغل خيراتها، ويضرب على سكانها الذل والمسكنة؛ لأنه لا يقدر أن يعتز إلا بذلهم، ولا أن يثري إلا بفقرهم، ولا أن يقوى إلا بضعفهم، ولا أن ينصع وجهه إلا بفقر دمهم، وسيأتي يوم نقول فيه: ولا يحيا إلا بموتهم.
لم أكن هنا في البلاد التي مع أنها وطني ووطن آبائي وأجدادي، ووطن قومي وأمتي، وجني سواعدهم، وثمرة دمائهم التي سالت فيها أنهارًا، لا يؤذن لي أن ألقي عليها نظرة بعد غربة متطاولة، ونبوة متمادية، ولا أن أدوس على ترابها بقدم خفيفة ولو ساعة من الزمن، وذلك لأن غريبًا غلب عليها فقبض على أعنتها وتصرف بها كيف شاء، يُدخل من يشاء ويخرج من يشاء، فأصبح هو صاحب البيت، وأصبح أصحاب البيت هم الغرباء.
شعرت في الحجاز أني تظللني راية عربية محضة حقيقية، لا راية مشوبة بشعار أجنبي، ولا راية ليس يسير من تحتها جندي عربي إلا ما كان من قبيل مرتزقة أو مستأجرين تحت قيادة من لا يرقب في هذه الأمة إلًّا ولا ذمة، وإنما ينظرون إليها كطعام للأمم التي تدعي عليها الوصاية وكمتمم لأسباب رفاهيتها ونعيمها.
ولقد صدقت الجريدة الدمشقية التي قالت: إنه لم يبقَ في البلاد العربية بلاد أقدر أن أدخلها إلا الحجاز، والحقيقة أني أدخل أية بقعة أردت دخولها من جزيرة العرب حامدًا الله على بقاء هذه الجزيرة تحت سلطان أهلها دون سواهم، وعلى أن حكومات الحجاز ونجد واليمن لا تعرف شيئًا من الامتيازات الأجنبية التي تكاد تغرق لججها الأمم التي تحت الوصاية، والتي لا يزال منها رسيس حتى في تركيا، فالإفرنجي سواء في مملكة ابن سعود أو في مملكة الإمام يحيى خاضع للشريعة الإسلامية بجميع أحكامها.
(٣-١) الملك ابن السعود
ثم شاهدت جلالة ملك هذه الديار وخادم الحرمين الشريفين عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود، وكان في جدة ذلك اليوم، فوجدت فيه الملك الأشم الأصيد، الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه، والعامل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد ثوب استقلال العرب الحقيقي على قده، فحمدت الله على أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت، وتفاءلت خيرًا في مستقبل هذه الأمة.
لا أقصد في إعجابي هذا بشخصية الملك ابن سعود تنقص أحد من ملوك العرب الآخرين، ولا التعريض بأي ملك أو أمير ينطق بالضاد، بل نحن نتمنى تأييد الجميع وتسديد الجميع، كما نتمنى تأييد ابن سعود وتسديده بدون فرق، وحبًّا بمصلحة الأمة العربية التي استقلالها مربوط باستقلالهم، فأما إذا كانوا يشترطون على المحب لهم والمتواجد على خيرهم أن يكره لهم ابن سعود، أو أن يسكت عن الإشادة بحسناته، والإعجاب بما آتاه الله من المواهب، فإن شرطًا كهذا ليس من الإنصاف في شيء، ويكون من البدهي أننا لا نقبله.
ولم أجد الحرارة في جدة فوق ما تتحمله النفس حتى نفس الذي لم يتعود الحر، نظير هذا العاجز، بل هواء البحر يرطب جو جدة ويخفف من سموم الصحراء، وذلك بخلاف مكة التي حرها شديد.
(٤) الطريق من جدة إلى مكة
فأما الطريق من جدة إلى مكة في هذا الفصل فليس فيها ما يسرح به النظر في مؤنق أو ناضر، فلا ترى من أولها إلى ما يقارب آخرها غصنًا أخضر يلوح، ولا رقعة بقدر الكف خضراء، ولا يكاد يقع بصرك من الجانبين إلا على رمال محرقة تدخل العشايا ويجن الليل، وهي حافظة لحرارة النهار، وعلى آكام وأهاضيب أكثرها من الحجارة السود كأنها من بقايا البراكين.
ولما وصلنا إلى بحرة ظننت أني أرى فيها قرية أشبه بالقرى، فإذا بمجموع عشاش وأخصاص وبيوت لا تُرضي ناظرًا، وهناك أماكن استعاروا لها اسم المقاهي، وهي في الحقيقة أخصاص تشتمل على مقاعد من خوص يجلس عليها المسافرون الذين بلغ بهم الجهد، فيشربون شيئًا من الشاي أو ينقعون غلتهم بماء لا غناء فيه، وكان الأولى بأهل مكة وجدة أن يجعلوا من بحرة منزلًا تقر به عين المسافر، ويجد فيها خضرة ونعيمًا بعد تلك الرمال المحرقة، والآكام الجرداء، والأمل أن حكومة الملك ابن سعود تنظر إلى هذه العلة فتزيلها.
وقد قيل لي: إن طريق جدة إلى مكة ليست طول السنة في هذه القسوة التي رأيتها فيها، بل هي في الربيع غيرها في الصيف؛ إذ يرى منها المسافر في الربيع كلأً كثيرًا، وخصبًا نضيرًا، وقتادًا وطلحًا، وشجرًا وسرحًا.
وكانت قوافل الحجاج من جدة إلى مكة خيطًا غير منقطع، والجِمال تتهادى تحت الشقادف، وكثيرًا ما تضيق بها السبيل على رحبها، وكان الملك — أيده الله — من شدة إشفاقه على الحاج وعلى الرعية لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل، ولا يفتأ ينتهر سائق السيارة كلما ساقها بعجلة قائلًا له: تريد أن تذبح الناس؟
وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارتُه شقدفًا أو تؤذي جملًا أو جمالًا، وهكذا شأن الراعي البر الرءوف برعيته، الذي وجدانه معمور بمعرفة واجباته.
وما زلنا نسير حتى دخلنا حدود مكة التي يحرم فيها الصيد، فالمسافة بالسيارة لا تتجاوز أربع ساعات، وبعد ذلك وصلنا إلى الثكنة العسكرية وصرنا بين البيوت، فعلمنا أننا تشرفنا بدخول البلدة التي تشرفت بمولد محمد سيد الوجود، وبالبيت الذي طهره إبراهيم وإسماعيل للطائفين والعاكفين والركع السجود، فقصدنا توًّا إلى البيت الحرام حيث طفنا وسعينا، وجأرنا ودعونا، والله يتقبل الدعاء ويغفر الذنوب في ذلك المقام الكريم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
(٥) الكلام على مكة المكرمة
صفتها الحسية، ومكانتها المعنوية، وكعبتها البهية، وهوي القلوب إليها من جميع البرية، ورزقها من جميع الأغذية والثمرات؛ استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام.
جعل الله مكة مكانًا لعبادته تعالى لا غير، وكأنه سبحانه وتعالى لما قضى بأن تكون محلًّا للعبادة وأمنًا، قضى أيضًا بتجريدها من كل زخارف الطبيعة، ولم يشأ أن يطرزها بشيء من وشي النبات، ولا أن يخصها بشيء من مسارح النظر المؤنقة، حتى لا يلهو فيها العابد عن ذكر الله بخضرة ولا غدير، ولا بنضرة ولا نمير، ولا بهديل على الأغصان ولا هدير، وحتى يكون قصده إلى مكة خالصًا لوجه ربه الكريم، لا يشوبه تطلع إلى جنان أو رياض، ولا حنين إلى حياض أو غياض، وحتى يبتلي الله عباده المخلصين الذين لا وجهة لهم سوى التسبيح له والتأمل في عظمته تعالى، فكانت مكة أجرد بلدة عرفها الإنسان، وأقحل بقعة وقعت عليها العينان.
مكة هذه البلدة المقدسة التي هي فردوس العبادة في الأرض وجنة الدنيا المعنوية، عبارة عن وادٍ ضيق ذي شعاب متعرجة، تحيط بذلك الوادي جبال جرداء صخرية صماء، لا عشب ولا ماء، قاتمة اللون كأنها بقايا البراكين، إذا مر عليها الإنسان يومًا من أيام الصيف في هاجرة ظن نفسه يدوس بلاط فرن، أو يضطجع في حمام، وإن ترك على تلك الصخور لحمًا كاد يشتوي بلا نار، أو ماء كاد يغلي بلا وقود، وليس في تلك الشعاب أشجار ولا أنهار، ولا مروج ولا عيون تلطف من حرارة تلك الحجارة السود حَمَارَّة القيظ، وكأن القاصد إلى هذا الوادي إنما يزداد بهذه القسوة الجغرافية أجرًا وثوابًا وارتفاع درجات، فبمقدار ما أفاض الله على هذا المكان من الشعاع المعنوي قضى بحرمانه من الحلية المادية.
وقد وصف الله تعالى هذه الحالة فقال عن لسان إبراهيم ﷺ: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وظاهر من هنا أنه وادٍ مجرد للعبادة دون غيرها، وأنه غير ذي زرع ولا ضرع ليزداد أجر الناس بالقصد إليه والعكوف فيه، ولما كان شد الرحال إلى وادٍ كهذا خالٍ من جميع أسباب الحياة تقريبًا ليس مما يرغب فيه الناس الذين من عادتهم أن يقصدوا الأماكن الرغيدة والمتنزهات، وأن يعولوا على البقاع المريعة التي يأتيها رزقها رخاءً ورغدًا دعا إبراهيم ربه فقال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
فبدعوة إبراهيم هذه هوت إلى هذا المكان وإلى المتمكنين فيه أفئدة، ورفرفت عليهم جوانح من جميع فجاج الأرض، وترى الناس منذ ألوف من السنين يحجون هذا البيت المحرم، ويحرمون قبل الوصول إليه بمراحل، ويوفضون إليه كأنما يوفضون إلى أنزه بقاع البسيطة وأطيبها نجعة وأكثرها خيرًا وميرًا، وتجد قلوبهم في الرحلة إليه ملأى بالفرح، لا يكادون يصدقون أنهم مشاهدوه من شدة الوجد، وغلبة الهيام حتى إذا شاهدوه فاضت العَبرَات، وخفقت الجوانح، وتمايلت الأعطاف، وانتقل الناس إلى عالم تكاد تقول: إنه غير هذا العالم، قال ابن دريد:
وهم إذا وصلوا إلى مكة وجدوا عندها من الثمرات والخيرات ما لا يجدونه في البقاع التي تشقها الأنهار، وتظللها الأشجار، وذلك أن المجلوب إلى مكة من أصناف الحبوب والخضراوات والفواكه، والمحمول إليها من البضائع والمتاجر واللباس والفراش والرياش والطيب وغير ذلك يفوق ما يجلب إلى عشر مدن من أمثالها في عدد السكان وربما أكثر.
ولا يكاد الحاج يشتهي شيئًا إلا وجده في هذه البلدة القاحلة، فحول مكة من المزارع والمباقل والمباطخ والمقاني، وفي جبال الطائف من الجنان والبساتين والكروم ما لا يأخذ العد، وما لا يدرك منه شيء في فصل من الفصول إلا انحدر به أهله إلى مكة، فالثمرات التي دعا إبراهيم ربه من أجلها تفيض على البلد الأمين كالسيل المتدفق أو العارض المغدق.
(٥-١) مياه مكة في الجاهلية والإسلام
وأما الماء فقد كان في أم القرى من أيام الجاهلية آبار نبع ومصانع مما يجتمع من مياه المطر، ومن هذه الآبار اليسيرة التي حفرها لؤي بن غالب، والروي التي حفرها مرة بن كعب، وخمَّ ورمَّ وهما من حفر كلاب بن مرة، والجفر والعجول وبذر التي حفرها هاشم بن عبد مناف، وسجلة وخم ورم أخريان حفرهما عبد شمس بن عبد مناف، وأم أحراد والسنبلة وهي حفرة بني جمح، والغمر لبني سهم، والحفير لبني عدي، والسقيا لبني مخزوم، والثرايا لبني تيم، والنقع لبني عامر بن لؤي، وبئر حويطب لحويطب بن عبد العزى من بني عامر بن لؤي، وبئر أبي موسى الأشعري بالمعلاة، وبئر شوذب، وبئر بكار، وبئر وردان، وسقاية سراج، وبئر الأسود للأسود بن سفيان من مخزوم وغيرها، ومن هذه الآبار ما هو معروف إلى اليوم باسمه ومكانه، ومنها ما قد طوي اسمه أو ردم مكانه، فإذا سألت علماء مكة لم يعرفوه.
والظاهر أن جميع هذه الآبار لم تكن لتكفي مكة في الجاهلية، إلى أن وسَّع عبد المطلب بئر زمزم؛ فكثر الماء وارتوى الحجيج.
عين زبيدة رحمها الله
أما بعد الإسلام فكثر الحجاج أضعافًا مضاعفة عن ذي قبل، واشتدت أزمة الماء، لا سيما في عرفة ومنى أيام الحج، فانتدبت زبيدة امرأة الخليفة هارون الرشيد — رحمها الله — لهذا الأمر وأسالت العين المسماة بعين زبيدة من مسافة نحو أربعين كيلومترًا، وهو عمل عظيم جدًّا يستنطق الألسن بالترحم عليها كلما ذُكرت أو كلما روى حاج ظمأه أو أسبغ وضوءه منذ نحو ١١٠٠ سنة إلى اليوم، وإلى ما شاء الله.
ولقد جرت زبيدة — رحمها الله — هذا الماء من وادي نعمان الشهير في قناة كانت تنتهي قبل الوصول إلى مكة بمسافة ثلاثة أرباع الساعة، وهذه القناة أكثرها تحت الأرض، وفي بعض الأماكن تظهر على وجه الأرض تابعة لخطتها الهندسية، وأما علو سقف القناة ففي بعض الأماكن يقدر أن يمر فيها الفارس راكبًا، وفي غيرها لا يقدر أن يمشي إلا الراجل، وليس خطها مستقيمًا على اطراد؛ بل فيه تعاريج كثيرة قد تكون اقتضتها طبيعة الأرض أو يكون مهندسو القناة مروا بعيون أرادوا أخذها في طريقهم فعرجوا عليها.
وحيطان القناة من الجانبين غير مطلية بالجبير ولا مجصصة، بل مبنية بالحجر البسيط، وذلك حتى ترشح الماء من خلال الحيطان؛ لأن الجص من شأنه أن يمنعه كما لا يخفى، ومن دقائق هندسة هذه القناة أنهم جعلوا انحدار الماء في المجرى خفيفًا؛ وذلك خشية من أن يحفر في الأرض فيما لو كان شديدًا فتصير أرض المجرى مع توالي القرون أسفل كثيرًا من الحيطان، فتصبح هذه على شفا جرف هارٍ، ولهذه القناة خرزات مفتوحة من سطحها على مسافة كل ٢٠ أو ٣٠ ذراعًا واحدة؛ وذلك لأجل سهولة التعزيل.
قالوا: إن زبيدة أنفقت على هذه العين مليون دينار، وإنها لما انتهت من العمل جيء إليها بدفاتر الحسابات لمراجعتها فأمرت بطيَّها وقالت: إنما عملنا ما عملناه في سبيل الله، فلا فرق بين أن تكون النفقة أكثر أو أقل.
وكان في الماضي موكَّلًا بهذه القناة ثلاثمائة رجل من بيشة، وكانوا يحرسونها ليلًا ونهارًا ومنهم أناس عند كل خرزة، فأما الآن فإن الحكومة جاعلة لها دركًا خاصًّا ومفتشين لا يزالون يتعهدونها من رأس نبعها إلى مكة، وقيل لي: إنه لا يزال في وادي نعمان عيون من الممكن شراؤها وإضافتها إلى عين زبيدة.
ثم إنه يوجد عين أخرى اسمها عين الزعفران جددتها ملكة أخرى اسمها زعفران، قيل لي: إنها من إحدى الأسر المالكة كانت بمصر، ولم أجد ذلك في كتاب، فهذه العين مجرورة من وادي حنين، من مسافة لا تقل عن مسافة قناة عين زبيدة، إلا أن ماء عين زبيدة أغزر وأعذب، وتتصل قناة الزعفران بقناة عين زبيدة في محلة المعابدة في أول مكة من جهة الداخل من منى.
وكان أحد سلاطين بني عثمان قد أوصل هذه المياه إلى مكة فأكمل ذلك العمل العظيم الذي قامت بها زبيدة واقتدت بها الزعفران فيما قالوا، وبعد ذلك منذ نحو أربعين سنة جاء أحد الهنود المسلمين وتبرع بمبلغ من المال وجمع من مسلمي الهند مبلغًا آخر، وبني بهذه الأموال بضعة عشر خزانًا للماء، في كل حارة من حارات مكة خزان، فكان بذلك للناس مرفق عظيم، وهذا الخزان يقال له اليوم بمكة: «بازان» وهي لفظة إنكليزية جاءتهم من الهند معناها بركة أو صهريج، ومع هذا فقد بقي الماء عزيزًا في موسم الحج فربما بيعت قربة الماء بأربعين قرشًا.
ولما تولى الحجاز الملك عبد العزيز بن سعود زاد سبل الماء في مكة ومنى؛ فأزاح جانبًا كبيرًا من العلة، وفي أيامه تأسس في مكة معملان للجمد — الثلج — فكان في هذين المعملين من إزاحة العلة وشفاء الغلة ما لا يخفى على من يعلم حر مكة في أيام السرطان والأسد والسنبلة، فقد أصبح أكثر الحجاج والسكان يشفون أوامهم بالماء المثلوج، ولعمري لا أجد مؤنسًا في حر كهذا الحر كألواح الجمد التي ترتاح النفس إلى مجرد النظر إليها، قبل النهل والعل منها، وكأنها في فصل كهذا حصون منيعة يتقي بها الإنسان لفحات السموم.
الحر في الحجاز وما يقتضيه من كثرة المياه
- أحدهما: الومد وهو الحر الشديد مع انقطاع الريح.
- والثاني: السموم وهو الريح الحارة، وهذه الريح إذا اتقاها الإنسان بمنشفة مبلولة بالماء أو بحصير مرشوش بالماء معلق فوق باب أو نافذة انقلبت باردة.
وبالجملة فأشد ما يعاني المرء من حرم مكة هو فيما لو تعرض للشمس في وسط النهار، أما المتعودون وأبناء مناطق خط الاستواء فلا كلام لنا فيهم، فقد كنت أراهم في وقت الظهيرة يمشون ويتهادون في الشمس كما يمشي الواحد منا في ظلال جنة، ولم يكن يصيبهم أدنى ضرر، ولم يكن يصاب بضربة الشمس إلا من تعرض لها من حجاج الشمال لا غير.
من فوائد هذه الحرارة الشديدة في مكة في أيام الموسم: أنها تقتل بشدتها جميع الجراثيم المضرة، فلا تجد في الحج شيئًا من الأوبئة السارية، وقد مات في هذا الموسم أكثر من مائتي ألف حاج نحو ٢٥٠ نسمة فقط كلهم تقريبًا ذهبوا بضربة الشمس، ولا أريد أن أجعل الفضل كله في قلة الأمراض لحَمارة القيظ، بل الإدارة الصحية في الحجاز بفضل تدابير مديرها وهمة الخمسة والعشرين طبيبًا الذي يعاونونه هي خير إدارة صحية عرفها الحجاز إلى اليوم، ما عدا الأيام التي كان فيها المرحوم قاسم بك عز الدين في زمن الأمير عون الرفيق، وأسس الترتيبات الصحية التي لا تزال نبراسًا إلى هذه الساعة، فالدكتور محمود حمدي يحذو حذو المرحوم الدكتور عز الدين وتجده هو وأطباؤه في أيام الموسم لا يعرفون لذة الكرى من أجل سهرهم على صحة الحجاج، وكل سنة يستزيد الدكتور حمدي جانبًا من المخصصات المالية لأجل القيام بتدابير صحية جديدة، وفي هذه المرة رأيت العربات في منى ترش الحوامض المطهرة، فكان لذلك أحسن وقع في النفوس.
وأما الجمد فتقاتل به الصحية كثيرًا من الأمراض، ولا سيما الحمى، وإن كانت تنهى عن الإفراط في شرب الماء المذاب من الثلج؛ فالثلج إذا اقتصد في شربه روح للأرواح، وشفاء للملتاح، في مثل الحجاز حاشا الطائف وجبالها حيث لا لزوم له البتة، وكنت هممت بنشر رسالة اسمها «قطف العسلوج في وصف الماء المثلوج، بجوار البيت المحجوج»، أصف فيها محاسن هذا الماء في مكة أيام القيظ، وأجعلها تقدمة للأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا.
ونعود إلى حديث الماء في مكة فقد سمعت أنهم حفروا فيها في محلة الشهداء فعثروا على قنى قديمة عُدْمُلِيَّة تحت الأرض، وعلى مياه جارية وأخرى مطمورة، ولعل الحكومة السعودية تتابع الحفر في هذه المحلة، فتنشر هذه المياه من قبرها ولعلها تهتم بإضافة مياه من وادي نعمان إلى عين زبيدة، ولكن هذا العاجز يرى أن كل هذه الجهود لا تغني عن مشروع آخر لا بد منه للبلد الحرام والمشاعر العظام وهو احتفار الآبار الإرتوازية.
إن مكة اليوم أصبحت لا تكتفي بسد حاجتها من جهة الشرب ولوازم البيوت ولو فاض فيها الماء فيضانًا يغني الحاج والسكان عن شراء الماء بالدرهم، بل مكة محتاجة إلى مياه تكفي لرش طرق وسقيا حدائق البلدية وأحدار شلالات مرتفعات مكة الكثيرة، وإن مكة بعد اليوم لمحتاجة إلى ري الشجر فضلًا عن ري البشر.
- أحدهما: الشتاء وهو في غاية اللطف، وكأنه فصل الصيف في أعالي لبنان.
- والثاني: فصل القيظ المصادف ما يسمونه بأشهر السرطان والأسد والسنبلة، وهو فصل قد تصعد فيه الحرارة في الظل بميزان سنتيغراد إلى الدرجة ٤٥ وإلى ٤٩، وفي الليل يتعذر النوم حتى على سطوح المنازل، فإن الذي يبقى لاصقًا بتلك الصخور من لعاب الشمس يكفي لتسخين صفحة الليل إلى أن ينبلج الصبح، وإن اليوم الذي تكون فيه الحرارة ٣٨ أو ٣٩ يعده المكيون معتدلًا ويقولون: «اليوم براد»، فإذا نزلت الدرجة إلى ٣٥ قالوا: «براد بالحَيْل» — بفتح فسكون — أي: برودة زائدة، وقد تأتي في هذه الأشهر الثلاثة أيام وليال مقبولة إلا أن هذا من النادر الذي لا يعتد به.
فالحج الشريف يصادف على مدة ستة أشهر فصل القيظ الذي فيه حر شديد وحر أشد وهو حر السرطان والأسد والسنبلة، وهذا لا يطيقه إلا أهالي خط الاستواء والتكارنة ومن هم في ضربهم، فأما حجاج مصر والشام والمغرب والأناضول والبلقان وتركستان وشمالي فارس وأفغانستان وشمالي الهند فإنهم يطوفون من هذا الحر عذابًا واصبًا، وقد شاهدت علماء من العراق فسألتهم عن نسبة حر العراق إلى حر تهائم الحجاز فقالوا: إن حر الحجاز أشد.
وأكثر من يموت من الحجاج في المواسم المصادفة لفصل القيظ إنما هم من حجاج الشمال؛ وذلك بضربة الشمس، وأكثر ما تصيبهم هذه الضربة في عرفات؛ حيث يجب أن يكونوا مكشوفي الرءوس، فليتأمل المتأمل في قضية الحسر عن الرأس في عين الشمس عندما تكون درجة الحرارة في ظل الخيمة ٤٨ بميزان سنتيغراد، مع أنه يجوز للحاج اتقاءً للضرر أن يستظل بمظلة عالية فوق رأسه فتجد أكثر الحجاج يتورعون عن ذلك ابتغاء زيادة الأجر والثواب وعملًا بأن الأجر على قدر المشقة، وهم ينسون أن الله نهى عن إلقاء الإنسان بيده إلى التهلكة، وأن احتمال المشقة إن كان فيه أجر وثواب فالتهور في الهلكة ليس فيه أجر ولا ثواب، بل يكاد يكون انتحارًا، والانتحار ممنوع حتى في العبادة.
إن الهنود الهندوس الذين يرون في فصال الناس عن هذه الحياة الدنيا رجعى منها إلى الروح الكلية التي يعد الاتحاد بها أعلى درجات السعادة عندهم؛ يقصدون الهلاك ويستعذبون العذاب، ويرون في المحن سبكًا للنفوس وتصفية لها كما يُصفى الذهب — الإبريز — بالنار، فتجدهم في عبادتهم ينزعون إلى الموت نزوعًا.
ولكن الشرع الإسلامي خالٍ من هذه العقائد، وهو شرع دنيا وأخرى، وكما أنه نهى عن الإفراط في حب الدنيا نهى عن الإفراط في كرهها.
وإن كان الإسلام انتدب المؤمن إلى عزائم هي قوام الرجولية والإنسانية فقد أوجب عليه القيام بها ما لم يتحقق منها عليه ضرر أو خطر، وإن الموطن الوحيد الذي حبب فيه القرآن احتقار الموت هو موطن الجهاد، حيث يموت البعض لحياة الكل؛ ولأن الأمة التي يعز على أفرادها أن يموتوا لا يمكنها أن تحيا.
فلهذا قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فالشهادة إنما وعد الله بها الذين يموتون في الذب عن بيضة الإسلام، وفي صد العدو عن أن يستذلهم ويستعبدهم، ولكنه لم يعد بها الذين يموتون من ضربة الشمس في عرفات أو منى؛ لأنهم أبوا أن يتقوا لهيب حرارتها بمظلة، فتحمل المشاق في القيام بمناسك الحج واجب، وفيه تمحيص للذنوب، ولكن أوجب من ذلك الوقف فيه عند الحد الذي لا يؤذن بالخطر، وكان حقًّا على العلماء أن يعطوا هذا المعنى حقه في الدروس التي يلقونها في الحرم أمام الحجاج المتواردين، فإن قتل النفس في العبادة أشبه بأن يكون منزعًا هنديًّا من أن يكون منزعًا إسلاميًّا.
على أن منع جميع الحجاج من مثل هذه الأمور مع كثرة العامة بينهم سيبقى متعذرًا، فكان الأولى أن ينظر في أمر عرفة ومنى، وأن تقلبا عن حالتهما الرملية والصحراوية الحاضرة، فينبغي أن يبادر إلى حفر آبار إرتوازية في طول صحراء عرفة وعرضها حتى تفيض من تحت الأرض المياه إلى ما فوق الأرض، ثم تبنى القنوات والصهاريج وتُغرس حفافيها صفوف الأشجار والرياحين، فتتهدل هناك الأغصان، وتتدلى الأفنان، وترف الظلال، ويستلل الزلال، فتخف حرارة الشمس، ويلجأ الحجاج في مثل هذه الأيام العصيبة إلى ظل ظليل، وهواء عليل، فتكون درجة الحرارة تحت فينان الدوح أدنى منها في الشمس بخمس عشرة درجة، ويصير الحاج إذا تعرض للشمس قادرًا أن يفيء إلى الظل، وقد يجد القارئ هذا الفكر خيالًا، ويصعب عليه أن يرى في تلك الصحراء حياضًا وجنانًا، وروحًا وريحانًا، وهذا كله خطأ في خطأ أو استخذاء في الهمم.
وأجيب بشأن عرفة بأن صحراءها رملية، وأنها بحذاء جبال عالية، وكل من رآها يحكم بأن في باطن أرضها مياه، لا بل فيها آبار قديمة مسمولة تدل على وجود المياه، فما علينا إلا أن نجرب عملية الآبار الإرتوازية في عدة مظان منها، فإن رأينا الأرض لم تبض بالماء في كل ذلك السهل الأفيح تركنا المشروع من أساسه.
ولقد بلغني أن الملك ابن سعود أيده الله ووفقه إلى كل خير قد أذن لأناس من الهولانديين أن يجربوا حفر آبار إرتوازية بين جدة ومكة، فشكرت لجلالته هذا الإذن، ورجوت أن تثمر هذه التجربة بما ينشط الملك على الأمر بالحفر في مواضع كثيرة من هذه البلاد من جملتها عرفة والمزدلفة ومنى.
فالله قد جعل من الماء كل شيء حي في الأقاليم الباردة، فكيف في الحجاز والأرض الرملية التي مثل عرفة، هي أسرع نباتًا وأبدر إلى الخضرة، فإذا جاءها الماء لم تكن إلا سنة واحدة حتى اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
وقد يؤتى من البلاد الحارة كالهند والجاوى بأشجار سريعة البسوق، ورياحين باكرة السموق، لا تمضي سنوات حتى ترى فروعها في السماء، وأغصانها لاحقة بالأرض، فتنقلب عرفات من هذه الغبرة الباسرة إلى الخضرة الناضرة، التي لا تضر شيئًا بمناسك الحجاج، بل تزيدهم من الفرح والابتهاج.
عرفة في القديم وخبر عبد الله بن عامر بن كريز
إن في صحراء عرفة آبارًا معطلة احتفرها آباؤنا وأهملناها نحن، فدلَّت على أن الأبناء قصروا عن شأو الآباء، وأن الأبناء إنما ارتفقوا بما عجز الحدثان عن طمسه من مآثر الآباء، ولكنهم لم يزيدوا عليها شيئًا، بل هم لم يصلحوا ما عطله الدهر من جلاها، والحال أن الآخر حقيق بأن يزيد على الأول، وأن الذي يتسنى للخلف بما استفادوه من عبر الدهر المتراكمة، واستثمروه من التجاريب المتكررة، لم يكن يتسنى للسلف، فنحن ترانا بعكس القاعدة نعجز في عنفوان المدنية عن مباراة ما حققه أجدادنا في حداثتها، وليت شعري لو لم تكن زبيدة امرأة هارون الرشيد جرت مياه نعمان إلى عرفات، من يقول إن رجلًا من مسلمي اليوم — فضلًا عن امرأة — تسمو همته إلى القيام بمشروع كهذا.
فعرفات التي هي ما هي اليوم من القحولة واليبوسة، والتي كان الحاج يظمأ فيها إلى الموت لولا قناة عين زبيدة المارة بها قد كانت في الماضي ذات رياض وغياض، وسقايات وحياض، انظر ما في معجم البلدان بشأن عرفات فهو يقول: قال ابن عباس: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبالها إلى قصر آل مالك ووادي عرفة، وقال البشاري: فرعة قرية فيها مزارع وخضر ومباطخ وبها دور حسنة لأهل مكة ينزلونها يوم عرفة والموقف منها على صيحة عند جبل متلاطئ — أي متدان إلى الأرض — وبها سقيات وحياض وعلم قد بُني يقف عنده الإمام … إلخ.
ولنذكر شيئًا عن البقاع التي عمرها الصحابي الجليل عبد الله بن عامر بن كريز: فالنِباج كما نقله ياقوت عن أبي منصور نباجان.
أحدهما: موضع على طريق البصرة يقال له: نِباج بني عامر وهو بحذاء فيد، والآخر نِباج بني سعد بالقريتين، وقال غيره: النِباج لحجاج البصرة، وقيل: النِباج بين مكة والبصرة للكريزيين، وقال عبد الله السكوني: النِباج من البصرة على عشر مراحل، وقال: النِباج استنبط ماءه عبد الله بن عامر بن كريز شق فيه عيونًا وغرس نخلًا وولده بن وساكنه رهطه بني كريز ومن انضم إليهم من العرب. انتهى.
وأما السُّمَينة بضم الأول وفتح الثاني على التصغير ففي المعجم: إنه أول منزل من النِباج للقاصد إلى البصرة.
وأما قباء التي اتخذ بها عبد الله بن عامر بن كريز قصرًا فلا نظنها قباء التي في المدينة على مسافة ميلين منها على يسار القاصد إلى مكة والتي فيها المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، ولكني أظنها قباء التي يقول عنها ياقوت في معجمه: «إنها موضع بين مكة والبصرة.» والدليل على ذلك أن عبد الله بن عامر وَلِيَّ البصرة لعثمان بن عفان أكثر من البناء والحفر والغراس على الطريق المؤدية من البصرة إلى مكة، فالنِباج والحُفَير بضم ففتح على التصغير، والسُّمَينة بالتصغير أيضًا، كلها على هذا السمت.
فالأشبه أن تكون قباء التي بنى عبد الله فيها صرحًا هي قباء التي موقعها بين مكة والبصرة.
ولقد أورد ياقوت بعد ذكره قباء التي بين مكة والبصرة أبياتًا للسري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويمر بن ساعدة الأنصاري، مما يوهم أن هذه الأبيات قيلت في قباء هذه والأولى هو أن تقول: قباء المقصودة في شعر السري بن عبد الرحمن الأنصاري هي قباء المدينة المنورة؛ لأن الأنصار كان لهم مساكن فيها، ولأنه يصف فيها ماء بئر عروة الشهيرة بالعذوبة، والتي يقال: إنه كان يحمل من مائها إلى هارون الرشيد وهو بالرقة.
وبئر عروة هي في ضواحي المدينة كما هو معلوم، وعندها بستان لطيف، وقد قسم الله لي النزهة — أو القلية كما يقول أهل الحجاز — عند هذه البئر منذ خمس عشرة سنة قبل الحرب العامة بقليل، ووجدتُ من خفة مائها وحلاوته ما تذكرته هذه المرة عند شربي من بئر جعرانة التي في ضواحي مكة.
أما الأبيات التي استشهد بها ياقوت فهي هذه:
وخاخ هي روضة خاخ بقرب حمراء الأسد من المدينة كانت من الأحماء التي حماها النبي ﷺ والخلفاء الراشدون يقال: إنها في حدود العقيق بين الشوطي والناصفة، وقد أكثر من ذكرها الشعراء، وكانت فيها منازل لأئمة من آل البيت وغيرهم من أعيان المدينة.
وأما نهر الأبلة الذي يقال إن عبد الله بن عامر شقه فهو نهر بالبصرة وهو إحدى جنان الدنيا الأربع بحسب قول بعضهم وهي غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان، ونهر الأبلة، وحكي أن بكر بن النطاح مدح أبا دلف العجلي بقصيدة فأثابه عليها عشرة آلاف درهم فاشترى بها ضيعة بالأبلة ثم جاء بعد قليل وأنشده:
فقال أبو دلف: وكم ثمن هذه الضيعة الأخرى؟ فقال: عشرة آلاف درهم فأمر أن يُدفع ذلك إليه فلما قبضها قال له أبو دلف: اسمع مني يا بكر: إن إلى جنب كل ضيعة أخرى إلى الصين وإلى ما لا نهاية له، فإياك أن تجيئني غدًا وتقول: إن إلى جنب هذه الضيعة ضيعة أخرى فإن هذا شيء لا ينقضي، خاف أبو دلف أن تصير ضياع بكر بن النطاح مثل مستعمرات الإنكليز كل واحدة تجر جارتها وهلمَّ جرًّا.
المناهل في مكة وذكر الاعتداء على الأوقاف التي وقفها السلف
نعود إلى عرفات التي كنا فيها، وإلى عبد الله بن عامر بن كريز المغرم كان بالعمارة وإحياء الأرض فنقول: قال ابن حوقل صاحب كتاب المسالك والممالك الذي عاش في أوائل القرن الرابع للهجرة، وهو من أشهر جغرافي العرب: وعرفة ما بين وادي عرنة إلى حائط بني عامر — الحائط: البستان — إلى ما أقبل على الصخرات التي يكون بها موقف الإمام، وإلى طريق حصن، وبحائط بني عامر نخيل، وكذلك في غربي عرفة بقرب المسجد الذي يجمع فيه الإمام بين صلاتي الظهر والعصر في يوم عرفة ونخل الحائط، والعين تنسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز.
إلى أن يقول: وليس بمكة ماء جارٍ إلا شيء قد أجري إليها من عين قد عمل فيها بعض الولاة واستتم في أيام المقتدر، ويمتح — أي يمتد — إلى مسيل قد جُعل إلى باب بني شيبة في قناة عُملت هناك، وكانت أكثر مياههم من السماء إلى مواجن بها كانت عامرة فخربت باستيلاء المتوالين على أموال أوقافها، واستئثارهم بها، وليس لهم آبار تشرب وأطيبها زمزم ولا يمكن الإدمان على شربه.
وأما «المواجن» فالظاهر أنه يريد بها ما نسميه اليوم «بالسبل»، ولكننا لم نجد في متون اللغة المواجن بهذا المعنى، وإنما «المواجن» جمع «ميجنة» وهي مدقة القصار كما لا يخفى، نعم يوجد في اللغة «ماء مجان» أي: كافٍ مستفيض، ويوجد «مجان» أي: بدون ثمن، وكلاهما يطابق هذا المعنى، ولكن على هذا يكون ابن حوقل عدل عن «فعال» إلى «فاعل»، ولو أن المؤلف ذكرها مرة واحدة في كتابه لكنا نقول: لعلها من غلط النسخ والطبع، ولكنها وردت في كلامه مرارًا بالجمع «مواجن» وبالمفرد «ماجن» وكل ذلك بالنون.
وأما الأزرقي أبو الوليد محمد صاحب كتاب «أخبار مكة» فقد أوردها باللام، فهو يقول عند ذكر العيون التي أجريت إلى الحرم، ومنها حائط خرمان، وهو من ثنية أذاخر إلى بيوت جعفر العلقمي، وبيوت ابن أبي الرزام، وما جُلُّه قائم إلى اليوم، وكان فيه النخل والزرع حديثًا من الدهر، وكانت له عين ومشروع يرده الناس، ويقول في موضع آخر: وكانت عيون معاوية قد انقطعت وذهبت فأمر أمير المؤمنين الرشيد بعيون منها فعملت وأحييت وصرفت في عين واحدة يقال لها «الرشاد» تسكب في الماجلين اللذيْنِ أحدهما لأمير المؤمنين الرشيد بالمعلَّات ثم تسكب في البركة التي عند المسجد الحرام.
وفي القاموس: الماجل كل ماءٍ في أصل جبل أو وادٍ، وقال الزبيدي في التاج: إن بعض ثقات اللغة رواه بدون همز وإن الآخرين تحفظه بالهمز، وجاء في القاموس ما هو أصرح؛ وهو أن الماجل موضع بباب مكة يجتمع فيه ماء يتجلب إليه، واستدرك صاحب التاج في هذه المادة بقوله: وفي حديث أبي واقد كنا نتماقل في ماجل أو صهريج، قال ابن الأثير: هو الماء الكثير المجتمع، وقيل: هو معرب، والتماقل: التغاوص في الماء.
سوء تصرف المسلمين في أوقاف سلفهم وأكلها بالباطل
أهمية المياه في الحجاز
أعود إلى ذكر المياه والعيون بمكة، وقد يقال لي: لماذا هذا الإسهاب كله على قضية الحياض والقنى والمواجل والبازانات، وفيما عملته زبيدة، وفيما عمله عبد الله بن عامر بن كريز وغيرهما من المعمرين والمنظمين … إلخ؟
والجواب: من لم يعرف الحجاز لم يعرف قيمة المياه في الأرض، وإذا كانت آية: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ صحيحة في أسوج ونروج، لا بل في القطب الشمالي حيث الثلوج عامة للأقطار طامة للأنظار، فكم تكون هذه الآية الكريمة الصحيحة في قطر مثل الحجاز تصعد درجة الحرارة فيه بالصيف إلى ٤٧ و٤٨ بميزان سنتيغراد، وكثيرًا ما يعز فيه المطر فتنضب من ذلك عيون كانت جارية، وآبار كانت دافقة، وموقف سوان كانت دائرة، وتصوح جنان كانت بهجة للناظرين، وتموت أشجار كانت آية للسابلين، وتصبح الرياض التي كانت أشبه بالزمرد قاحلة غبراء، مربدة كأنها فيافي بني أسد.
إن شأن الحجاز في هذا المعنى هو غير شئون سائر البلاد، فالماء فيه يجوز أن يوزن بالمثقال، والماء فيه هو الذهب، والماء فيه هو الماس، ونقط الغيث فيه هي اللآلئ، وبالجملة فالماء فيه هو الحياة نفسها، وهي أغلى من كل هذه، ولو ألَّفَ حجازي قاموس لغة وعند تعريف الحياة قال: إنها الماء، أو عند تعريف الماء قال: إنه الحياة لكان جديرًا.
ورب قائل: إن هذا لا يخص الحجاز دون غيره، بل الماء هو الحياة في كل أقسام الكرة، والجواب: إنه في سائر البلاد لا تبدو من الماء هذه العزازة والكزازة التي تبدو منه في الحجاز، وأينما تحولت تجد عيونًا جارية، وأودية سائلة، وأحيانًا تجد أنهارًا مثل البحار، وبحيرات تسير فيها السفن الكبار.
هذا؛ والأمطار في بعض البلاد تسح في أشهر الشتاء سحًّا لا يخشى معه ظمأ ولا قحط، وقد تشح آونة لكن سحًّا لا تنضب به العيون ولا تجف الآبار، وإنما تنقص نقصًا قد تنقص معه الثمرات وتذبل الأشجار، تأوي الزروع ولكن لا يقتلها العطش هذا القتل الوحي الذي يقتلها في الحجاز، ومن بلاد الله ما الأمطار فيها لا تكاد تقلع لا صيفًا ولا شتاءً فتجدها دائمًا زمردة خضراء.
وأما الحجاز فالغيث فيه قلما يعم وأكثر ما ينزل نفضًا — جمع نفضة بضم أوله وهي المطرة تصيب القطعة من الأرض وتخطئ القطعة — فإذا أصابت النفضة أرضًا زهت تلك السنة وأثمرت وعاش أهلها، وإذا أخطأتها أو جاءت بها رذاذًا يبس كل ما هناك من زرع، وعطش كل ما هناك من ضرع، ولم يبق أمام أهلها إلا التحول عنها إلى أرض أخرى يكون الغيث قد ساقها، ولا يعودون إلى الأرض الأولى إلا إذا أصابتها الرحمة، وقد تكون الأَرَضَات متجاورة، وإنك لتجد هذه زاهية ناضرة، وهذه على مسافة ربع ساعة منها غامرة باسرة، وذلك لأن الغيث أصاب هذه وأخطأ هذه.
وقصدنا إلى ساقية كانت مشهورة بغزارة المياه فنظرنا إلى قعرها فوجدنا الذي فيها قد يكفي لشربنا فجلسنا نقيل تحت شجرات هناك ونزعنا بالدلو حتى سقينا نحن وربعنا، ولكن الأنفس أرمضها منظر الأشجار المحزن، فلم نمكث إلا ساعتين حتى فارقنا الهدا مهرولين إلى واد قريب منها يقال له وادي الكُمَّل — بضم ففتح مع التشديد — وقد علمنا من أهل الهدا أن العارض الذي جاء الحاج يوم عرفة لم يكن ممطرهم، ولقد أمطر جيرانهم على درجات متفاوتة، فمنهم من رزقوا ثمرات وغلات وافرة، ومنهم من أتتهم غلة متوسطة، ولكن الهدا كانت محرومة مغمورة تمامًا هذا الصيف كله وبقيت في هذه اللأواء ليس فيها نبت أخضر إلا الصبير حتى دخل فصل الخريف وفي الحجاز يقولون له الشتاء ويقولون للشتاء الذي عندنا الربيع، فجاءنا الخبر ونحن في الطائف أن الهدا سقيت وأغيثت ورجعت إليها روحها.
وليس في الحجاز أوحى من أخبار المطر، فهي لشدة غزارة القطر تسري من واد إلى واد ومن نجع إلى نجع بسرعة اللاسلكي، وتراهم من شدة ترقبهم للأمطار يعرفون من مواقعها بمجرد النظر ما لا نعرفه نحن في بلادنا، فإذا تلبدت السحب في أفق من الآفاق أو قصف رعد أو أومض برق قالوا لك: هذا في أرض عسير أو في بلاد ثمالة أو في الشفا أو في بلاد هذيل وهلم جرًّا، وقد تكون المسافة ساعات بل أيام، وتجدهم يخمنون ويصيبون، وبالجملة سكان البوادي أقرب إلى الطبيعة الفجة وآلف لها، وأعرف بالسحب ومساقط الغيث وبالأرض وأنواعها والتراب وخواصه وروائحه، والنبات وحياته، والنجوم ومطالعها ومغاربها وما أشبه ذلك، من سكان الحواضر.
لذة الماء والخضرة في البلاد الحارة
ترى مما تقدم أن مطرة واحدة في الحجاز تحيي وتميت، وليس الأمر كذلك في سائر البلاد التي تهطل فيها الأمطار فتعم وإن لم يصب هذه القطعة عارض ممطر هذه المرة أصابها مرة أخرى.
نعم، إن الودق في الحجاز — وفي جميع البلاد الحارة — أشد منه في البلاد الضاربة إلى الشمال، وإن مزنة واحدة في الأحايين لا تستمر أكثر من نصف ساعة فتسيل لها أودية بقدرها، وتجرف وتجحف، وقد تذهب بالحيطان والبيوت، وقد تغتال القوافل والسوابل إذا جاءتهم على غرة.
ولكن طغيان المياه هذا لا يستمر إلا ريثما ترفع النقطة، فعند ذلك تنظر في الأرض فإذا هي قد بلعت ماءها، وعاد ما كانت تراه نهرًا هدارًا، قد نضب ماؤه، وصحت سماؤه، وكأنه لم يمر من هناك ماء، ولم تمطر سماء، وفي مدينة الطائف وادٍ شهير مذكور في الكتب يقال له «وج» إذا سال هذا الوادي شبعت الطائف وكل ما جاورها خيرات وأقواتًا، ومع هذا لا يسيل في السنة كلها إلا مرة أو مرتين، وكل مرة ساعة أو ساعتين.
فمن أجل هذا كان الماء في الحجاز أثمن وأغلى منه في سائر الأقطار، وكان ألذ وأبهج وأعلق بالقلب وأشرح للصدر، وكأن الماء في الحجاز يساوي الماء خمسين مرة في الشام ومائة مرة في سويسرا مثلًا، وكأن الغصن الأخضر في الحجاز أحلى منه مائة مرة في أوروبا، وكم من عين لو كنت في سوريا ومررت على مثلها لم أقف دقيقة ولا نظرت إليها إلا كما أنظر إلى التراب.
فأما في الحجاز فقد كنت أقيل إلى جانبها، وأحدق في قطرات مائها، ولا أبرح أتحدث إلى الإخوان عن فضيلة جريها، وصفاء لونها، وكم من مرة جلسنا في الحجاز إلى ثماد وأوشال، لا نمر في غير الحجاز على بال فكنا نستعذبها، ونتلذذ بالمقيل عندها، كما لو كنا على نبع الباروك أو نبع الصفا في جبل لبنان.
لا جرم أن الأمور في الغالب نسبية، تغلو وترخص وتحسن وتسمج بحسب الزمان والمكان، وقد يلذ لك في الصيف ما تجده ثقيلًا في الشتاء، وترتاح في الأقاليم الحارة إلى ما تفر منه في الأقاليم الباردة، والثلج فاكهة الجروم، على حين أن النار فاكهة الصرود، وهلم جرًّا.
ولذلك أراني أتلذذ بالماء والظل والخضرة في الحجاز وفي الشرق كله أكثر مما أتلذذ بها في أوروبا، لا سيما في القسم الشمالي منها؛ ففي أوروبا مياه تتدفق، وأنهار تهدر، وشلالات تتحدر، ولكن كل ذلك في جو لا ترتفع حرارته عن ١٥ أو ٢٠ بميزان سنتيغراد إلا أيامًا قلائل من السنة، وكل ذلك في جو مطير متلبد بالسحب أكثر السنة.
فأي لذة لماء الجداول والأنهار الجارية على الأرض حينما تكون المياه نازلة من السماء؟ وأية لذة يجدها الإنسان في الظل الظليل والحرجات الملتفة إذا كانت الشمس في الغالب محجوبة بالغمام؟ والماء البارد إنما يولع به الخلق في بوارح القيظ يتبردون به بالعل والنهل والغسل والمجاورة، فأما إذا كان الهواء باردًا من أصله فما لك وللتبرد والابتراد؟
إن الإنسان بني مزاجه على التعديل؛ فتجده لا يعرف الراحة والهناء إلا بتسليط العناصر بعضها على بعض، حتى تصل إلى درجة الاعتدال، فإذا أفرط به الحر لجأ إلى الماء والثلج وأهوية الجبال، وإذا أفرط به البرد لجأ إلى النار والشمس والصوف وأهوية السواحل، فما دام الإنسان لا يشعر بالحرارة، فالبهجة التي عنده للماء الزلال والظل والمرج الأخضر والشجر الملتف لا تكاد تذكر بالقياس إلى البهجة التي عنده بها والسموم تهب والجوف يتلهب.
فالجنات والعيون والأنهار والأشجار إنما جعلها الله نعيمًا في البلاد الحارة والمعتدلة كجزيرة العرب ومصر والمغرب والشام والعراق وفارس وما في ضربها، ففي هذه الأقاليم تظهر قيمتها، ويغالي المرء في ثمنها، ويلحق بهذا الضرب من البلدان إيطاليا وإسبانيا والجزائر التي في البحر المتوسط وجميع جنوبي أوروبا.
ولقد وُجدت مرة في رومية في فصل القيظ ففررت منها إلى بلدة تيفولي على مسافة ساعتين من رومية في سفح الجبل، ونعمت من النهر العذب الفياض المنحدر من هناك، وبشلالات ذلك النهر وبحيراته وحياضه بما لا أنساه طول حياتي، وإنما كانت درجة الحرارة البالغة ٣٤ هي التي توحي إلى تلك المحاسن التي رأيتها على نهر تيفولي، وتنطقني بهذه الفقر الشاعرة في وصفها.
(٥-٢) أثر السيدة زبيدة
من حيث قد تقرر أن الماء هو في البلاد الحارة والمعتدلة أحيا وأعذب وأبرد على الأكباد وأطيب أضعافًا مضاعفة منه في البلاد الباردة، فقد كان أعظم ما يرزق به الإنسان من الصواب والثواب وما ترتفع به درجته في المبدأ والمآب هو تفجير الينابيع وإسالة الجداول وتقريب المشارع في بلاد نظير الحجاز تقصد إليها الحجاج من الحار والبارد والرطب واليابس، بالألوف وعشرات الألوف، ومئات الألوف زائدًا إلى من فيها من السكان.
ثم أمر أمير المؤمنين المأمون صالح بن العباس في سنة عشر ومائتين أن يتخذ له بركًا في السوق خمسًا؛ لئلا يتمنى أهل أسفل مكة والثنية وأجيادين — بالتثنية — والوسط إلى بركة أم جعفر فأجرى عينًا من بركة أم جعفر من فضل مائها في عين تسكب في بركة البطحاء عند شعب ابن يوسف في وجه دار ابن يوسف، ثم يمضي إلى بركة عند الصفا ثم يمضي إلى بركة عند الحناطين، ثم يمضي إلى بركة بفوهة سكة الثنية دون دار أويس، ثم يمضي إلى بركة عند سوق الحلب بأسفل مكة ثم يمضي في سرب ذلك إلى ماجل أبي صلابة، ثم إلى الماجلين اللذين في حائط ابن طارق بأسفل مكة، وكان صالح بن العباس لما فرغ منها ركب وجوه الناس إليها فوقف عليها حين جرى فيها الماء ونحر عند كل بركة جزورًا وقسم لحمها على الناس. انتهى.
وقال ابن خلكان: أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، هي أم الأمين محمد بن هارون الرشيد، وكان لها معروف كثير وفعل خير، وقصتها في حجها، وما اعتمدته في طريقها مشهورة، فلا حاجة إلى شرحها، قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الألقاب: إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، وإنها أسالت الماء عشرة أميال بخط الجبال وتحت الصخر حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان، فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: أعملها ولو كانت ضربة فاس بدينار، وكانت وفاتها سنة ست عشرة ومائتين في جمادى الأولى ببغداد رحمها الله تعالى. انتهى.
وأما ابن جبير الأندلسي وقد كانت حجته في سنة ٥٧٩ فإنه ذكر زبيدة في كلامه الذي يلي: فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصي عدده إلا الله عز وجل، ومزدلفة بين منى وعرفات من منى إليها ما من مكة إلى منى، وذلك نحو خمسة أميال ومنها إلى عرفات مثل ذلك أو أشف قليلًا، وتسمى المشعر الحرام وتسمى جمعًا.
قال الحريري في مقاماته:
فلها ثلاثة أسماء، وقبلها بنحو الميل وادي محسر، ومضت السنة بالهرولة فيه، وهو حد بين مزدلفة ومنى؛ لأنه معترض بينهما، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحوله مصانع وصهاريج كانت للماء في زمان زبيدة رحمها الله.
أقول: هذه الخمسة الأميال من عرفات إلى منى أخذت معنا أكثر من خمس ساعات من بعد المغرب إلى نصف الليل على أننا كنا في سيارة، وهذا مع سعة الطريق الذي هو أحيانًا سهل أفيح، ولا عجب فإن نحو من مائتي ألف نسمة كانوا مفيضين ذلك المساء في وقت واحد من عرفات إلى مزدلفة، فمنها قطر الجمال بالألوف لا بالمئات، وعليها الهوادج يخيل لرائيها من كثرتها وارتفاعها وحركة الأباعر من تحتها أن هناك مدينة سائرة على متون الأيانق، وهناك الركبان والفرسان، والمشاة على الأقدام، وبالاختصار محشر من الخلائق، وقد يبلغ الحاج في بعض الأعوام ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف وجميعهم لا بد لهم من الإفاضة في وقت واحد.
(٥-٣) روعة موقف عرفات العام ومواكب بالحج فيها أيام دول الإسلام ووصف ابن جبير الأندلسي لها في القرن السادس
مهما أنسى لا أنسى منظر عرفات ليلًا، فهو من أبهج ما ارتسم في خاطري من مناظر هذه الدنيا الفانية مع كثرة ما شاهدت في حياتي وما تقلبت في الأمصار والعواصم، فقد أقبلنا عليها غلسًا آتين من منى، فكانت أشبه بسماء في كواكبها وطرائقها بسهول وهضاب في خيامها، وقبابها المضروبة، ومصابيحها المعلقة ونيرانها المشبوبة، فكان منظرًا قيد النواظر لا يشبع منه الرائي تطلعًا، ولا يزداد به إلا ابتهاجًا، وليست عرفات في النهار بأقل حسنًا وجلالًا في تموج جموعها وتراص قبابها، ولا سيما في مناظر الخشوع التي تأخذ بالألباب، ومسامع الأدعية التي ليس بينها وبين الله حجاب.
وإني أترك وصف عرفات في مثل ذلك اليوم لكاتب شهير لا يلتفت إلى فقر فقراتي بجانب مليء أماليه، ولا يؤبه بحقير خرزاتي في معرض بديع لآليه، ألا وهو ابن جبير الكناني الأندلسي — برد الله ثراه — قال.
وصف ابن جبير لموقف عرفات
إلى أن يقول: أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعًا ارتجت له الأرض، ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه، وأرجى في النفوس عقباه، جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم حنان منان.
وكانت محلة الأمير العراقي جميلة المنظر، بهية العدة، رائقة المضارب والأبنية، عجيبة القباب والأروقة، على هيئات لم يُرَ أبدع منها منظرًا، فأعظمها مرأى مضرب الأمير، وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان، كأنه حديقة بستان، أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهي كلها سواد في بياض مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض، وقد جملت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية — الدرقة هي الترس — من ذلك السواد المنزل في البياض يستشعر الناظر إليها مهابة يتخيلها درقًا لمطية — نسبة إلى قبيلة في المغرب الأقصى عندهم أحسن التراس — قد جللتها مزخرفات الأغشية، ولهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج، ثم يفضي منها إلى الفضاء الذي فيه القباب، وكأن هذا الأمير ساكن في مدينة قد أحدق بها سور تنتقل بانتقاله، وتنزل بنزوله، وهي من الأبهات الملوكية المعهودة، وداخل تلك الأبواب حجاب الأمير وغاشيته، وهي أبواب مرتفعة يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ، قد أحكمت ذلك كله أحراش — من حرش، أي: خشن — وثيقة من الكتان يتصل بأوتاد مضروبة، أدير ذلك كله بتدبير هندسي غريب.
ولسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مضارب دون ذلك، لكنها على تلك الصفة، وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل، قد قامت كأنها التيجان المنصوبة، إلى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدة، وغير ذلك مما يدل على سعة الأحوال وعظيم الانحراف — لعلها الاحتراف وهو الكسب والتصرف وحرف لعياله كسب، ومنه الحرفة — في المكاسب والأموال.
ولهم أيضًا في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم، بديعة المنظر عجيبة الشكل، قد نصبت على محامل من الأعواد يسمونها القشاوات وهي كالتوابيت المجوفة، وهي لركابها من الرجال والنساء كالأمهدة للأطفال، تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحًا كأنه في مهادٍ لين فسيح، وبإزائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الأخرى، والقبة مضروبة عليهما، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران أو كيفما أحبا، فعندما يصلان إلى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين إن كانا من أهل عرفة والتنعيم، فيدخل بهما إلى السرادق، وهما راكبان وينصب لهما كرسي ينزلان عليه فينتقلان من ظل قبة المحمل إلى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما، ولا خطفة شمس تصيبهما، وناهيك من هذا الترفيه، فهؤلاء لا يلقون لسفرهم إن بعدت شقته نصيبًا، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبًا.
ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات، وهي شبيهة الشقادف، لكن الشقادف أبسط وأوسع، وهذه أضم وأضيق، وعليها ظلائل تقي حر الشمس، ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب … إلخ. ا.ﻫ.
أقول: وكما رأت عرفات من هذه القباب والسرادقات وهذه المناظر الشائقات، وكم رأت طريق البيت الحرام من هذه المحارات وهذه الشقائق، وكم رأت من راكب وفارس وحافٍ وناعل، وكم تطهرت نفوس، وتهذبت أرواح، وصفت قلوب، وزكت أعمال، وخزيت شياطين، وحقنت دماء، وكفكفت دموع، وصينت أموال، كل ذلك بسبب هذه الآية الكريمة: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وكم عاشت بهذه الآية مخلوقات، ودخلت على الحجاز أموال، المُهم أن كل ذلك هو فوق تصور العالمين.
أما النعمة والرفاهية اللتان أشار إليهما ابن جبير من حال حجاج العراق وفارس وخراسان في ذلك الوقت فلم يبقَ منها شيء تقريبًا إلى الأعصر الأخيرة؛ لأن تلك الحال تحولت بسبب الحروب المتواصلة، ولا سيما غارة المغول التي أتت على الحرث والنسل، ونسفت عمران المشرق نسفًا، فأقفرت البلاد، وتقلصت الزراعة، وتشتت العباد، ونضبت موارد التجارة، وجاء فتح ترعة السويس في الزمن الأخير فتحولت به تجارة الهند والصين عن فارس والعراق والشام، واستأثر بها الأوروبيون رأسًا مع أن ثروة بغداد والبصرة وشيراز، وأصفهان وسيراف … إلخ، وكانت أيام العباسيين مما تعجز عن وصفه الأقلام، وتتقاصر الأرقام وتلك الأيام نداولها بين الناس.
ولقد خطر ببالي ذكر المحامل التي ينتقل منها إلى المنازل بدون أن يخرج الراكب من الظل إلا إلى الظل عمل الملك ليوبولد ملك بلجيكا السابق، فقد رأيت له في بروكس قصرًا حوله حديقة فيحاء، وكان أنشأ فرعًا من سكة الحديد إلى الحديقة، فالقصر داخلًا في نفق تحت الأرض إلى ما تحت القصر، فيأتي القطار الخاص بالملك من الخارج فيدخل إلى ما تحت القصر، ويخرج الملك من العربة التي هو جالس فيها بخطوة واحدة إلى المصعد الذي هو محاذٍ لباب العربة، فيرقى به المصعد توًّا إلى غرفة نومه الخاصة، وهكذا ينتهي من السكة الحديدية إلى غرفة مبيته بدون أن يتكلف لا مشيًا ولا صعودًا، ولا نعلم هل كانت عنده آلة ترفعه من أرض الغرفة إلى السرير؟!
(٥-٤) الوزير الجواد الأصفهاني جمال الدين
من حيث إننا في ذكر المعمرين — عمر المنزل بالتشديد جعله آهلًا — والمثمرين — ثمر المال بالتشديد أيضًا كثره — والمسدين للمبرات، والسابقين إلى الخيرات، والمشيدين للممالك، والممهدين للمسالك، وإن سيرة مثل هذه الطبقة في الإسلام هي أحسن السير، وبها يحسن المبتدأ ويعطر الخبر، فليسمح لنا القراء بنشر شيء من سيرة الجواد الأصفهاني وزير صاحب الموصل أتابك زنكي بن آق سنقر، فهو الوزير أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، اتصل بخدمة أتابك زنكي في الموصل في الثلث الأول من القرن السادس للهجرة، وبعد أن قتل الملك المذكور على قلعة جعبر استوزره سيف الدين غازي بن أتابك زنكي، وفوض الأمور وتدبير أحوال الدولة إليه.
قال ابن خلكان: فظهر حينئذ جود الوزير المذكور، وانبسطت يده، ولم يزل يعطي ويبذل الأموال، ويبالغ في الإنفاق، حتى عرف بالجواد، وصار ذلك كالعلم عليه حتى لا يقال إلا جمال الدين الجواد.
إلى أن قال عن وفاته: توفي في العشر الأخير من شهر رمضان المعظم وقيل من شعبان سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وصُلِّيَ عليه وكان يومًا مشهودًا من ضجيج الضعفاء والأرامل والأيتام حول جنازته، ودفن بالموصل إلى بعض سنة ستين فنقل إلى مكة حرسها الله تعالى وأطيف به حول الكعبة، وكان بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات، وكانوا يطوفون به كل يوم مرارًا مدة مقامهم بمكة شرفها الله تعالى، وكان يوم دخوله مكة يومًا مشهودًا من اجتماع الخلق والبكاء عليه، وقيل: إنه لم يعهد عندهم مثل ذلك اليوم، وكان معه شخض مرتب يذكر محاسنه ويعدد مآثره.
إلى أن قال: ثم حمل إلى مدينة الرسول ﷺ ودفن فيها بالبقيع بعد أن أدخل المدينة، وطيف به حول حجرة الرسول ﷺ مرارًا، وأنشد الشخص الذي كان مرتبًا معه:
وانظر إلى ما يقوله عن هذا الوزير ومآثره الرحالة ابن جبير الأندلسي وقد عاش في ذلك العهد وهو: ولهذه البلدة المباركة — أي مكة — حمامان؛ أحدهما: ينسب للفقيه الميانشي أحد الأشياخ المحققين بالحرم المكرم. والثاني: وهو الأكبر ينسب لجمال الدين، وكان هذا الرجل كصفته جمال الدين له — رحمه الله — بمكة والمدينة — شرفهما الله — من الآثار الكريمة، والصنائع الحميدة، والمصانع المبنية في ذات الله المشيدة، ما لم يسبقه إليه أحد، فيما سلف من الزمان ولا أكابر الخلفاء فضلًا عن الوزراء، وكان — رحمه الله — وزير صاحب الموصل، تمادى على هذه المقاصد السنية المشتملة على المنافع العامة للمسلمين في حرم الله تعالى وحرم رسوله ﷺ أكثر من خمس عشرة سنة لم يزل فيها بازلًا أموالًا لا تحصى في بناء رباع بمكة مسبلة في طرق الخير والبر، مؤبدة محبسة، وأخطط صهاريج للماء، ووضع جبابًا في الطريق يستقر فيها ماء المطر، إلى تجديد آثار من البناء في الحرمين الكريمين، وكان من أشرف أفعاله أن جلب الماء إلى عرفات وقاطع عليه بني شعبة سكان تلك النواحي المجلوب منها الماء بوظيفة من المال كبيرة، على أن لا يقطعوا الماء عن الحاج، فلما توفي الرجل — رحمة الله عليه — عادوا إلى عادتهم الذميمة من قطعه.
ومن مفاخره ومناقبه: أيضًا أنه جعل مدينة الرسول ﷺ تحت سورين عتيقين أنفق فيهما أموالًا لا تُحصى كثرة، ومن أعجب ما وفقه الله تعالى إليه أنه جدد أبواب الحرم كلها، وجدد باب الكعبة المقدسة وغشاه فضة مذهبة، وهو الذي فيها الآن حسبما تقدم وصفه، وجلل العتبة المباركة بلوح ذهب أبريز، وقد تقدم ذكره أيضًا، فأخذ الباب القديم وأمر بأن يصنع له منه تابوت يدفن فيه، فلما حانت وفاته أوصى بأن يوضع في ذلك التابوت المبارك ويحج به ميتًا، فسبق إلى عرفات ووُقف به على بعد، وكشف عن التابوت، فلما أفاض الناس أفيض به وقضيت له المناسك كلها وطيف به طواف الإفاضة، وكأن الرجل رحمه الله لم يحج في حياته.
ثم حُمل إلى مدينة الرسول ﷺ وله فيها من الآثار الكريمة ما قدمنا ذكره، وكاد أشرافها يحملونه على رءوسهم، وبنيت له روضة بإزاء روضة المصطفى ﷺ وفتح فيها موضع يلاحظ الروضة المقدسة، وأبيح له ذلك على شدة الضنانة بمثله لسابق أفعاله الكريمة، ودفن في تلك الروضة، وأسعده الله بالجوار الكريم، وخصه بالمواراة في تربة التقديس والتعظيم، والله لا يضيع أجر المحسنين. ا.ﻫ.
ثم يعود إلى سيرته أيضًا فيقول: ولهذا الرجل رحمه الله من الآثار السنية والمفاخر العلية التي لم يسبقه إليها أكابر الأجواد، وسراة الأمجاد، فيما سلف من الزمان ما يفوت الإحصاء، ويستغرق الثناء، ويستصحب طول الأيام على الألسنة بالدعاء، وحسبك أنه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة الشرق من العراق إلى الشام إلى الحجاز حسبما نذكره، واستنبط المياه وبنى الجباب واختط المنازل في المفازات، وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وكافة المسافرين.
وابنتى بالمدن المتصلة من العراق إلى الشام فنادق عينها لنزول الفقراء أبناء السبيل الذين يضعف أحدهم عن تأدية الأكرية، وأجرى على قومه تلك الفنادق والمنازل ما يقوم بمعيشتهم، وعين لهم ذلك في وجوه تأبدت لهم فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها إلى الآن.
فصارت بجميل ذكر هذا الرجل الرفاق، وملئت ثناء عليه الآفاق، وكان مدة حياته بالموصل على ما أخبرنا به غير واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلك قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء، فسيحة الأرجاء، يدعو إليها كل يوم الجفلى — الوليمة العامة — من الغرباء، فيعمهم شبعًا وريًّا، ويرد الصادر والوارد من أبناء السبيل في ظله عيشًا هنيًّا، لم يزل على ذلك مدة حياته رحمه الله، فبقيت آثاره مخلدة، وأخباره بألسنة الذكر مجددة، وقضى حميدًا سعيدًا والذكر الجميل للسعداء حياة باقية، ومدة من العمر ثانية. ا.ﻫ.
فتأمل في هذا الرجل وما أجراه من الخيرات العامة، وما برد من حر، وما أغنى من فقر، وما آوى من قفر، وما أمن من خوف، وما قوى من ضعف، وتبصر فيما شاده من الفنادق في الطرقات، وما بناه من المنازل في الفلوات، وما حبس على هذه المؤسسات الخيرية من الأوقاف الدارة، إلى غير ذلك من المآثر التي يتحلى بها تاريخ الإسلام، وتطيب بقراءتها الأنفس، وترتفع الأرؤس.
العبرة بتعمير السلف وتخريب الخلف
وقابل هذا الصبر على الخير، وهذا الجلد في الإنسانية، وهذا الثبات في الفعل الجميل بما تعرفه من غيره ممن هو للأسف أكثر عددًا في ولاة الأمور وأعز نفرًا، وذلك في صرفهم أموال المسلمين وريع أوقافهم وغلة رباعهم على شهوات أنفسهم، وفي إعراضهم عن مصالح العامة إلى المنافع الخاصة بل المنافع الخاصة الخسيسة والمطامع الشخصية الدنيئة، ولهوهم بسفساف الأمور عن معاليها، وخيانتهم الأمة في أماناتها التي حملوها بالأجرة، ونراهم لا تهتز لهم أريحية إلى مبرة، ولا تسمو لهم همة إلى عمل شريف، ولا إذا تداعى جدار جددوا بناءه، ولا إذا توعرت طريق أزالوا حرشتها، ولا إذا جفت عين أسالوا غيرها، ولا إذا تشعثت قناة بادروا إلى رمها.
لا يهمهم حفظ الماضي على حاله فضلًا عن أن يبدءوا مآثر، ويقترعوا مفاخر، بل دأبهم في ولاية أمور المسلمين كما جاء في المثل العامي «يأكلون الخضراء ويقطعون اليابسة»، وكأنما أورثهم الله خراج المسلمين لينفقوه في السرف والسفه، ولذات الكروش والفروج، كأنما هو تراث آبائهم وأجدادهم، بل لو كان تراث آبائهم وأجدادهم ما ساغ لهم ذلك فيه، ولمنعهم القضاة العادلون عن هذا السفه، ولكن أين القضاة العادلون، وأين العلماء العاملون؟! الذين يقولون الحق في وجه الملوك ويخاطرون بأنفسهم ومصالحهم لأجل نصح الأمة.
فوالله ما أفسد أمر الإسلام إلا أمراؤه — إلا من رحم ربك — وما أفسد هؤلاء الأمراء إلا العلماء الذين أخذ عليهم المواثيق، بأن لا يقاروا على معصية، ولا يواطئوا على معرة، فكانوا يقارون على المعاصي ويتزلفون إلى الأمراء بالأباطيل، ويفتون لهم بتأويل النصوص الشرعية بغير معناها الحقيقي، ويسهلون لهم الموبقات بإجماعها، والمرديات بحذافيرها، طمعًا في الدنيا الفانية، والمطاعم الوبيئة الذاهبة، وهكذا تحول أمر هذه الأمة من العظمة إلى الصغار، ومن التمكن في الأرض إلى البوار، ومن المآثر والمباني إلى الدمار، ومن أحاديث المعالي إلى أقاصيص العار والشنار.
ولما كان يستحيل أن تسوء الإدارة في الداخل بدون أن يستأسد العدو من الخارج؛ لأن الأمم المتجاورة بعضها لبعض بالمرصاد، يهتبل الغرة ويقتحم العورة، لم يلبث ظلم الأمراء بتساهل العلماء، وما نشأ عن ذلك من اضطراب الدهماء أن أحدث الأثر المنتظر، وأتى بالنتيجة البديهية من امتداد يد الغريب وطمعه في ممالك المسلمين واقتطاعه العالم الإسلامي قطرًا بعد قطر، وضربه على المسلمين الذل والمسكنة، بعد أن كانوا سادة الأرض وحلفاء النصر، وما أحسن قول شوقي في مخاطبة النبي ﷺ:
الإسلام دين العمران بريء من تبعة الانحطاط الذي عليه المسلمون الآن وتاريخ سلفهم المعمرين حجة على خلفهم المخربين
لم يخسر المسلمون بلدانهم فقط، وما تسلط عليها الأجنبي وأخذ كل ما فيها أخذ عزيز مقتدر فحسب، بل خسروا في نظر الناس حقائقهم وفضائلهم ومعاليهم وأحسابهم وآدابهم، وصار الناس يمارون في مآثرهم السوابق ومعاليهم السوامق ويجادلون في صحة نظرياتهم الاجتماعية، ويرونهم من أبعد الخلق عن العمران، وينسبون ذلك إلى الدين الإسلامي وإلى القرآن، وإلى التوحيد وإلى عقيدة القضاء والقدر، وإلى غير ذلك من الأسباب التي يعلمها من له ألفة بكتب الإفرنج أو من يجالس الناشئة الحاضرة في الشرق.
وصدق هذه الأقاويل كثير من المسلمين أنفسهم، واتخذوا تلك السفسطة قضية مسلمة، ونبذوا الإسلام بتاتًا، وأوشك آخرون أن ينبذوه بحجة أنه مصدر الانحطاط، ونسوا أنه ما من أمة على وجه الأرض إلا وقد سعدت وشقيت وعلت ونزلت، وتداولتها أدوار مختلفة، وكان ديانتها واحدة في دوري علوها وهبوطها، وأن الإسلام لهو أجدر من غيره بأن لا يكون مسئولًا عن انحطاط أحد، وأنه طالما نهض بأهله إلى الدرجات العُلا عندما كانوا يعملون بمقتضاه حق العمل.
وإنما كان المسئول عن هذا الانحطاط المسلمين لا الإسلام، والقراء لا الكتاب، والحملة لا المحمول، والخزنة لا المخزون، وهؤلاء هم الذين فقدوا الممالك وخسروا المجد القديم، وجنوا هذه الجناية على الشريعة الإسلامية والمبادئ القرآنية والآداب العربية والثقافة الشرقية، وجعلوا كل أولئك مسئولًا عن أمور لا مسئول فيها غير الأشخاص في الحقيقة، ولا مجرم غير الخلف الفاسد الذي أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولقي الغي.
وإنك لتجد كل كلمة من القرآن شاهدة عليهم وكل نص من الشرع حاكمًا بسوء سيرتهم، ولو أنفقت ما في الأرض جميعًا لم تقدر أن تطبق أعمال هؤلاء الملوك والخلفاء والوزراء والقضاة والعلماء من المسلمين، الذين وصلوا بالأمة إلى ما وصلت إليه على آية واحدة من القرآن الكريم مفهومة حق الفهم، أو حديث مشهور لا يتطرق إلى إسناده الشك، بل خالفوا قواعد الإسلام من أولها إلى آخرها، واتخذوا كتاب الله لمجرد الترتيل والتجويد، ولم يعملوا بعشر معشار ما فيه من الأوامر والنواهي، ورجعوا يعاتبون الله على الخذلان الذي هم فيه، والله قد أجابهم من قبل على اعتراضهم وقال لمثلهم: إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.
مثل هذه الأحوال من رجال الإسلام الموكل إليهم أمر الأمة قد أوسع للطعن أشداقًا، وللنظر بالازدراء أحداقًا، وصار الأوروبيون يقولون لنا: أنتم لا تعرفون إلا التخريب، وليس لكم حظ من العمران ولا من سداد الإدارة، وما الإدارة عندكم إلا فوضى، وبينكم وبين النظام ما بين المشرق والمغرب، إلى غير هذا من المثالب.
وكذلك انهال أكثرهم بالطعن على نفس الإسلام يقولون فيه: لو كان خيرًا لكان أهله قد أثلوا مدنية ووقفوا إلى حضارة حقيقة والشجرة إنما تعرف من ثمارها.
ولم ينفرد بهذا القول الضابط الفرنسي «سيكار» ولا اليسوعي «لامنس» ممن نشرنا كلامهم في مجلة المنار مردودًا عليه بالبراهين الساطعة والحجج الدامغة التي أجبرت سيكار نفسه أن يعترف بأهميتها.
ولكن تشدق بهذا الكلام كثيرون من علماء الإفرنج ومؤلفيهم، وزعموا أن الإسلام والمدنية هما على طرفي نقيض، حتى قالوا: إن المدنية التي يقال لها في التاريخ «المدنية الإسلامية» لم يكن منها شيء من عمل المسلمين، وكابروا في هذه القضية المحسوس، وأنكروا بداهة الأمور، وكل هذا من أجل أنهم أدركوا أعمال هؤلاء الظلمة الخاسرين من أولياء أمور المسلمين، وساحوا في بلاد المسلمين فوجدوا الغربان تنعق في الأماكن التي كانت معمورة في القديم بملايين البشر، ووجدوا الآثار الجميلة الباقية من الماضي أشبه بواحات في وسط صحارى من القذارة والشناعة والغبرة، ووجدوا الطرقات لا يكاد السالك يسلكها من الدعارة وفقد الأمنة، ووجدوا شوارع المدن لا يقدر السائر فيها أن يسير إلَّا محولًا نظره سادًّا أنفه من كثرة ما فيها من الأوضاع والأوساخ، ووجدوا القنى مقطعة، والآبار معطلة والقصور غير مشيدة والقناطر مهدمة مبعثرة.
فمن أجل ذلك فسحنا مكانًا واسعًا في كتابنا هذا لابن كريز وزبيدة العباسية والوزير الموصلي جمال الدين الجواد، ومن في ضربهم من رجالات العمران وبناة المدنية ونمثلها لهم بقول المعري:
وإذا كان قد جرى ذكر المنازل في الفلوات فسنأتي على أخبار أخرى لطيفة من هذا الموضوع لا تضيق بها رسالة «الارتسامات اللطاف» بل تكون بالعكس وشيًا لطرازها.
شغف بعض ملوك الإسلام بالعمران
(أ) مثال منه: آثار عبد الرحمن الناصر الأموي الأندلسي
أردنا أن نردف أخبار أبطال العمارة وصناديد البناء والتشييد، وكفاة الشبع والري من مسلمي المشرق بأخبار بعض أقرانهم من مسلمي المغرب، ليعلم الناس أن الإسلام أنجب ملوكًا وسلاطين كانوا يحتفلون بالعمران، ويعمرون القفار، ويرتبون من أمور المدنية ما يرتبه الإفرنج اليوم، وما لم يكونوا يحسنون مثله في تلك القرون التي كان المسلمون فيها هم الأعلون في كل شيء.
فمن هؤلاء في المغرب الخليفة عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر الأموي، ولست بمعترض الآن إلى ذكر خلافته التي استمرت خمسين سنة ومغازيه في بلاد الإفرنج، ومآثره الباهرة التي اتفقت عليها تواريخ الشرق والغرب، ولكني أريد أن أذكر من علو همته في البنيان ما تتحير به العقول.
وذلك أنه بنى قصر الزهراء بقرطبة، فكان طول هذا القصر من الشرق إلى الغرب ألفين وسبعمائة ذراع، أي نحو كيلومترين، وكان في الزهراء أربعة آلاف وثلاثمائة سارية، وكان فيها ما يزيد على خمسة عشر ألف باب، وكان يتصرف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدام والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة، وكان من الرجال من له الدرهم ونصف ومن له الدرهمان والثلاثة.
وكان يصرف كل يوم في الزهراء من الصخر المعدل المنحوت ستة آلاف صخرة سوى الآجر والصخر غير المعدل، وقالوا: وكان الناصر يثيب على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير، سوى ما كان يلزم لقطعها وحملها، وجلب الناصر الرخام إلى الزهراء من كل البلاد، فالأبيض من «المرية» والمجزع من «رية» والوردي والأخضر من صفاقس وقرطاجنة بأفريقيا، وجلب إليها الحوض المنقوش المذهب من الشام، وقيل من القسطنطينية، وفيه نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان، ولما جلبه أحمد الفيلسوف — وقيل غيره — أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالًا.
قالوا: وبنى في الزهراء القصر المسمى بقصر الخلافة، كان سمكه — سقفه — من الذهب والرخام الغليظ الصافي لونه، وكانت حيطان هذا القصر مثل ذلك، وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها «ليون» ملك القسطنطينية، وكان قرامد هذا القصر من الذهب والفضة، وكان في وسط المجلس صهريج مملوء من الزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب، وأصناف الجواهر قامت على سواري من الرخام الملون والبللور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه؛ فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار.
وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحدًا من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته فيحرك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب حتى يخيل لكل مَن في المجلس أن المحل قد طار بهم، وهذا المجلس لم يتقدم لأحد بناء مثله لا في الإسلام ولا في غيره، وإنما تهيأ للناصر لكثرة الزئبق في ملكه.
وأجرى الناصر إلى الزهراء المياه وأحدق بها البساتين، وبنى فيها مسجدًا من أبدع المساجد، وقيل: إن العمل في الزهراء استمر أربعين سنة من ملك الناصر، وقيل: إنه كان بقصر الزهراء من الوصفاء ثلاثة عشر ألفًا، وكان الجاري لهم من اللحم فقط كل يوم عدا الطير والحوت ثلاثة عشر ألف رطل، وكان في القصر من الجواري والخوادم أكثر من ستة آلاف امرأة، وقيل: إن المرتب من الخبز لحيتان الزهراء السابحة في بركها العظيمة اثنا عشر ألف خبزة كل يوم.
قالوا: وكان يرد من الجير والجص في كل ثالث من الأيام إلى الزهراء ألف ومائة حمل، وقدر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه كان ينفق فيها كل عام ثلاثمائة ألف دينار، وأن ذلك استمر خمسًا وعشرين سنة إلى نهاية ملك عبد الرحمن الناصر.
وذكروا أن الحوض المنقوش المذهب الذي جلبه الفيلسوف أحمد مع ربيع الأسقف من القسطنطينية لم يكن وحده، بل جلبوا إليه أيضًا حوضًا آخر يقال له الحوض الصغير أخضر منقوشًا بتماثيل الإنسان، وأن الناصر نصبه في بيت المنام بالمجلس الشرقي، وجعل عليه اثني عشر تمثالًا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس العالي مما عمل بدار الصناعة بقرطبة صورة أسد إلى جانبه غزال إلى جانبه تمساح، وفيما يقابله ثعبان وفيل وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاوس ودجاجة وديك وحدأة ونسر، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس ويخرج الماء من أفواهها.
قالوا: وفي يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة كمل الناصر بناء القناة الغربية الصنعة التي أجراها بالماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة يجري ماؤها بتدبير عجيب، وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة عليها أسد عظيم الصورة بديع الصنعة، لم يُشاهد أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز وعيناه جوهرتان لهما وبيض شديد يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظرين بروعة منظره وثجاجة صبه، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته ويمد النهر الأعظم بما فضل منه.
قالوا: واستمر العمل في هذه القناة إلى أن انتهت أربعة عشر شهرًا، ولما انطلق فيها الماء إلى تلك البركة كان يومًا احتفل فيه الخليفة رحمه الله، وعمل دعوة جفلى، وأفضل على عامة الخلق، ووصل المهندسين والقوام بصلات حسنة جزيلة.
عمران قرطبة العجيب في عهد الناصر
وكان عمران قرطبة في أيام الناصر عامًّا تامًّا، وليس من المعقول أن يتناهى هذا التناهي كله في إتقان البنيان وتفخيمه في عاصمة لم يستبحر عمرانها ولم تزخر لجج الاجتماع فيها، فقد رووا أن عدد دور قرطبة كان لعهد الناصر وابنه الحكم نحو ٢٠٠ ألف دار، وهذه دور الأهالي، فأما دور الوزراء والعمال والكتاب والأجناد وخاصة الملك، فكانت ستين ألف دار، هذا عدا الحمامات والخانات والفنادق، وقالوا: إنه كان فيها ثمانون ألف حانوت، وكان لقرطبة ٢٨ ربضًا وقيل ٢١ ربضًا كل واحدة منها بلدة فيها منبر تقام فيه الجمعة.
وقيل: إن الطرق من قرطبة إلى جميع هذه الأرباض كانت تنار ليلًا بالقناديل، وهي مسافات من ١٠–١٥ كيلومترًا، فأما مساجد قرطبة لذلك العهد فقد جاءت فيها روايات مختلفة فقيل: ثلاثة آلاف وثمانمائة، وقال ابن حيان: بلغت المساجد بقرطبة في مدة ابن أبي عامر — بعد الناصر بمدة غير طويلة — ألفًا وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام.
وأما مسجد قرطبة الأعظم فإن القلم ليعجز عن وصفه، فمن شاء فليقرأ ذلك في نفح الطيب وغيره من تواريخ الأندلس أو فليذهب إلى إسبانيا ويشاهده فهو لا يزال أكثره قائمًا، وإن كان قد تحول إلى كنيسة، وقد ذهب كثير من النفائس التي كانت تزينه، ولا أعلم هل أبقاه الإسبانيول على مساحته الأولى أم اختصروا منه، فالذي في كتب العرب أن تكسيره كان نحو ٣٣ ألف ذراع، وأنه كان فيه ١٢٠٠ عمود و٩٣ عمودًا كلها رخام، وقد كان لعهد الناصر وأهله باب مقصورة هذا الجامع من الذهب.
وقد أجرى الذهب في جدار المحراب وما يليه على الفسيفساء، وكانت الصومعة من بناء الناصر تعلو ثلاثًا وسبعين ذراعًا إلى أعلى القبة المتفحة التي يستدبرها المؤذن، وفي رأس هذه القبة تفافيح ذهب وفضة، ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف، فاثنتان من التفافيح ذهب إبريز وواحدة فضة، وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة، ورمانة ذهب صغيرة على رأس زج.
وكان في الجامع مائتان وثمانون ثريا، وثمانمائة وخمس كئوس، وكان يوقد فيه في شهر رمضان فقط ثلاثة قناطير من الشمع، وكان له كل ليلة جمعة رطل عود وربع رطل عنبر، وكان مَن فيه من الأئمة والمؤذنين والسدنة نحو ١٥٠ رجلًا، وروى بعضهم ٣٠٠ ويجوز أن يختلف العدد باختلاف الأوقات.
وقالوا: إن الحكم المستنصر بنى لهذا الجامع أربع ميضآت منها ثنتان للرجال وثنتان عند مقاصير النساء، وأجرى في جميعها الماء من سفح جبل قرطبة وصبها في أحواض رخام، وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب الجامع، وهي جواب ثلاث من حياض الرخام اقتطعها من مقطع المنستير بسفح جبل قرطبة، واحتفر الرخاميون هناك أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة، فخفف ذلك من ثقلها وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها، بأكناف المسجد الجامع، فتهيأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على قلل موثقة بالحديد المثقف محفوفة بوثاق الحبال، قرن لجرها سبعون دابة، ومهدت قدامها الطرق، وتيسر نقلها في مدة ١٢ يومًا، فنصبت في الأقباء المعقودة لها، وابتنى الحكم المستنصر غربي الجامع دار الصدقة واتخذها معهدًا لتفريق صدقاته المتوالية، وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير.
وربما ينسب بعض القراء شيئًا من هذه الروايات إلى المبالغة، ويجوز أن يكون فيها زيادة في الوصف لأجل نقل الحقيقة إلى ذهن السامع، إلَّا أن كثيرًا من هذه الآثار محفوظ إلى اليوم، فجامع قرطبة لا يزال قائمًا، وإن كانت الزهراء والزاهرة وغيرهما قد درست وقصر إشبيلية لا يزال قائمًا، وحمراء غرناطة لا تزال ماثلة، ومباني العرب في طليطلة أكثرها لم يتهدم، وكل من رأى الباقي من تلك الآثار لا ينسب مجمل تلك الروايات إلى المبالغة.
ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني، وكان عنده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم، قد احتفلوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة، وكان فيها المجلس الزهر والبهور والكامل والمنيف، فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم وسماه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل، واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية، ثم أخذ في بناء المتنزهات فاتخذ منية الناعورة خارج القصور وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة.
ثم اختط مدينة الزهراء — صدق ابن خلدون؛ لأن الزهراء في الحقيقة كانت مدينة لا قصرًا — واتخذها لنزله، وكرسيًّا لملكه، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفا على مبانيهم الأولى، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياج ومسارح للطيور مظللة بالشباك، واتخذ فيها دور الصناعة لآلات السلاح والحرب والحلي والزينة، وغير ذلك من المهن، وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس. ا.ﻫ.
وأما الزاهر فقد بناها المنصور بن أبي عامر الشهير الذي يعد من أعاظم رجال الإسلام جعلها على نهر قرطبة الأعظم واحتفل جدًّا ببنائها، حتى صارت أشبه بمدينة أيضًا.
ومن أحلى ما قرأت من غرام عبد الرحمن الناصر الأموي بالعمران والإتقان والرفاهة، واستكمال أدوات الرفق على نسق العصر الحاضر ما جاء في «الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى» أن أبا العيش أحمد بن قاسم كنون من ملوك الأدارسة بالمغرب كان قطع دعوة العبيديين خلفاء مصر وتونس، وبايع الخليفة عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس وخضع المغرب كله لأبي العيش بنفوذ الناصر وقوته.
ولما كان الخليفة في جهاد دائم مع الإفرنج أراد أبو العيش أن يلحق بساحة القتال، واستأذن الخليفة في ذلك فأذن له، وأمر بأن يبنى له في كل منزل ينزله قصرًا، وذلك من الجزيرة الخضراء — بقرب جبل طارق — إلى الثغر — حدود بلاد الإفرنج وكانوا يقولون لسرقسطة الثغر الأعلى — وأن يُجرى له فيها ألف دينار في كل يوم ضيافة له، ومن الفرش والأثاث والطعام والشراب ما يقوم بالقصر، فلم يزل على ذلك حتى وصل إلى الثغر، فكانت منازله من الجزيرة إلى الثغر ثلاثين منزلًا. ا.ﻫ.
(ب) مثال آخر: من النظام عند
المسلمين
من خبر عبد المؤمن صاحب دولة
الموحدين
ومن هذا النمط وأبلغ منه في ترتيب المنازل والمناهل ما عمله عبد المؤمن بن علي صاحب دولة الموحدين في المغرب، فقد كانت أفريقيا — بلاد تونس — في يد بني زيري بن مناد الصنهاجيين، عمالًا للعبيديين خلفاء القاهرة، ولكن كانت دولة بني زيري قد أشرفت على الهرم، وزاحمتهم الثوار من العرب، فانتهز الفرنج أصحاب صقلية هذه الفرصة فيهم وملكوا منهم عدة ثغور، مثل صفاقس وسوسة وغيرهما، ثم ملكوا المهدية وهي دار ملك الحسن بن علي الصنهاجي، فذهب هذا إلى عبد المؤمن بن علي القائم بدولة الموحدين واستعداه على الإفرنج.
وبينما هذا يهم بذلك إذ أوقع الإفرنج بأهل زويلة التي هي على مقربة من المهدية، وكانت وقعة شنيعة قتلوا فيها النساء والأطفال، ففر جماعة منهم إلى عبد المؤمن بن علي يستنصرونه وهو بمراكش، وقالوا له: لم يبقَ في ملوك الإسلام من يكشف هذا الكرب غيرك، فدمعت عيناه وأطرق ساعة ثم رفع رأسه، وقال: أبشروا، لأنصرنكم ولو بعد حين، ثم أمر بعمل الزوايا والقرب وما يحتاج إليه المعسكر في السفر، وكتب إلى مَن بطريقه من نوابه يأمرهم بحفظ جميع ما يُتحصل من الغلات، وأن يترك الزرع في سنبله ويخزن في مواضعه، وأن يحفروا الآبار في الطرق، ففعلوا جميع ما أمرهم به، وجمعوا غلات الحب ثلاث سنين، ونقلوها إلى المنازل التي على الطريق وطينوا عليها، فصارت كأنها تلال.
فلما كان صفر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة سار عبد المؤمن من مراكش يؤم بلاد أفريقيا، واجتمع عليه من العساكر مائة ألف من السوقة والأتباع أمثالهم، وكان هذا الجند يمتد أميالًا، وبلغ من حفظه وضبطه أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى بهم سنبلة، وإذا نزلوا صلوا بإمام واحد بتكبيرة واحدة، لا يتخلف منهم أحد كائنًا من كان، ولم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينيا وطريدة وشلندا، ونازل البلدة وأخذها وسار إلى المهدية وأسطوله يحاذيه في البحر.
وكان بالمهدية يومئذ خواص الفرنج من أولاد ملوكها وأبطال فرسانها، وأخلوا مدينة زويلة ودخلها عبد المؤمن بعساكره والسوقة الذين معهم، فصارت مدينة معمورة في ساعة واحدة، ونزل بظاهرها من لم يجد موضعًا فيها.
وانضاف إلى جيش عبد المؤمن من صنهاجة العرب ما لا يدخل تحت إحصاء، وأقبلوا يقاتلون المهدية فلا يؤثر فيها لحصانتها وضيق مجال القتال عليها؛ لأن البحر دائر بأكثرها، فكأنها كف في البحر وزندها متصل بالبر، وركب عبد المؤمن شينيا ومعه الحسن بن علي الصنهاجي، وتطوف بها في البحر فهاله ما رأى من حصانتها، وعلم أنها لا تفتح بقتال برًّا ولا بحرًا وليس لها إلَّا المطاولة.
وقال للحسن: كيف نزلت عن مثل هذا الحصن؟ فقال له: لقلة مَن يوثق به وعدم القوت وحكم القدر، فقال: صدقت وعاد وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتل فلم يمض غير القليل حتى صار في المعسكر مثل الجبلين من الحنطة والشعير.
فكان من يصل إلى المعسكر من بعيد يقول: متى حدثت هذه الجبال؟ فيقال: هي حنطة وشعير فيقضي العجب مما يرى، وتمادى الحصار وفي أثنائه استولى عبد المؤمن على طرابلس وصفاقس وسوسة وجبال نفوسة وفتح قابس بالسيف، وأطاعه أهل قفصة، وإذا بأسطول صقلية آت مددًا للإفرنج في المهدية، وكان عدده ١٥٠ شينيا غير الطرائد.
وكان هذا الأسطول غزا جزيرة يابسة — بقرب ماجورقة من جزر إسبانيا — وسبى أهلها، فأراد الدخول إلى ميناء المهدية فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن، وركب المعسكر جميعه إلى جانب البحر، فانهزمت شواني الإفرنج، وتبعهم المسلمون وأخذوا منهم سبع شواني، وعاد أسطول المسلمين مظفرًا منصورًا، ويئس إفرنج المهدية من النجاة، ومع ذلك فقد صبروا على الحصار أربعة أخرى إلى أن نزل من فرسانهم عشرة، وسألوا عبد المؤمن الأمان على أن يخرجوا بأموالهم وكان قد فني عندهم القوت حتى أكلوا الخيل، فعرض عبد المؤمن عليهم الإسلام فقالوا: ما جئنا بهذا وإنما جئنا نطلب فضلك، وترددوا إليه أيامًا وقالوا: إذا أنعمت علينا كنا لك أرقاء في أرضنا، فعفا عنهم، وكان الفضل شيمته وأعطاهم سفنًا ركبوا فيها إلى بلادهم، وكان الفصل شتاء فغرق أكثرهم قبل الوصول إلى صقلية.
وكان صاحب صقلية قد قال: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين عندنا بجزيرة صقلية، وأخذنا حرمهم وأموالهم، فأهلك الله الفرنج غرقًا، وكانت مدة استيلائهم على المهدية اثنتي عشرة سنة، انتهى كلام صاحب الاستقصاء ملخصًا.
وذكر ياقوت في معجم البلدان المهديةَ ووصف حصانتها بأكثر من وصف صاحب الاستقصاء وقال: إنها من بناء المهدي العبيدي الفاطمي، وإن روجار صاحب صقلية أنفذ إليها جرجي سنة ٥٤٣، واستولى عليها وبقيت في يد الإفرنج اثنتي عشرة سنة حتى قدم عبد المؤمن سنة ٥٥٥ فأخذها ولم تغن حصانتها في جنب قضاء الله شيئًا. انتهى.
فأما قول صاحب صقلية: إنه لو قتل عبد المؤمن إفرنج المهدية لقتل هو مسلمي صقلية فقد كان يصدر مثل هذا الفعل من الإفرج، فأما المسلمون فكانوا يأنفون من ذلك، وصالح معاوية بن أبي سفيان الروم وارتهن منهم رهناء فوضعهم ببعلبك ثم غدر الروم وقتلوا المسلمين فلم يشأ معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهائن الروم وخلوا سبيلهم، وقالوا: وفاء بغدر، خير من غدر بغدر، وهو قول العلماء والإمام الأوزاعي رضي الله عنه، وهو من قوله تعالى: لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وقد كان شاهد هذا الحديث هو صنيع عبد المؤمن بن علي السلطان الكبير الذي قيل فيه:
فقد ساق مائة ألف مقاتل ومعها مائة ألف من سوقة وأتباع من مراكش إلى تونس بدون أن تتأذى بهم سنبلة قمح، ولما أراد حصار المهدية جعل الحبوب جبالًا، فمثل هذا بين الملوك يقدر له النجاح، ويصحب دولته الفلاح.
ولعبد المؤمن بن علي آثار كثيرة منها بمراكش بستان المسرة طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها، ورووا أنه كان مبيع زيتون هذا البستان، وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص الفاكهة بمراكش.
وقد درس هذا البستان كما درس غيره حتى جدده المنصور السعدي بعد ذلك بأربعمائة وخمسين سنة.
(ﺟ) مثال آخر: عن حب العمران
من سيرة المنصور السعدي فاتح تنبكتو والنيجر والسودان
كان المنصور السعدي صاحب المغرب وفاتح تنبكتو والسودان وبلاد النيجر من أشهر الملوك الذين عمروا وثمروا في الإسلام، ولو لم يكن كذلك ما تمكن من إرسال تلك الجيوش الجرارة إلى تلك البلاد القاصية العاصية، ومن تدويخها وإضافتها إلى مراكش حيث بقيت مدة طويلة تابعة للمغرب، فتم له ما يفتخر الإفرنج اليوم بمثله مع تقدم وسائل النقل وترقي جميع أسباب العمران أضعافًا مما كانت منذ ثلاثة قرون ونصف، وكانت جيوش المنصور السعدي لا تُحصى، وكان له في ترتيب جيوشه وحالات أسفاره من فنون النظام ما يدهش العقول، وقد نلم بذلك في فرصة أخرى.
والمنصور السعدي هو باني القصر المسمى بالبديع في حاضرة مراكش مكث يبني فيه ست عشرة سنة، لم يتخلل ذلك أدنى فترة، وحشد المنصور له الصناع حتى من بلاد الإفرنج، وجلب له الرخام من بلاد الروم، وكان المنصور قد اتخذ معاصر السكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما، فكان عنده سكر كثير، فكان حسبما قالوا ربما اشترى الرخام بالسكر وزنًا بوزن.
وكان المنصور السعدي الملقب بالذهبي يحتفل بالعمران إلى الغاية القصوى، ويحسن إلى الأجراء ويجزل صلة العارفين بالبناء، ويوسع عليهم في العطاء، ويقوم بمؤن أولادهم حتى لا تتشوف إليهم نفوسهم، ولا تتشعب أفكارهم، وأما قصره «البديع» فلا أجد هنا فسحة لوصف محاسنه الباهرة، فمن أراده فليقرأ ذلك في الاستقصاء أو غيره من تواريخ المغرب.
وأتذكر أني قرأت لجيروم وجان نارو من أشهر كتاب الفرنسيين كتابين في وصف بلاد مراكش، ومن جملة ما ذكرا — بافتتان لا يوصف — قبة مدافن الملوك السعديين، وقد قالا: إن فيها من بديع الصنعة ما لا يخطر على بال أحد، وإن مَن لم يشاهد هذه القبة وما هناك من المباني لا يعرف إلى أية درجة تناهت المدنية الإسلامية.
(د) مثال آخر: من سيرة مولاي إسماعيل
سلطان المغرب في أواخر القرن الحادي عشر إلى منتصف القرن الثاني عشر
ومن أعظم ذوي الآثار بين ملوك المغرب بل بين ملوك الإسلام بل بين ملوك العالم بأسره السلطان المولى إسماعيل جد العائلة الشريفة المالكة إلى اليوم في المغرب، وكان ملكه بعد الثمانين وألف للهجرة، وهو الذي قلع الإسبانيول والبرتغال من سواحل المغرب، وقلع الإنكليز من طنجة، وألف الجيش الدائم المسمى بالبخاري، وكان مركبًا من مائة ألف من العبيد السود، واستمر حكمه أربعًا وستين سنة منها سبع سنوات بالنيابة عن أخيه المولى الرشيد وسبع وخمسون سنة بالأصالة، حتى كان جهلة الأعراب يعتقدون أنه لا يموت، وكان الذين يستبطئون موته يلقبونه ﺑ «الحي الدائم» فهو والمستنصر العبيدي الفاطمي ولويس الرابع عشر وفرانسو جوزيف من قبيل واحد في طول مدة الحكم، وكان المغرب في طول مدة حكمه يتمتع بالأمن الشامل.
قال صاحب الاستقصاء: لم يبقَ لأهل الدعارة والفساد محل يأوون إليه يعتصمون به، ولم تقلهم أرض ولا أظلتهم سماء سائر أيامه.
وعندي كتاب تاريخ للسلطان المولى إسماعيل بالفرنسية نقلت عنه بعض جمل مرة في إحدى مقالاتي إلى «الشورى» وكان المولى إسماعيل مغرمًا أيضًا بالبناء متذكرًا قول القائل:
وكان يحب مكناسة الزيتون لعذوبة مائها، وطيب هوائها، وسلامة مختزنها من العفونة، فلما فرغ من أمر فاس جاء إلى مكناسة واشترى دور الأهالي، وأمرهم بالبناء في غربيها، وأدار عليها السور وانفرد بالجانب الشرقي من المدينة، وجعله كله براحًا، وشرع يبني فيه، واستجاد الصناع من جميع البلدان، وفرض على القبائل عددًا معلومًا من الرجال والبهائم يبعثون به كل شهر، وفرض على المدن والحواضر عددًا معلومًا من البنائين والنجارين والحدادين والنحاسين إلى غير ذلك، وكانت حاضرة ملكه لا تخلو من عشرين ألف أسير من الإفرنج فكان يشغلهم أيضًا في مبانيه.
وكان كلما انتهى من قصر بنى غيره، وكانت الجنان تحيط بقصوره كلها، وبنى مسجدًا عظيمًا جدًّا في داخل القصبة التي أسسها، فضاق هذا المسجد بالناس فيما بعد، فبنى مسجدًا أعظم منه اسمه «الجامع الأخضر» وجعل له بابين: بابًا إلى القصبة وبابًا إلى المدينة، وجعل للقصبة ٢٠ بابًا كلها في غاية الارتفاع والسعة، مقبوة من أعلاها، وفوق كل باب منها برج عظيم، عليه من المدافع النحاسية العظيمة ما يقضي بالعجب، وجعل في هذه القصبة بركة عظيمة تسير فيها الفلك والزوارق للنزهة والانبساط، وجعل في القصبة هريا عظيمًا جدًّا لاختزان الحبوب يقال: إنه كان يسع حاصلات أهل المغرب، وجعل بجواره سواقي للماء في غاية العمق مقبوًّا عليها وبنى أعلاها برجًا عظيمًا مستدير الشكل فيه مدافع موجهة إلى كل جهة.
وأما الإسطبل فلا أظن أنه وجد إسطبل مثله في العالم؛ لأن طوله فرسخ وعرضه فرسخ (الفرسخ نحو كيلومترين) مسقف على أساطين وأقواس عظيمة في كل قوس مربط فرس، وبين الفرس والفرس عشرون شبرًا، كان يربط بهذا الإسطبل ١٢ ألف فرس، مع كل فرس سائس من المغاربة وخادم من أسرى الإفرنج — سقى الله تلك الأيام — وفي هذا الإسطبل ساقية للماء مقبوة الظهر يأتي منها الماء إلى كل مربط فرس بثقب خاص، وفي وسط الإسطبل قباب معدة لوضع سروج الخيل، وفيه هري متناهٍ في العظمة مربع الشكل معقود أعلاه على أساطين وأقواس هائلة لوضع أسلحة الفرسان وينفذ إليه الضوء من شبابيك من حديد من جهاته الأربع.
وفوق هذا الهري قصر اسمه المنصور ارتفاعه مائة ذراع وفيه ٢٠ قبة، في كل قبة طاق عليه شباك من حديد يشرف على قدر طوله، فيه من شجر الزيتون، وجميع الفواكه ما يدهش، ويتخلل هذه القصور التي في داخل القصبة شوارع مستطيلة متسعة، وأبواب عظيمة فاصلة بين كل ناحية وغيرها، وساحات ورحاب فسيحة، إلى غير ذلك مما يتعذر استقصاؤه.
قال صاحب «البستان»: ولم تزل تلك البناءات على طول الدهر قائمة كالجبال، لم تخلقها عواصف الرياح ولا كثرة الأمطار والثلوج، ولا آفات الزلازل التي تخرب المباني العظام، والهياكل الجسام، قال: ومن يوم مات المولى إسماعيل والملوك من بنيه وحفدته يخربون تلك القصور على قدر وسعهم، وبحسب طاقتهم، ويبنون بأنقاضها من خشب وزليج ورخام ولبن وقرميد ومعدن وغير ذلك إلى وقتنا هذا، وبنيت من أنقاضها مساجد ومدارس ورباطات بكل بلد من بلدان المغرب، وما أتوا على نصفها من مائة سنة، وأما الجدارات فلا تزال ماثلة كالجبال الشوامخ … إلخ.
قلت: وقد مضى على ذلك من عهد هذا الكاتب نحو من مائة وستين سنة، ولا تزال آثار إسماعيل في مكناسة الزيتون تحير العقول، وكان يمكن أن تبقى القرون وبعدها القرون، لو لم تعمل فيها المعاول والفئوس، فإما أن أولاد السلطان المذكور وحفدته كانوا يهدمون منها ويبنون بأنقاضها فهذا لعمري شأن جميع ملوك الإسلام وأمرائه وأتباعه تقريبًا، فكل ما في هذا المعنى من أولاد وحفدة المولى إسماعيل لا نعرف سوى هدم ما بناه لنا أسلافنا من مادي ومعنوي على السواء، وإن بنينا شيئًا فإنما نبني بأنقاض الأبنية العتيقة، نحن هكذا في المشرق والمغرب؛ لأنه لا يوجد أمة يشبه بعضها بعضًا مثل المسلمين.
وبرغم كل ما هدمناه وعفيناه من الآثار ولا يزال شيء كثير أفلت من تحت معاولنا الهادمة، ونجا من بين أيدينا الطولى في التدمير، ولا تزال الإفرنج تصور من هذه الآثار وتتحف بها العالم المتمدين.
وبين يدي مجاميع عدة من الصور الفوتوغرافية؛ منها ما يشتمل على المباني الإسلامية في المشرق ومنها مجموعة خاصة بفلسطين، ومنها مجموعة خاصة بالأقطار المغربية، ومنها ما هو خاص بالأندلس، وثمن المجموعة من هذه جنيهان وثلاثة وأربعة جنيهات تسمح النفس بها لتزيين قاعة الاستقبال بمثلها؛ لأنها أولى بقاعات الاستقبال منها بخزائن الكتب.
ولا بد من أن نجعل في البحث نصيبًا لهذا الكتاب؛ لأنه رفع فيه راية بيضاء للعرب وفسح لهم مكانًا فسيحًا عاليًا من تأليفه يفقأ الحصرم في أعين الشعوبية المحدثين الذين منهم نفر بمصر يحاولون أن يغمطوا من فضل العرب، وأن يغضوا من قدر حضارتهم، وأن ينطحوا صخرة مجدهم بقرون عتادة ليس أمامها إلَّا الوهى.
هذا؛ وقد يقول بعضهم: إلا أن ما ترويه وتقول إنما كان في أعصر ماضية خالية، واليوم قد تحول هذا كله وحصل الراديو والكهرباء والبخار، وأنى لنا أن نباري الإفرنج وقد تصرفوا بالطيارات والدبابات ووصلوا الدنيا بعضها ببعض باللاسلكي والباخرة والسيارة الكهربائية وغير ذلك.
فإن كان باقيًا من ينطق بهذا السخف من الشرقيين قلنا له: إنك لفي ضلال مبين، فإن الرقي الأوروبي لم يكن مبدؤه البخار وتموجات الهواء وإنما كان مبدؤه النهوض والإرادة، ومنهما وصل بهم اجتهادهم في البحث والتنقيب إلى استخدام قوة البخار وقوة الزيت والاستفادة من تموج الهواء، فأصل الرقي هو إرادة الرقي، ومعدات الصعود حاضرة لمن شاء الصعود، ولا ينبغي للمرء أن يكون عالمًا بالفن حتى ينشره ويحمل الناس عليه، فمحمد علي كان أميًّا تقريبًا، وقد كان رجلًا عظيمًا وأسس مدنية مصر الحديثة.
وابن سعود «البدوي» على رأي أعدائه الذين يقصدون غمزه بهذه الكلمة لم تمنعه بداوته عن استعمال السيارات الكهربائية والمواصلات اللاسلكية وغيرهما من أسباب المدنية العصرية، وقد وفق لذلك في وقت قصير، وقد بدأ به الانقلاب المادي المدني في جزيرة العرب، ولو كان لمملكة ابن سعود دخل الحكومة المصرية؛ أي ٤٢ مليون جنيه في السنة لأجرى من المشروعات العمرانية في الحجاز ونجد ما لا يخطر على قلب بشر.
ونعود الآن إلى الحجاز ونذكر ما كان فيه وما ابتدأ أن يكون فيه وما نرجو أن يكون فيه في المستقبل.
(٥-٥) خبر المطوفين في مكة المكرمة والمنورين في المدينة المنورة
نعود إلى الموضوع المتعلق بالحجاز خاصة ونطوف على مقام منه؛ فنبدأ بالمطوفين والمزورين فنقول: إن المطوف يكون لازمًا ومتعديًا، فاللازم هو بمعنى الطائف؛ لأن العرب تقول: طاف بالمكان وطوف به، فالمطوف قد يتضمن معنى الطائف وقد يصدق على الحاج نفسه؛ لأنه يطوف — بالتشديد — بالبيت العتيق، وقد يكون متعديًا وهو من طوفه مثل أطافه، فالمطوف هو الذي يطوف بالحاج حول البيت وفي المقامات المباركة، ومن الغريب أني لم أجد «المطوف» في كتب اللغة، ولكن القياس يقتضيه، فهو اسم فاعل من طوفه واسم فاعل من طوف به.
وأما «المزور» فهو في اللغة مَن يكرم الزائر، يقال: زرتهم فزوروني، أي: أكرموني وأحسنوا إليَّ، ولا شك أن هذه اللفظة تشعر عند سماعها شيئًا من الكراهية لاشتراكها في معنى آخر، وهو الآتي من الزور، ولكن اللغة واسعة، وكم من لفظ يدل على معانٍ كثيرة، وليس هذا منحصرًا في العربية بل هو في كل اللغات.
ولفظة «المزور» بمعنى الذي يقوم بخدمة الزائر، لم يوجد مع الأسف سواها لهذا المعنى، فلا بد من قبولها على علاتها، ويجوز أن تقول «المُزير» بضم أوله وهو اسم فاعل من أزاره، ولكن العامي يستثقل لفظة «مزير» وأن يقول: جاء المزيرون ورأيت المزيرين ومررت بالمزيرين، فهو يفضل أن يقول: جاء المزورون ورأيت المزورين … إلخ، وعدا هذا الاستثقال في اللفظ لا تتضمن لفظة «مزير» ما تتضمنه لفظة «مزور»؛ لأن المزير اسم فاعل من أزاره أي جعله يزور، وأما المزور فهو الذي يخدم الزائر ويكرمه، وهو أقرب إلى المعنى المراد برغم قبح اشتراكه في معنى آخر.
وبالاختصار نقول: إن في الحجاز الشريف — حماه الله — طائفتين لا بد لقاصد الحجاز أن يكون له علاقة معهما، ولا يكاد يستغني أحد عنهما، وهما المطوفون بمكة والمزورون بالمدينة.
فالحاج يأتي غريبًا لا يعرف أحدًا، والغريب أعمى ولو كان بصيرًا، فلا بد له من دليل يدله ويسعى بين يديه ويقضي حوائجه ويرتب له قضية سفره ومبيته ويعلمه مناسك الحج التي أكثر الحجاج يجهلونها، وإن كان منهم من يعلمها جملة فليس يعلمها تفصيلًا، وإن كان منهم من يعلمها جملة وتفصيلًا فهو النادر الذي لا يبنى عليه حكم، وزد على هذا: أن الحجاج ليسوا جميعًا من أبناء العرب فيمكنهم أن يسألوا عن الطرق والمنازل والمناسك والمناهل ويزيلوا عمى الغربة بطول السؤال لإمكان تفاهمهم مع الحجازيين، بل حجاج العرب لا يزيدون على خمس حجاج المسلمين، والأخماس الأربعة الباقية هي من أمم تجهل اللسان العربي، فكيف يصنع حجاج هذه الأمم إذا لم يكن المطوفون؟ وكيف تصنع المزدارة — زوار المدينة المنورة — إذا لم يكن المزورون؟
وإني لأعلم أن كثيرًا من الناس يطعنون في المطوفين والمزورين، بل يبالغون في ذمهم أو في ذم العدد الكثير منهم، ويقولون: إنهم ينهبون الحجاج ويجوزون عليهم ويتقاضونهم من الأجرة أضعاف حقوقهم، وقد يخدعونهم ويغشونهم ويرتكبون في أمورهم كل محرم، ولقد كنت أسمع هذه القصص قبل أن حججت، وقبل أن عرفت مكة والمطوفين، وقبل أن زرت المدينة وعرفت المزورين.
والمثل السائر عندنا يقول: الله يساعد من يتكلم فيه الناس بالمليح فكيف بالقبيح؟ فالمطوفون والمزورون ولا سيما الفريق الأول منهم قد وقعوا في ألسنة الناس من قديم الزمان، ويجوز أن يكون بعضهم غير بريء بالمرة من هذه التهم أو من بعضها، ويجوز أن تكون حصلت وقائع في وقت من الأوقات، وغير معقول أن طائفة كهذه تُعد بالمئات وتتجاوز المئات تكون بأجمعها من الفرقة الناجية، ومن ذوي الأخلاق الفاضلة، ولا يجوز أن يصدر عنها عمل سيئ ولا تلوث بطاعنة أو خديعة، فالذين يطلبون الكمال عند المطوفين والمزورين ينسون أنهم بشر، وينسون أنهم مرتزقون، وينسون أن أكثرهم عوام، وينسون أن رزقهم إنما هو على حجاج البيت الحرام.
ولو دقق الإنسان النظر في المطاعن التي توجه على هؤلاء لوجد أن أكثرها مبني على كون المطوف أو المزور يتقاضى الحاج حقه، أو يطمع في أن يأخذ منه بدلًا من الجنيه الواحد جنيهًا ونصفًا مثلًا، والحجاج أغنياؤهم عدد قليل؛ لأن الغني في أكثر الأحيان يميل إلى الرفه والترف، وهذان لا ينتظمان مع الحج ومشاقه، ولا سيما إذا كان الفصل صيفًا، وأكثر فصول الحجاز صيف، والقسم الأعظم من الحجاج هم من طبقة المساتير الذين ليسوا من ذوي الفضلة، والذين لا يقدرون أن يعيشوا إلا ببودجة مالية، متوازن واردها مع نافذها، والنفقات غير الملحوظة فيها زهيدة جدًّا، فهؤلاء لا يقدرون أن ينفقوا كما شاءوا، وهؤلاء أكثرهم يبقى سنين من حياته وهو يوفر شيئًا من رزقه، ويقطع عن نفسه حتى يجتمع في يده خمسون جنيهًا يدخرها للحج، فهو يحسب مصروفه منها بالقرش الواحد.
وبدهي أن مثل هذا المستور لا يمكنه أن يغدق نعمًا على المطوف أو المزور، وأن حالة هذا أشبه بمثل قد سمعته من عامي ظريف في أيام الدولة العثمانية: مثل طاقم العسكري لا ينشق من محل إلا ظهر جلده.
ومما يؤسف أن ثلاثين في المائة من الحجاج — وربما أزيد — فقراء معدمون لا يستطيعون في الحقيقة إلى البيت سبيلًا، وليست عليهم فريضة حج، ولكنهم يحملون أنفسهم إصرًا لا قبل لهم به، فيعيشون من أكياس رفاقهم، ومن أكياس أهل الحجاز، وقد يصيرون عالة على المطوفين أنفسهم.
فإذا صح من هذه المقالة بحق المطوفين قيراط أو قيراطان فالاثنان والعشرون قيراطًا الباقية أقاويل تزريف على المطوفين وتزوير على المزورين.
وبمجرد وصول الحاج إلى البلد الحرام يأخذ المطوف بيده إلى الحرم فيطوف به سبعًا حول البيت العتيق ثم يسعى به سبعًا بين الصفا والمروة يهرول فيه بين الميلين الأخضرين وفاقًا للسنة، ويعلمه جميع أصول الحاج ويلقنه جميع الكلمات والألفاظ التي ينبغي أن تقال في ذلك المطاف الكريم، ويتلو أمامه الأدعية التي يبتهل بها عند مقام إبراهيم، وبين زمزم والحطيم.
ولولا أن الأعمال بالنيات لكان كثير من أدعية هؤلاء غير مقبول، ولكن الله سميع الدعاء، ناظر إلى الضمائر عالم بالمقاصد، لا يحمل إصرًا على الضعيف، وليس بصحيح قول بعضهم: إن الدعاء يجب أن يكون معربًا؛ ليكون عند الله مقبولًا، إذن لكان سيبويه أنجح الناس دعاء.
ولا يجب أن يظن أن المطوف ينحصر تلقينه هذه الأدعية، وهذه الجمل بالهندي والسندي والجاوي والتركي … إلخ، بل هو مضطر أن يلقنها أكثر الحجاج حتى من العرب، لا سميا العوام والنساء والأحداث، ولا فرق بينهم وبين الحجاج الأعاجم إلا في كون العربي يعيد الكلمة من أول مرة على وجهها، ولا يذيق المطوف عرق القربة في تعليمه إياها كما هو شأن الأعجمي.
وقد صارت للمطوفين وطوافيهم عادة أنهم بمجرد ما يرون طائفًا يتطوف بالبيت العتيق جاءوا إلى جانبه، وجعلوا يلقنونه ما يحسن أن يقوله حتى لو كان الإمام الغزالي أو السيد محمد رشيد رضا من أئمة زماننا، وذلك ناشئ عن أنهم لا يعرفون الناس، ولا يفرقون بين العالم والجاهل.
وقد جاءني واحد من هؤلاء وأنا أطوف وجعل يقول لي: قل اللهم كذا اللهم كذا حتى أعيدها من بعده، فقلت له: أنا غير محتاج إلى مَن يعلمني العربية، ولا كيف يجب أن أخاطب بها ربي.
هذا؛ والمطوف هو الذي يكفل جميع حاج الحاج وأغراضه منذ يطأ رصيف جدة إلى أن يطأ سلم الباخرة قافلًا، فيحمله إلى مكة ثم إلى عرفة، ثم إلى المزدلفة، ثم إلى منى، ثم يعود به إلى مكة، وإذا أراد الزيارة هيأ له جميع أسباب السفر إلى المدينة، وهناك سلمه إلى المزور الذي هو صاحب هذه المصلحة في المدينة لا يتجاوز عليه غيره فيها.
وإذا سأل الحاج عن أي شيء من الفلك إلى الذرة، فلا بد من أن يجيبه المطوف عليه، وإذا احتاج إلى أي شيء من الجمل إلى البرغوث، فلا بد من أن يأتيه به، وإذا وقعت له واقعة مع إنسان تقتضي مراجعة الحكومة فعلى المطوف أن يرافق الحاج إلى صاحب الشرطة ويترجم له عنده.
ومما يدهش العقل أن المطوفين والمزورين يعرفون جميع لغات العالم، وأكثرهم يعرفون التركي، ومطوفو العجم يعرفون الفارسي، ومطوفو الهند يجيدون لسان الأوردو، ومطوفو الجاوى يعرفون لغة الملايو، وإن كان أكثر مطوفي الجاوى من الجاويين المقيمين بمكة، ومطوفو البشناق يعرفون لغة الصرب، ومطوفو الأرناءوط يعرفون لغة هؤلاء.
وقد بلغني أن بعض المطوفين يعرفون لغة الصين، ومنهم من يعرف لغة الفليبيين، واللسان التكروري شائع بمكة كأنه العربي، والسودانيون ليسوا فيها بغرباء، زد على هذا اللغات الأوروبية التي يعرفها المطوفون من روسي وإنكليزي وفرنسي وغيرها.
فالمطوفون في هذا أشبه بمستخدمي الفنادق في أوروبا يضطرون إلى معرفة لغات كثيرة؛ لتنوع أجناس من السياح الذين ينزلون بفنادقهم، لكن دائرة علم المطوفين أوسع من جهة الكمية، فالعمال في فنادق أوروبا يتعلمون بخاصة الإنكليزي مثلًا لكثرة سياح الإنكليز والأمريكيين، وقد يتعلمون الإسبانيولي لكثرة سياح أمريكا الجنوبية، ولا تجدهم يعرفون التركي والفارسي والأوردو والجاوي، فما ظنك بالصيني والفلبيني، فمكة أعظم معرض للأجناس واللغات.
ولو كان العرب على نمط الأوروبيين في إتقان كل شيء والاستفادة من كل شيء والتفنن في الاستثمار والاستقلال لوسعوا دائرة تعلم هذه اللغات على وجه الإتقان، وزادوا بها تسهيلات فريضة الحج، وكانت لهم من وراء ذلك أرباح مدهشة، وكانت العربية أيضًا تستفيد؛ لأن القادمين إلى مكة من تلك الأمم إذا أطالوا بها المكث تعلموا العربية واستعربوا، ولكننا نحن معاشر العرب برغم ذكائنا الفطري الذي لا جدال فيه نحب البقاء على الفطرة، ولا نرغب إلا فيما هو أقرب إلى الطبيعة، وهذا جيد في الشعريات لا في الرياضيات ولا في الاقتصاديات.
وإذا مرض الحاج فالمطوف هو الذي يعلله، ويأتي له بالطبيب وبالدواء ويسهر عليه، وإذا مات فهو الذي يخبر بذلك الحكومة، ويأتي بالناس من قبلها ويضب في حضورهم حوائجه، ولو سمي المطوف «كافلًا» للحاج لما كان في هذه التسمية أدنى مبالغة، ومع هذه الكفالة الشاملة الكاملة التي فيها من الركض والعناء وتعب الفكر والمسئولية ما فيها يكون آخر الأمر جميع النحلان جنيهًا واحدًا عن كل رقبة، هذا هو النحلان المقرر، فمن طابت نفسه بأن يزيد فذلك عائد إلى سماحة نفسه، ولا شك في أن الحاج الذي يجشم المطوف جميع تكاليفه ويريد أن يتخذ منه دليلًا وحارسًا ومحاميًّا ومفتيًا وطبيبًا وصيدليًّا وممرضًا ودلالًا وغير ذلك في وقت واحد يكون ظالمًا إذا استكثر أن ينقد هذا المطوف في آخر السفرة جنيهًا واحدًا.
ولا شبهة في أن من الحجاج من يؤدي بدلًا من الجنيه الواحد الجنيهات الكثيرة، والمسلمون يغلب عليهم الخير، وقد يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
ولكن لا ينكر أيضًا أن كثيرًا من الحجاج قد يتعذر عليه دفع الجنيه الواحد أو لا يبقى في يده شيء عند الأوبة إلا ما يكفيه لأجل الوصول إلى وطنه أو يقع العجز في «بودجته» الضئيلة من أصلها، فتجد المطوف قد حرم مع حاج كهذا نتيجة تعبه ورضي بنصف جنيه بدلًا من جنيه، وقد يضطر إلى أن لا يأخذ من حاجه شيئًا.
ولا حاجة إلى بيان أن وجود مثل هؤلاء في محشر كمحشر الحج هو خطر على الصحة العمومية؛ لأنهم لا يقدرون أن يعتنوا بنظافة أبدانهم ولا أن يغسلوا بالصابون ولا يملكون أسباب النظافة.
وقد فقد الحجاز بعد الحرب الكبرى موارد رزق عظيمة كانت تنصب إليه منها الصرة العثمانية، ومنها الحج التركي الذي منعته أنقرة، ومنها الصرة المصرية وصدقات الحبوب التي كانت ترسل من مصر، فهذه كان يرتفق بها أهل الحجاز ويعيش بها فقراء الحجاج، وأين هي الآن؟ فلا جرم أن الحجاز أصبح لا يتحمل من الفقراء ما كان يتحمله في الأول.
اقتسام المطوفين والمزورين لحجاج الأقطار
لقد قسم المطوفون والمزورون العالم الإسلامي فيما بينهم مقاطعات أشبه بما كانت عليه الممالك في الماضي، فبلاد العرب لها مطوفون، وبلاد الترك لها مطوفون وبلاد الفرس لها مطوفون، وبلاد الأفغان لها مطوفون، وبلاد الهند لها مطوفون، وبلاد الجاوى لها مطوفون، وهلم جرًّا، وكذلك لكل من هذه مزورون.
وكل من هذه البلدان الكبار تنقسم أيضًا بين المطوفين والمزورين إلى دوائر أشبه بالولايات التي تنقسم إلى متصرفيات، وهذه تنقسم إلى أقضية لعهد الدولة العثمانية، فمصر مثلًا يتقاسمها مطوفون متعددون، أناس لهم القاهرة وأناس لهم الإسكندرية، وأناس لهم دمياط والشرقية، وأناس لهم المنيا وبني سويف والفيوم وهلم جرًّا، والمغرب أيضًا دوائر، فمصراطة لها مطوفون، وبنغازي لها مطوفون، والقيروان لها مطوفون، ووادي ميزاب له مطوفون، ولكل من الريف وفاس مطوفون، ولكل من مراكش والسوس الأقصى وتنبكتو مطوفون وهلم جرًّا، ودمشق وحمص وحماه وحلب وطرابلس وبيروت وصفد ونابلس والقدس والخليل … إلخ، لكل بلدة أو بلدتين أو ثلاث منها مطوفون معلومون، ولا يتجاوز مطوف على مطوف، ولا مزور على مزور إلا برضى الحاج بنفسه، فإذا اختار حاج أزمير أن ينزل عند مطوف حاج «أماسية» أو مطوف «كوتاهية» مثلًا فله ذلك.
وإذا راجع حاج «شيراز» مطوف «تبريز» بدلًا من مطوف شيارز فلا حرج عليه في ذلك، وإذا وقع بين المطوفين في مكة أو بين المزورين في المدينة خلاف فالمرجع هو شيخ المطوفين وشيخ المزورين، والحكومة تراقب كلًّا منهم.
ولليمانيين أيضًا مطوفون، ولكن فائدة هؤلاء منهم لا تذكر، وليس للحجازيين ولا للنجديين مطوفون؛ لأنهم يعرفون المناسك كلها ولا يحتاجون إلى أدلاء.
ولا يلزم لهم من يستأجر لهم الجمال؛ لأن الجمال كلها لهم، وقلما يستفيد منهم الحرمان الشريفان إلا بأكلهم وشربهم من السوق.
ومن مزايا المطوفين أنهم يجوبون الأقطار، ولا يستبعدون منها بعيدًا، وتجدهم حتى في الصين وكاشغر وسيام وسومطرة وجزائر الفليبين وكل بلد فيه مسلمون يرغبون في الحج ويسهلونه عليهم، ويصفون لهم اللذات الروحية التي يشعر بها المطوفون بالبيت الحرام، والقاصدون إلى عرفات والمشاعر العظام، والزائرون لروضة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يزالون بها حثًّا وترغيبًا واستحثاثًا للنفوس واستحلابًا للعبرات إلى أن يأتوا بنفر منهم إلى الحج.
والمطوفون أينما ذهبوا يكرمهم المسلمون ويقومون بضيافتهم تبركًا بالبقاع التي صدروا عنها والبيت الذي يخدمون فيه، وهم يستفيدون بهذه الأسفار الطويلة معرفةً واطلاعًا، ويتعلمون اللغات الأجنبية.
ولو كانت أمورنا على النسق الأوروبي الذي قاعدته استغلال كل شيء لكنا أسسنا مدرسة خاصة بالمطوفين والمزورين، يتعلمون فيه إتقان التطواف، وكيفية ترفيه الحجاج والمزدارة، وتوفير أسباب راحتهم، وتلقينهم الأدعية والأذكار المأثورة بأيسر الطرق، وبث الدعاية اللازمة بالأوصاف والصور، حتى يزداد عدد الحجاج القادمين كل سنة، وهكذا تزداد مكة وطيبة عمرانًا ويزداد أهلهما يسارًا.
- أحدهما: أمان الطرق.
- والثاني: أسباب الراحة.
أما الأمان فقد توافر في أيام ابن سعود إلى حدٍّ لا يتطلع فيه متطلع إلى مزيد وإنما يرجو دوام هذه النعمة.
وأما أسباب الراحة فقد كانت تعد أسباب راحة بالنسبة إلى الماضي ولا تعد كذلك بالنسبة إلى الحاضر بعد أن انتشرت الأساليب العصرية في النزول، والركوب، والبيت، وتوسيع الشوارع، وتنظيفها، وترصيفها، وإنارتها بالمصابيح الكهربائية ليلًا، ونسق الحدائق في أوساط المدائن، وحواشيها، وبناء المقاهي الرائعة المزخرفة، وسائر ما يلذ العين، ويشرح الصدور، ولا يقدر أن يعيش بدونه المترفون، ولا تهيَّأ لهم سرور، فالحجاج في الغابر كانوا يأتون من بلدان لا تفوق مكة والمدينة في درجة الرفاهية والانتظام أو تتفوق قليلًا فكان الحاج لا يشعر بالفرق بين المكانين، ولا تتغير عليه البيئة.
وأما اليوم فقد صار أكثر العالم الإسلامي تحت حكم الإفرنج، فشاهد الحجاج مدنية الإنكليز في الهند، وزنجبار، ومدنية هولاندا في الجاوى، ومدنية فرنسا في شمالي أفريقيا، ومدنية الروس في موسكو، وبتروغراد وهلم جرًّا، فتعود المترفون منهم رفاهة ورفاغة لا يطمعون أن يحصلوا على مثلهما في الحجاز إلا في قضية الطعام، فإن طهاة مكة والمدينة لا يفوقهم طهاة تلك البلدان، وربما لا يساوونهم في تطييب الطعام، وتأنيقه ولكن ليس المأكل هو كل شيء، فلا بد للمسلم المترف من أهل تلك البلدان — حتى من أهل مصر، والشام، والعراق — أن يأمن جهة راحته بحذافيرها حتى يقوم بفريضة الحج.
ومن المعلوم أن حج مترف واحد يعود على الحجاز بفائدة مادية أكثر من حج خمسين شخصًا من المساتير أو المتوسطين.
أما الفوائد الروحية فلسنا في هذه الجملة بصددها، وقد نتكلم عنها في موضع آخر، ونشرح ما يكفل الحج من جلائلها ولكن مع الأسف قد غلبت النزعة المادية الأوروبية على الناس، وصار البدن هو معبود الإنسان العصري، فأصبحت لا تقدر أن تقتصر في الدعاية إلى الحج على ذكر ما فيه من اللذة الوجدانية والراحة الروحية وأنى لعبدة الأبدان أن يشعروا بمواجيد النفوس ولذائذ نعيم العرفان.
وكل المدنية العصرية مبنية على مدنية أوروبا، وكل مدنية أوروبا تقريبًا هي مستغرقة في خدمة الحواس ولسان حالها ينادي: المادة المادة.
ولا ينكر أن السيارة الكهربائية والتليفون واللاسلكي قد كفلت في الحجاز في السنوات الأخيرة راحات واختصارات لم يكن يعرفها من قبل، وأن مكانها من الأهمية لا يخفى؛ ولكن على الدولة السعودية أن تطرد مشروعاتها العمرانية في الحرمين الشريفين وجدة وينبع والطائف الذي هو مصيف الحجاز حتى يعرف أغنياء العالم الإسلامي أنهم إذا قصدوا الحجاز، لا يرهقون عسرًا، ولا يصادفون في شيء من اللذات التي يبيحها الشرع حرمانًا، فأما اللذائذ التي لا يبيحها الشرع فإن من فضائل الدولة العربية السعودية حظرها وسد الأبواب عليها والتصلب في هذا الشأن.
ولقد حرم الحجاز منذ سنتين أو ثلاث حاج الأناضول؛ لأن مصطفى كمال يأبى أن ينفق التركي شيئًا من ماله في بلاد عربية، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه، ويا ليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر، والميسر، والألبسة الإفرنجية، وما أشبه ذلك مما كان السبب في هوي تركيا الاقتصادي إلى ما هوت إليه، ومما لم يعد سرًّا مخفيًّا، فمسألة نفقات الحج كانت نقطة من غدير بالنسبة إلى هذه.
وكذلك كان من أسباب الثورة النجدية التي استأصل الملك ابن سعود جرثومتها أن موقدي تلك الثورة زعموا أن الحجاج الذين يأتون من طريق البحر مشركون — هكذا سمعنا عنهم والعهدة على الرواة — وطلبوا من ابن سعود أن يسد طريق الحج عليهم، فجادلهم كثيرًا في هذه المسألة فأصروا على غيهم، فقال لهم أخيرًا: وكيف يعيش أهل الحجاز إذا سددنا هذه الطريق عليهم؟ فقالوا له: يرزقنا الله وإياهم، وقد غاب عنهم أن الرزق له أسباب وأن الله جعل لكل شيء سببًا، وأن أعظم أسباب ارتزاق الحرمين هو الحج، وأن الله تعالى أنزل في هذه الحقيقة قرآنًا غير ذي عوج.
(٥-٦) وجوب اعتناء حكومات الدنيا بأسرها بأمر الحج
ينبغي لحكومة الحجاز ولسائر الحكومات الإسلامية والحكومات غير الإسلامية التي غلبت على ديار المسلمين أن تعتني بقضية الحج إلى بيت مكة أشد الاعتناء، أما الحكومات الإسلامية فتعتني به من جهة أنه فرض ديني، معدود من أركان الإسلام، يقوم به كل سنة مئات ألوف من المؤمنين.
وأما الحكومات الأخرى فتعتني به من جهة ارتباط العالم بعضه ببعض وكونه — لا سيما في العصر الحاضر — أصبح جسمًا واحدًا لا يشعر منه عضو بالتياث إلا التاث به سائر الأعضاء، فورود مائتي ألف شخص أو ثلاثمائة ألف شخص من أقطار الكرة الأرضية كل سنة برًّا وبحرًا مشاة وركبانًا إلى بقعة من جزيرة العرب لزيارة بيت عتيقٍ أسس على التقوى ليس بحادث بسيط لا يستوجب الاعتناء، وسيأتي يوم ينتقل فيه أكثر هذا الحاج إلى بيت مكة بالطيارات، فتزداد السهولة وتتضاعف السرعة، وقد يزداد بذلك عدد الحجيج زيادة هائلة لا سيما إذا وجد في مكة من تسهيلات الحج ما هو غير متيسر إلى حد اليوم.
ولا يزداد عدد الحجاج بالكمية فقط، بل يزداد شأنهم من جهة الكيفية، فيقصد مكة ذوو الترف واليسار وأناس كانوا يتوقفون عن أداء هذه الفريضة بسبب ما كانوا يخشونه من الأمراض أو من فقد أسباب الراحة التي ألفوها.
ولا ينبغي أن يظن أن تقدم المسلمين في المعارف ورقيهم في سلم المدنية في المستقبل قد ينتهيان بتناقص عدد حجاج البيت الحرام، فقد ترقت الأمم الأوروبية كثيرًا في المدنية، وغلبت على قسم كبير منها الفلسفة واللادينية؛ ولا يزال زوار القدس من المسيحيين كل سنة عددًا كبيرًا، ولا يزال قصاد روما كل سنة من الكاثوليك عددًا أكبر. وما يقدر العلم أن يصنع شيئًا مع الدين ما دام سر الكون النهائي لا يبرح مغلقًا، وما دام الإنسان عاجزًا عن مكافحة الموت لا بد للخلق من الدين، ومأثورات الإلحاد إلا غمرات ثم ينجلين.
فالنزعات اللادينية والنزعات الإلحادية التي تعرض على المجتمع الإنساني في الأحايين إن هي إلا عوارض مؤقتة لا يمكن أن تكسب شكلًا عامًّا ولا أن تقوم مقام العقائد الدينية الضرورية للبشر، وقد سبقت لها أماثيل متعددة في تاريخ أكثر الأمم، وعصفت ريح الإلحاد في بعض الحقب، ثم لم تلبث أن هدأت واستقرت وعاد الأمر كما بدأ.
وفي الثورة الفرنسوية الكبرى أقفلوا الكنائس، وقتلوا القسيسين، وشردوا جميع خدمة الدين، واغتصبوا الأوقاف، وأزالوا عنها صفة الوقف، وجعلوا العبادة للعقل، وظن الناس أن الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا دخلت في ذمة التاريخ، وصارت أثرًا بعد عين، ولكن لم تمض بضع سنوات على هذا العمل حتى ركدت تلك الزوبعة وعادت العقيدة الدينية إلى نصابها، ورأى نابليون أن عقلية الفرنسيس قد تراجعت إلى أصلها، ففتح الكنائس، وأعاد على العبادة كرامتها، ورفع منار الدين الكاثوليكي، وتتوج إمبراطورًا في كنيسة نوتردام في باريز، ودعا البابا إلى حضور حفلة التتويج، فجاء البابا بنفسه، وكان يطوف بعربته في شوارع باريز، والناس تخر أمامه جثيا، وهم هم الساجدون له الآن كانوا قبل ذلك بسنوات معدودات القوم الذين اتخذوا هواهم إلههم، وأقفلوا الكنائس، وأتوا بفتاة حسناء رعبوبة فجعلوها على منصة رفيعة وخروا لها ساجدين.
فأنت ترى أن زعازع الإلحاد مصيرها غالبًا إلى الركود، وأن الدين لم يبرح صاحب الكلمة العليا في الأرض ما دامت المادة لا تقدر أن تبين عن ذات نفسها ولا أن تحدث الإنسان بتاريخها، وما دام الإنسان متشوقًا إلى جواب عن هذا الوجود لا يجده إلا في الإيمان بالغيب.
ولذلك أقول: إنه مهما ترقى الناس في العلوم والفنون لا يبرحون محتاجين إلى الديانة فازعين إلى الغيب، وإنه لن تبرح أماكن العبادة وخصوصًا مراكز انبعاث الأنبياء والرسل مثابا لأتباعهم يقصدوها من كل فج سحيق.
ومكة والمدينة وبيت المقدس ستبقى مقصدًا للمؤمنين بمؤسسي الشرائع التي تأسست فيها ولو فرضنا أنه اختلفت فيها مفاهيم السلائل البشرية الآتية عن السلائل الحاضرة.
وأقول: إن اختلاف هذه المفاهيم مهما تناهى فلا يتجاوز جوهر العقيدة الأصلي؛ لأن جوهر العقيدة مبني على العقل البشري؛ ولأنه ليس للمرء مذهب وراء العقل البشري، فهو أول الشرائع، وآخرها، وأقدمها، وأحدثها.
فتأويل الشرع — بعيدًا ما بعد عن المفهوم الحالي — لا بد أن يبقى مربوطًا بالعقل البشري، وآيلًا إليه، وذلك بسبب بسيط هو أن الشرع والعقل متحدان، وأن أحدهما يصح أن يكون مرادفًا للآخر، وأنه لا يمكن للشرائع أن تأتي بما يستحيل في العقول؛ إذ لو كان ذلك لهدمت نفسها بنفسها ولعطلت الأداة الوحيدة التي يمكن فهمها بها.
فما دام العقل الإنساني هو هذا الذي نعرفه فالشرع قائم مؤيد ثابت في العقول سائغ في الأذهان، لا يتجافى عنه إلا من حرم سلامة الحس الباطني، وسلب أداة الإدراك، وما دام الشرع قائمًا مؤيدًا لا تزعزعه عواصف الأهواء ولا تميد به زعازع الشبهات، حتى يعود أمتن مما كان، ويعتصم به الجمهور، فمناسك الدين وشعائره لا تبرح قائمة وأحكام الشرع لا تبرح جارية ومكة تبقى مكة وطيبة تبقى طيبة والمسجد الأقصى يبقى المسجد الأقصى.
اعتداء الحكومات الإسلامية على أوقاف الحرمين الشريفين
من حيث قد قررنا أن الأماكن المقدسة في الحجاز لن تبرح مقصدًا للمؤمنين من جميع الفجاج، ومركزًا يجذبهم إليه بجاذبيته المعنوية من بين مطلع الشمس ومغربها، فقد تحتم على الحكومات والجماعات الإسلامية — أحمرها وأسودها — أن توجه العناية إلى إصلاح أحوال هذه البقاع المباركة، وإجراء المقاصد التي تتحقق بها المناسبة بين طهارتها المادية وقدسيتها المعنوية.
وبدهي أن هذه الأمكنة وإن كان جيرانها وأصحاب الحَل والعَقد فيها هم من العرب وحدهم من جهة أنها جزء من البلاد العربية؛ فليس عمارها، وقصادها، وزوارها من العرب وحدهم، بل هم من أمم لا يقل عددها عن ثلاثمائة وخمسين مليون نسمة، فليس من العدل أن تنحصر مهمة تنظيمها، وتنظيفها، وتوفير وسائل الرفاهة والفراهة فيها بأهاليها الأصلين الذين لا يزيد عددهم على مليون نسمة، والذين لا يتكون منهم إلا جزء من ثمانمائة وخمسين جزءًا.
بل هذه المهمة يجب أن تتوزع على المسلمين جميعًا حتى يقوموا بها متضافرين ولا ينقصهم شيء من شروط الكمال الصوري والمعنوي في هذا الوطن العام الذي يخصهم جميعًا من وجهة العقيدة.
ولا يقدر أحد أن يحتج على ارتفاع هذا الواجب عنهم بأن الحجاج يؤدون ما عليهم للمطوفين، ويؤدون رسومًا أخرى لإدارة الصحة وغيرها، وأن هذا جائز لأجل إصلاح أحوال الحجاز، كافٍ لشفاء النفس من هذه الأمنية، فإن الأجور التي يؤديها الحجاج للمطوفين لا تكاد تقوم بأود هؤلاء، وأن الرسوم الأخرى التي يذكرونها إن هي إلا سداد من عوز، وأن على الحكومة الحجازية من الواجبات الضرورية ما لا يتيسر معه التوقل على الأمور الكمالية، ولا بد لمن ضاقت ذات يده من تقديم الأهم على المهم، وماذا يتطلب المسلمون من حكومة الحجاز، ودخل هذه الحكومة لا يزيد على جزء واحد من أربعين من دخل الحكومة المصرية مثلًا.
فالمسلمون يقدرون أن يقوموا بهذا الواجب بدون أن يضطروا إلى جمع إعانات، واستدرار أكف مما لو كانوا فعلوه لكان بهم قمينًا، وذلك بأن يسلموا ما في ديارهم من مال الحرمين للحرمين، فكل أحد يعلم أنه لا يكاد يوجد بلدة من بلاد المسلمين كبيرة أو صغيرة إلا وفيها أوقاف للحرمين الشريفين.
ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لو اجتمع ربع العقارات الموقوفة على الحرمين الشريفين بعد رد جميع هذه العقارات إلى أصلها، واستغلالها على حقها لكانت تضاهي دخل مملكة عصرية من الدرجة الثالثة، وكانت تكفي لإزاحة جميع علل الحجاز، وإصارته من الجهة العمرانية إلى درجة لا يقل فيها عن أي قطر من الأقطار المجهزة بجميع أسباب المدنية.
فبدلًا من أن يوفر المسلمون هذه الحقوق لأهلها، وأن يجنوا حاصلات هذه الأوقاف الدارة ويقدموها إلى محلها بحسب شروط واقفيها، ومرصديها، لا نجدهم عنوا في شيء من الأشياء عنايتهم في محو هذه الحبوس التي منذ ثلاثة عشر قرنًا يجود بها الآباء، ويبخس بها الأبناء، «إن شرط الواقف كنص الشارع»، هي جملة كادت تذهب من أذهان المسلمين قاطبة إلا من رحم ربك.
فبعض هذه الأوقاف درست تمامًا بأيدي النظار الخائنين، وبإغضاء القضاة للمواطئين على مشهد من العلماء المدلسين، وبعضها تحول عن أصله، وأجري في غير مصالح الحرمين، وخولف به شرط الواقف بدون عذر ولا مسوغ شرعي، وجميع هؤلاء ساكتون، وبعضها بقي باسم الحرمين الشريفين ولكنه يرفع منه إلى الحرمين من الجمل أذنه كما يقال.
ويا ليت شعري من يفعل هذا أو من يقر على هذا فلا أدري كيف يصلي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يحج؟ وكيف يظن أنه قائم بفرائض الإسلام؟ ولا أقول كيف يزكي؟ فقد قل اليوم من يفكر بفرض الزكاة؟ فالزكاة وتأدية حقوق الأوقاف هما من الأمور التي كادت ألا توجد إلا في الكتب الفقهية، يتعلمها الناس من قبيل العلم بالشيء لا من أجل العمل بهذا العلم.
وإذا جرى شيء من العمل بشروط الحابسين فلا يكون إلا في نفس البلاد التي فيها الحبوس، وهذا من خوف النظار والقضاة أن تنتقض عليهم العامة ويسقطوهم، فأما إذا أمنوا خوف ثورة العامة فالوقف إلى الدثور أسرع من الماء إلى الحدور، وعلى كل حال شرط الواقف كاد يفقد كل حرمة.
وأغرب من هذا أنه لم يكف تلاعب النظار بالأوقاف ولا سيما بأوقاف الحرمين، وإغضاء القضاة والعلماء على هذه العظيمة حتى جعلت الحكومة الإسلامية هي بأنفسها تستبد بأوقاف الحرمين، وتمنع إيصال ريعها إلى الحرمين غير مراقبة شرط واقف ولا نص شارع ولا رضى خالق ولا لسان مخلوق.
هذه هي الحكومات الإسلامية التي هي أجيرات المسلمين في مهامهم العامة وليس في أيديها شيء إلا من فضلهم وليست هي بأجمعها شيئًا لولاهم، وإنما كان وجودها لأجل صيانة مصالحهم الدينية والدنيوية معًا، لا مصالحهم الدنيوية فحسب.
فهذه الحكومات بلغت جانبًا من هذه الأوقاف، ومحت رسومه، وجعلت شروط واقفيه كامل الداير، وأكلت ريع الجانب الآخر، وحولته إلى مهالك معلومة ليس لها تعلق بالحرمين الشريفين ولم تبالِ ما عملت، وكانت إذا رفعت إلى الحرمين صرة دراهم، أو شحنت سفينة حبوب ظنت أنها تتصدق على أهل الحجاز من مال أبيها.
وقد فشت هذه العادة الذميمة في الحكومات الإسلامية بفشو الاستخفاف بالدين، وبحمل الواجبات الدينية على المبادئ القومية، والحال أن الدين لا علاقة له بالقومية وكل منهما له حدود غير موقوفة على حدود الآخر، ونحن نجد أن الفاتيكان مرجع ديني لأربعمائة مليون كاثوليكي، وهم من أجناس لا يحصى عديدها، ونجد أن خزانة البابا كخزانة دولة من الدول، ولم يمنع كاثوليك الدنيا أن يرفعوا إليه إعاناتهم، وصدقاتهم، وكونه طليانيًّا، وكون الفاتيكان في إيطاليا.
طمس الدولة المستعمرة أوقاف المسلمين
ولما غلبت الدول المستعمرة على القسم الأكبر من العالم الإسلامي، ووجدت من صنيع الحكومات الإسلامية — التي ورثتها ما وجدته في الأوقاف عمومًا، وأوقاف الحرمين خصوصًا — هذه المفسدة، واتخذت منها حجة تستظهر بها في طمس الأوقاف الإسلامية، وإخفاء معالمها فإنها تقول للمسلمين: إني لم أفعل شيئًا إلا ما كانت حكوماتكم تفعله.
وأجدر بما كان يفعله المسلم بوقفه أن يفعله المسيحي، وهو لا يعتقد من حرمة مس هذا الوقف ما يعتقده المسلم.
- أما الغرض الأول: فهو طمس هذه الأوقاف من أصلها؛ لأن الإفرنج لا يكرهون في الدنيا شيئًا كرههم للأوقاف الإسلامية، ولا يخافون في مستعمراتهم من شيء كمخافتهم منها؛ لأنهم يعتقدون أن المسلمين إذا أحسنوا إدارتها، وضبط حاصلاتها كان لهم منها منبع إمداد عظيم في أمورهم السياسية، فلذلك تراهم يسعون بقدر طاقتهم في محو رسومها.
- وأما الغرض الثاني: فهو إمداد المبشرين والرهبان، وتوطيد أقدامهم في بلاد الإسلام؛ ليتمكنوا من بث دعايتهم بين المسلمين مما لم يَبْقَ خافيًا على أحد، ومما لم يُبْقِ أدنى سبيل للمكابرة فيه، فبدلًا من أن هذه الحكومات المستعمرة تشتري لهؤلاء المبشرين والدعاة عقارات وأراضي من مالها تجد الأقصد والأوفق أن تصرفهم في أوقاف المسلمين، فتكون أغنتهم من كيس غيرها، وتكون جمعت بين دفع ما تعتقده ضررًا، وجر ما تعتقده منفعة.
والمجلية في هذه الحلبة والحق يقال من بين جميع الحكومات المستعمرة هي الحكومة الإفرنسية، فلم نعهد حكومة استطابت طعم أوقاف المسلمين مثلها، ولا استحلت طعمتها للرهبان والمبشرين، بدرجة استحلالها، ولقد تمكنت منها عادة التسلط على أوقاف للمسلمين في المغرب إلى حد أنها حاولت مثل ذلك في المشرق فهي تأبى إلا أن تسيطر على أوقاف المسلمين في سوريا برغم أن النصارى واليهود فيها متصرفون في أوقافهم بتمام حريتهم.
وقد راجعنا في هذا الأمر جمعية الأمم، وأوضحنا لها كيف أن الدولة المنتدبة في سوريا تترك النصارى واليهود أحرارًا في أوقافهم، وتتعرض لأوقاف المسلمين خاصة، وكيف أنها وهبت الرهبان وقفًا عظيمًا من أوقاف المسلمين في اللاذقية وغير ذلك، ووجدنا لجنة الانتدابات الدائمة تؤيد رأينا في هذه المسألة وتقترح على فرنسا ترك مسلمي سوريا أحرارًا في أوقافهم كما هم مسلمو فلسطين التي هي تحت انتداب إنكلترا ولكن الحكومة الإفرنسية لا تبرح تماطل، وتتعلل في هذا الأمر برغم ميل لجنة الانتدابات إلى اتصاف المسلمين فيه.
وإذا رجعنا إلى أصل البلية وجدناها من المسلمين أنفسهم؛ لأن حكوماتهم لما كانت مستقلة ولأن حكوماتهم المستقلة الباقية إلى اليوم تصرفت بالأوقاف تصرفًا سيئًا مخالفًا للشريعة، منافيًا للأمانة، فمهدت للدول المستعمرة العذر في طمسها لهذه الأوقاف أصلًا وفي هبتها منها للرهبان، وسيطرتها التامة على ما أرادت إبقاءه منها للإنفاق من ريعه على المساجد.
ولا يزال حتى اليوم في بلاد الإسلام أوقاف لا تحصى محبوسة على الحرمين الشريفين كان يجب على حكومات هذه البلدان من إسلامية أو أجنبية أن تحسن إدارتها ولا تحتجن شيئًا من حاصلاتها لإنفاقها في حاجات أخر بل ترفعها كلها إلى الحرمين بحسب شروط الواقفين.
وإذا قدرنا أنها لا تثق بحكومة الحجاز أو بأعيان أهالي الحجاز في قضية توزيع هذه الصدقات أو إنفاق هذه الأموال في وجوه الخير فليس عليها أكثر من الإشراف أو الاشتراك مع حكومة الحجاز في التوزيع أو الإنفاق على المشروعات الخيرية التي بإحيائها يعمر الحجاز.
ولعمري إن الأولى بهذه الحاصلات الواردة من الآفاق إلى الحجاز إذا وردت أن ينفق جلها — إن لم ينفق كلها — على تأسيس ملاجئ للفقراء وللأيتام حتى لا يبقوا عالة على الناس، ووقرًا على الحكومة وفي بناء مستشفيات، ومصاح للمرضى والضعفاء الذين يكثر عددهم في الحجاز بكثرة الغرباء ولو كان هواء الحجاز بحد ذاته نقيًّا، وكذلك في تشييد مدارس صناعية ومشاغل يحشد إليها العاطلون من العمل والعائشون من التسول، وعلى مشروعات أخرى خيرية عامة لا ينحرف فيها البر عن أصله، ولا يخرج الوقف عما ربط عليه، مع التباعد فيه عما يغري الأهالي بالكسل، ويعودهم البطالة ويوجد عندهم عقيدة معناها: أن أهل الحجاز أو أهل الحرمين الشريفين لا يجب عليهم الكسب من عرق جبينهم ولا الاشتغال بصناعة، أو تجارة، أو زراعة، وإنما وجدوا ليعيشوا من مجرد الصدقات، والمبرات، وهدايا العالم الإسلامي، مما لا يليق بهم ولا ينفعهم ولا يكفيهم مهما كثر؛ لأن الإنسان الذي لا يعيش من كسب يده يجد نفسه دائمًا في ضيق، وقد شاهدنا ذوي الثروة والحاصلين على الكفاية من أهل مكة والمدينة إنما هم من أصحاب الأشغال والمتاجر، لا من أصحاب الرواتب والمعاشات التي لا يبرح عائلًا من اعتمد عليها.
(٥-٧) مرضي في مكة المكرمة وأسبابه وتأثيره في أثناء أداء فريضة الحج
إذا كان الأجر على قدر المشقة فقد كتب الله لهذا العبد أجرًا عظيمًا، فإنه لم يمضِ على مقامي بقرب المقام أكثر من تسعة أيام حتى انحلت قواي، والتاث مزاجي، وأصبحت مريضًا تتصاعد بي حمى إلى أن بلغت درجة الأربعين، وذلك أني من أبناء جبل لبنان ولم تألف أجسامنا الحر الشديد الذي ألفته أجسام إخواننا أهالي جزيرة العرب لا سيما سكان التهائم منهم، وكنت من أصل فطرتي أكره الحر، وأفر منه ولم أكن أيام القيظ أفارق الصرود، وهذا كان سبب اصطيافي في عين صوفر مدة تزيد على عشرين سنة وقد نشأ عن شدة رغبتي في ذلك المكان أني اقتنيت فيه الكروم، والعقارات، وتأثلت ما يقارب ثلاثمائة ألف ذراع مربع من الأرض، ولم تكن درجة الحرارة في صوفر تزداد بميزان سنتيغراد على ٢٣ إلا نادرًا، وكذلك كنت أقيم أحيانًا بعالية وحرارتها لا تعلو فوق ٢٦ أو ٢٧ إلا نادرًا.
ومنذ اثنتي عشرة سنة أنا في أوروبا وليست هذه القارة بالتي يشكو فيها الإنسان شدة الحر، وما أذكر أني لقيت في أوروبا شيئًا يستحق اسم الحر إلا في روما؛ إذ صادف وجودي فيها إحدى المرار في شهر يوليو، ومن المعلوم أني أقمت سنوات بألمانيا وهي لا تعرف الحر إلا عابر سبيل، وأني منذ سنوات في سويسرا وهي لا تدري شيئًا من حمارة القيظ، وعدا ذلك تُراني في سويسرا نفسًا أقضي الصيف من قنة جبل إلى قنة جبل، فتارة في القنة المسماة «روشة دونيه» فوق «مونترو»، وهي تعلو عن سطح البحر ألفين وخمسين مترًا، وطورًا في «شتانسر هورن» فوق بحيرة «لوسرن»، وهي قنة بيضية الشكل تعلو عن سطح البحر ١٩٥٠ مترًا وأحيانًا في القمم الشامخة التي تقابلها مثل «بيلاتوس» المشرفة على لوسرن إشراف المنارة على الجامع، ومثل «ريغي» التي يطل منها الرائي على ثماني بحيرات في لمحة واحدة من شفير شاهق، ومن شدة غرامي بهذه القنن التي قد كنت أصادف فيها الثلج أحيانًا في شهر أغسطس أتذكر أني تركت قنة «غورتن كولم» في برن.
وذهبت فانتجعت قنة «شتانسر هورن» في لوسرن؛ لأنها أعلى من الأولى، وأقمت هناك شهرًا إلى أن جاءني كتاب من سعادة الأخ الشهم الهمام عبد الحميد بك سعيد — رئيس جمعية الشبان المسلمين الآن في مصر — متع الله الإسلام بطول حياته، وكان يسكن في «غورتن كولم» في الفندق الذي أنا فيه فكان يؤنبني في هذا الكتاب على تلك العزلة برأس جبل «شتانسر هورن» ويقول: لا يحل لك هذا.
وكان قد سبق أني لما مررت بمدينة السويس منتظرًا باخرة البوسطة المصرية للركوب بها إلى جدة لم يشاءوا أن يمهلوني يومين ريثما يأتي ميعاد سفر الباخرة، بل صدر الأمر بتسفيري على باخرة هندية سيئة الحال مسلوبة جميع أسباب الراحة في المنام، والغذاء، والجلوس، وكل شيء، وناهيك أنه كان فيها نحو ١٥٠٠ حاج، وأنها كانت من البواخر الصغيرة، فبعد هذا لا ينبغي لي أن أطيل الشرح، وأن أقول كيف مرضت، وإنما أقول: إني وطئت أرض جدة ملتاثًا.
ولما جئت لأضطجع في السرير الوثير قيل لي: إنه لا بد من الدخول تحت الكلة بلباقة عظيمة حتى لا يتسنى للبعوض أن يدخل ورائي فإن البعوض هناك تجب الوقاية منه، فكنت أدخل تحت الكلة وأنا أسترق السمع حتى إذا سمعت طنين بعوضة اجتهدت في محوها أو طردها، وكنت طول الليل كأني تحت الحصار أحاذر أن تقع مني حركة يرتفع بها شيء من سجوف الكلة فيهجم من خلال ذلك البعوض، وتسوء العاقبة على أن قولي: طول الليل صورة من صور التعبير فإني ما قدرت ولا ليلة أن أبقى تحت ذلك الحصار أكثر من ساعة؛ لأن السرير كان مسدودًا بالسجوف السابغة والسطح كان مسدودًا بالجدران الإسكندرية العالية، فلم يبقَ من سطحيته إلا الاسم، والحر كان شديدًا، وبالاختصار كدت أختنق، وصبرت إلى أن غرق مضيفي الشاب في لجة الكرى، ونزلت إلى سطح آخر مفتوح من كل الجوانب يرقد عليه الخدم بدون أغطية ولا سجوف مسدولة ولا خشية بعوض ولا اتقاء جراثيم، وقلت في نفسي: ليفعل البعوض ما شاء فإني تحت تلك الكلة لا أستطيع الغمض ولا دقيقة والنوم سلطان لا يغالب فلا بد من طاعته ورحم الله القائل:
فوجدت على ذلك السطح خشبة عارية عن الرفش اضطجعت عليها، وكنت أمشي على رءوس أصابعي حتى لا يستيقظ أحد لا فؤاد حمزة ولا خدمه؛ فإني لا أحب أن أزعج أحدًا ولا أن أسلب راحة الناس لأجل راحة نفسي، على أني لو أيقظتهم وأزعجتهم، وسلبت راحتهم فلا أعلم ماذا كانوا يقدرون أن يصنعوا لي جميع تلك العلل التي وقفت في طريق رقادي لم يكن مصدرها إعواز أسباب الرفاهة، وإنما كان مصدرها الجو، وما حيلتي، وما حيلتهم هم في الفلك؟
فارتميت على تلك الخشبة بدون وطاء سواها ولا غطاء سوى القميص، وهكذا أمكنني قبيل الفجر أن أهوم تهويمًا أشبه باليقظة منه بالمنام، ولكن لم يصبح الصباح حتى قامت القيامة إذ استيقظ الجميع فرأوني على تلك الحالة فأخذوا يدوكون في الطريق التي تلزم لأجل تمكيني من الرقاد، وبهذه المذاكرات أطاروا ما كان بدأ من تهويمي ولأجل توفير راحتي سلبوا تلك البقية الباقية من راحتي، وفي هذه الأثناء طلعت الشمس ليس من دونها حجاب لأني كنت على السطح كما قلنا، وأنا لم أكن أقدر أن أنام في الظل ولا في العتمة فما ظنك في الشمس فنهضت برغم أنفي، وأنا أقول: يا من يأتيني بخبر عن الكرى.
وأخذ فؤاد بك يفكر في الاستعدادات لمعركة الليل الآتية وصاروا ينظرون في وجوه الوسائل، وفنون الذرائع حتى أتمكن من الرقاد ثاني ليلة، ولكن لم يكن في الحقيقة من وسيلة تنفع ولا من ذريعة تنجع؛ لأن العلة هي شدة الحر، وعدم اعتيادي مثل هذا الجو، وقد يقال: إن فؤاد بك حمزة هو لبناني مثلي، وبلدته مصيف شهير، وهي عبية ولم يتعود جسمه الحرارة، ولكن بيني وبين فؤاد بك حمزة فرق ثلاثين سنة، فقوة المقاومة التي عنده ليست عندي ولذلك لم يتمكنوا في الليلة التالية برغم جميع الوسائل من أن يجعلوني أنام، وخسر فؤاد بك المعركة، والحقيقة أن الدائرة إنما كانت تدور عليَّ وحدي؛ لأني أنا الذي لم يكن ينام.
ولما وصل الخبر عما أعانيه إلى جلالة الملك بمكان ذلك الأسد من الجمع بين الأضداد من الصلاة والشمم، والحنو، والتواضع، أشار بأن أنتقل إلى محلة الشهداء بظاهر مكة رعيًا لخفة حرارتها عن حرارة مكة، فإن لجلالته هناك مقصفًا بديعًا أنيقًا في وسطه صهريج ماء عظيم، وأمامه بستان حديث الغراس، فسيح الرقعة سيكون يومًا من الجنان المشهورة، فكان يدري أيده الله أن بين الشهداء والبلدة فرقًا كبيرًا في الجو، وأني لو بت في ذلك المقصف الذي لجلالته لما كنت أحرم طيب الرقاد، إلا أن مضيفي فؤاد بك لم يكن يرغب في أن أتحول إلى الشهداء خشية أن ينقصني شيء من أسباب الراحة التي لا يأمن على استكمالها إلا إذا كان هو قريبًا، والحال أن الشهداء هي ربض من أرباض مكة ومن هذه إليها مسافة وأنا لم أكن أريد أن أفعل أمورًا لا تروق فؤاد بك، وكنت أقول في نفسي: هن ليال قلائل أقضي مناسك الحج ثم أعمد إلى الطائف وعلى فرض أني لم أنم هذه المديدة، فلم … ومتى … ولذلك عصيت أمر الملك في هذه، وندمت، و… الذين شاقوه في السنة الماضية.
(٥-٨) الكلام على الزاهر
الشهداء هو المكان الذي يقال له في التواريخ «الزاهر»، وهو اسم طابق مسماه، بسيط أفيح، تلعب فيه الرياح بدون معارض إلا من بعض آكام على جوانبه تزيده بهجة وأهاضيب، وتلمات إذا أقبل الربيع تكللت بالأزهار، فسمي من أجلها الزاهر، وهو في إبان القيظ أخف حرارة من البلدة لا سيما بعد غروب الشمس، وأنقى هواءً، وأنشط صقعًا، وفيه مياه تجري في قنى تحت الأرض من قديم الدهر، وبقايا قصور لأشراف البلد وسراته، وفيه مقاهٍ على الطريق للسابلين، ومقاهٍ على نجوة من الطريق ينتابها الناس من مكة عند الغرب فيبيتون فيها، ويغدون عند الصباح إلى أشغالهم بمكة ويكون مبيتهم على مقاعد مستطيلة في الخلاء فلا يضع الواحد منهم رأسه على مخدته إلا تفلت أجفانه من لطف الهواء فينام إلى الفجر مستريحًا، ويقوم إلى صلاة الصبح أشد من الحديد وفي الزاهر مكان صغير لصديقنا الشيخ الشيبي الكبير سادن البيت المعظم الذي بسلامة ذوقه له في كل وادٍ من الحجاز منتجع وفي كل جبل مصيف أو مرتبع.
ولما ودعت الحجاز بعد إيابي من الطائف تلطف الشهم الكريم الشيخ عبد الله سليمان ناظر المالية فأدب لي في الزاهر مأدبة ودعا الجم الغفير من كل ما في البلد الأمين من سيادة تجرر أذيالها، ومجادة تضرب بعروضها أطوالها، وبلاغة تضرب أمثالها، وفصاحة إذا نطقت يقال: من ذا قالها؟ فكانت ليلة ندر أن يعرف الناس مثالها، وقال فيها أحد الإخوان: إنها ليلة من قبيل قصص ألف ليلة وليلة؛ لكثرة ما كان فيها من نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ومصابيح منورة وأعلام منشرة ومقاعد مجللة وجفان من الشيزي مكللة وناهيك بالعربي القح، الذي لا يعرف إلا من القاموس معنى الشح، وبمن جمع بين الحجاز ونجد، إذا ما ارتفعت راية المجد.
ومن بعد ذلك بقيت في أواخر مقامي بمكة أتردد إلى الزاهر عصر النهار، وأتندم على فوتي إياه قبل الحج، وكان ينشرح صدري في كل مرة أفيض فيها من وراء تلك الآكام إلى بسيط الزاهر.
فلما كنت بقرطبة في شهر يوليو الفائت ولقيت فيها ما لقيت من شدة الحر عذرت قاضي الجماعة في خوضه صهريج الزهراء؛ ولكن حر مكة المكرمة يزيد بعشر درجات على حر قرطبة، فخوض صهريج الزاهر أقرب إلى العذر من خوض صهريج الزهراء، وأنا أبعد عن المشيخة من القاضي منذر بن سعيد.
(٥-٩) الصعود إلى عرفة في شدة المرض
ثم نعود إلى قضية التياثنا فنقول: إننا بعد قضاء بضع ليالٍ على هذا المنوال بلغ منا النهك مبلغه، ثم كان لا بد من أن نصعد إلى عرفة قبل الوقفة، فأغمي علينا في الطريق، وسار بنا اللذان كانا معنا في العربة فؤاد بك حمزة والسيد حسين الغويني إلى منى، فاسترحنا هناك إلى الصباح ولكنه لم يكن بد من الذهاب تلك الساعة إلى عرفات فذهبنا إليها، وأنا على ما أنا عليه من الإعياء، ثم أفضنا مع الحجاج الكرام عائدين إلى منى؛ حيث بتنا ليلتين لقضاء المناسك، فما رجعت إلى مكة وقضيت المناسك إلا وكنت مريضًا جد مريض، ولم يثقل عليَّ ذلك لأن الحج الشريف تطهير وتمحيص، فرجوت أن يكون المولى سبحانه قد غفر لي ذنوبي الكثيرة التي يستحق تمحيصها أكثر من هذه الأوصاف، والله غفور رحيم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ.
(٥-١٠) الالتجاء إلى الطائف
ولما اشتد بي الضعف قلت لإخواني: لا ينقذني مما أنا فيه إلا الطائف، فأنا أدري بنفسي، ومتى نشقت هواء الجبال لم يبقَ عليَّ خوف، فتردد فؤاد بك قليلًا خشية أن لا يكون قريبًا مني، وأنا على هذه الحال، فقلت له: إن كنت تحبني فدعني أصعد إلى الطائف بدون تأخير.
وقد كان هذا رأي سليمان شفيق باشا ناظر الحربية في تركيا سابقًا المقيم الآن بخدمة الملك ابن سعود، فإنه نهى عن أن أتريث ساعة واحدة ولو لأجل إعطاء التواصي اللازمة لأمير الطائف بترفيه مقامي، وتوثير مسكني، ولما جيء بالسيارات لأصعد بها إلى الطائف شعرت من الفرح بنشاط غريب ممن هو على تلك الحالة، ونهضت مسرعًا أستقبل الحياة من بعد أن كنت على ثنية الهلاك؛ فسرنا إلى محطة اسمها «الشرائع»، على مسافة ساعتين بالسيارة من مكة ومن هناك رجع إلى سكة الإخوان السراة الأفاضل الذين تلطفوا بوداعنا: الدكتور محمود بك حمدي مدير الصحية، وفؤاد بك حمزة وكيل الخارجية، والسيد عبد الوهاب نائب الحرم وعضو مجلس الشورى، وبقي معي الأخ البطل المجاهد الشهير فوزي بك القاوقجي، والأخ الفاضل الدكتور خيري القباني الذي صدرت الإرادة الملوكية بأن يلازمني إلى أن أنال الشفاء، ونعم الأخ هو، ونعم الطبيب الفاضل.
وليس فيه من عيب سوى قلة الثرثرة والجعجعة، وعدم إيهم العلم الأوسع والشفاء الأسرع، فإذا استطب العليل لديه ورأى صمته وقلقلة شفتيه قال: يظهر أن المسألة مقضية وزاده الخوف مرضًا، وقد فات الأخ القباني أن الجعجعة هي نصف الطب، وأن المريض كلما سمع ألفاظًا لا يفهمها، وكلمات فنية لم يسمعها ازدادت ثقته بالطبيب، وقد يحصل على الشفاء بدون دواء لا سيما إذا كان الطبيب يعرف أن يرصف تلك الألفاظ، ويسير بها بسرعة كلية، فلا ينفي شبهة عند عليله بأنه أحذق الأطباء.
ثم إننا بعد أن رقدنا هزيعًا من الليل قلنا للسائق: تقدم بنا نحو «الزيمة» فسرنا إليها ولم يمض نصف ساعة حتى بلغناها، وإذا بالزيمة عين ماء ثرة لها خرير يسمع من بعيد، فلما سمعت خرير الماء أخذ مني الطرب أن نفضت الضعف عني، ونزلت من السيارة وذهبت إلى العين أتمتع برؤية الماء بعد أن سمعت صوته المطرب، ثم جاءنا شيخ قرية الزيمة يدعونا إلى فك الريق — لقمة الصباح — في بيته فذهب الإخوان ولم أستطع المشي لما كان النهك قد بلغ مني، فجاءوا إليَّ بالشاي إلى السيارة، ولم أنشط إلى الطعام كما نشطت إلى منظر الماء.
ومن ثمة صعدنا بالسيارة في وادٍ فيه كثير من شجر الطلح، وسرنا ساعة من الزمن فبلغنا أعلى الوادي، وهو المسمى بالسيل وعنده مقهى بسيط جدًّا يقوم عليه بدوي من عتيبة، إلا أنه ذو قيمة في تلك البرية، والوادي هناك قريب الماء لا يحفر فيه الإنسان ثلاثة أشبار إلا انبطَّ؛ ولذلك نجد فيه عدة مناقع عذبة.
وهذا هو المحل الذي كان في الجاهلية يسمى بذات عرق وفيه يقول الشاعر:
وأحسست في ذات عرق بنشاط سريع، ومنها إلى الطائف مسافة ساعتين يمر فيها الإنسان على المكان الذي كانت فيه سوق عكاظ بالجاهلية، وكنت كلما تقدمت صوب الطائف أشعر كأني آكل العافية أكلًا، فلم يخطئ ظني أني لما كنت من أبناء الجبال لم يكن يشفيني إلا هواء الجبال، ولم تزل أهوية السرود ترمم ما هدمته أهوية الجروم.
(٥-١١) الكلام على ذات عرق
وذات عرق موضع بالبادية كان يقال له قبل الإسلام عرق، وهو ميقات العراقيين، وهو الحد بين نجد وتهامة ومن الحديث «إنه وقت لأهل العراق ذات عرق»، وهو منزل من منازل الحاج يحرم أهل العراق بالحج منه سُمِّي به؛ لأن فيه عرقًا، وهو الجبل الصغير، وعلم النبي ﷺ أنهم يسلمون ويحجون فبين ميقاتهم. انتهى.
وذات عرق مهلُّ — بتشديد اللام — أهل العراق، وهو الحد بين نجد وتهامة، وقيل عرق: جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق، وقال الأصمعي: ما ارتفع من بطن الرمة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق.
إلى أن يقول: «وقال ابن عينية: إني سألت أهل ذات عرق أمتهمون أنتم أم منجدون؟ فقالوا: ما نحن بمتهمين ولا منجدين.
وقال ابن شيب: ذات عرق من الغور، والغور من ذات عرق إلى أوطاس، وأوطاس على نفس الطريق، ونجد من أوطاس إلى القريتين، وقال قوم: أول تهامة من قبل نجد مدارج ذات عرق.»
وبالفعل تجد نفسك إذا بلغت ذات عرق، وأنت ذاهب من مكة إلى الطائف قد ارتفعت، ونشقت هواء نجد، ثم إن الطريق من «السيل» الذي هو من ذات عرق كله صعود إلى المكان الذي يقال له اليوم: «القهاوي»، والذي يقولون: إنه كانت عنده سوق عكاظ حسبما سمعت من أهل مكة ومن أعرقهم وأعنفهم الشيخ عباد القادر الشيبي كبير بني شيبة وسادن البيت الحرام، ومن ذات عرق إلى الطائف بالسيارة مسيرة ساعتين، وبعد أن تفوت ذات عرق بنحو نصف ساعة بالسيارة تجد على يسارك مفرقًا للطريق المؤدية إلى بلاد العارض من نجد، ومن هذه الطريق يسير الملك عبد العزيز بن سعود عندما يقصد الرياض، وعليها تدرج سياراته التي تبلغ أحيانًا مائة وسبعين سيارة فتصل إلى الرياض من مكة في أربعة أيام، وهي على الجمل مسافة عشرين يومًا ولو كانت الطريق معدة كما يجب من مكة إلى ذات عرق، ومن ذات عرق إلى الرياض لكان من الممكن الوصول في أقل من يومين، إلا أن تعبيد طريق كهذه على مقتضى أصول هندسة الطرق ينبغي له أموال لا تطيقها حكومة الحجاز، ونجد في الزمن الحاضر، وهي التي لا يساعد واردها على مثل هذه الإنشاءات كلها، فإن الداخل قليل، والحمل ثقيل، والآمال متوجهة إلى تمهيد هذه الطرق تدريجًا، وأما الآن فإن درجة إصلاح هذه الطرق، هي الدرجة التي يقال لها: «على قدر الإمكان» وتعبدها السيارات بدواليبها، والخيل بحوافرها، والأباعر بأخفافها، وهلمَّ جرًّا.
(٥-١٢) الكلام على سوق عكاظ
وأما سوق عكاظ التي لم يسمع أحد بشيء اسمه اللغة العربية إلا سمع بها فليس لها من أثر سوى الخبر، وهو أنها في هاتيك المظنة، وأصل لفظة «عكاظ» هو من فعل «عكظ الشيء يعكظه» أي عركة.
وقال ابن دريد: عكظه قهره ورد عليه فخره وبه — كغراب — سوق بصحراء بين نخلة والطائف، يريد أن عكاظ على وزن غراب، وقال الأصمعي: عكاظ نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب.
وقال الزمخشري: عكاظ ماء بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له: الفنق كانت موسمًا من مواسم الجاهلية تقوم هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يومًا.
قال ابن دريد: وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون أي: يتفاخرون ويتناشدون.
قال في تاج العروس: زاد الزمخشري كانت فيها وقائع وحروب، وفي الصحاح فيقيمون شهرًا يتبايعون، ويتفاخرون، ويتناشدون شعرًا، فلما جاء الإسلام هدم ذلك.
وأنشد الجوهري لأبي ذئيب:
وقال أمية بن خلف الخزاعي: يهجو حسان بن ثابت الأنصاري:
فأجابه حسان رضي الله عنه ولو لم يكن بالذي إذا سوجل لا يملأ الدلو إلى عقد الكرب:
كأمر الوسق: أي كأمر حمل البعير. وقعض مبنيًّا للمجهول معناه: عطف. والشظاظ: خشبة عقفاء محددة الطرف، تجعل في عروتي الجواليق إذا عكما على البعير والأسد الخاظي المكتنز اللحم، وقال طريف بن تميم:
وجاء في معجم البلدان: «عُكاظ بضم أوله، وآخره ظاء معجمة، قال الليث: سمي عُكاظ عكاظًا؛ لأن العرب كانت تجتمع فيه فيعكظ بعضهم بعضًا بالفخار أي يدعك، وعكظ فلان خصمه باللدد والحجج عكظًا، وقال غيره: عكظ الرجل دابته يعكظها عكظًا إذا جسها، وتعكظ القوم تعكظًا إذا تحبسوا ينظرون في أمورهم، وبه سميت عكاظ.»
وحكى السهيلي: كانوا يتفاخرون في سوق عكاظ إذا اجتمعوا، ويقال: عاكظ الرجل صاحبه إذا فاخره، وغلبه بالفاخرة.
وقال الأصمعي: عكاظ نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له: الأثيداء، وبه كانت أيام الفخار، وكان هناك صخور يطوفون بها، ويحجون إليها، وقال الواقدي: عكاظ بين نخلة والطائف.
وذو المجاز خلف عرفة ومجنة بمر الظهران، وهذه أسواق قريش والعرب، ولم يكن فيه أعظم من عكاظ، قالوا: كانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يومًا من ذي القعدة ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز فتقيم فيه إلى أيام الحج. انتهى.
وقال في المصباح المنير: عكاظ، وزان غراب: سوق من أعظم أسواق الجاهلية وراء قرن المنازل بمرحلة من عمل الطائف على طريق اليمن.
وقال أبو عبيد: هي صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم، وهي بين نجد والطائف، وكان يقام فيها السوق في ذي القعدة نحوًا من نصف شهر، ثم يأتون موضعًا دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر، ثم يأتون موضعًا قريبًا منه يقال له: ذو المجاز فيقام فيه السوق إلى يوم التروية ثم يصدرون إلى منى، والتأنيث لغة الحجاز، والتذكير لغة تميم. انتهى.
قلت: وقوله: «وراء قرن المنازل بمرحلة» أي: وراء الوادي الذي يقال له اليوم: وادي محرم — بفتح فسكون — وسيأتي الكلام عليه، وهو من أنزه أودية الحجاز، وهو يمتد إلى ذات عرق.
وأما أن عكاظ صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم فهو صحيح، وإنما رأيت في ذلك الموضع صخورًا كبارًا ورأيت أيضًا مسايل ماء شتوية وكثير من شجر السدر، والطرفاء هذا إذا كانت عكاظ في المكان المسمى بالقهاوي.
(٥-١٣) ذكر أسواق العرب
وكان يعشوهم في هذا السوق المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم — وهو ملك البحرين — ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين فتقوم سوقهم بها.
ثم يرتحلون فينزلون إرم، وقرى الشحر من اليمن فتقوم أسواقهم بها أيامًا، ثم يرتحلون فينزلون عدن من اليمن أيضًا فيشترون منه اللطائم، وأنواع الطيب، ثم يرتحلون فينزلون حضرموت من بلاد اليمن.
ومنهم من يجوزها فيرد صنعاء فتقوم أسواقهم بها، ويجلبون منها الخرز، والأدم، والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر — مخلاف من مخاليف اليمن تنسب إليه الثياب المعافرية — ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم فتقوم أسواقهم، ويتناشدون الأشعار، ويتحاجون، ومن له أسير سعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى من له الحكومة وكان الذي يقوم بأمر الحكومة فيها من بني تميم، وكان آخر من قام بها منهم الأقرع بن حابس التميمي، ثم يقفون بعرفة ويقضون مناسك الحج. ا.ﻫ.
فيظهر للقارئ من هنا أن العرب كانوا يقصدون جعل نصيب من هذه الأسواق لكل الجزيرة العربية مما يدل على الوحدة والاتصال، فإنهم بدءوا بالشمال، وهو دومة، ثم انثنوا نحو الشرق وهو البحرين، وعمان، ثم انعطفوا إلى الجنوب وهو اليمن، ثم جاءوا إلى الغرب وهو الحجاز، والمساوف لم تكن تطول عليهم مهما تراخت، وتناءت ولو لم تكن يومئذ سيارات كهربائية، فإنه لا يوجد في البشر أقدر على طي المراحل، وإنضاء الرواحل من العربي، وهو بطبيعته يحتقر طول المسافات ولا يراها بالنسبة إلى همته شيئًا.
قال ياقوت: «وبه كانت مفاخرات الشعراء، ومجالس الخطباء، وهو الآن بائن عن البصرة بينهما نحو ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك كله عامرًا، وهو الآن خراب.» وعلى كل حال أشهر أسواق العرب عكاظ، ومن محفوظي هذا الشعر للفرزدق:
وللأخ الفاضل المؤرخ والشاعر المبدع السيد خير الدين الزركلي رأي آخر في مكان عكاظ، وإليك ما قاله في كتيبه: «ما رأيت وما سمعت» الذي ألفه على رحلته إلى الحجاز: «وعلى ذكر طريق السيل أو اليمانية لا أرى أن تفوتني الإشارة إلى أشهر سوق من أسواق العرب أعني سوق عكاظ، لوقوعها في تلك الطريق على مرحلتين من مكة للذاهب إلى الطائف في طريق السيل يميل قاصد عكاظ نحو اليمين فيسير نحو نصف الساعة فإذا هو أمام نهر في باحة واسعة الجوانب يسمونها «القانس» بالقاف المعقودة، وهي موضع سوق عكاظ الذي لا تكاد تقرأ كتابًا من كتب الأدب أو التاريخ العربي إلا وجدت له ذكرًا فيه.
وهذه الباحة التي يسمونها «القانس» هي مجتمع الطرق إلى اليمن والعراق ومكة وهي مرتفعة تشرف على جبال اليمن وبينها وبين الطائف مرحلة واحدة.
كل ذلك يدلك على ما دعا العرب في الجاهلية لاختيار هذه البقعة المتوسطة من دون غيرها لتكون مجمعهم الأكبر، ومعرضهم الأشهر ولم أجد فيما بين يدي من مصنفات التاريخ تعليلًا لاتفاق القبائل على الاجتماع في هذا المكان غير ما عرفته الآن.
والواقف في القانس أو «عكاظ» يرى على مقربة منه موضعين مرتفعين: أحدهما يسمى الدمة — بكسر ففتح — والآخر البهيتة — بصيغة التصغير — وعكاظ هو الفاصل بين الدمة، والوادي الموصل إلى الطريق التي يمر بها سالكو درب السيل اليمانية ثم نقل قول ياقوت عن عكاظ، وختم بقوله: وسمعت كثيرًا من أهل الطائف يقولون: إن عكاظًا كان في مكان يعرف اليوم باسم «القهاوي» في وادي لية من الطائف، غير أن الشيوع يؤيد ما قلناه آنفًا من أنه هو القانس نفسه، وعليه أكثر العارفين من أهل هذه الديار.» ا.ﻫ.
أفلا يحتمل أن يكونوا أقاموا السوق مرة في القانس، ومرة في المكان المسمى اليوم بالقهاوي؟ على أن قول الأخ الزركلي أن القهاوي هي في وادي لية فيه نظر؛ لأن القهاوي ليست في واد لية ولا وادي لية هو قريب من هناك فقد عرفت وادي لية وسأتكلم عليه، وهو الذي فيه الروض النضير، والماء الغزير، والدوح الكبير، والكروم التي ليس لها نظير، والرمان الذي حبه كحب اليواقيت، والذي ذكره في البلاد يسير.
فأما مكان القهاوي الذي نعرفه جميعًا فهو صحراء مستوية يابسة ليس فيها إلا سدر وطلح، وما أشبه ذلك فلا إمكان للتأليف بين هذا القول الذي سمعه، وهذا الذي أذكره أنا إلا على شرط واحد، وهو أن يكون اسم وادي لية يطلق على كل هاتيك الأراضي.
ولقد رحم الله الحجاز بعدم دخول الإفرنج إليه، وبعدم جوسهم خلاله، وبعد استطاعتهم الكتابة في جغرافيته، وتاريخه؛ إذ لو كان ذلك لرأينا العجائب والغرائب ولشهدنا النجوم طالعة في النهار، والشمس طالعة في الليل ولكانت التعليلات على مظنة سوق عكاظ، مما تضيق عن وصفه الألفاظ ولذهبوا فيه من المذاهب، وأوردوا من الفكر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فواحد يقول مثلًا: إن اختلاف هذه الروايات بين القانس والقهاوي قد يجعل ريبة في صحة كل منها — ولو قدر أن بين المكانين مسافة نصف ساعة — وآخر يقول: إن مكان سوق عكاظ الحقيقي محاط بالغموض؛ بحيث لا يقدر أن يجزم أحد بشيء، وآخر يذكر أنه توجد أسباب تدعو إلى الظن بأن قصة سوق عكاظ مخترعة لأجل أن تتخذ دليلًا على فصاحة العرب، وآخر يقدح زناد الفكر فيقول: إن كون الأقرع بن حابس التميمي حكمًا في السوق دليل على أنها لم تكن في الحجاز، بل في نجد؛ لأن بني تميم يسكنون في العارض لا في الطائف.
وإفرنجي أعرق في مذهب الشك من غيره يقول: من المعلوم أن محمدًا كان يدعو أصحابه إلى إلغاء عادات الجاهلية كلها، فأئمة الإسلام لأجل أن يؤكدوا صحة إبطال هذه العادات اخترعوا من عقولهم قصة معناها أنه كانت تقام بقرب الطائف في الجاهلية سوق يقال لها: سوق عكاظ تجري فيها المنافرات، والمفاخرات، والمساجلات بالشعر، وأن محمدًا ألغاها، وأنه يوجد أمارات كثيرة تدل على أن تلفيق قصة عكاظ هذه قد تقرر بين الخليفة والأئمة في زمن المستنصر العباسي أبي جعفر مثلًا أو في سنة ٦٢٢ للهجرة في أواخر خلافة أبيه الظاهر أبي نصر مثلًا؛ لأنه كان قد ظهر في ذلك العهد فقهاء منعوا الحرية الفكرية وكانوا بمكان من التعصب الديني، فلا يبعد أن يكون هذا الوضع وقع في ذلك العصر.
وأخيرًا: تنتهي مسألة عكاظ هذه بأنه لا وجود لعكاظ أصلًا، وأنها موضوعة بعد الإسلام بكثير، وأن روايات مؤرخي العرب عنها هي خيالية، وأن التواطؤ بين فقهاء الإسلام على اختراع قصص لأجل تأييد محمد قد كان أكثر مما يظن، وأن ثمة أسباب تدعونا أن نشتبه في كون الاشتباه الذي يتظاهر به مؤلفو الإسلام أحيانًا هو من الاشتباه الذي يدعو إلى الشبهة وما ماثل ذلك من «التحقيقات أو التحليلات» التي قراءتها تغني من أصابه تسمم في المعدة عن اتخاذ مقيئ.
ولقائل أن يقول: أهكذا تحقيقات الإفرنج، وهم الذين بلغوا من العلم والعرفان ما بلغوا؟
فأقول: حاشا أن يؤخذ كلامي هذا على إطلاقه، ومن الإفرنج العلماء المحققون الذين يتنزهون عن مثل هذه الأقاويل المقيئة ومن يعرفون أن شعر الجاهلية هو الشعر المعروف المنسوب إلى الجاهلية، وأن سوق عكاظ هي التي كانت تقام في أرض الطائف المذكورة، وأن الاشتباه في مثل هذه الأمور خطة جائرة وصفقة خاسرة، ليست من العلم في قبيل ولا دبير.
وإذا جاز أن يكون شعر الجاهلية غير صحيح لزم أن تلحق به سوق عكاظ في عدم الصحة؛ لأنها السوق التي كان العرب يتناشدون فيها ذلك الشعر الذي زعم بعضهم أنه مخترع بعد الإسلام، وعلى هذا تكون سوق المخترع مخترعة أيضًا؛ لأنه إن لم يكن المظروف صحيحًا لم يكن الظرف صحيحًا.
(٥-١٤) الكلام على صخور تلك البلاد
- أولها: إن الصخور والجنادل هي بكثرة زائدة في كل هاتيك الجبال وفي السهوب التي تتخللها.
- ثانيها: إنها قد توجد مجموعة في أمكنة معلومة متراصفة بعضها إلى بعض كأنما هي مجتمعة على ميعاد.
- ثالثها: إنه تغلب عليها الملاسة بخلاف صخور جبالنا الشامية التي تغلب عليها الحرشة إلا ما كان منها في الأودية السائلة.
- رابعًا: إن أشكال بعضها غريبة جدًّا، منها ما يشبه الشجر، ومنها ما يشبه البشر، ومنها ما تخال أنه ينظر بعيون، ومنها ما تخاله مطرقًا برأس، ومنها ما هو مجوف تجويفًا يظنه الرائي من صنع البشر، أو مثقوب من مكان إلى آخر.
وإن كثيرًا من هذه الجنادل تراه منضودًا بعضه فوق بعض وفي أعلى الجميع صخرة هي الرئيسية تشبه رأس المنارة والبدو يرون في هذا جميعه يد الباري تعالى التي جعلت هذه الأشكال لأجل العبرة في قدرته تعالى.
ولا شك في يد الله تعالى في هذا وفي كل شيء، ولكن الفرق بين العالم والجاهل هو في معرفة الأسباب المتوسطة، فالعالم يرى ثمة الأسباب، وكلما ازداد علمًا طالت معه السلسلة فلا يزال يرتقي من سبب إلى سبب، ومن معلول إلى علة حتى يقف حماره في العقبة فيقول: لا أدري أو يقول: هكذا خلق الله، وأما الجاهل فإنه يصل إلى الله رأسًا، ويحذف السلسلة المتوسطة على أن العالم والجاهل مستويان في العجز عن معرفة الكنه.
فهذه الصخور التي في الحجاز لا بد من أن تكون لأوضاعها وأشكالها هذه أسباب طبيعية متولدة عن أسباب سابقة، والذي يراها أول وهلة يحكم أن هذه التجاويف والتقاعير وهذه الملوسة وهذا التدور وهذا الترأس وغير ذلك إنما هي من عمل الريح، والماء في ملايين من السنين.
وإن هذه الصخور العالية المشرفة المنتصبة على رءوس أكوام أشبه بالأنصاب كأنها التماثيل التي ينحتها البشر بأيديهم، وينصبونها فوق مكان مرتفع إن هي إلا بقايا صخور كانت متلاصقة فلم تزل سحب الأمطار الغزيرة تجرف من حولها الأتربة اللازقة بها، وتخل بموازنة بعضها فتهوي به من محله، وتجره إلى الوادي، وتعري القائم الباقي منها، وتجرده من التراب فيصير أملس مع شدة صلابته ولقد وجب الآن أن نذكر شيئًا عن نظريات العلماء في شأن الصخور فنقول.
كيفية تشكل الصخور
كانت الأرض من قبل اليوم بمئات ملايين من السنين عرضة لهزاهز بركانية عنيفة، وكانت يومئذ غير مولدة ولا منبتة وكانت سيول الأمطار تغسل الأرض بدون انقطاع، والأنهار تجري فياضة إلى البحار، وكانت تجرف كتلًا عظيمة من الطين فتصير فيما بعد صلصالًا، ويصير المرمل منها من نوع حجر المسن.
ولقد عرَّف علماء الجيولوجيا هذه الكتلة المتجمدة وما فيها من مواد، وحكموا عليها بحسب طبقاتها؛ لأنها ذات طبقات وعندهم أن أقدم الصخور هي التي تكونت قبل تكون الأبحر المعروفة اليوم على الأرض، يومئذ كانت أسخن من أن تتحمل بحرًا منفصلًا عن بر، وإنما كانت نكرة في أول الأمر كلها مائعة ومياه البحار الموجودة اليوم كانت بخارًا مختلطًا بالهواء، وكانت الطبقات العليا من الهواء ملأى بالسحب المتكاثفة التي تمطر مياهًا حارة فوق الصخور، ثم تعود فتتبخر ثانية وبهذه الكيفية أخذت الأرض تجمد تدريجًا وظهرت الكتل التي يقال لها صخور وكانت هذه ذات قشرة تحتوي على مادة سائلة شبيهة بمقذوفات الأطمات النارية عندما تأخذ بالبرودة وهذه القشرة كانت على شكل رغوة وصارت تذوب ثم تجمد ثم تذوب ثم تجمد بدون أن يتسنى لها صلابة مستمرة.
ثم مضت ألوف من القرون كان من عملها أن بخار الفضاء ازداد تكاثفًا، وصار يتساقط ماؤه على الأرض سيولًا حارة فيصيب الصخور، ويملأ المنخفضات والأغواط؛ فتكونت من امتلاء هذه الغيطان الأبحر والبحيرات، والمستنقعات، وكانت المياه تأتي إلى هذه الصخور بالرواسب التي تكونت منها الأراضي.
ومن هذه الرواسب ما كان يتراكم في المنخفض من الأرض؛ ولكن الهزاهز البركانية كانت لا تدع شيئًا منها يطمئن، وكانت المياه تعج ولا تزال تكنس القشرة الأرضية، فهذه الصخور مضى عليها من صنوف الاضطراب ما لا يعلمه إلا صانع الجميع من العدم، وبعضها جاء طبق فوق طبق، وبعضها قد قشرته الاضطرابات، وقد برز لا يحجبه حاجب، ومنها ما انفلق، ومنها ما انحطم بعوامل جديدة من حرارة صاهرة أو برودة مؤدية إلى الجمود.
ولم تكن هذه الصخور طبقات منتظمة؛ لشدة ما مرت به من أدوار الاضطراب المختلفة، فتعذر على العلماء فهم تاريخها بسبب التبعثر، وعدم الاطراد، وفقد النسق، وغاية ما عرفوا عنها وجود المواد المستحجرة مما كان نباتًا أو حيوانًا.
فهذا قد كان بدأ اليونانيون يعرفونه قبل المسيح بأربعة قرون، وقد جرى البحث فيه بين فلاسفة الإسكندرية.
وقد كانت الأرض في آماد — لا يمكن أن يتصور العقل عددها ولا مددها — كتلة مشتعلة بدون حياة، ثم مضى عليها آماد بقدر الأولى، وهي جامدة غاية ما فيها من الحياة جراثيم في غاية الصغر تحتوي عليها أصغر نقطة من الماء؛ ولكن بعد ذلك دبت الحياة في الأرض، ووجدت المخلوقات الدابة بدليل أنهم عثروا في هذه الصخور الأصلية الرسوبية على مواد رصاصية وعلى أكسيد الحديد الأحمر والأسود مما استنتجوا منه سبق خلائق حية؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه المواد إلا بقايا خلائق كهذه.
فلما كانت الحرارة زائدة على الأرض لم تحمل الأرض الحياة؛ لأن الحياة لا تتحمل الحرارة الزائدة، وعندما تنقص الحرارة نقصًا زائدًا لا تحمل الأرض الحياة، لأن الحياة لا تتحمل بالبرودة الزائدة، كل ذلك يدل على ضرورة التوازن لأجل الحياة.
ولعل بعض القراء يشمئزون من هذه المباحث «الكفرية»، ويرون هذه التعليلات مما لا يأتلف مع العقيدة وهذا خطأ محض؛ لأن هذه الأدوار التي لا تحصى إلا بالملايين، والمليارات من السنين هي أدل على قدرة الخلاق الحكيم تعالى، وهي ولو طالت أضعاف ما هي لما أمكن أن يعلل لها وجود إلا بواجب الوجود.
وأما أن الأرض وغيرها من الأجرام الفلكية كانت كلها كتلة واحدة من البخار، ثم تفصلت كرات شتى، وأخذت كل منها تتجمد شيئًا فشيئًا، وأن مبدأ الحياة كان في الماء فليس إلا وفقًا للوحي النازل على محمد ﷺ، وهو أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
(٥-١٥) قرية لُقَيْم وكرومها ومياها
إن المسافة من المكان الذي كانت فيه سوق عكاظ إلى مدينة الطائف هي نحو من ساعة بتيسير الكهرباء، وجميع المسافة من البلد الحرام إلى الطائف بالكهرباء نحو من خمس ساعات.
وأول ما يستقبل الإنسان في مسيره إلى الطائف هي قرية لقيم — بضم ففتح فسكون — وهي قرية لطيفة فسيحة الأرجاء لا يظنها من رآها قرية واحدة وذلك لتفرق بيوتها، وتراخي ما بين حاراتها، والسبب في هذا التفرق أن أكثرها خاص بالأشراف، وأكثرهم يسكنون في بيوت منفردة مسورة تحيط بها بساتينهم، ومزارعهم، فكل واحد منهم يريد أن يعيش مستقلًّا بنفسه في منزله، وزرعه، وضرعه، وجميع مرافقه، ومعظم هؤلاء الأشراف هناك من ذوي ناصر، وأشهرهم لهذا العهد الشريف «فطن» فهو أطولهم يدًا، وأوسعهم كرمًا، وأكثرهم كروم عنب، ومما لا ينبغي أن ينسى أن عنب «لقيم» هو رأس عنب الطائف في اللذة والحلاوة وأن عنب وادي محرم؛ أي قرن المنازل هو رأس عنب الطائف في كبر الحجم مع الحلاوة وتحسبه جوزًا إذا رأيته، وقد كنا نضع منه الحبة في دورق الماء فتقف في عنقه وتسده.
وفي لقيم عدد غير قليل من السواني تحركها البقر لا بالدوران حول البير كما هو الشأن في سوريا مثلًا؛ بل بالنزول في منحدر من الأرض إلى جانب البير، ثم الصعود ثانية، فإذا نزلت الدابة في ذلك المنحدر صعدت الظروف المعلقة بالأشطان من قعر البير، وقد امتلأت ماء ولم تزل تصعد إلى أن تصير على فم القناة التي ينصب فيها الماء جاريًا إلى البركة فأفرغت الظروف ماءها ورجعت الدابة من آخر المنحدر صاعدة نحو البير فنزلت بتلك الظروف ثانية إلى قعرها لتمتلئ ماء، وهلمَّ جرًّا.
وإلى اليوم لم يعتمد أهل الطائف في القرى التي حولها على الآلات البخارية الرافعة ولا يزالون على عاداتهم القديمة في رفع المياه، وقد رغبتهم كثيرًا في استعمال المحركات البخارية لما فيها من التوفير ومن زيادة الري، وذكرت لهم كيف أن أهل المدينة المنورة قد عولوا عليها في السنين الأخيرة فوجدوا فرقًا عظيمًا في كمية الماء الذي يستفيضونه، واستخلصوا دوابهم التي كانت تهلك في هذا الصعود، وهذا النزول فاعتذروا بأن مياه المدينة أغزر من مياه الطائف، وأنه مهما رفعت الآلات منها فلا تنزحها، بخلاف مياه الطائف وجوارها؛ فإن الآلة البخارية إذا اشتغلت بضع ساعات فوق فم قليب نزحت كل ما فيه، واضطر صاحب البير أن يعطل الآلة مدة ساعات أخرى حتى يجتمع فيها كمية من الماء.
والحقيقة أن البداية كما يقال صعبة في كل عمل، وإلا فإن آبار الطائف، وقراها — وقد تحصى بالألوف — ليست جميعها سواء في النزارة ومنها آبار فائضة لا تنزحها الدلاء ولو تحركت آلاتها الرافعة ليلًا ونهارًا، وقد اقتنع بهذه الحقيقة في أثناء وجودي في الطائف صيف سنة ١٣٤٨ صاحب السمو الأمير فيصل نجل ذي الجلالة الملك عبد العزيز بن سعود — ونائبه في الحجاز عندما يكون الملك في نجد — فأراد أن يشرع هو بالعمل؛ ليقتدي به أصحاب السواني، وبعث إلى جدة فاستحضر آلة تدار بزيت الغاز، وأمر بتركيبها على إحدى أبار «شبرا» في أول الطائف، وما أظن أصحاب البساتين إلا مقتدين بعمله؛ لأنه إنما عمله لأجل أن يكون قدوة لا غير.
هذا؛ وفي لقيم سدود كثيرة للمياه إذا شاهدها الغريب ومن لم يكن يعلم طبيعة الإقليم ظن أنها أسوار للحصار، وحقيقة الحال أن الماء في هذه البلاد عزيز فإذا جاءت سحابة ملأت السهل والوعر وأسالت الأودية وقد تكون السحابة لم تستمر أكثر من ساعة، ثم تعود الأرض فتنشف كأن لم يصبها نقطة مطر.
فأهالي جزيرة العرب من قديم الدهر احتاطوا للأمطار بالسدود، والحواجز لتحويل المياه إلى أشجارهم وزروعهم، ولعدم ذهاب الماء سدى، ومن هذه السدود ما كان يضرب به المثل، وما كانت تحيا به بلدان وقبائل مثل سد مأرب مثلًا، وكيفما تقلب السائح في جزيرة العرب وجد السدود والحواجز والقنى بين كبير وصغير ناطقة بلسان حالها أنه يجب إحراز المياه بقدر الإمكان؛ لأنه لا يتيسر هنا في كل وقت، ولقد صادفنا في جوار الطائف كثيرًا من السدود القديمة الخربة ولحظنا آثار عمران دارسة، كانت في أصولها جنانًا ناضرة ومما لا مرية فيه أن جزيرة العرب ملأى بهذه الآثار ولكن ليس لها كتب تفي بالتعريف عنها إلا ما كان من كتب الهمداني.
و«لقيم» موصوفة بجودة الحنطة والحبوب ولذلك جاء في تاج العروس: «الحنطة اللقيمية الكبار السروية التي تؤتى من السراة أو نسبة إلى لقيم كزبير بلدة بالطائف موصوفة بجودة البر والشعير.»
وفي لسان العرب: لقيم اسم رجل ولا أدري أسميت هذه القرية باسم رجل اسمه لقيم أم هي تصغير لقم بمعنى طريق؟
وقد جاء ذكر «لقيم» في تواريخ الطائف.
نقل ابن فهد الهاشمي المكي المتوفى سنة ٦٢٢ في كتابه «تحفة اللطائف في فضائل الحبر ابن عباس ووج والطائف عن كتاب زيارة الطائف» لابن أبي الصيف مفتي الحرمين أن النبي ﷺ كان قد كتب إلى ثقيف كتابًا يحرم فيه صيد وج وكانت ثقيف تتوارث هذا الكتاب وتتبرك به، قال الشيخ أبو العباس الميورقي الأندلسي في كتابه «بهجة المهج» ما يلي: «قال لي تميم بن حمران الثقفي العوفي: قتل أبي رحمه الله تعالى في نوبة قتل الشريف قتادة الحسيني لمشايخ ثقيف أهل بني يسار من قرى الطائف، وانتهاب الجيش البلاد، ففقد الكتاب في جملة ما فقدناه، وهو كان عند أبي لكونه شيخ قبيلته، ثم قال الميورقي بعد ذلك: قال قاضي الطائف يحيى بن عيسى رحمه الله: قتل عيسى أبي في هذه النوبة في قرية لقيم لثلاث عشرة من جمادى الأول سنة ثلاث عشرة وستمائة، وكان موت الميورقي رحمه الله تعالى بعد موت ابن أبي الصيف رحمه الله تعالى بقليل.
قال ابن فهد المذكور: وقد زرت هذه الآثار المباركة مع والدي رحمه الله، وذلك في سنة خمس عشرة وتسعمائة خلا البئر والموقف اللذين بناحية «لية» فلم يتيسر لي زيارتهما، ورأيت المسجد الكبير الذي فيه قبر سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما خرب؛ بل سقط بعض أروقته وجدرانه وعمر بعضها عمارة ضعيفة، وكذلك بناء الآثار النبوية التي في وسطه، وأحدث به قبور لجماعة صاحب مكة السيد الشريف جمال الدين محمد بن بركات بن حسن بن عجلان الحسني — رحمه الله تعالى — منهم أم ولده الفارس الشجاع السيد هزاع، وقاصده إلى الديار المصرية الشريف عنقا ووبير الحسني، وليس بالمسجد جمعة ولا جماعة، والظاهر أنهما كانا فيه قديمًا لوجود المنبر به، وكذلك جميع القرى المتصلة بالطائف، فإني لما زرتها في المرة الأولى لم أرَ بها جمعة.
ثم إن الجناب العالي القاضي نور الدين علي بن خالص المغربي المالكي النائب بجدة بعد المقر الحسامي الأمير حسين الكردي الأشرفي لما توجه إلى جهات الهند لقتال الإفرنج المخذولين أمر أهل الطائف بصلاة الجمعة، وذلك بإشارة سيدنا العلامة المفيد رئيس الحكماء نور الدين أحمد بن محمد بن خضر القرشي الكازروني الشافعي فجمعوها في سنة خمس عشرة وتسعمائة، واستمرت إلى أن زرت الزيارة الثانية في السنة التي بعدها، وهي موجودة بعد ذلك في غير المسجد الكبير الذي فيه قبر سيدنا عبد الله بن عباس — رضي الله عنهما — فإنه منفرد عن القرى وسط التربة يصعب على أهل البلد التوجه إليه؛ لبعده عن بعضهم وكونهم لا يسمعون النداء منه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.» ا.ﻫ.
«قلت»: هذا قد كان يومًا من الأيام، فأما الآن فالجماعة تقام في مسجد ابن عباس المعمور، ويصلي فيه أهل الطائف وقراها، وفي أيام الصيف عندما يكون أهل مكة في الطائف يجتمع فيه نهار الجمعة ألوف مؤلفة، ثم جاء في كتاب «إهداء اللطائف من أخبار الطائف» للعجيمي المكي: أن في لقيم قبور بعض الصحابة والله أعلم.
وممن ذكر «لقيم» الأخ الفاضل المؤرخ السيد خير الدين الزركلي الشاعر الشهير، فقد أتى على ذكر قرى الطائف بأجمعها مما لم يرد مجموعًا ولا في كتاب.
يكفيه أن أبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني صاحب «صفة جزيرة العرب» الذي لم يؤلف أحد في بابه مثله وصاحب كتاب «الإكليل الشهير» قد ذكر طرفًا من قرى الطائف؛ لكنه لم يوفق إلى الاستقصاء الذي استقصاه الخير الزركلي فهو يقول عن لقيم ما يلي: لقيم واد طويل خصيب، يُجتاز في أقل من ساعتين، أوله مزارع الشدايين بعد المليساء، وآخره قرية الصفاة على ما يزعمون، وعندي أن آخره جبل رغاف، وهو كثير القرى والمزارع، وقد أتيت على أسمائها في موضعها.
وفي كتاب العجيمي أن لقيمًا قرية كبيرة مشتملة على بساتين ومزارع وآبار، ثم قال: وهي مسكن جماعة من ثقيف يقال لهم: الحمدة، وقد قتل صناديدهم الشريف زيد بن محسن في حدود سنة ١٠٤٠ لخروجهم عن طاعته. ا.ﻫ.
والذي صح عندي أن جماعة ثقيف يسكنون قرية المليساء، وقد تدعى باسم الحمدة الذين ذكرهم العجيمي لسكناهم بها إلى الآن، أما لقيم ففيه من ثقيف وغيرها من قبائل العرب عدد غير قليل منتشرون في مزارع هذا الوادي وقراه، وأما إطلاق اسم القرية عليه فلا أعلم له وجهًا إلا أن كانت فيه قرية تدعى لقيمًا تغير اسمها بعد زمن العجيمي وأطلق الاسم على الوادي كله. ا.ﻫ.
قلت: المعروف الآن أن لقيمًا هي هذه البيوت التي تمر بها تارة تراها عن يمينك وتارة عن شمالك قبل دخولك إلى الطائف، فأما الحدود الأصلية للقيم فلم أستعلم عنها ولعلها كما قال الفاضل الزركلي.
وقرأت مرة في أحد كتب الأدب أبياتًا لرجل اسمه اللقيمي نظمها لتنقش على قبره وضمنها بحساب الجمل تاريخًا يوافق سنة ١١٧٨ وآخر هذه الأبيات هو هذا:
هذا ما حضرني من أمر لقيم، ولا بد لي من أن أردفه بهذه النادرة لوقوعها فيها.
(٥-١٦) الأمن الشامل في بلاد الملك العادل الإمام عبد العزيز آل سعود
كنت صاعدًا مرة من مكة إلى الطائف، وكانت معي عباءة إحسائية سوداء جعلتها وراء ظهري في السيارة فيظهر أنها سقطت من السيارة في أرض لُقَيْم، ولم ننتبه لها، فأخذ الناس يمرون فيرون هذه العباءة ملقاة على قارعة الطريق فلا يجرؤ أحد أن يمسها، بل شرعت القوافل تنكب عن الطريق اللقم عمدًا حتى لا تمر على العباءة خشية أنه إذا أصاب هذه حادث يكون مَنْ مر مِن هناك مسئولًا، فكانت هذه العباءة على الطريق أشبه بأفعى يفر الناس منها، بل لو كانت ثمة أفعى ما تجنبوها هذا التجنب كله؟
وأخيرًا وصل خبرها إلى أمير الطائف محمد بن عبد العزيز من سلالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأرسل سيارة كهربائية من الطائف أتت بها، وأخذ بالتحقيق عن صاحبها فقيل له: إننا نحن مررنا من هناك، وإن الأرجح كونها سقطت من سيارتنا، فجاء الأمير ثاني يوم يزورنا وسألنا: هل فُقد لكم شيء من حوائجكم في أثناء مجيئكم من مكة؟
فأهبت برفاقي ليتفقدوا الحوائج فافتقدوها فإذا بالعباءة السوداء مفقودة، وكنا لم ننتبه لفقدانها، فقلنا له: عباءة سوداء إحسائية قال: هي عندنا وقص علينا خبرها.
وقد أتيت على هذه النادرة هنا مثلًا من أمثال لا تعد ولا تحصى من الأمن الشامل للقليل والكثير في أيام ابن سعود مما لم تحدث عن مثله التواريخ حتى اليوم، فالمكان الذي سقطت فيه العباءة كان في الماضي كثيرًا ما تقع فيه وقائع السلب والقتل، ولا يمر الناس فيه إلا خائفين؛ فأصبح إذا وجدت لقطة هناك على قارعة الطريق تجنب الناس الطريق؛ لئلا يتهموا بها إذا فقدت، وكل يوم يأتي الشرطة والخفراء والعسس بلقط وحاجات ضائعة مما فقده السفار أو سقط بدون انتباه عن الأكوار وذلك إلى دائرة الأمن العام فتبحث عن أصحاب هذه اللقطات وتردها لهم بتمامها مما يقضي بالعجب.
وأنك لتجد هذا الأمن ممدود الرواق على جميع البلدان التي ارتفعت فيها آية. ابن سعود من منجد ومتهم ومعرق ومشئم بدون استثناء، وقد علل بعضهم هذا التأمين البليغ للسوابل بأنه من أركان عقيدة الوهابيين الذين يقولون:
قلت: أيًّا كان السبب في هذا الأمان؛ فإنه نعم العمل، ولا يوجد معنى للحكومة إن لم تكن أول ثمراتها الأمن والعدل، ولو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال، على الأرواح والأموال، التي جعلت صحاري الحجاز وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوروبية، لكان ذلك كافيًا في استجلاب القلوب إليه، واستنطاق الألسن في الثناء عليه، فاليوم تجد التاجر والفلاح، والحادي والملاح، والحج القاصد على الطوامر أو على الجواري المنشآت والدسر والألواح، يتحدثون بنعمة هذا الأمن الذي أنام الأنام بملء الأجفان، وجعل الخلق يذهبون ويجيئون في هاتيك الصحاري، وقد يكون معهم الذهب الرنان، وهم بلا سلح ولا سنان، فلا نريد من هذه الجهة مزيدًا؛ وإنما نرجو لهذه النعمة الدوام، فلا عمران للبلاد إلا بالأمان والاطمئنان.
(٥-١٧) ذكر أمير الطائف الملقب بالصحابي
ليس أمير الطائف المشار إليه هو المنفرد بمزية الضبط والربط في الإمارة التي عهد بها إليه، بل هذه الحلية عامة للإمارات والولايات التي يظللها لواء ابن سعود كلها، إلا أن أمير الطائف محمد بن عبد العزيز … بن عبد الوهاب — وهم يقولون: ابن الشيخ — هو نسيج وَحْدِهِ في أخلاقه وتقواه وورعه، ونقاء سريرته وزكاء سيرته، فقد ندر أن ينعقد الإجماع على حب وال انعقاده على حب أمير الطائف الذي لم أسمع من أحد من أهالي هذه البلاد — حضرها ووبرها — إلا نعمة واحدة بحقه، وهي الثناء الجميل، ولحسن أخلاقه واستقامة طباعه يلقبونه «بالصحابي»، وقد أقمت بالطائف زهاء أربعة أشهر، وهي مدينة صغيرة لا يخفى فيها شيء، فما عرفت عن هذا الملقب بالصحابي إلا ما يثبت لهذا الرجل مثل أخلاق الصحابة أكثر الله من أمثاله.
(٥-١٨) الكلام على الطائف
أول ما يدخل الإنسان إلى الطائف، بل أول ما يطل على لقيم يشعر بالسرور، وينشرح صدره انشراحًا لا يعهده إلا في النادر من البلدان.
نُقل عن الأصمعي أنه قال: دخلنا الطائف فكأني كنت أبشر وكأن قلبي ينضح بالسرور، ولا أجد لذلك سببًا إلا انفساح حدها وطيب نسمتها.
قلت: أما انفساح حدها فإنها في بسيط من الأرض أفيح، يسرح فيه النظر ما شاء أن يسرح، وحولها بعض جبال عالية تُرى من بعيد، وأهاضيب ترى من قرب، وجميعها لا تغم الطائف في شيء، وهي مع هذا الانفساح والانفراج والاستواء في الأرض تعلو نحو ألف وستمائة متر عن سطح البحر، وأما طيب النسمة فإنك تحس فيها من الانتعاش وسعة التنفس ما لا تشعر به في مكان.
وقد كان أصابني في سويسرا زكام في شُعب الرئة؛ لعل أصله من البرد، فكان يضيق به نفسي كثيرًا لا سيما إذا استطال الشغل، فما مضى عليَّ في الطائف إلا قليل حتى ذهب هذا الزكام بتمامه، وصار الهواء يجري في رئتي كأنه في صحراء.
ولما رجعت إلى أوروبا قال لي الأطباء بعد المعاينة: إنه لم يبقَ هناك أثر لشيء يقال له زكام في شعب الرئة، ولم يكن هذا بأول فضل للطائف عليَّ، بل هواء الطائف هو الذي شفاني بإذن الله — بل الله هو الذي شفاني به — من الضعف الذي كنت منه على شفا، فلا عجب فيما رواه ابن عراق من أنهم كانوا يغبطون من يصيف بالطائف، وفيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان من قوله: أنعم الناس عيشًا من يقيظ بالطائف ويشتو بمكة ويربع بجدة.
وقال الفاكهي في تاريخ مكة: كان للطائف خطر عند الخلفاء فيما مضى، وكان الخليفة يوليها رجلًا من عنده، ولا يجعل ولايتها إلى صاحب مكة.
ووُجد بخط الشيخ أحمد العبدري الميورقي المتوفى سنة ٦٧٨ أنه وقع الكلام في ترجيح سكنى الحجاز على سائر الآفاق، ثم وقع الترجيح بين نواحي الحجاز ومكة والمدينة فوقع الاتفاق على أن الطائف أقرب للسلامة والسُّنة؛ لعدم مصاحبة أهل الأهواء ورؤية من يقسي القلب من ذوي الأطماع، ولم تزل الطائف مصيفًا لمكة جاهلية وإسلامًا إلى يومنا هذا، وهي في نظري حارة من مكة خاصة بأيام الصيف ولا غنى لمكة عنها.
أول ما يستقبل الإنسان من الطائف هو قصر شبرة الذي يخص الأشراف ذوي عون، وهو قصر شاهق حوله بستان طويل عريض هو أكبر بستان في الطائف، وجميع الأراضي التي هناك على مسافة بعيدة هي من مضام القصر، وقد بنى إلى جانبه الشريف علي باشا أمير مكة سابقًا — وهو مقيم الآن بمصر وعهدي به يسكن بجوار قصر القبة بضاحية الزيتون من ضواحي القاهرة — قصرًا بديعًا ملوكيًّا، أنفق عليه عشرات الألوف من الجنيهات، فجاء أفخم بنية في الطائف؛ بل في جميع الحجاز، وفي هذا القصر نزل السلطان وحيد الدين محمد السادس آخر سلاطين بني عثمان عندما جاء إلى الحجاز بعد خلعه؛ وذلك بدعوة الملك حسين بن علي الذي كان صاحب الحجاز وقتئذ.
وعندما يصيف في الطائف الملك عبد العزيز بن سعود صاحب الحجاز ونجد وملحقاتهما يكون نزول جلالته بهذا القصر.
وهكذا كانت إمارة الحجاز منحصرة في ذوي زيد إلى أن استولى الوهابيون على الحجاز، وعجزت الدولة عن إخراجهم منه، فرمتهم بمحمد علي والي مصر الذي جرد عليهم الجيوش، ولبث يقاتلهم نحو عشر سنوات إلى أن أخرجهم من الحجاز، فكان اقتراحه على الدولة إخراج إمارة الحجاز من ذوي زيد وتولية أمير من غيرهم من الأشراف، فتلكأت الدولة بادئ ذي بدء عن إجابة طلبه إلا أنه ما زال يلح بذلك ويبرم إلى أن تمكن من تولية الشريف محمد بن عون أميرًا على مكة، ومن ذلك الوقت صارت الإمارة مداولة بين الفرعين ذوي زيد وذوي عون بعد أن كانت منحصرة في الفرع الأول.
وقد كان يحدثني في الأستانة بهذه الأمور التاريخية الشريف عبد الإله باشا أخو الشريف عون الرفيق باشا الذي كان تولى إمارة مكة من ٢٠ سنة في أيام السلطان عبد الحميد، وهو عم الملك حسين، وقد تولاها الشريف عبد الإله نفسه أيضًا عند وفاة أخيه؛ لكنه توفي إلى رحمة ربه قبل أن يبرح الأستانة، وكان الشريف عبد الإله — رحمه الله — ذا مقام سام في عاصمة آل عثمان، وكان على خُلق عظيم لا يعرفه أحد إلا بالغ في إجلاله، وقد كنت كثيرًا أسمر عنده، وكان له إليَّ ميل أكيد وبي ثقة شديدة، فقلما كان يسترسل في الكلام السياسي في مجالسه إلا أمامي، وكان يحدثني إذا خلا المجلس بقصص كثيرة من جملتها هذه القصة، وهو أن محمد علي باشا جد الأسرة المالكة بمصر هو الذي نصب والده محمد بن عون أميرًا على الحجاز، وهو الذي وهبه الأراضي التي لهم في مصر، وهو الذي أولاهم تلك النعم الجسام.
ومنذ أصبحت إمارة الحجاز بين هذين الفرعين اشتد الخلاف بينهما كما هو بدهي، وقد اختلفا في كل شيء إلا في شيء واحد وهو أنهم جميعًا اتفقوا على الاستئثار بأحسن الأراضي وأجمل المواقع في ذلك القطر، ولا سيما الطائف ونواحيها وقد يكون ذلك خيرًا للبلاد؛ لأنهم بمكانهم من الإمارة أقدر على العمارة والتأثيل من غيرهم.
ففي الطائف المياه كلها ترفع بالسواني، وليس في البساتين إلا آبار مركبة على أفواهها الدواليب، والماء الجاري من نفسه هناك إنما هو عينان غزيرتان لا غير؛ إحداهما: عين سلامة، والأخرى: عين المثناة.
فأما عين سلامة: فهي تخرج في قرية بهذا الاسم هي الآن حارة من حارات الطائف واقعة على جانب الوادي الذي يقال له وج، قال الهمداني في صفة جزيرة العرب: وفي قبلة الطائف حائط أم المقتدر الذي يدعى سلامة، فيظهر أنه كان لأم الخليفة المقتدر هناك بستان يسقى بهذه العين.
وقال ياقوت في معجمه: السلامة بلفظ السلامة ضد العطب، قرية من قرى الطائف بها مسجد للنبي ﷺ، وفي جانبه قبة فيها قبر ابن عباس وجماعة من أولاده، ومشهد للصحابة — رضي الله عنهم.
وقال الشيخ حسن العجيمي المكي في كتابه إهداء اللطائف: ومنها قرية السلامة وهي كثيرة البيوت والبساتين وبها عين، ولا أعلم متى كان ابتداء عمارتها إلا أنها كانت معمورة في أوائل القرن التاسع، وبها كان ينزل أعيان مكة وفضلاؤها؛ بل غالب أهلها، ثم خربت في حدود الثمانين وتحول أهلها عنها، ولم يبقَ منهم إلا القليل … إلخ.
وقال الخير الزركلي حفظه الله في «ما رأيت وما سمعت»: سلامة قرية محاذية للطائف من جهة باب ابن عباس كثيرة البيوت بعضها عامر وبعضها خرب، سكانها قليلون من قريش وغيرها، ثم قال: هي الآن في ظاهر البلدة يفصل السور بينها وبين قبة ابن عباس، ثم قال: إن الشريف سرورًا نزل بها سنة ١١٩٣، وهذا دليل على أنها كانت عامرة لعهده. انتهى.
والشريف سرور هو جد الشريف عبد المطلب جد ذي السمو الأمير علي حيدر نزيل بيروت اليوم.
فعين سلامة هذه جرها الأمراء ذوو عون إلى شبرة على مسافة نصف ساعة وتركوا منها مشارع لورود الأهالي، وأحدثوا عليها هذا البستان البديع الذي حول ذلك القصر.
وأما المثناة: فهي على مسافة ثلاثة أرباع الساعة من الطائف نحو الغرب، وتعد أجمل مزرعة في الطائف وادي وج الشهير على جانبيه البساتين والجنان الغناء مشتبكة اشتباك الغاب الأشب وعين ماء مجرورة بقنى تحت الأرض من مسافة ساعة ونصف من ناحية جبل بَرَد — بالتحريك — أعلى جبل في أرض الطائف، وهذه العين هي أغزر عيون تلك البلاد تصب في الثانية ٤٤ ليبرة، ويسقى منها نحو ٤٠ بستانًا في المثناة، ثم تنحدر فضلة المياه صوب الطائف، وجميع هذه البساتين وما فيها من قصور وأبراج تخص الأشراف ذوي زيد، ومنها شيء لأشراف آخرين يقال لهم: الشنابرة، وفي هذه المثناة من الفواكه من العنب، والسفرجل، والخوخ الذي يقال له في الشام: الدراقن، ويقال له في اليمن والحجاز: الفرسيق ما هو من الطبقة العليا في نوعه.
ويلفظون «المثناة» بالثاء المثلثة وكنت ظننتها من غلط العوام، وأن أصلها المسناة بالسين المهملة، وذلك أنه يقال: إن القوم يسنون لأنفسهم إذا استقوا، ويقال: السحابة تسنو الأرض أي: تسقيها، فقد تكون بمعنى مكان السقيا، وأقرب من هذا أن تكون مخففة من «المسناة» وهي السد الذي يعترض الوادي حتى لا تطغى مياهه على الأرض، وفي لسان العرب: المسناة ضفيرة تبنى للسيل لترد الماء، سميت مسناة لأن فيها مفاتح للماء بقدر ما تحتاج إليه مما لا يغلب مأخوذ من قولك: سنيت الشيء والأمر إذا فتحت وجهه. ا.ﻫ.
وفي فتوح البلدان للبلاذري المتوفى سنة ٢٧٩ ما يلي: فلما كان زمن قباذ بن فيروز انبثق في أسافل كسكر بثق عظيم فأغفل حتى غلب ماؤه وغرق كثيرًا من أرضين عامرة، وكان قباذ واهنًا قليل التفقد لأمره، فلما ولى أنوشروان ابنه أمر بذلك الماء فردم بالمسنيات — جمع مسناة — حتى عاد بعض تلك الأرضين إلى عمارته. انتهى.
بقي علينا وجه تأويل آخر وهو أن تكون من «تنأ» أقام، وقد سهلوا الهمزة فصارت «تنا»، وجاء منها اسم مكان «المتناة» أي: محل الإقامة — ولعمري لنعم محل الإقامة هي — ثم إن العامة حرفتها من التاء إلى الثاء، فهذا كل ما يخطر لي من جهة هذه اللفظة.
ثم إني لما عزمت على الكتابة عن الطائف — وكان بلغني أن في المكتبة التيمورية بمصر بعض تآليف عن الطائف ووج — كتبت إلى ذلك العالم الفاضل الكبير، الذي من أي الجهات اعتبرته فهو أمير، أحمد باشا تيمور قدس الله روحه ونور ضريحه، أرجو منه إذا كانت عنده كتب في هذا الموضوع أن يأمر لي باستنساخها على نفقتي، فكان منه أنه لم يمضِ على رجائي هذا الخمسة عشر يومًا حتى جاءني منه أربعة تآليف في هذا البحث مصورة بالفوتوغرافية بالمطبعة السلفية الشهيرة، ومجلدة تجليدًا مذهبًا، وهذه الكتب هي: «إهداء اللطائف من أخبار الطائف» تأليف الشيخ حسن ابن الشيخ علي العجيمي المكي الحنفي من علماء أواخر القرن الحادي عشر، و«تحفة اللطائف في فضائل الحبر ابن عباس ووج والطائف» للشيخ محمد جار الله بن عبد العزيز بن عمر بن محمد الشهير بابن فهد المتوفى سنة ٩٢٢، و«نشر اللطائف في قطر الطائف» لابن عراق من المتأخرين، وهو الشيخ نور الدين علي بن محمد بن عراق الشامي، و«رسالة في فضائل سيدنا ابن عباس والطائف» للشيخ محمد بن عبد الكريم التنوي الذي كان في أواسط القرن الثاني عشر.
وتكرم رحمه الله بإرسال بطاقة أنيسة، مع هذه الهدية النفيسة، قابلته عليها بكتاب شكر طائل أودعته ما خطر ببالي من جهة لفظة «المثناة» أو «المسناة» فأجابني مستحسنًا ما رأيته إلا أنه قال: إن روايات الكتب المؤلفة عن الطائف متفقة على كونها بالثاء، فضلًا عن تلفظ أهالي الحجاز بها بالثاء أيضًا، وقد كان كتاب تيمور باشا هذا من آخر ما خطه قلمه؛ لأن المصاب بوفاته — رحمه الله — وقع بعد تاريخ المكتوب بخمسة عشر يومًا.
ويمتد وقف الأشراف ذوي زيد من المثناة إلى نفس الطائف بجنان وبساتين منتظمة بلبة وج، متابعة له إذا استوى أو إذا اعوج، وهي من أنزه ضواحي تلك البلدة أو ألطفها، وأن أشهرها سانية «حوايا» ذات الصهريج الكبير، والروض النضير، وبالاختصار كيفما توجه الإنسان في الطائف؛ بل في الحجاز كله بين نهائمه ونجوده وبواديه وحواضره يجد الأماكن الشريفة للأشراف، ففي لقيم أشرف الأماكن للأشراف، وفي وادي لية أشرفها للأشراف، وفي وادي وج أشرفها للأشراف، وفي وادي فاطمة الذي بقرب مكة يمتد بساتينه ١٥ ساعة أحسن البقاع للأشراف، وهلم جرًّا.
أما أن الطائف هو قطعة من الشام جعلها الله في الحجاز، وما ورد في ذلك من الآثار والأحاديث المنقولة في التواريخ التي اطلعنا عليها، وفي غيرها مما لم نطلع عليه، واطلع عليه الأخ الزركلي ككتاب: «عقود اللطائف في محاسن الطائف» للشيخ عبد القادر الفاكهي المكي المتوفى في أواخر القرن العاشر، وكتاب الشيخ أحمد بن علي العبدري الميورقي الأندلسي ثم الطائفي الوجي مسكنًا المتوفى سنة ٦٧٨ بعد ذهاب وطنه ميورقة بخمسين سنة، فكل هذا نحن نحمله على المجاز، وذلك أننا إذا قلنا: زيد أسد فلا يكون المراد أنه هو هذا الحيوان المفترس، بل إنه في شجاعته كالأسد، وإذا قلنا: زيد بحر، فلا يكون المعنى أنه هو هذا الماء الكثير المتلاطمة أمواجه، وإنما هو كناية به عن الكرم، أو العِلم، أو الحلم، وإذا قلنا: زيد جبل فما يراد بذلك إلا المتانة، والرصانة، والثبات، وإذا نظرنا إلى الحديث الشريف: «إن من البيان لسحرًا ومن الشعر لحكمة.» لم يمكننا تأويل أن من البيان لسحرًا إلا بالمعنى المجازي كما لا يخفى، وذلك بأن من البيان ما يستولي على العقول، ويأخذ بالألباب، لا أنه هو من السحر المحرم.
وهكذا حديث: «إن الطائف قطعة من الشام جعلها الله في الحجاز.» أو حديث ما هو بمعناه لا أفهمه إلا على هذا الوجه، وهو أن الطائف وأراضيها شامية في فواكهها وثمراتها وعذوبة مائها، وبرودة هوائها، ومن هناك لم يبقَ حاجة لإرخاء بعض المفسرين العنان لتخيلاتهم في كيفية اقتلاع بلاد الطائف من أرض الشام ووضعها في الحجاز.
هذا زائدًا إلى أن أكثر هذه الأقوال هي آثار وأخبار ليست من الأحاديث المقطوع بها، ونحن نعلم أن الأحاديث المتواترة التي لا يتطرق الشك إلى صحة تلفظ النبي ﷺ بها هي أحاديث معدودة، وأن الأحاديث مهما جاءت على شروط الصحة والثبوت المعروفة عند المحدثين فلا يزال مجال للقول في أسانيدها واسعًا؛ لأن الكلام إذا نقله واحد عن واحد فلا بد أن يتغير فيه شيء بالزيادة أو النقصان أو تغيير لفظة بلفظة مهما كان الناقل قوي الذاكرة، ولقد ثبت أن أكثر الأحاديث مروي بالمعنى.
وجاء في الطبقات عن سائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدث عن النبي ﷺ حديثًا حتى رجع، ثم جاء عن يحيى بن عباد عن شعبة أنهم دخلوا على سعد بن أبي وقاص فسئل عن شيء فاستعجم فقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة.
وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد عن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته يحدث فيها عن رسول الله ﷺ ولا يقول فيها قال رسول الله ﷺ، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله ﷺ فعلاه الكرب حتى رأيت العرق ينحدر عن جبهته ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك وإما قريب من ذاك وإما دون ذاك.
مواقع الطائف وهواؤها وماؤها
وأما فضل الطائف في صقعها وجودة مائها وهوائها فهو مما تواطأ عليه المحسوس والمأثور، ولست مستغرب قول بعض المفسرين لقوله تعالى: لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ: إن المراد بالقريتين مكة والطائف، وكذلك أنا أستحلي ما رواه صاحب تحفة اللطائف من قول بعضهم: إن الطائف من تعاليق مكة؛ أي: من مضافاتها، وعندنا في بر الشام إذا بنيت قرية في طرف قرية نسبت إليها، وقيل: إنها «معلقة» لها فيقال مثلًا: «معلقة زحلة»، و«معلقة الدامور»، وهلم جرًّا، فما أجدر الطائف بأن يقال لها: «معلقة مكة»، ولعمري لنعم المعلقة هي، ولا نزاع أنهما في الأمصار كالمعلقات السبع في الأشعار، ومن الحديث النبوي المأثور: «الطائف من مكة ومكة من الطائف» كررها ﷺ ثلاث مرات.
ولقد جاء بعض الأحاديث التي نقلها الميورقي ورواها العجيمي صاحب «إهداء اللطائف» أن الطائف من مكة ومكة من الطائف، ونقل الميورقي عن سطيح: أنه ستكون فتن في آخر الزمان، خير الناس في ذلك الزمان من كان بجدارات الطائف إلى عرقوب بجيلة، قال الميورقي: إنه حديث ضعيف، وقال العجيمي: إلا أنه يشهد له حديث الترمذي عن عمرو بن عوف، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها.» قال في القاموس: والحجاز مكة والمدينة والطائف ومخاليفها كأنها حجزت بين نجد وتهامة. انتهى.
قلت: وزاد صاحب تاج العروس؛ اليمامة، فقال: إنها من الحجاز، وقال في شرح قوله: إنها حجزت بين نجد وتهامة، أو بين الغور والشام والبادية أو بين الغور ونجد، ثم قال صاحب القاموس: أو بين نجد والسراة أو لأنها احتجزت بالحرار الخمس، فقال صاحب التاج في شرحها: حرة بني سليم، وحرة وافم، وحرة ليلى، وحرة شوران، وحرة النار، وهذا قول الأصمعي.
وقال الأزهري: سمي حجازًا؛ لأن الحرار حجزت بينه وبين عالية نجد، قال: قال ابن السكيت: ما ارتفع عن بطن الرمة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق، وما احتزمت به الحرار حرة شوران وعامة منازل بني سليم إلى المدينة فما احتاز في ذلك كله حجاز، وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج، وأولها من قبل نجد مدارج ذات عرق، وقال الأصمعي: إذا عرضت لك الحرار بنجد فذلك الحجاز وأنشد:
أراد بالحجاز الحرار. انتهى.
قال العجيمي في تفسير: «عرقوب بجيلة» العرقوب: ما انحنى من الوادي وطريق في الجبل، والعراقيب خياشيم الجبال والطريق الضيقة في متونها، وتعرقب أي: مسلكها كذا في القاموس. انتهى.
قلت: وزاد صاحب التاج أن العرقوب هي الجبل المكلل بالسحاب، هذا وقد جرت التسمية بالعرقوب كثيرًا في بلادنا الشامية؛ ففي جبل لبنان داخل قضاء الشوف ثلاث نواحٍ باسم العرقوب؛ وهي العرقوب الجنوبي والعرقوب الشمالي، والعرقوب الأعلى، وهي أودية يخرج من أحدها نبع الباروك، ومن الآخر نبع الصفا ونبع القاعة، وهي من أشهر ينابيع الأرض في العذوبة لا ينابيع لبنان وحده، وفي جبل الشيخ ناحية يقال لها أيضًا: العرقوب تابعة لقضاء حاصبيا.
وأما عرقوب بجيلة في الحجاز فهو منسوب إلى بجيلة — كسفينة — وهي قبيلة اختلف في نسبها فقال ابن الكلبي: إنها حي من اليمن، وروي عن مصعب بن الزبير أنها من نزار، وقال صاحب القاموس: إنها حي في اليمن من معد، قال الزبيدي في التاج: إن صاحب القاموس أراد أن يجمع بين القولين.
وقال الإمام مالك رضي الله عنه: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لبيت بركبة أحب إليَّ من عشرة أبيات بالشام، نقل ذلك ابن فهد محمد جار الله بن عبد العزيز صاحب «تحفة اللطائف»، وقال ابن وضاح: ركبة موضع بين الطائف ومكة في طريق العراق.
قال ابن فهد نقلًا عن ابن وضاح: يريد — أي عمر — والله أعلم لطول الأعمار بها وشدة الوباء بالشام، ثم أخذ بعضهم يعترض على هذا التأويل قائلًا: إن مراد عمر بهذا التفضيل قرب هذا المكان أي: ركبة من مكة والمدينة.
قلت: لا وجه لهذا القول؛ لأنه إن كان مراد سيدنا عمر رضي الله عنه هو قضية القرب من مكة والمدينة فهذه مزية لم تختص بركبة؛ بل اشتركت بها بقاع لا تعد ولا تحصى، وكم من مكان أقرب إلى مكة أو إلى المدينة من ركبة هذه التي هي على مسافة يوم ونصف يوم من مكة، وما أرى عمر قصد إلا طيب الهواء والبعد عن الوباء كما قال ابن وضاح، فالشام هي مضرب الأمثال في جودة الماء والهواء، ومع هذا فإن عمر يرى بقعة مثل ركبة من بقاع الطائف أفضل منه للسكنى، وأنا لم يقسم لي الذهاب إلى ركبة، وإنما سمعت من أهل الطائف الشيء الكثير عن طيب نجعتها وبهجة روضها لا سيما في أيام الربيع.
قد أبى الله إلا أن يجعل بإزاء كل سهل صعبًا، ومع كل سرور حزنًا، وألا يدع الكمال نصيب شيء من هذه الدنيا، فكثرة المياه في القطر الشامي التي هي مصدر رخائه، مرجع نضارته وبهائه، هي أيضًا سبب وبائه، وشدة بلائه، فقد ثبت أن الأوبئة تتفشى بالبلاد التي تشرب من الأنهار، أكثر مما تتفشى بالبلاد التي تشرب من الآبار؛ وذلك لأن الميكروب إنما ينمو في الماء، وإذا كان الماء مما يشترك الخلق في وروده كانت العدوى به أكثر كما لا يخفى.
- الأول: وفرة الأكسجين في هواء تلك الجبال العالية.
- والثاني: قلة المياه الجارية فيها على الضد من جبال الشام، والمياه هي التي تنقل الجراثيم بواسطتها، فمن أين تتفشى الأوبئة في ركبة ونواحيها، ومن أين تتكون فيها المستنقعات التي تنشأ عنها الحميات؟ فهذا ما أراده سيدنا عمر بن الخطاب، بقوله: لبيت بركبة أحب إليَّ من عشرة أبيات بالشام.
وسبق أن روينا عن الأصمعي — ولم يكن الأصمعي بليدًا — قوله: دخلنا الطائف فكأني كنت أبشر، وكأن قلبي ينضح بالسرور، وما أجد لذلك سببًا إلا انفساح حدها، وطيب نسمتها.
ولا أظن أحدًا دخل الطائف إلا وشعر بهذا الانشراح في صدره، والانفساح في رئته، ولو كانت الطائف مربوطة بسكة حديدية بجدة لقصدها المصطافون من مصر والشام، وسواحل جزيرة العرب.
عمران الطائف وتقلصه بعد الحربين
وقد كانت الطائف في أيام الدولة العثمانية معمورة حافلة، قيل لي: إنه كان فيها ما يقرب من خمسة عشر ألف نسمة، فقد كانت إمارة مكة والولاية وقيادة الجيش والأجناد كلها والدوائر الرسمية تنقل إلى الطائف وتقيم بها مدة ٦ أشهر؛ وكان بسبب ذلك يزداد توارد الخلق عليها من مكة وغيرها، وتعمر أسواقها ويكثر الأخذ والعطاء فيها، وقيل لي: إنه كان فيها ١٥٠ طبيبًا بين ملكي وعسكري، وكان كل ما يوجد بمكة يوجد فيها.
فبعد الحرب العامة تقلص عمرانها، وخف قطينها، حتى عادت كالعرجون القديم، فلم يبقَ فيها إلا نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف ساكن، وصارت أكثر البيوت خاوية على عروشها، فتداعت من نفسها، ومن البيوت ما عملت فيه القنابر في أثناء حصار العرب للأتراك فيها، فهذه كانت المرحلة الأولى من مراحل بوارها.
وأما المرحلة الثانية فقد كانت في حرب الوهابيين مع الملك حسين، فقد زحف إليها سلطان بن بجاد شيخ عتيبة والشريف خالد بن لؤي وحاصراها بجمع كان يعجز عنها لو صادف فيها حامية مستبسلة موطنة نفسها على الكفاح؛ لأنها مسورة من كل جهاتها، وقد كانت فيها مدافع وأعتاد كافية للمقاومة، فأوقع الله الوهن في قلب أمراء الحامية التي كانت من قبل الملك حسين، فانهزموا لا يلوون على شيء، ودخلت عتيبة وأولئك الأعراب الغلاظ الشداد ففتكوا بأهلها فتكة شنيعة ملأت شناعتها الخافقين، وقتلوا بضع مئات من الأهالي الوادعين وانتهبوا البلدة وخربوا ما قدروا على تخريبه.
وكان بين القتلى جماعة من العلماء والخواص، ومنهم ويا للأسف المرحوم السيد حسن الشيبي مبعوث الحجاز ونجل الشيخ عبد القادر الشيبي كبير سدنة بيت الله الحرام، وقد كان رحمه الله زميلي في مجلس المبعوثين في الأستانة، وكان من ذوي الشهامة والأخلاق الزكية، وكانت بيننا مودة أكيدة.
فانتهز أعداء الملك ابن سعود في هذه الوقعة الفرصة للطعن فيه، وحاولوا إيهام الناس أنه كان راضيًا عن هذه الفعلة، وحاشا له من ذلك فإنها وقعت بدون أن يعلم بها وقبل أن يكون جاء إلى الحجاز، ولما نما إليه خبرها بمكانه من نجد ارتمض جدًّا، وأصدر الأمر تلو الأمر تحت الإنذار بالقتل بعدم التعرض لأحد من الأهالي وبالدخول إلى البلد الأمين بدون سلاح، فدخل الوهابيون مكة بدون سلاح، وطافوا واعتمروا ولم يمسوا أحدًا بسوء مما يشهد به كل أهل مكة.
فأما فاجعة الطائف فقد سبق فيها السيف العذل، وبقيت في قلب الملك عبد العزيز منها حزازات على سلطان بن بجاد لم يثبطه عن عقابه على ما فعله في الطائف سوى حداثة عهده بالاستيلاء على الحجاز، والتربص ريثما تستتب الأحوال، فاكتفى الملك بادئ ذي بدء بتضميد جراحات أهل الطائف ومؤاساتهم، والتعويض عليهم، ولم يتعرض لسلطان بن بجاد بسوء رعيًا لسابق عهده، حتى فتح هذا على نفسه الباب، وخرج هو وفيصل الدويش عن طاعة الملك وجاذباه الحبل، وظنا أنهما بقوة عشائرهما — عتيبة ومطير — ينالان منه وطرًا، فحاجزهما الملك مدة شهرين حتى أعيته فيهما الحيلة، فلما لم يبقَ من الدواء إلا الكي نهد إلى الثوار فمزق شملهم في أقل من ساعتين، وطرح منهم بالعراء أكثر من ألفي صريع، وأخذ مقدميهم أسرى وبينهم ابن بجاد والدويش، فكان الذين فتكوا بأهالي الطائف الوادعين هم الذين لقوا هذا النكال الشديد، فنالوا الجزاء الذي يستحقونه على عملهم بالطائف، وسقوا الكأس التي سقوا بمثلها؛ ولكنهم سقوا ببغي وعدوان، وشربوا بتأديب سلطان وحكم فرقان، وقيد ابن بجاد بالأصفاد وكفى الله شره.
ولكن الدويش بعد أن عالج طبيب الملك جراحه، فر من الأسر ونكث وجمع جموعه وجموعًا ممن مالئُوه على بغيه واستأنفوا الثورة، واضطروا الملك أيده الله أن يزحف إليهم مرة ثانية، ويصدع شملهم عودًا على بدء، وما زال يضيق عليهم حتى تفرقوا تحت كل نجم، وجاء الدويش إلى العراق ظانًّا أنه ينجو، وأنه لا يدركه ليل عمله الذي هو مدركه، إلا أن الملك فيصل بن الحسين كان أعقل وأبصر بمصلحة مملكته العراق وبمصلحة العرب من أن يظاهر الخارجين عن طاعة ابن سعود، لا سيما أنهم هم الذين كانوا يوالون على العراق تلك الغارات التي لا نهاية لها، فانتهى الأمر بتسليم الإنكليز فيصلًا الدويش إلى الملك ابن سعود عملًا بمعاهدة سابقة في تسليم المجرمين، وصار إلى جانب رفيقه ابن بجاد بحيث لا يقدر أحد منهما بعد الآن أن يُقلق راحة العرب، ولا أن يهرج البلاد ويمرجها، وكانت هذه الواقعة سببًا في ائتلاف الملكين العاقلين الحكيمين، اللذين أقر اجتماعهما عيون جميع العرب المخلصين للعروبة، وفت في أعضاد الذين يريدونها دائمة حامية ولو أفضى ذلك إلى سقوط العرب.
والذي أدى بنا إلى هذا البحث الذي بَعُد كثيرًا عن أصل الموضوع خبر واقعة الطائف هذه التي كانت الضربة الثانية التي قضت على عمرانها، والتي لو أغفلنا ذكرها وأسبابها لم يكن ذلك منا نصحًا بالتاريخ؛ ولكنا مسئولين عن هذا الإغفال.
ومن شاء معرفة خطط الطائف وما فيها من حارات وقصور ومساجد وآثار وأنصاب وما حولها من قرى ودساكر وما أشبه ذلك فعليه بكتاب «ما رأيت وما سمعت» للخير الزركلي، فإنه قد وعاها بحذافيرها بأحسن أسلوب، وأنا لست متعرضًا من ذلك إلا لما شاهدته بعيني، وارتسم في مخيلتي وحكَّ في صدري، فإني قد سميت كتابي هذا «بالارتسامات اللطاف» وحصرت الكلام فيما رأيته، وما تجاوزته إلا إلى الضروري مما رويته.
مسجد ابن عباس بالطائف وقبره وبعض ترجمته رضي الله عنه
أهم أثر في الطائف هو مسجد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو على طرف البلدة إلى جهة «وج» وليس من بعده إلى وج عمارة.
وقد أنزلتني إمارة الطائف في دار شاهقة كانت تخص أحد أمراء الأكراد ممن نفي إلى الطائف في أيام السلطان عبد الحميد الثاني العثماني، وهي لا تبعد عن المسجد العباسي أكثر من مائة وخمسين ذراعًا، وأمام هذه الدار باحة كبيرة عمومية تصل إلى مدخل المسجد العباسي، وإلى باب السور الذي بجانبه، وتكثر طبقات الدور بالطائف كما بمكة وكما بالمدينة وكما بجدة، فقد كنت أسكن في الطبقة الرابعة من الدار، وكثيرًا ما كنا نسمر على السطح الأعلى لها أنا وإخواني فوزي بك القاوقجي والدكتور خير القباني وغيرهما؛ لكننا كثيرًا ما كنا نشتمل بالأكسية الثقيلة على ذلك السطح خشية البرد، وكنا نضع كيزان الماء على السطح فلا يمضي على ذلك ساعة حتى ينقلب الماء كأنه ثلج مذاب.
ولما كنت هناك زار الطائف قاضي القضاة بمكة الشيخ عبد الله بن حسن، وهو من ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فرأى بجانب الضريح العباسي خلف الجدار شجرة سدر صغيرة فأمر بقطعها، خشية أن يتبرك العوام بها، ولا إنكار أن الوهابيين يبالغون في الهدم والقطع والنقض والقلع كلما مروا بقبة أو مزار أو شجرة تعلق عليها خرق وتقشعر جلودهم من هذه المناظر؛ ولكني مع اعترافي بغلوهم في هذا الأمر لا أراهم حائدين فيه عن سنن الشرع القويم.
فقصدنا إلى ذلك المكان فوجدنا مسجدًا فيه قبور مشيدة منها ما هو قديم من صدر الإسلام عليه كتابات بالخط الكوفي، ومنها ما هو من القرن الخامس أو السادس للهجرة، وشاهدنا من هذا الخط كتابات لم ترَ عيني أجمل منها في البداعة والإتقان، وتمنيت أن تنقل تلك الخطوط إما بالليتوغرافيا وأما بالفوتوغرافيا، ولا أزال أحدث نفسي بذلك فيما لو زرت الطائف مرة أخرى.
وكيف كان الأمر فإن كثيرًا من العوام ومن الخواص أشباه العوام يحبون الصلاة بجانب القبور، وهذا مما ينفر منه السلفيون أشد النفور وليسوا في هذا بغالطين.
هذا؛ وقد توفي عبد الله بن عباس بالطائف سنة ثمان وستين، وقيل: سنة سبعين وسنه إحدى وسبعون سنة، وقيل: اثنتان وسبعون، وقيل: أكثر، وصلى عليه محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودفن ابن عباس في الطائف بالمكان الذي فيه المسجد اليوم، ودفن ابن الحنفية في الطائف أيضًا على أصح الأقوال، وكانت وفاته بعد ابن عباس باثنتي عشرة سنة، وكانت أم عبد الله بن عباس أم الفضل ابنة الحارث بن حزم بن بجير بن الهرم بن ذريبة بن عبد الله بن عامر وهي التي قيل فيها:
فإن أولادها كانوا بأجمعهم أبطالًا مجاهدين، وقيل: إنه ما رُئيت قبور إخوة أشد تباعدًا بعضها من بعض من قبور ستة من بني العباس مع كونهم ولدوا في دار واحدة، وذلك أن الفضل استشهد في واقعة أجنادين بفلسطين، وقيل بطاعون عمواس، ومعبد وعبد الرحمن استشهدا بإفريقية، وقيل: إن معبدًا مات شهيدًا بإفريقية وعبد الرحمن مات بالشام، وثم بسمرقند مجاهدًا، ومات عبيد الله باليمن وقيل: بالمدينة، وعبد الله مات بالطائف.
وكانت فضائل عبد الله بن عباس أكثر من أن تحصى، وقد ألفت فيها التآليف وأكثر الكتب المؤلفة على الطائف ملأى بأخبار عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، ووالد الخلفاء العظام، وهو الذي قال فيه أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقد روى بعضهم أن النبي ﷺ قال فيه: «لو كان بعدي نبي مرسل لكان عبد الله بن عباس، اللهم فقهه في الدين وانشر منه، وعلمه التأويل، وبارك فيه، إنه سيدفن في الطائف فمن زاره فكأنما زار قبري بطيبة.» روى هذا الحديث الشيخ عبد الرحمن الميورقي عن أحمد بن حاتم الموصلي والأشبه به أن يكون موضوعًا، وإما أن يكون النبي ﷺ دعا له بأن يفقهه الله في الدين وأن يبارك فيه وأن يعلمه الكتاب والحكمة فهذا معقول.
وروى الحسن المديني عن سحيم عن حفص عن أبي بكرة قال: قدم علينا ابن عباس البصرة وما في العرب مثله جسمًا وعلمًا ودينًا، وجمالًا، وكمالًا، وروى الطبراني وغيره حديثًا أن أم الفضل بنة الحارث زوجة العباس لما وضعت عبد الله بن عباس أتت به النبي ﷺ فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وسماه عبد الله ثم قال: «اذهبي بأبي الخلفاء»، ويجوز أن يكون هذا الحديث، «اذهبي بأبي الخلفاء»، صحيحًا وأن يكون الرسول كوشف بذاك، كما أنه يجوز أن يكون مما وضع في زمن الخلفاء بني العباس تزلفًا إليهم.
ومثله ما رواه ابن فهد نقلًا عن تاريخ دمشق، وهو حديث مرفوع صرح ابن فهد نفسه أنه ركيك اللفظ وهو «هبط عليَّ جبريل عليه السلام وعليه قباء أسود وعمامة سوداء فقلت: ما هذه الصورة التي لم أرك هبطت عليَّ فيها قطُّ؟ قال: هذه صورة الملوك من ولد العباس عمك رضي الله تعالى عنه، قلت: وهم على حق؟ قال جبريل: نعم، فقال النبي ﷺ: اللهم اغفر للعباس وولده حيث كانوا وأين كانوا، قال جبريل: ليأتين على أمتك زمان يعز الله عز وجل الإسلام بهذا السواد، فقلت: رئاستهم ممن؟ قال: من ولد العباس، قلت: ومن أتباعهم؟ قال: من أهل خراسان، قلت: وأي شيء يملكون؟ قال: الأصفر والأخضر، والحجر، والمدر، والسرير، والمنبر، والدنيا إلى المحشر، والملك إلى المنشر.» ا.ﻫ.
والوضع ظاهر كالشمس في هذا الحديث، ومن عادة بعض الناس التزلف إلى الملوك والخلفاء، بأقاويل كهذه هي داخلة في حكم قوله ﷺ: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار.» وقد يكون بعضهم ممن يستضعف الحديث ولا يثق بإسناده؛ لكنه يرويه عملًا بحسن الظن بزعمه أو اعتقادًا للمصلحة فيه، وهذا من أكبر الخطأ ولا سيما إن كان من هذا الباب، والحق غير محتاج إلى دعامة من الباطل، ولقد انتهى ملك بني العباس ولم يبقَ إلى المحشر، كما انتهى ملك بني عثمان في أيامنا هذه، وذهب معها كل ما قيل في خلود ملكهم سدى.
ومن جملة ذلك رسالة للسيد محمود الحمزاوي مفتي الشام رحمه الله اسمها «البرهان على بقاء مُلك بني عثمان إلى آخر الزمان»، لم أعجب إلا من صدورها عن رجل مثله في سَعَة علمه وعقله.
وقد روى الحافظ ابن الآبار القضاعي البلنسي في «التكملة لكتاب الصلة» أن حيوة بن ملامس الحضرمي من أشراف إشبيلية كانت له منزلة لطيفة من عبد الرحمن بن معاوية «الداخل إلى الأندلس»، وروي عن حنش الصنعاني يرفعه أن ملك بني أمية لا يزال إلى خروج الدجال، ولما رواه لعبد الرحمن بن معاوية أقطعه قطعية معروفة. انتهى وهذا أيضًا من الباب المتقدم.
وكان ابن عباس أبيض طويلًا، وسيما جسيمًا مشربًا بصفرة صبيح الوجه له وفرة يخضب الحناء، وكان يعتم بعمامة سوداء يرخيها شبرًا، ولعل الخلفاء العباسيين اتخذوا السواد شعارًا من أجل عمامة جدهم هذه.
وقد روى ابن فهد في «تحفة اللطائف» أنهم كانوا باقين على لبس السواد إلى عهده، وقد كانت وفاته سنة ٩٢٢، وكذلك الخطباء في الحرمين الشريفين وغيرهما من بعض البلدان المعظمة، قال ابن فهد: إن معتمدهم في ذلك كونه ﷺ دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء أرخى طرفها بين كتفيه، وخطب بها الخلفاء كذلك؛ لكونه ﷺ كان في ذلك اليوم منصورًا على الكفار، فاتخذوه شعارًا؛ ليكونوا دائمًا منصورين على أعدائهم.
وسأل الرشيد الأوزاعي رحمهما الله تعالى عن لبس السواد فقال: إني لا أحرمه ولكن أكرهه، قال: ولم؟ قال: لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبي به محرم، ولا يكفن فيه ميت، فالتفت الرشيد إلى أبي نواس فقال: فما تقول أنت في السواد؟ فقال: النور في السواد يا أمير المؤمنين، ثم قال: وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين لا يكتب كل من كتاب الله عز وجل وحديث النبي ﷺ وأقوال العلماء رحمهم الله تعالى إلا به، وهو مضاف إلى الخلافة، فلما سمع الرشيد هذا الوصف في السواد اهتز طربًا وأمر له بجائزة سنية. انتهى.
قلت: نسبة هذه الرواية للرشيد خطأ محض، وكنا نقول: إنها سهو ناسخ تبدل لفظة الرشيد بالمنصور لولا مجيء قصة أبي نواس من بعدها، ووجه الخطأ أن الإمام الأوزاعي رضي الله عنه توفي يوم الأحد أول النهار لليلتين من صفر سنة سبع وخمسين ومائة، هذا الذي عليه الجمهور، رواه العباس بن الوليد العذري قاضي بيروت المتوفى سنة ٢٧٠ قال عنه ياقوت في معجم البلدان: إنه كان من خيار عباد الله.
وقد نقل هذه الرواية عن وفاة الأوزاعي زين الدين بن تقي بن عبد الرحمن الخطيب في كتابه «محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي»، وهو مخطوط اطلعت عليه أخيرًا في المكتبة الملوكية في برلين، وعلمت منه أن مؤلفه أكمله سنة ١٠٤٨ وهو لا يقول «في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي» بل «في مناقب الإمام أبا عمرو الأوزاعي» لا أعلم أهو من خطأ الناسخ أم من نفس المؤلف عملًا بلغة:
وقال ابن خلكان عن وفاة الأوزاعي: وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة، لليلتين بقيتا من صفر، وقيل: في شهر ربيع الأول بمدينة بيروت، أما الرشيد فقد كانت ولادته سنة ١٤٨؛ أي إنه يوم وفاة الأوزاعي كان قاصرًا، واستخلف الرشيد سنة ١٧٠، فالخليفة الذي سأل الإمام الأوزاعي عن السواد هو المنصور لا الرشيد؛ لأن الأوزاعي جرى بينه وبين المنصور حديث طويل، ولما قدم أبو جعفر المنصور الشام زاره الأوزاعي ووعظه، فعظمه الخليفة وأحبه، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له، فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فسأله، لمَ كره لبس السواد؟ ولا تعلمه أني قلت لك، فسأله الربيع فقال: لأني لم أر محرمًا أحرم فيه ولا ميتًا كفن فيه ولا عروسًا جليت فيه، فلهذا أكرهه.
أما أبو نواس فيجوز أن يكون قال للرشيد هذا وأكثر منه لكن بدون أن يكون الأوزاعي حاضرًا، وكيف كان الأمر؟ فكان السواد شعار العباسيين وكان يقال لهم: المسودة، وكان الخلفاء العباسيون يخلعون حلل السواد على من ينتسب إليهم أو ينال الحظوة عندهم جاء في «تاريخ الأعيان في جبل لبنان» للشيخ طنوس الشدياق والمعلم بطرس البستاني أنه لما وقع القتال على نهر بيروت بين المردة والأمير النعمان بن الأمير عامر بن الأمير هاني بن أرسلان، وهزم الأمير النعمان المردة وقتل بعضًا وأسر بعضًا، وكتب إلى موسى بن بغا في بغداد يخبره، وأرسل الرءوس والأسرى إلى بغداد عرض ذلك موسى للخليفة المتوكل فكتب إليه المتوكل كتابًا يمدح شجاعته ويحرضه على القتال وأقره على ولايته تقريرًا له ولذريته، وأرسل له سيفًا ومنطقة وشاشًا أسود، وكتب إليه أخوه الموفق وغيره كتبًا يمدحونه بها وأعاد رسله مكرمين فتقلد الأمير السيف وشد المنطقة ولف الشاش ودعا لأمير المؤمنين وزينت البلاد … إلخ، وهذه الرواية محررة لكن باختصار في سجل نسبنا الأرسلاني.
والخلاصة أن بني العباس أرادوا أن يتميزوا بشعار فجعلوه السواد اقتداء بجدهم عبد الله بن عباس الذي اقتدى بابن عمه ﷺ في اعتمامه بالسواد يوم فتح مكة، ومناقب عبد الله بن عباس كثيرة، وأقواله مأثورة، ومما ينسب إليه: مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة، ويروى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا ألبَّ لبًّا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، فيقول: قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله وإن حوله لأهل بدر، وقيل: إن بعضهم وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم فقال لهم: إنه يعظمه لعلمه مع صغر سنه، وكان عمر يستشيره إذا أهمته الأمور، ويقول: غواص، وأوصاه أبوه العباس أن يحسن صحبة عمر فقال له: يا بني إن أمير المؤمنين يدعوك ويقربك ويستشيرك، فاحفظ عني ثلاثًا: لا يجربن عليك كذبًا، ولا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا.
وعن معاوية: ابن عباس أفقه من مات ومن عاش، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: ما رأيت أحدًا أعلم من ابن عباس بما سبقه من حديث رسول الله ﷺ وبقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، ولا أفقه ولا أعلم بتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والحساب، والفرائض، وكان يجلس يومًا للتأويل، ويومًا للفقه ويومًا للمغازي، ويومًا لأيام العرب، وما رأيت قطُّ عالمًا جلس إليه إلا خضع له ولا سائلًا يسأله إلا أخذ عنه علمًا.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسًا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس؛ الحلال والحرام والعربية والأنساب، وعن عطاء: ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقهًا وأعظم خشية، فإن أصحاب الفقه عنده وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده يصدرهم كلهم من واد واسع، وعن طاوس: أدركت خمسين أو سبعين من الصحابة إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس لا يقومون حتى يقولوا: هو كما قلت، وسمع أحدهم ابن عباس يخطب ويفسر فقال: لو سمعته الروم وفارس لأسلمت.
ولو شئنا استقصاء مناقبه لطال المقال جدًّا لا سيما أن كتابنا هو رحلة إلى الحجاز، لا ترجمة لابن عباس رضي الله عنه، وإنما أوردنا ما أوردنا منها؛ لأن التراجم الزكية هي خير ما يطرف به الكاتب القراء، ولا سيما القراء الناشئين الذين قد يقتدون بما بها من الفضائل ويتعلمون مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ونعم التاريخ الذي يزكي النفوس ويشحذ الألباب.
وكان ابن عباس عاملًا لعلي رضي الله عنهما على البصرة، وشهد معه صفين، فلما استشهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه استخلف ابن عباس على البصرة عبد الله بن الحارث النوفلي ولحق بالحجاز، ولما دعا عبد الله بن الزبير الناس إلى مبايعته بالخلافة أبى عبد الله بن عباس أن يبايعه فصعد إلى الطائف، ولم تزل الطائف لأهل الحجاز متنفسًا ومات فيها، وقال محمد ابن الحنفية عند موته: مات اليوم رباني هذه الأمة.
وقد دفن محمد ابن الحنفية في المكان الذي دفن فيه ابن عم أبيه؛ أي: ابن عباس ودفن آخرون من الأعيان والصلحاء والأمراء، ومن هؤلاء الأمير جعفر بن سعيد بن سعد بن زيد بن محسن تولى إمارة مكة سنة ١١٧٢ ثم نزل عنها لأخيه مساعد ومات بالطائف سنة ١١٧٨، ثم الأمير عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون ولي إمارة مكة بعد وفاة أبيه محمد بن عون أول أمير عليها من ذوي عون وبقي فيها نحو ٢٠ سنة، وكانت وفاته بالطائف سنة ١٢٩٤ ثم الأمير عون الرفيق بن محمد بن عبد المعين بن عون أخو الأمير عبد الله ولي الإمارة سنة ١٢٩٩ وبقي فيها إلى أن توفي بالطائف سنة ١٣٢٣ وله قصر بديع، أتم الطاق الأول منه وبقي بدون نجارة ولا يزال قائمًا من شدة متانته وهو مشرف على السهل الأفيح الممتد منه إلى الثكنة العسكرية.
ونزل بالطائف رهط من أصحاب رسول الله ﷺ منهم عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف كان حين حاصرهم الرسول — على ما سيأتي خبره — غائبًا ي بجُرَش يتعلم عمل الدبابات والمنجنيق فلما قدم الطائف بعد انصراف الرسول ﷺ عنها قذف الله في قلبه الإسلام، فقدم على الرسول بالمدينة فأسلم واستأذنه في الرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام فقال ﷺ له: «إنهم إذن قاتلوك» فقال: لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني، فلما رجع إلى الطائف أتته ثقيف تسلم عليه بتحية الجاهلية فأنكرها عليهم وقال لهم: عليكم بتحية أهل الجنة، فنالوا منه، فحلم عنهم وخرجوا من عنده وجعلوا يأتمرون به، وطلع الفجر فأذن بالصلاة فخرجت إليه ثقيف من كل ناحية فرماه أوس بن عرف من بني مالك فأصاب أكحله فقام غيلان بن سلمة وكنانة بن عبد ياليل والحكم بن عمرو وغيرهم وقالوا نموت عن آخرنا أو نثأر به عشرة من بني مالك، فلما رأى عروة ما يصنعون قال: لا تقتلوا فيَّ، قد تصدقت بدم على صاحبه لأصلح بذلك بينكم، فهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إليَّ، وأشهد أن محمدًا رسول الله لقد أخبرني أنكم تقتلوني، ثم دعا رهطه فقال: إذا مت ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا في حصار الرسول للطائف فدفنوه معهم وبلغ الرسول ﷺ خبر قتله فقال: «مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه.»
ومنه أبو مليح بن عروة بن مسعود وقارب بن الأسود بن مسعود أسلما ولحقا برسول الله بالمدينة، ولما وفدت ثقيف على الرسول ﷺ وأسلمت عاد إلى الطائف، وقال أبو مليح للرسول ﷺ: إن أبي مات وعليه دين مائة مثقال ذهب، فإن رأيت أن تقضي من حلي الربة أي اللات فعلت، فقال الرسول ﷺ: «نعم»، فقال قارب بن الأسود: وعن الأسود بن مسعود أبي، فإنه ترك دينًا مثل دين عروة فاقضه عنه من مال الطاغية، فقال الرسول ﷺ: «إن الأسود مات كافرًا» فقال قارب: تصل به قرابة، إنما الدين علي وأنا مطلوب به، فقضى الرسول عنه دينه من مال الطاغية.
ومنهم الحكم بن عمرو أسلم في وفد ثقيف على رسول الله، ومنهم غيلان بن سلمة وكان شاعرًا، وفد على كسرى فسأله أن يبني له حصنًا بالطائف فبنى له ولما جاء الإسلام أسلم، وكان عنده عشر نسوة فقال له الرسول: «اختر منهن أربعًا» فاختار أربعًا وطلق الباقيات.
ومنهم شُرَحبيل بن غيلان وكان في وفد ثقيف على رسول الله، ومنهم عبد ياليل بن عمرو وكان رئيس الوفد، ومنهم كنانة بن عبد ياليل وأسلم يومئذ، ومنهم الحارث بن كلدة طبيب العرب، وكان الرسول ﷺ يأمر من به علة أن يأتيه، ومنهم نافع بن الحارث بن كلدة وهو أبو عبد الله الذي انتقل إلى البصرة، ومنهم العلاء بن جارية بن عبد الله بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف، ومنهم عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار بن مالك حطيط بن جهم بن ثقيف، قدم مع وفد ثقيف على رسول الله بالمدينة وكان أصغرهم سنًّا فكانوا يخلفونه على رحالهم يتعاهدها لهم، فإذا رجعوا من عند رسول الله وناموا وكانت الهاجرة أتى عثمان رسول الله فأسلم قبلهم سرًّا منهم، وكتمهم ذلك، وكان يسأل رسول الله ﷺ عن الدين ويستقرئه القرآن، وكان إذا وجد رسول الله نائمًا عمد إلى أبي بكر فسأله واستقرأه، فأعجب به رسول الله وأحبه، فلما أسلم الوفد وكتب لهم الرسول ﷺ الكتاب الذي قاضاهم عليه وأرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا: يا رسول الله أمر علينا رجلًا منَّا، فأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغرهم لما رأى من حرصه على الإسلام.
قال عثمان بن أبي العاص: استعملني رسول الله ﷺ على الطائف فكان آخر ما عهد إليَّ رسول الله ﷺ أن قال: «خفف عن الناس الصلاة» ولما قبض رسول الله ﷺ كان عامله على الطائف عثمان بن أبي العاص فبقي عليها إلى خلافة عمر، فاحتاج عمر إلى عامل يستعمله على البحرين فسموا له عثمان بن أبي العاص فقال: ذاك أمير أمَّره رسول الله ﷺ على الطائف فلا أعزله قالوا له: يا أمير المؤمنين تأمره يستخلف على عمله من أحب وتستعين به فكأنك لم تعزله.
فقال: أما هذا فنعم فكتبت إليه أن خلف على عملك من أحببت واقدم عليَّ فخلفه أخاه الحكم بن أبي العاص على الطائف وقدم على عمر فولاه البحرين.
قال محمد بن سعد في الطبقات فلما عزل عن البحرين نزل البصرة هو وأهل بيته وشرفوا بها والموضع الذي بالبصرة يقال له شط عثمان إليه ينسب، وكان الحكم بن عثمان ممن صحب النبي ﷺ أيضًا.
ومنهم أوس بن حذيفة الثقفي وكان ممن أسلم في وفد ثقيف قال: خرجنا من الطائف سبعين رجلًا من الأحلاف وبني مالك فنزل الأحلافيون على المغيرة بن شعبة وأنزلنا رسول الله ﷺ في قبة له بين مسكنه وبين المسجد.
ومنهم أوس بن أوس الثقفي ومما روى عنه حفيد له أنه أومأ إليه وهو في الصلاة أن ناولني نعلي فناولته نعليه فصلى فيهما وقال: رأيت رسول الله ﷺ يصلي في نعليه.
ومنهم الحارث بن عبيد الله بن أوس الثقفي ويروى عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت.»
ومنهم الحارث بن أويس الثقفي وقد صحب وروى.
ومنهم الشريد بن سويد، ومما حدث به النبي ﷺ قال: «جار الدار أحق بالدار من غيره.» وقد استنشده الرسول من شعر أمية بن أبي الصلت وجعل يقول: «إن كاد ليسلم» مات الشريد في خلافة يزيد بن معاوية.
ومنهم نمير بن خرشة الثقفي كان في وفد ثقيف إلى المدينة.
ومنهم سفيان بن عبد الله، وكان فيهم أيضًا وولي سفيان الطائف.
قال: لا والله: قال: «فانطلق فانحرها.»
ومنهم وهب بن خويلد الثقفي أسلم وصحب ومات على عهد الرسول ﷺ.
ومنهم وهب بن أمية بن أبي الصلت الثقفي، شاعر وأسلم وهب وصحب.
ومنهم أبو محجن بن عمرو بن عمير الثقفي وكان شاعرًا، ومنهم الحكم بن حزن الكلفي من بني كلفة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن روى عنه محمد بن سعد في الطبقات أنه وفد على رسول الله ﷺ سابع سبعة أو تاسع تسعة وشهد معه الجمعة فقام الرسول ﷺ متوكئًا على قوس أو على عصًا فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال: «أيها الناس إنكم لن تطيقوا ولن تفعلوا كل ما أمرتكم فسددوا وبشروا.»
ومنهم زفر بن حرثان بن الحارث من هوازن أيضًا وفد وأسلم، ومنهم مضرس بن خفاجة بن النابغة من هوازن أيضًا، وفد وأسلم وشهد حنينًا، وذكره العباس بن مرداس في شعره، ومنهم يزيد بن الأسود من بني سواة رُوي أنه صلى مع النبي ﷺ الفجر في مسجد منى في حجة الوداع فلما قضى الصلاة التفت فإذا هو برجلين لم يصليا فقال: «ائتوني بهما» فأتي بهما ترعد فرائصهما فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» قالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا، قال: «فإذا جئتم والإمام يصلي فصلوا معه فإنها لكم نافلة.» وكان يزيد شهد حنينًا مع المشركين ثم أسلم وصحب. ومنهم عبيد الله بن معية من بني سواة، ومنهم أبو رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر بن المشفق وقيل: إنه أتى الرسول ﷺ فقال له: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. فقال: «حج عن أبيك واعتمر.»
وروى ابن سعد في الطبقات أنه كان بالطائف بعد هؤلاء من الفقهاء والمحدثين عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي وعاصم بن سفيان الثقفي، وأبو هندية الذي روى عنه سعيد بن المسيب، وعمرو بن أوس الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن عبد الله من ثقيف وأمه أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية وخاله معاوية، وكان جد عثمان بن عبد الله حامل لواء المشركين يوم حنين فقتله عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال رسول الله: «أبعده الله إنه كان يبغض قريشًا»، وقد ولي عبد الرحمن بن عبد الله الكوفة ومصر، قال محمد بن سعد: وولده اليوم يسكنون دمشق — محمد بن سعد كان في القرن الثالث.
ومنهم وكيع بن عدس — بضمتين — ويعلى بن عطاء أقام بواسط في آخر سلطنة بني أمية وعبد الله بن يزيد، وبشر بن عاصم الثقفي، وإبراهيم بن ميسرة، وعطيف بن أبي سفيان، وعبيد بن سعد، ومحمد بن أبي سويد، وسعيد بن السائب، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي، ويونس بن الحارث الطائفي، ومحمد بن عبد الله بن أفلح الطائفي، ومحمد بن أبي سعيد الثقفي، ومحمد بن مسلم بن سوسن الطائفي، ويحيى بن سليم الطائفي، وكان قد نزل مكة.
وأما شهداء الصحابة في الطائف عام ثمانية للهجرة فهم سعيد بن سعيد بن العاص الأموي، وعرفطة بن عبد الله بن أمية، والسائب بن الحارث بن قيس القرشي أحد المهاجرين إلى الحبشة، وعبد الله بن الحارث بن قيس أخو السائب، ومثله في المهاجرين إلى الحبشة، وعبد الله بن الحارث بن قيس أخو السائب، ومثله في المهاجرة إلى الحبشة، وطلحة بن عبد الله بن ربيعة، وثابت بن الجزع الخزرجي من الأنصار، والمنذر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، ورقيم الأنصاري، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ورجل من بني الليث، وألحق بعضهم بهم عبد الله بن أبي بكر الصديق؛ لأنه كان جرح في غزاة الطائف، واندمل جرحه عدة ثم انتكس ومات، ومن أشهر المولودين في الطائف زياد بن عبيد المعروف بزياد ابن أبيه؛ لاختلاف المؤرخين في نسبه، وهو الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، وأمه سُمية جارية الحارث بن كلدة، كان كاتبًا لأبي موسى الأشعري، وكانت ولادته سنة الهجرة، وقال في الطبقات الكبرى: عام الفتح، ولي البصرة لمعاوية حين دعاه، وضم إليه الكوفة فكان يشتو بالبصرة، ويصيف بالكوفة، ويولي على الكوفة إذا خرج منها عمرو بن حريث، ويولي على البصرة إذا خرج منها سمرة بن جندب، ولم يكن زياد من القراء، ولا الفقهاء إلا أنه كان معروفًا.
ثم ذكر صاحب الطبقات أن عائشة أم المؤمنين كتبت إليه كتابًا خاطبته فيه بزياد بن أبي سفيان، ومات بالكوفة، وهو عامل عليها لمعاوية، وكان زياد بلا مراء من أعاظم الرجال، قال الشعبي: ما رأيت أحدًا أخصب ناديًا، ولا أكرم مجلسًا، ولا أشبه سرًّا بعلانية من زياد.
وقال الأصمعي: أول من ضرب الدنانير، والدراهم، ونقش عليها اسم الله، ومحا عنها اسم الروم ونقوشهم زياد، وقال العنبي: إن زيادًا أول من ابتدع ترك السلام على القادم يحضره السلطان، وقالوا: إنه أول من عرف العرفاء، ورتب النقباء، ومشى الأعوان بين يديه، ووضع الكرسي، وربع الأرباع، وخمس الأخماس في الكوفة، والبصرة.
ونقل الخير الزركلي عن ابن حزم ما يلي: امتنع زياد وهو قفعة القاع — القفعة بفتح أوله القفة من خوص، وقد يكون أعلاها ضيقًا، وأسفلها واسعًا، وفي لبنان يصغرونها، ويقولون قفوعة، وأما القاع فالأرض المطمئنة؛ والمقصود بذلك أنه ليس بشيء في نسبه، وحسبه — لا عشيرة له، ولا نسب، ولا سابقة، ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة حتى أرضاه وولاه.
وقال الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد لكل كبيرة وصغيرة.
قلت: فضل زياد في المكانة التي حازها أعظم من فضل جميعهم؛ لأن معاوية أموي، وعمرو بن العاص سهمي والمغيرة ثقفي؛ فأما زياد فهو ابن سُمية …
ومن أشهر المولودين بديار الطائف الحجاج بن يوسف الثقفي الذي صار اسمه رمزًا للظلم، وسفك الدماء، فإذا قيل سفاك دماء قيل حجاج، قيل: إنه قتل أكثر من مائة ألف صبرًا، وسمعوه يقول عند الموت: رب اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تغفر لي.
قال الذهبي في كتاب دول الإسلام: إنه كان شجاعًا مهيبًا جبارًا عنيدًا، ومخازيه كثيرة إلا أنه كان عالمًا فصيحًا مفوهًا مجودًا للقرآن، وقال: إنه قتل الإمام المفسر سعيد بن جبير ظلمًا، فما أمهله الله بعده فهلك في رمضان سنة خمس وتسعين وله ثلاث وخمسون سنة، وقرأت في محل آخر أنه عاش خمسًا وخمسين سنة، وقال ابن خلكان: إنه كان عمره ثلاثًا وخمسين، وقيل: أربعًا وخمسين وهو الأصح، وروى ابن خلكان أنه كان ينشد في مرض موته هذين البيتين لعبيد بن سفيان الكلبي:
قلت: إن الناس غير مخطئين فيما يذهبون إليه من أمر الحجاج، فكما أن الله عظيم العفو فهو عظيم العدل أيضًا سبحانه وتعالى، إن لم يعاقب مثل الحجاج على ما سفك من دماء الأبرياء فمن يستحق العقوبة إذن؟!
وقال ابن خلكان عن مرضه: إن الله سلط عليه الزمهرير فكانت الكوانين تجعل تحته مملوءة نارًا، وتُدنى منه حتى تحرق جلده، وهو لا يحس بها، وشكا ما يجده إلى الحسن البصري فقال له: قد كنت نهيتك أن تتعرض إلى الصالحين فلججت، فقال له: يا حسن لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكن أسألك أن تسأله يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، ولما جاء موت الحجاج إلى الحسن البصري سجد لله تعالى شكرًا، وقال: اللهم إنك قد أمتَّه فأمت عنا سنته، وكانت وفاته بمدينة واسط ودفن بها، وعُفي قبره وأجري عليه الماء.
قلت: ليس الحجاج مسئولًا فيما أتاه من الموبقات، وقتل من قتل من عباد أكثر من عبد الملك بن مروان الذي استعمله وأملى له، وكان ولاه العراق وخراسان، وولاه قبل ذلك الحجاز، وكان له إمرة بدمشق، ولا يزال فيها بناء اسمه قصر حجاج أظنه منسوبًا له، ولما توفي عبد الملك وتولى الوليد أبقاه في عمله فكأنه أعجب بني أمية.
وقال ابن خلكان: وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال: إن زياد ابن أبيه — أو ابن سمية أو ابن أبي سفيان — أراد أن يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف، وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر.
وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذَّاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره، ومن كان كذلك فكيف يوليه الخلفاء الولايات الكبرى، ويطلقون فيها يده؟
نعم إن الضبط والربط والحزامة من الأمور التي تصلح للولاة، بل من الأمور التي لا يصلح الولاة إلا بها، لكن على شرط أن لا يخرج ذلك بالولاة إلى الإسراف والاعتداء، وتجاوز حدود الله، فإن العدل هو الحد الوحيد الذي لا يجوز التأخر عنه، ولا التقدم عليه، ومن تجاوز حد العدل فقد أفرط، ومن تأخر عنه فقد فرَّط، وما يسع الجميع إلا العدل، ومن أشد الأمور ضررًا أن يتعمد الوالي أو القائد إتيان الأمور التي تجعل له هيبة في قلوب الناس بزعمه، أو أن يتلذذ بسمعة البطش وإرهاف الحد كما كان يفعل جمال باشا التركي قائد الجيش العثماني في سوريا أيام الحرب الكبرى، فقد كان يتعمد البطش وإظهار الاستخفاف بدماء البشر؛ أملًا بأن ينال المهابة في الصدور وأن تسير عنه الأخبار، فأضر عمله بدولته وأمته، وزاد في شقاق الترك مع العرب وما نفعت سياسته إلا الإفرنج الطامحين إلى البلاد، وما نفعت إلا الرائدين لهم الساعين بين أيديهم من أبناء البلاد.
فأما الحزامة والضبط فقد رُوي فيهما عن الحاجة ما لو وقف عند ذلك الحد لما انتقده أحد قالوا: كان الحجاج وأبوه يعلما الصبيان بالطائف ثم لحق الحجاج بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان فكان في عديد شرطته إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره وأن الناس لا يرحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع فقال له: إن في شرطتي رجلًا لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله، يقال له: الحجاج بن يوسف، قال: فإنا قد قلدناه ذلك؛ فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف عليهم يومًا وقد أرحل الناس على الطعام يأكلون فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا ابن اللخناء فكل معنا، فقال لهم: هيهات ذهب ذلك، ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوفهم في العسكر، وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار، فدخل روح على عبد الملك باكيًا، وقال: يا أمير المؤمنين إن الحجاج الذي كان في شرطتي ضرب غلماني وأحرق فساطيطي قال: عليَّ به، فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أنا ما فعلت! قال: ومَن فعل؟ قال: أنت فعلت إنما يدي يدك وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدمني له، فمن ذلك الوقت تقدم الحجاج في منزلته، ولكن كان ينبغي لهم أن يلزموه من الحزامة والصرامة هذا الحد، ولا يسمحوا له أن يتجاوزه.
قال الإمام السيوطي في تاريخ الخلفاء: «لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا الحجاج وتوليه إياه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم يهينهم وبدأ قتلًا، وضربًا، وشتمًا، وحبسًا، وقد قتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى فضلًا عن غيرهم وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختمًا يريد بذلك ذلهم فلا رحمه الله ولا عفا عنه.»
«قلت» وأغرب من تولية عبد الملك الحجاج بن يوسف توصيته ولده الوليد به عند موته فقد قال له وهو يجود بروحه: «وانظر إلى الحجاج فأكرمه فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوَأَك فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك.» فكأن عبد الملك تحمل تبعة أعمال الحجاج حيًّا وميتًا.
ومن أغرب الغرائب أن بعض الناس يلتمس العذر لعبد الملك بقوله: إن الحجاج هو الذي أنقذ ملك بني أمية وإنه لولاه لانتقلت الخلافة لآل الزبير، فإن الناس بعد موت يزيد بن معاوية بايعوا لعبد الله بن الزبير، وكان فحل قريش الصائل في وقته، لا يدركه أحد في شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة وأطاعه الحجاز واليمن والعراق وخراسان، ولم يمتنع عن مبايعته إلا أهل الشام ومصر؛ فإنهم بايعوا معاوية بن يزيد إلى أن مات، فبايعوا ابن الزبير إلى أن خرج مروان بن الحكم فغلب على الشام ومصر.
ولما استوسق الأمر لعبد الملك أرسل الحجاج في أربعين ألفًا لقتال ابن الزبير فحصره بمكة أشهرًا، ورمى الكعبة بالمنجنيق، وخذل ابن الزبير أصحابه، وتسللوا إلى الحجاج فظفر به وقتله، وكان ابن الزبير أخبر أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما عن خذلان الناس إياه واستشارها فيما يصنع فأشارت عليه بأن يخرج ويقاتل إلى أن يُقتل في خبر يعرف منه الإنسان درجة الأنفة وعزة النفس اللتين عند العرب حتى عند النساء اللائي كن يفضلن قتل أولادهن على المهانة والذل.
ونعود إلى المشهورين من ثقيف، ومن سكان ديار الطائف، فمنهم السائب بن الأقرع الثقفي روى عن عمر بن الخطاب، وكان قليل الحديث، وولاه عمر ولايات في فارس بعد أن شهد فتح نهاوند العظيم، ومات بأصبهان.
ويوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ابن أخي الحجاج، وهو ممن ولي مكة تولاها في زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
(أ) العرجي الشاعر
ومنهم العرجي — الشاعر المشهور — وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، وقال في كتاب الأغاني سمي العرجي؛ لأنه كان يسكن عرج الطائف، وقيل: سمي كذلك لمالٍ كان له بالعرج، وكان من شعراء قريش، وممن شهر بالغزال منهم، ونحا نحو عمر بن أبي ربيعة في ذلك، وتشبه به فأجاد، وكان مشغوفًا باللهو والصيد حريصًا عليهما قليل المحاشاة لأحد فيهما، نقل السيد خير الدين الزركلي في كتابه «ما رأيت، وما سمعت» عن كتاب «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للمؤرخ الإمام الحافظ أبي الطيب محمد تقي الدين بن أحمد بن علي الحسني القاضي المكي المتوفى في منتصف القرن التاسع أن محمد بن هشام بن إسماعيل كان واليًا على مكة لهشام بن عبد الملك فسجن العرجي في تهمة دم مولى لعبد الله بن عمر، فلم يزل في السجن إلى أن مات، ولكن رواية الأغاني تخالف ذلك، فهو يقول: إنه كان يشبب بحدباء أم محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي ليفضح ابنها لا لمحبة كانت بينهما، فكان ذلك سبب حبس محمد إياه وضربه له حتى مات في السجن.
وذكر صاحب الأغاني أنه كان صاحب غزل وفتوة، وقال: إنه كان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم وكان له معه بلاء حسن ونفقة كثيرة، وذكر أن العرجي باع أموالًا عظامًا كانت له وأطعم ثمنها في سبيل الله حتى نفد ذلك كله، وكان قد اتخذ غلامين فإذا كان الليل نصب قدره وقام الغلامان يوقدان فإن نام الواحد قام الآخر، فلا يزالان كذلك حتى يصبحا يقول: لعل طارقًا يطرق، وأخبار العرجي كثيرة ونكاته مشهورة، والظاهر أنه كان على كرم عريض وفتوة أكيدة إلا أن الله ابتلاء بالنسيب بناء قريش في شعره مما كان يعرض من يتشبب بهن للظنة وسوء القالة، ومن ظريف ما يُحكى أن جارية من مولدات مكة صارت إلى المدينة فلما أتاهم موت عمر بن أبي ربيعة اشتد جزعها وجعلت تبكي وتقول: من لمكة وشعابها وأباطحها ونزهها ووصف نسائها وحسنهن؟ فقيل لها: خفضي عليك فقد نشأ فتى من ولد عثمان رضي الله عنه يأخذ مأخذه ويسلك مسلكه، فقالت: أنشدوني من شعره فأنشدوها فمسحت عينها وضحكت وقالت: الحمد لله الذي لم يضيع حرمه.
(ب) أمية بن أبي الصلت
وممن اشتهر بالنسبة إلى الطائف أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن غزة بن قيس وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن، قال صاحب الأغاني: هكذا يقول من نسبهم إلى قيس، وأم أمية بن أبي الصلت قرشية وهي رقية بن بنت عبد شمس بن عبد مناف.
وكان أمية من أشعر العرب وإليه ينسب هذان البيتان:
وهما من قصيدة أولها:
قال أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت، قالوا: وطمع أمية في النبوة وكان قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدًا وحرم الخمر وشك في الأوثان، وكان مما قرأ أن نبيًّا يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو، فلما بُعث النبي ﷺ قيل له: هذا الذي كنت تنتظره فحسده وقال: إنما كنت أرجو أن أكونه وكان يرثي قتلي قريش في وقعة بدر.
ومما استحسن من شعره قوله معاتبًا ابنًا له أغضبه:
ومات ولم يؤمن بمحمد ﷺ، لكنه كان يقول: إن الحنيفية حق لذلك كان الرسول يقول ﷺ: «إن كاد أمية ليسلم.»
(ﺟ) طريح بن إسماعيل الثقفي الشاعر
ومنهم طريح بن إسماعيل بن عقبة الثقفي وساق صاحب الأغاني نسبه هكذا: طريح بن إسماعيل بن عبيد بن أسيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن عزة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، قال ابن الكلبي: ومن النسابين من يذكر أن ثقيفًا هو قسي بن منبه بن النبيت بن منصور بن يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد بن نزار، وروى الكلبي أن أبا رغال هو أبو ثقيف كلها وأنه بقية ثمود وكان ملكًا بالطائف، وقيل بل ذكرت القبائل عند النبي ﷺ فقال: «قبائل تنتمي إلى العرب وليسوا من العرب حمير من تبع وجرهم من عاد وثقيف من ثمود.»
وكان طريح شاعرًا فحلًا انقطع إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي كان يمت إليه بالقرابة؛ لأن أم الوليد ثقفية واستفرغ شعره في الوليد وأدرك دولة بني العباس ومات في زمان المهدي العباسي وقيل في زمان الهادي.
وكان الوليد مكرمًا لطريح عظيم البر به، وكان طريح يغلو في مديحه ما شاء، قيل: إن الوليد جلس يومًا في مجلس له عام ودخل إليه أهل بيته ومواليه والشعراء وأصحاب الحوائج فقضاها وكان أشرف يوم رئي له فأنشده طريح ما يأتي:
مسلنطح البطاح: ما اتسع منها، والحني: ما انخفض من الأرض، والولج: كل متسع في الوادي، أي لم تكن بين الحني والولج ليخفى مكانك، وطوبى لفرعيك عن هنا وهنا أي إنه كريم الأب والأم من قريش وثقيف، وإنه يطيعه من هيبته كل شيء حتى إنه لو أمر السيل بالانصراف لأطاعه.
قيل: إنه لما انقضت دولة بني أمية وأديل منهم لبني العباس دخل طريح على المنصور في جملة الشعراء فقال له المنصور: لا حياك الله ولا بياك أما اتقيت الله ويلك حيث تقول للوليد بن يزيد:
فقال طريح: قد علم الله — عز وجل — أني قلت ذاك ويدي ممدودة إليه تبارك وتعالى وإياه تعالى عنيت فقال المنصور: يا ربيع أما تره هذا التخلص؟
ويعجبني جدًّا من شعر طريح هذه القصيدة في الوليد:
ومنها في المديح:
(د) غيلان الشاعر
وممن ينسب إلى الطائف من الشعراء غيلان سلمة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي وهو ثقيف وأمه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أخت أمية بن عبد شمس أدرك الإسلام فأسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجر وأسلم ابنه عامر قبله وهاجر ومات عامر بطاعون عمواس بالشام سنة ١٨ وكان مع خالد بن الوليد وكان فارس ثقيف في زمانه فرثاه غيلان بقوله:
وكان له من الولد غير عامر ثلاثة: عمار ونافع وبادية وقيل: إن خثعم جمعت جموعًا من اليمن وغزت ثقيفًا بالطائف فخرج إليه غيلان بن سلمة في ثقيف فقاتلهم قتالًا شديدًا فهزمهم وقتل وأسر ثم منَّ على الأسرى فقال:
واستشهد نافع بن غيلان مع خالد بن الوليد بدومة الجندل فجزع عليه غيلان وقال:
وكثر بكاء غيلان على نافع فعوتب في ذلك فقال: والله لا تسمح عيني بمائها فأضن به على نافع ثم تطاول العهد ففتر ما به فقيل له في ذلك فقال: بلي نافع وبلي الجزع وفني وفنيت الدموع واللحاق به قريب.
ووفد غيلان على كسرى في خبر استوفاه صاحب الأغاني فعهد إليه كسرى بأن يبني له قصرًا بالطائف ففعل.
وممن ينسب إلى الطائف واشتهر جدًّا المختار الثقفي بن أبي عبيد ولد عام الهجرة ورحل من الطائف مع أبيه في أيام عمر حين ندب الناس إلى العراق وكان منقطعًا إلى بني هاشم وصحب عليًّا وسكن البصرة بعد عليَّ، ولما تولى بنو أمية نفوه إلى الطائف بلده فأقام بها إلى أن بويع عبد الله بن الزبير بمكة فأتاه واستعمله ابن الزبير على الكوفة فجرى بينه وبين مصعب بن الزبير خلاف أدى إلى القتال فقتله مصعب في سنة ٦٧ وقيل: ادعى النبوة فقتله ابن الزبير.
تخطيط الطائف وسبب نزول ثقيف بها
ولنذكر الآن ما قيل عن تخطيط الطائف وسبب نزول ثقيف بها فنقول: قال الهمداني صاحب «صفة جزيرة العرب» الذي لم يؤلف في بابه مثله ما يلي: «الطائف مدينة قديمة جاهلية وهي بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة وتسمى المدينة أيضًا الطائف والمعنى مدينة الطائف وساكنو الطائف ثقيف، ويسكن شرقي الطائف قوم من ولد عمرو بن العاص ووادٍ قريب من الطائف يقال له «برد» فيه حائطان لزبيدة عظيمان يقال لموضعهما: «وج» وبشرقي الطائف وادٍ يقال له: «لية» يسكنه بنو نصر من هوازن، ومن يماني الطائف وادٍ يقال له «جفن» لثقيف وهو بين الطائف وبين معدن البرام، ويسكن معدن البرام قريش وثقيف ومن قبلة الطائف أيضًا وادٍ يقال له: «مشريق» لبني أمية من قريش، ووادي «جلدان» منقلب إلى نجد في شرقي الطائف يسكنه بنو هلال، وفي قبلة الطائف حائط أم المقتدر الذي يدعي «سلامة» وبين الطائف وبين عرفة وادي نعمان وفيه طريق الطائف المختصرة إلى مكة وأما المحجة فعلى قرن المحرام.» انتهى.
قلت: أمَّا أن الطائف قديمة جاهلية فمما لا شك فيه، وقال في صبح الأعشى: إنها كانت قديمة للعمالقة ثم نزلها ثمود قبل وادي القرى ويقال: إنه نزلها عدوان بعد العمالقة وغلبهم عليها ثقيف فهي الآن دارهم.
وقد ورد في كتب اللغة اسم «برد» و«بردي» و«برديا» لأماكن كثيرة من أنهار وغدرانٍ وجبال وغيرها وقيل: إن «برِد» وضَبَطَها البكري بكسر الراء جبل في أرض غطفان ولا أظن أنه هو هذا الجبل الذي بقرب الطائف؛ لأن هذا مفتوح الراء ثم لأن غطفان وهم بطن من قيس عيلان كانوا ينزلون بوادي القرى شمالي الحجاز وبجبلي أجا وسلمى فليست منازلهم بالطائف وجبالها، وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان «برد» محركة بفتح الراء وقال: إنه موضع في قول بدر بن حزان الفزاري:
ولم يعين هذا الموضع، أما جش أعيار الذي ذكره بدر الفزاري فهو موضع أيضًا لم يذكر ياقوت أي موضع هو؟ وجاء في تاج العروس هذا البيت منسوبًا إلى بدر المازني لا بدر الفزاري ولم يفسر «جش أعيار» إلا بقوله موضع.
وأغرب منه أن البيت نفسه وارد في لسان العرب منسوبًا إلى النابغة «وجش أعيار» غير مفسَّر فيه إلا بقوله: موضع وأورد ياقوت بيتًا آخر عن «برد» مفتوح الراء للفضل بن العباس اللهبي:
وبعده:
ولا نقدر أن نعرف منه هل برد المقصود في هذا الشعر هو هذا الجبل الذي نحن بصدده أم غيره وقد ورد اسم «بردي» بالألف المقصورة لجبل في الحجاز فهل يا ترى هو هذا الذي يقولون له «برد» وقد أوردوا شاهدًا عليه قول النعمان بن بشير كما في تاج العروس:
فالأشبه أن يكون هو المراد؛ وذلك نظرًا لذكره «نعمان» وهو الوادي الذي بين مكة والطائف ومنه إلى «الهدا» العقبة الكبرى التي يقال لها: «الكرى الكبير» وأما «جرد» فهو جبل بني سليم.
وأما قول الهمداني: «إن في برد حائطين كبيرين لزبيدة عظيمين يقال لموضعهما وج.» فأظنه يعني بهما «الوَهْط» و«الوُهيط» الأول بفتح فسكون والثاني بالتصغير وذلك أنه لا يوجد في سفوح برد مياه جارية تسقي بساتين إلا في الوَهْط والوهيط، الأول جار الآن في وقف الأشراف ذوي زيد والثاني يخص ذرية الشريف عون الرفيق من ذوي عون، ولقد ورد ذكر الوَهْط في معجم البلدان، قال ياقوت: والوَهْط: المكان المطمئن المستوي ينبت العضاة والسمر والطلح وبه سُمي الوَهْط … وهو مال كان لعمرو بن العاص بالطائف وهو كرم كان على ألف ألف — أي مليون — خشبة شرى كل خشبة بدرهم، قال ابن الأعرابي: عرَّش عمرو بن العاص بالوَهْط ألف ألف عود كرم على ألف ألف خشبة ابتاع كل خشبة بدرهم، فحج سليمان بن عبد الملك نمر بالوَهْط فقال: أحب أن أنظر إليه، فلما رآه قال: هذا أكرم مال وأحسنه، ما رأيت لأحد مثله، لولا أن هذا الحرة في وسطه، فيقال له: ليست بحرة ولكنها مسطاح الزبيب، وكان زبيبه جُمع في وسطه فلما رآه من البعد ظنه حرة سوداء، وقال ابن موسى: الوَهْط قرية بالطائف هي على ثلاثة أميال من وج كانت لعمرو بن العاص.
ومن أغرب الأمور إليَّ: حدقت كثيرًا في أرض الوَهْط على ما هي عليه الآن فلم أجدها تسع هذه النعمة التي وصفوها ولم أجد الماء كافيًا لشيء منها، بل رأينا عين الوَهْط وكان ذلك في شهر أغسطس لا تجري إلا إلى مسافة قصيرة جدًّا وقال لنا أهل القرية: إنها في بعض السنين التي يكون المطر فيها نزرًا تنقطع تمامًا ويضطرون إلى الاستقاء من المنثناة أي من مسافة ساعة، فكيف كان الوَهْط بتلك النعمة التي حدثوا عنها وهو الآن لا يكاد ماؤه يسقي بعض حيكان وقد ينقطع بعض السنين، إن في ذلك لسرًّا والذي أظنه أنه قد كان الشجر في جبال الطائف لذلك العهد أكثر جدًّا فكان المطر أغزر وكانت العيون أجرى وكانت الجنان أعظم، وإن الذي أصاب هذا الجبال من قلة المطر التي لا تسمع أهل تلك الديار إلا شاكين منها إنما هو من أثر قطع الأشجار وزوال الحراج الملتفة.
ولما كان العرب منحصرين في الجزيرة لا يتجاوز ملكهم شطوطها البحرية وبادية الشام من الشمال كانت الجزيرة عامرة والمدن كثيرة والقرى متصلة والمزارع ناضرة والقصور والجواسق وأماكن النزهة لا يأخذها العد، فإن أراضيها المنبتة كانت تضيق بأهلها فكانوا يعملون فيها بكد عظيم ليستغلوا منها كل ما يقدرون أن يستغلوه ويتذرعون للخصب بأصناف الحيل، فلما ظهر الإسلام وهب العرب للفتوحات ونشر عقيدة التوحيد من جبال الهنكوش إلى جبال الألب وكان خلفاؤهم يندبون للغزوات ويستجيشونهم بدون انقطاع وكانوا هم مادة الإسلام وحملة الدين الجديد إلى الأمم، كانت القواصي تأكلهم والحروب تفني منهم مئات الألوف وكانت قبائلهم أصبحت منتشرة من الصين إلى الهند إلى فارس إلى الروم إلى مصر إلى أفريقيا إلى الأندلس إلى فرنسا إلى جزائر البحر، فلم يبقَ منهم في الجزيرة العدد الذي يقوم بعمرانها.
وكانوا في هذا أشبه بإسبانيا التي بعد فتحها للمكسيك ولأمريكا الجنوبية قد تقهقرت إلى الوراء بما هاجر من أهلها إلى تلك الديار التي فاق فيها الإسبانيول في العدد من بقي منه في وطنهم الأصلي.
فهذا هو السبب الحقيقي في تقلص عمران الجزيرة بعد الإسلام حتى عاد الوَهْط مثلًا دسكر حقيرة بعد أن كان مسطاح الزبيب فيه يظن حرة لسواده واتساعه.
ويظهر من كلام البلاذري أنه كانت تصدر من الطائف غلات عظيمة من الزبيب ومن سائل المحصولات ومن العسل، ولقد بقي من هذا شيء لكنه لا يقاس في قليل ولا كثير إلى ما كان في الجاهلية وصدر الإسلام وإنما غاضت هذه الغلات بغيض العمران الذي يتوقف على الرجال، وكان أكثر الرجال خرجوا إلى الفتوحات واعتمروا أطراف الأرض.
والأصلح الآن لاستئناف العمران طريقتان: إحداهما زرع الحراج والإكثار من غرس الأشجار حتى تكثر الأمطار، فإن الله خلق لكل شيءٍ سببًا وهذه من أسباب الأمطار، والثانية الرجوع إلى السدود والخزانات التي تحفظ المياه وتروي الأرضين عند عطشها وعند الوَهْط مكان ضيق على وج لو أن إدارة الزراعة في الحجاز بنت فيه سدًّا لما كانت كلفته كثيرًا، ولَاسْتأنف به الوَهْط عمرانه القديم.
وأما وادي «لية» الذي يسكنه بنو نضر من هوزان فقد زرته وبت فيه ليلة وهو وادٍ ضيق مستطيل يمتد مسافة أربع ساعات، مبدؤه من بلا السفاينة من ثقيف وهو ينحدر نحو الشرق الجنوبي وعليه من الجانبين البساتين والجنان والزروع وكلها تسقى بالسوائي؛ لأن مياه الوادي تشح كثيرًا في الصيف، وقد ينقطع بعضها عن بعض فلا يبقى منها إلا غدران تردها المواشي أشهرها الذي يقال له غدير البنات وبيوت سكان الوادي مرتفعة عن النهر احتياطًا من السيل؛ لأنه كثيرًا ما تطغى المياه على الجانبين، والبيوت مبنية بالحجر تظن بعضها براجًا منعية، وللوادي تربة هي الحد الأقصى في الخصب فتجد من نماء الشجر ما يحار له العقل وجميع ما في هذه الجنان أشجار مثمرة.
منها الكروم والسفرجل والرمان والفرسيك والحماط والكمثرى وغيرها، وكلها عدا الحماط أي التين هي في الطبقة العليا بين الفواكه، أما الرمان فهو كحب الياقوت ليس له نظير منظرًا وطعمًا وقد اشتهر وادي لية به، ومما يجب على إدارة الزراعة في الحجاز أن تبني في أعلى المعمور من هذا الوادي سدًّا يتكون منه خزان يكفل جميع حاجة الوادي في أيام القيظ عندما تشح آبار السواني وقيل لي: إن خزانًا كهذا لا تزيد كلفته على خمسة أو ستة آلاف جنيه، على حين ما يزيده من ريع البساتين يعدل هذه القيمة من أول سنة، فإن أثمان الفواكه في مكة لا يعادلها شيء، ويمكن للحكومة أن تبني لأهل وادي لية هذا الخزان ثم تسترد منهم كلفته تقسيطًا.
هذا؛ وقد ذكر ياقوت هذا الوادي في المعجم فقال: لية بتشديد الياء وكسر اللام لها معنيان: اللية قرابة الرجل وخاصته واللية العود الذي يستجمر به وهو الألو، ولية من نواحي الطائف مر به رسول الله ﷺ حين انصرافه من حنين يريد الطائف وأمر وهو في لية بهدم حصن مالك بن عوف قائد غطفان وقال حفاف بن ندبة:
وفي أبيات ذكرت في جلذان وقال مالك بن خالد الهذلي:
واستشهد بأبيات أخر على ذكر لية.
وأما جلذان بكسر الجيم وسكون اللام — واختلف في الدال فمنهم من رواها معجمة ومنهم من رآها مهملة — فموضع بقرب الطائف، قال ياقوت: يسكنه بنو نصر بن معاوية من هوازن ومن الأمثال المضروبة: أسهل من جلذان، فنقل ياقوت عن نصر بن حماد أنه حمى قريب من الطائف مستوٍ كالراحة، وجاء في المعجم عن جلدان هذان البيتان لحسن بن إبراهيم الشيباني من سكان الطائف:
ومن الأمثال المضروبة، صرحته بجلذان وبجدان وبجدَّاء إذا تبين لك الأمر وصرح، والتاء في قولهم: صرحت إشارة إلى القصة أو الخطة وقال أمية بن الأسكر:
وقال خفاف بن ندبة يذكر جلذان:
فالكروم المحدقة في «لية» هي من قديم الزمان.
وأما سكان وادي «لية» الآن فأولهم الأشراف الذين يقال لهم الفعور ولهم أفضل البساتين والباقي من العرب شماطيط وأكثرهم من عتيبة ويقال: إن عتيبة هي من هوازن وقد بحثت عن عتيبة في الكتب القديمة فلم أجد إلا قولهم عتيبة قبيلة من العرب وقد ذكروا أن حيًّا من اليمن اسمه عتيب.
وأما هوازن فمن قبائل قيس وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس عيلان، ومن هوازن بنو سعد بن بكر بن هوازن كانوا أفصح العرب وكان النبي ﷺ رضيعًا فيهم، قال في صبح الأعشى نقلًا عن العبر: وقد افترق بنو سعد هؤلاء في الإسلام ولم يبقَ لهم حي فيطرق، إلا أن منهم فرقة بإفريقية من بلاد المغرب بنواحي باجة يعسكرون مع جند السلطان.
ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ومن بني عامر بن صعصعة بنو كلاب الذين هاجروا إلى الشام وكانت لهم دولة وصولة في حلب. ومن بني عامر بن صعصعة بنو هلال، وهم الذين ذكر الهمداني أنهم يسكنون وادي جلذان، وقد هاجر بنو هلال إلى مصر والشام والمغرب ولم يبق لهم في جبال الطائف إلا آثار وأخبار فكل شيء قديم يقول عنه الأهالي إنه من زمن بني هلال.
قال الهمداني: وكان لهم بلاد صعيد مصر كلها وذكرهم ابن سعيد في عرب برقة وقال: منازلهم فيما بين مصر وإفريقية ولم يزالوا إلى أن بايعوا لأبي ركوة في أيام الحاكم العبيدي فرماهم بغيرهم من العرب وأفنى أكثرهم ونزح من بقي منهم إلى المغرب الأقصى فهم مع بني جشم هناك ومنهم طائفة بحلب وطوائف في أسوان وأخميم وأصفون وأسنا من الصعيد.
ولا يزال من بني هلال في الحجاز حرب فيما ذكره ابن سعيد وهم ثلاثة بطون: بنو مسروح وبنو سالم وبنو عبيد الله.
ومن هوازن بنو عُقيل — بضم العين وفتح القاف — وهم بنو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وكانت منازلهم بالبحرين وكان معهم من العرب بنو تغلب وبنو سُليم — بضم ففتح — فاقتتلوا في إحدى المرار وكان بنو تغلب وبنو عقيل يدًا على بني سليم فأخرجوهم من البحرين فجاءوا إلى مصر ومنها نزلوا ببرقة، فأكثر عرب الجبال الأخضر من بني سليم بن منصور، ثم اقتتل بنو تغلب وبنو عقيل فتغلب بنو تغلب على هؤلاء، فخرجوا إلى العراق ومنها تغلبوا على الموصل والجزيرة، وكانت لهم هناك دولة وسلطان، ثم لما جاء الأتراك السلاجقة وانتزعوا منهم بلاد الجزيرة رجع منهم أناس إلى البحرين، وتغلبوا على بني تغلب فيها.
ومن بني عقيل بنو عبادة بالجزيرة الفراتية وبنو خفاجة بالعراق وكانت لهم إمرة فيه.
ومن بطون هوازن بنو جشم وكانوا بالسروات وهي تلال تفصل بين تهامة ونجد، وسرواتهم متصلة بسروات هذيل وقد هاجر أكثرهم إلى بلاد المغرب.
وثقيف من بطون هوازن وقد تقدم ذكر نسبهم ويقال لوادي وج بلاد ثقيف ولمدينة الطائف سوق ثقيف، إلى يوم الناس هذا.
عرض الطائف الجغرافي وسبب تأسيسه
والطائف في الإقليم الثاني وعرضها إحدى وعشرون درجة كما في معجم البلدان، والأظهر في تسميتها بالطائف أنه من الحائط المحدق بها ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب: «نحن بنينا طائفًا حصينًا.»
قال ياقوت: وهي مع هذا الاسم الفخم بليدة صغيرة على طرف واد وهي محلتان إحداهما على هذا الجانب يقال لها طائف ثقيف، والأخرى على هذا الجانب يقال لها الوَهْط، والوادي بين ذلك تجري فيه مياه المدابغ التي يدبغ فيها الأديم يصرع الطيور رائحتها إذا مرت بها وبيوتها لاطئة حرجة، وفي أكنافها كروم على جوانب ذلك الجبل فيها من العنب العذب ما لا يوجد مثله في بلد من البلدان، وأما زبيبها فيضرب بحسنه المثل، وهي طيبة الهواء شامية ربما جمد فيها الماء في الشتاء وفواكه أهل مكة منها، والجبل الذي هي عليه يقال له غزوان، ونقل عن عرام أن الطائف ذات مزارع ونخل وأعناب وموز وسائر الفواكه، وبها مياه جارية وأودية تنصب منها إلى نبالة، وجل أهل ثقيف وحمير وقوم من قريش، وهي على ظهر جبل غزوان وبغزوان قبائل هذيل. ا.ﻫ.
قلت: يظهر أن هذا الواصف لم يشاهد الطائف؛ لأنه لو شاهدها لعرف أنه ليس بها نخيل ولا موز إلا إذا كان يعني بالطائف جميع البلاد التي حولها فقد يوجد في الهابط من جوارها شيء من النخيل.
قالوا: وكانت الطائف تسمى وجًّا باسم وج بن عبد الحي من العماليق، وهو أخو أجا الذي سمي به جبل طيئ، قالوا: وكان رجل من الصدف يقال له: الدمون بن عبد الملك قتل ابن عم له بحضرموت وفر هاربًا. فأتى مسعود بن معتب الثقفي وكان معه مال كثير فرغب إلى ثقيف أن يزوجوه فزوجوه، وكان من رأيه أن يبني له طوقًا مثل الحائط حتى لا يصل إليهم أحد من العرب، فبناه لهم فسميت من ذلك الوقت الطائف وقيل: بل كانت الطائف بين ولد ثقيف وولد عامر بن صعصعة، فلما كثر الحيان قالت ثقيف لعامر: إنكم اخترتم العمد على المدن والوبر على الشجر فلستم تعرفون ما نعرف ولا تلطفون ما نلطف. ونحن ندعوكم إلى حظ كبير: لكم ما في أيدكم من الماشية والإبل والذي في أيدينا من هذه الحدائق فلكم نصف ثمره فتكونوا بادين حاضرين يأتيكم ريف القرى ولم تتكلفوا مئونة وتقيمون في أموالكم وماشيتكم في بدوكم ولا تتعرضون للوباء — كانوا يعلمون أن الوباء إنما يكون في الحواضر — ولا تشتغلون عن المرعى. ففعلوا ذلك فكانوا يأتونهم كل عام فيأخذون نصف غلاتهم، وقد قيل إن الذي وافقهم عليه كان الربيع.
فلما اشتدت شوكة ثقيف وكثرت عمارة وج رمتهم العرب بالحسد وطمع فيهم من حولهم وغزوهم، فاستغاثوا ببني عامر فلم يغيثوهم فأجمعوا على بناء حائط يكون لهم حصنًا، فكانت النساء تلبن اللبن والرجال يبنون الحائط حتى فرغوا منه وسموه الطائف لإطافته بهم وجعلوا لحائطهم بابين: «أحدهما»: لبني يسار، «والآخر»: لبني عوف، وسموا باب بني يسار صعبًا وباب بني عوف ساحرًا، ثم جاءهم بنو عامر ليأخذوا ما تعودوه فمنعوهم منه وجرت بينهم حرب انتصرت فيها ثقيف وتفردت بملك الطائف فضربتهم العرب مثلًا، فقال أبو طالب بن عبد المطلب:
وقال بعض الأنصار:
وذكر المدائني: أن سليمان بن عبد الملك لما حج مر بالطائف فرأى بيادر الزبيب فقال: ما هذه الحرار؟ فقالوا: ليست حرارًا ولكنها بيادر لزبيب، فقال: لله در قسي، بأي أرض وضع سهامه وبأي أرض مهد عش فراخه؟! ا.ﻫ.
قلت: لعل سليمان بن عبد الملك سمع بذكر عنب الطائف الشهير فحج إليه من بعد أن حج البيت ورأى ما رأى منه، وهنا يخطر ببالي قصة عن شدة نهمه رواها عنه أحد أصحابه وهو أنهم ذهبوا معه يومًا إلى بستان للنزهة فأتوه بزنبيلين أحدهما ملآن تينًا والآخر ملآن بيضًا، فلم يزل يأكل من هذا تينة ومن هذا بيضة حتى أتى عليهما، ثم قام يطوف على الأشجار المثمرة فقطف بيده من كل نوع وأكل أكلًا ذريعًا.
فلا عجب أن عرج أمير المؤمنين سليمان على كروم الطائف.
خبر فتح النبي ﷺ الطائف
قال ياقوت: ثم حسدهم طوائف العرب وقصدوهم فصمدوا لهم وجدوا في حربهم، فلما لم يظفروا منهم بطائل ولا طمعوا منهم بغرة، تركوهم على حالهم أغبط العرب عيشًا إلى أن جاء الإسلام فغزاهم رسول الله ﷺ فافتتحها سنة تسع من الهجرة صلحًا وكتب لهم كتابًا. نزل عليها رسول الله ﷺ في شوال سنة ثمان عند منصرفه من حنين وتحصنوا منه واحتاطوا لأنفسهم غاية الاحتياط فلم يكن إليهم سبيل. ونزل إلى رسول الله ﷺ رقيق من رقيق أهل الطائف منهم أبو بكرة نفيع بن مسروح مولى رسول الله ﷺ في جماعة كثيرة منهم الأزرق الذي تنسب إليه الأزارقة والد نافع بن الأزرق الخارجي الشاري فعتقوا بنزلهم إليه، ونصب رسول الله ﷺ منجنيقًا ودبابة فأحرقها أهل الطائف، فقال رسول الله ﷺ: «لم يؤذن لي في فتح الطائف» ثم انصرف عنها إلى الجعرانة ليقسم سبي أهل حنين وغنائمهم فخافت ثقيف أن يعود إليهم فبعثوا إليه وفدهم وتصالحوا على أن يسلموا ويقروا على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم، فصالحهم رسول الله ﷺ على أن يسلموا وعلى أن لا يزنوا ولا يربوا وكانوا أهل زنا وربا. ا.ﻫ.
قال ياقوت: وكان معاوية يقول: أغبط الناس عيشًا عبدي أو قال: مولاي سعد وكان يلي أمواله بالحجاز ويتربع جدة ويتقيظ الطائف ويشتو بمكة.
ولذلك وصف محمد بن عبد الله النميري زينت بنت يوسف أخت الحجاج بالنعمة والرفاهية فقال:
انتهى.
وقال البلاذري في فتوح البلدان عن غزوة الرسول ﷺ للطائف ما يأتي: «لما هزمت هوازن يوم حنين وقتل دريد بن الصمة أتى فلُّهم أوطاس، فبعث إليهم رسول الله ﷺ أبا عامر الأشعري فقتل، فقام بأمر الناس أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري وأقبل المسلمون إلى أوطاس، فلما رأى ذلك مالك بن عوف بن سعد أحد بني دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وكان رئيس هوازن يومئذ هرب إلى الطائف فوجد أهلها مستعدين للحصار، قد رمُّوا حصنهم وجمعوا فيه الميرة فأقام بها وسار رسول الله ﷺ بالمسلمين حتى نزل الطائف فرمتهم ثقيف بالحجارة والنبل، ونصب رسول الله ﷺ منجنيقًا على حصنهم، وكانت مع المسلمين دبابة من جلود البقر، فألقت عليها ثقيف سكك الحديد المحماة فأحرقتها فأصيب من تحتها من المسلمين، وكان حصار رسول الله ﷺ الطائف خمس عشرة ليلة، وكان غزوه إياها في شوال سنة ثمان، قالوا: ونزل إلى رسول الله رقيق من رقيق أهل الطائف، منهم أبو بكرة بن مسروح مولى رسول الله ﷺ، واسمه نفيع، ومنهم الأزرق الذي نسبت الأزارقة إليه، كان عبدًا روميًّا حدادًا، وهو أبو نافع بن الأزرق الخارجي فأعتقوا بنزولهم، ويقال: إن نافع بن الأزرق الخارجي من بني حنيفة، وأن الأزرق الذي نزل من الطائف غيره.
ثم إن رسول الله ﷺ انصرف إلى الجعرانة ليقسم سبي أهل حنين وغنائمهم، فخافت ثقيف أن يعود إليهم فبعثوا إليه وفدهم فصالحهم على أن يسلموا ويقرهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم واشترط عليهم أن لا يربوا ولا يشربوا الخمر، وكانوا أصحاب ربا وكتب لهم كتابًا وكانت الطائف تسمى وج، فلما حصنت وبني سورها سميت الطائف.»
ثم قال البلاذري: «حدثني المدائني عن أبي إسماعيل الطائفي عن أبيه عن أشياخ من أهل الطائف، قال: كان بمخلاف الطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب فأقاموا بها للتجارة فوضعت عليهم الجزية، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف، قالوا: وكانت للعباس بن عبد المطلب رحمه الله أرض بالطائف، وكان الزبيب يحمل منها فينبذ في السقاية للحاج، وكانت لعامة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة فيصلحونها، فلما فتحت مكة وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المنكبين وصارت أرض الطائف مخلافًا من مخاليف مكة، قالوا: وفي يوم الطائف أصيبت عين أبي سفيان بن حرب.» ا.ﻫ.
قلت: إن من عرف أن أكثر المؤرخين ينقلون في الفتوح عن البلاذري نظرًا لقرب روايته من أيام الفتح ومتانة أسانيده، وقارن بين رواية ياقوت الحموي في معجم البلدان ورواية البلاذري في فتوح البلدان، علم أن ياقوت إنما أخذ عن البلاذري؛ لأن العبارة تكاد تكون واحدة، وقد نقلها البلاذري عن الكلبي، وإنما تجنب ياقوت أن يذكر أن الأزرق الذي نسبت الأزارقة إليه «كان عبدًا روميًّا حدادًا»؛ لأن ياقوت نفسه كان عبدًا روميًّا، فحذف من روايته عن البلاذري ما يُذكِّر الناس بأصله هو.
ونادى منادي رسول الله ﷺ: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلًا منهم أبو بكرة نزل في بكرة فقيل أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله ﷺ ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمون يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، ولم يؤذن لرسول الله ﷺ في فتح الطائف واستشار رسول الله نوفل بن معاوية الديلي فقال: «ما ترى» فقال ثعلب بن جحر: إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، فأمر رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف، قال: رسول الله ﷺ: «فاغدوا على القتال»، فغدوا فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله ﷺ: «إنا قافلون إن شاء الله»، فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله ﷺ يضحك، وقال لهم رسول الله ﷺ: «قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»، فلما ارتحلوا واستقلوا قال: «قولوا: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون» وقيل: يا رسول الله: ادع الله على ثقيف، فقال: «اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم.»
أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، أخبرنا أبو الأشهب أخبرنا الحسن، قال حاصر رسول الله ﷺ أهل الطائف قال: فرمي رجل من فوق سورها فقتل فأتى عمر فقال: يا نبي الله ادع على ثقيف، قال: «إن الله لم يأذن في ثقيف» قال: فكيف نقتل في يوم لم يأذن الله فيهم؟ قال: «فارتحلوا»، فارتحلوا. ا.ﻫ.
وقالوا في كتب السير في سبب غزاة الرسول للطائف: أنه لما حصرته ﷺ قريش في الشعب مات عمه أبو طالب الذي كان يحوطه، وماتت زوجته خديجة التي كانت تثبته وتقر عينه في الناس، خرج إلى الطائف من شدة الكرب يرجو عند أهلها النصرة؛ لأن الله جعل الطائف متنفسًا لأهل مكة، فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف وهم ثلاثة إخوة عبد ياليل ومسعود وحبيب، أبناء عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، وكانوا سادات قومهم، وكانت تحت أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته فيما جاء به، فقال له أحدهم: أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم قدرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله ﷺ وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا ذلك عني»، وكره ﷺ أن يبلغ ذلك قومه فيثيرهم، ولكن هؤلاء لم يفعلوا فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس ونحوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، ثم جلس في ظل حَبَلَة من عنب — الحبلة بالتحريك: شجرة العنب — وابنا ربيعة ينظران إليه.
فلما اطمأن رسول الله ﷺ قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع بي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك وعلي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.»
فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمتهما؛ فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا قيل يهوديًّا يقال له: عداس، فقالا له: يا عداس خذ قطفًا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق واذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له: يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ ثم قال له: كُل، فلما وضع رسول الله ﷺ فيه يده قال: «بسم الله» ثم أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله: «ومن أي البلاد أنت؟» فقال: أنا رجل نصراني من أهل نينوى، فقال رسول الله: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى؟» فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي» فأكب عداس على رسول الله يقبل رأسه ويديه وأسلم، فقال أحد ابني ربيعة لأخيه أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ فقال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه، ولكن عداسًا لم يتزعزع بقولهما ولا يزال في المثناة محل يزار يقال: إنه المكان الذي أسلم فيه عداس.
وقد روى أهل السير أن رسول الله لما خرج إلى الطائف يدعو ثقيفًا إلى الإسلام كان معه زيد بن حارثة وأقام شهرًا يدعوهم إلى الله ولم يجيبوه، ثم أغروا به سفهاءهم وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى لقد شج في رأسه ﷺ وحتى إن رجليه لتدميان وزيد يقيه بنفسه، ثم إنه غزا الطائف وضرب في أثناء حصاره الطائف قبتين لزوجتيه؛ أم سلمة وزينب رضي الله عنهما، وكان يصلي بين القبتين، فلما أسلمت ثقيف بَنَى عمرُو بن أمية بن وهب بن مالك على مصلى رسول الله ﷺ مسجدًا.
قالوا: ونصب الرسول على حصن الطائف منجنيقًا قيل أشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقيل قدم به الطفيل بن عمرو، وقيل يزيد بن زمعة ومعه دبابتان، وقيل قدم بالمنجنيق وبالدبابتين خالد بن سعد بن حريش، وكانوا يضعون الدبابات ويغطونها بجلود الإبل والبقر ويدخلون في جوفها فتقيهم من السهام والحجارة.
ثم قال ابن فهد في تاريخه للطائف نقلًا عن الحافظ مغلطاي: إن هذا المنجنيق هو أول منجنيق رمي به في الإسلام، وقد نثر رسول الله الحسك حول حصن الطائف، ورمى رجال ثقيف الدبابتين بسكك الحديد المحماة بالنار فأحرقت الدبابتين، وأصيب جماعة من المسلمين وقالوا إن رسول الله قال: «لم يؤذن في ثقيف» ثم انصرف من الطائف إلى الجعرانة، وأرادوه على أن يدعو على ثقيف فكان دعاؤه: «اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم.»
ولما أسلمت ثقيف ثبتت وحسن إسلامها ولما لحق رسول الله بالرفيق الأعلى، وارتدت العرب ثبتت ثقيف على الإسلام ومن ارتد منهم قتلوه، وقالوا: ما دخلنا آخر الناس إلا لما تبين لنا من الحق.
وجوب اتخاذ آلات الحرب الحديثة وفنون صناعاتها
قلت: إن رسول الله ﷺ قد استخدم إذن الصناعة في الحرب، بما أجمعت عليه الرواة من ضربه حصن الطائف بالمنجنيق ونثره حوله الحسك وقتاله بالدبابات، وكل هذا من الصناعة المحضة فالمنجنيق كان بمنزلة المدفع في هذه الأيام، والحسك أشبه بالأسلاك الشائكة، والدبابات هي دبابات «التانك» التي يصفحونها اليوم بالفولاذ حتى لا يخرقها الرصاص، وكانوا في ذلك العصر يجللونها بالجلود وعليه يكون استعمال الآلات الحربية بأنواعها سنة نبوية أكيدة لا يجوز إهمالها ولا التهاون فيها، هذا فضلًا عن الأمر الإلهي الصريح الذي تتضمنه آية: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ.
ونعود إلى الدبابات فنقول: إن الإفرنج قد استعملوها من القديم، وأهم ما روي عنهم فيها ما صنعوه في حصار عكا في الحرب الصليبية، فقد صنعوا ثلاثة أبراج طول البرج ستون ذراعًا جاءوا بخشبها من جزائر البحر وعملوها طبقات وشحنوها بالمقاتلة، ولبسوها جلود البقر والطين بالخل، وقربوها من الأسوار، وكادوا يأخذون بها البلد؛ لأن المسلمين رموها بالنيران فلم تعمل فيها فجاءوا في أمرهم ودخل عليهم من الخوف ما لا يوصف، قال أبو الفداء: فتحيل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، وقد روى بهاء الدين بن شداد في سيرة صلاح الدين يوسف الأيوبي، وكان ابن شداد شاهدًا تلك الوقائع ملازمًا للسلطان.
إن الذي تحيل لإحراق هذه الأبراج المسيرة على العجل بعد أن أعياهم أمرها كان نحاسًا حمويًّا قال للمسلمين: أنا أكفيك أمرها بشرط أن تهيئوا لي كذا وكذا، وذكر موادًّا أتوا له بها، فطبخ من هذه المواد ثلاثة قدور ورمى كل دبابة بقدر منها فلم تكد تصيبها حتى اشتعلت بمن فيها جميعًا فكان من فرج المسلمين بصناعة هذا النحاس الحموي ما لا تفي به عبارة.
فاليوم قد انعكست الأمور وصرنا في وسائل الدفاع عيالًا على أعدائنا أنفسهم، فإن طاب لهم أن يتفقوا علينا ويمنعوا عنا السلاح بأجمعه أمسينا وليس ما ندافع به طياراتهم ودباباتهم ومدافعهم وقذائفهم سوى أصابعنا وأظافرنا، ولقد رأيناهم بالفعل قرروا منع الأسلحة عن جزيرة العرب في مؤتمر نزع السلاح الذي انعقد منذ بضع سنوات في جنيف ووقع هذا القرار بأصوات أكثرية الدول بناء على رغبة إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وتوابعهن وغاية ما فعلته الأقلية أنها استنكفت عن إعطاء الرأي لا سلبًا ولا إيجابًا، وهي لو كانت راضية عن سياسة الأكثرية لما تأخرت عن موافقتها على منع السلاح عن العرب.
فكان اعتناء العرب وجميع العالم الإسلامي بقضية التسلح فرضًا عليهم كفرض الصلاة؛ إذ لا بقاء لهم بدونه وكان هذا متوقفًا على الصناعة التي هي من ثمرات العلم الطبيعي ولأجل هذا كان انصراف المسلمين إلى إتقان العلوم الطبيعية وإدخالها بحذافيرها في برامج تعليمهم من الأمور الحيوية التي لا يجوز أن يغفلوا عنها طرفة عين.
وأراني قد بعدت عن الموضوع الذي كنت فيه وليست هذه بأول مرة جرنا الاستطراد إلى ما هو بعيد عن المقام الذي نكون فيه، ولكننا في كل مرة لم نخرج إلى شيء غير مرتبط بأصل الموضوع.
عود إلى الطائف وآثار حضارة العرب فيها
ولنعد إلى سياحتنا في الطائف وجبالها بعد أن روينا ما لا بد منه من تاريخها فنقول: من أنصع الدلائل على مدنية العرب، لا في دور الجاهلية فقط بل في صدر الإسلام أيضًا، كثرة الكتابات المنقوشة على الصخور.
فمن المعلوم أن الأمم الهمجية لا تعرف قيد الحوادث ولا تخليد الذكريات ولا تفكر في إطلاع الأعقاب على ما جرى في سالف الأحقاب وإنه لا يُعنى بأمور كهذه إلا من علا كعبهم في الحضارة وبعد شأوهم في العمارة وهذه أمم الإفرنجة اليوم بعد أن بلغوا ما بلغوه من هذا المدى البعيد في المدنية تجدهم لا يبرحون يشيدون المباني وينحتون التماثيل ويقيمون الأنصاب وينقشون عليها كلها التواريخ المتعلقة بها خدمة لعلم التاريخ في مستقبل الدهر، وحرصًا على أطراد سلسلته ووصل فصوله وتفاديًا من انقطاع أسانيده وضياع مصادره، وبالجملة لا يجتمع حفر الكتابات والنقش على الصخور مع الجهل والانحطاط وخلو الدار من الفاضل، وما عثرنا في أثناء الحفر عمدًا أو عرضًا على حجارة من أنقاض السلف عليها كتابات قديمة إلا وجدناها محررة بلغات أمم عظيمة الآثار، جليلة المقدار، كالرومانيين واليونانيين ومن قبلهم كالمصريين والفينيقيين والحثيين والبابليين والعرب الذين كان الناس لا يدركون درجة مدنيتهم العالية في الأعصر المتوغلة في القدم إلى أن اطلعوا على ما تركوه من المباني الباذخة والقصور الشاهقة والمصانع والسدود، وغير ذلك من الآثار الدالة على رسوخ الحضارة وقرءوا ما عليها من الكتابات بالحميرية.
وملخص الكلام: أنه لا يتصور العقل بلادًا تكثر فيها النقوش والرسوم على الحجارة المنضودة في الأبنية أو الصخور المبعثرة في الجبال والفلوات إلا إذا كانت تلك البلاد في أعصرها الخوالي حافلة بالعمران موصوفة بكثرة السكان.
ومما لا ريب فيه أن الطائف وجبالها كانت من جملة أقسام الجزيرة العربية المعمورة وأنه قد تقلص عمرانها كما تقلص عمران سائر الجزيرة بسبب الفتوحات الإسلامية التي ضربت من الجزيرة إلى الصين والهند شرقًا وإلى الأناضول والطاغستان شمالًا وإلى الأطلنتيك غربًا وكانت كلها على أيدي العرب الذين التهمتهم القواصي وأفنى رجالهم قراع الكتائب، فخلا كثير من ديارهم الأصلية وصفرت الجزيرة من تلك الجموع التي كانت تموج بها وتداعت القصور وانهارت السدود وتعطلت القنى وتصوحت النضرة وعطشت الأرض، وأما الكتابات المنقوشة على الصخور فلم يضر بها الجوع ولا العطش، فبقيت على حالها ناطقة بما كان ثمة من عمران سابق ومجد سامق.
ولقد أتيح لي أن أرى طرفًا من هذه الكتابات وأن أقرأ بعضها وأن يشكل علي قراءة البعض الآخر، فعولت فيه على بعض الأساتيذ المخصصين بمعرفة الخطوط القديمة وذلك أني نسخت ما قرأته في جبل السكارى، في وسط الطائف وبعثت به إلى برلين وذلك إلى الأستاذ مروتيز من فحول المستشرقين، فحل الكتابة وأعادها لي ولم تكن من الخط المسند بل من الخط الكوفي القديم الذي لم نألفه فإن الخط الكوفي ليس شكلًا واحدًا وهذه الكتابات خالية مع الأسف من التواريخ.
وأكثر ما عثرت به من هذه الكتابات في كل محل خلو من ذكر السنة التي كتبت فيها إلا ما كان منها متأخرًا من آثار القرن الرابع والقرن الخامس للهجرة وما بعد ذلك فهو مؤرخ بالأشهر والسنين كما هي العادة ويظهر أن الكتابات التي في جبل السكارى هي من القرن الأول للهجرة، وربما كان بعضها من زمن الجاهلية ونص واحدة منها: «اعف يا الله، عبدك أود بن موسى» ونص أخرى: «إياد بن عيفر بن أوس، بربه واثق»، ونص أخرى: «بالله محمد بن عبد الرحمن بن أبي — كلمة لم تمكن قراءتها — واثق بالله»، ونص أخرى: «اللهم حكم عبدك عيفر بن أبي قبيع من النادي وكتب» ونص أخرى: «اللهم صلِّ على محمد النبي وكتب محمد بن أبي قبيع» وجبل السكارى هذا على طرف الطائف إلى جهة المثناة رابية لا تعلو أكثر من ستين مترًا عن سطح الأرض، لكنها لشدة قربها من البلدة يشرف الذي يتوقل فيها على جميع الطائف وبساتينها فيقصد الناس النزهة هناك، ولما كان الجبل كله صخريًّا كانت فيه جنادل كثيرة بعضها فوق بعضٍ ومنها ما هو ملاقٍ الآخر على شكل يتكون منه شيء أشبه بالكهف، فيتقي الذين يقيلون تحت هذه الصخور حر الشمس.
وقد كان لنا هناك قيلات لم نزل نتذكر لطفها بدعوة الشيخ عبد القادر الشيبي كبير سدنة البيت الحرام الذي هو المثل البعيد في الكرم وحسن الوفادة والذي ذكرته مرارًا في هذه الرحلة إلى أن قال لي الكثيرون: تالله تفتأ تذكر الشيبي، فقلت ارتجالًا:
وبعد أن برحت الحجاز بقيت المكاتبة بيني وبين الشيخ المشار إليه متصلة يتخللها النظم والنثر ومقابلة الشيء بمثله من القافية والبحر ولا عجب في فصاحة بني شيبة وهم لباب قريش وخلاصة العرب ولنقصر فيهم سابق حتى لقد قرأت في «بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس» لأحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي أن أبا العباس أحمد بن رشيق الكاتب لما كان في سن المراهقة يطلب علم النحو بتدمير من بلاد الأندلس دخل عليهم من طريق البحر رجل أسمر ذكر أنه من بني شيبة حجبة البيت، وأنه يقول الشعر على طبعه ولا يقرأ ولا يكتب، وكان يقول إنه دخل عليه اللحن بدخول الحضر وروى ابن رشيق من شعره:
فأنت ترى فصاحة الأمي منهم، فما ظنك بالمتأدب الذي قرأ العلم وثافن العلماء ورأى من رجال الإسلام قصاد البيت الحرام ما لم يتيسر لأحد أن يراه؟!
ثم إن لهذا البيت من مزية خدمة البيت ما لا يشركهم فيه غيرهم منذ بضعة عشر قرنًا حتى إن النبي ﷺ لما فتح مكة قال لقريش: «ما تظنون؟» قالوا: نظن خيرًا ونقول خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: «فإني أقول كما قال أخي يوسف عليه السلام: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، ثم قال ﷺ: «ألا كل دين ومال ومأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قديم إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.»
وحدثوا من طريق آخر أنه ﷺ قال في خطبة: «الحمد لله الذي صدق وعده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة في الجاهلية وكل دم دعوى موضوعة تحت قدمي، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» وقالوا إن النبي ﷺ كان أخذ مفتاح البيت يوم فتح مكة من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ثم نزلت الآية: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا، فاستدعى عثمان وأعاد إليه المفتاح قائلًا له: «خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه لا ينزعها منكم إلا ظالم» وفي رواية أخرى: «خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا يظلمكموها إلا كافر»، وقيل: «إلا ظالم»؛ ولهذا بقي مفتاح البيت في هذا البيت إلى اليوم وليس في مكة أعرق منهم؛ لأنه لم يبقَ من صدر الإسلام ملازمًا مكة بسبب سدانة البيت غيرهم، ولقد رأيت فتاوى كثير من العلماء في وجوب البر بهم مكافأة على هذه الخدمة المقدسة التي اختصوا بها بمحكم الذكر من قديم الدهر.
وهذا؛ ولقد ذكر السيد خير الدين الزركلي جبل السكارى الذي كنا بصدده وقال: إنهم يسمونه «أم السكارى» ورُوي عن قاضي الطائف الذي كان يومئذ (سنة ١٣٣٩)، أن على هذا الجبل أسطرًا تاريخها سنة ١٨٨ قال: فصعدته ورأيت كتابات كثيرة ولم أرَ التاريخ الذي ذكره «قلت»: وأنا لم أرَ كتابة عليها تاريخ، ولكن يجوز أن تكون على صخر لم يقع نظرنا عليه فإن هذا الجبل مغطى بالصخور وفيه مقطع حجارة لبناء أهل الطائف وليس كل ما يراه الواحد يراه الآخر.
وأما تسمية هذا الجبل ﺑ «أم السكارى» أو جبل «السكارى» فنظنها من جهة اجتماع الناس فيه للنزهة والشرب من أيام الجاهلية، ويقال: إن أبا سفيان بن حرب إنما اجتمع مع سُمية أم زياد في هذا الجبل أتاه بها أبو مريم الخمار.
وهناك جبل مناوح لمسجد ابن عباس على مسافة ٢٠ دقيقة منه، فيه صخور كثيرة عليها كتابات وصور حيوانات، ومن هذه الكتابات ما يظهر أنه قديم ومنه ما هو من القرن الثالث أو الرابع أو الخامس، وقد نقل الخير الزركلي منها كتابة هي: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وفي آخرها: «محمد بن مهدن».
وبينما كنا قافلين من وادي «لية» إلى الطائف رأينا أيضًا كتابات على صخور منها كتابة ممحوة بعض كلماتها فهمنا منها أنه كان أصاب البلاد قحط وأمطروا بعد ذلك.
ورأينا كتابات على الصخور في طريق الطائف إلى وادي محرم وقد تقدم أننا رأينا خطوطًا كوفية وأخرى من القرن السادس في سيدنا عكاشة من أرض الوَهْط.
وقيل لي: إن بين المدينة المنورة وحائل كتابات كثيرة ولا أعلم هل هي من الخط الكوفي أو من الخط النبطي أو من خطوط أخرى؟
وغاية ما يدرك الإنسان من كثرة هذه الخطوط في جزيرة العرب أنها كانت حافلة بالسكان، بالغة الشأو الأقصى من العمران، وأن الفتوحات الإسلامية أثرت في درجة عمرانها فغلبت عليها البداوة في التالي ويظن بعضهم أن هناك أسبابًا طبيعية أيضًا تقلص بها العمران: من غيض مياه، ونضوب أنهار جارية وما أشبه ذلك مما حدا العرب إلى الجلاء والتفرق في الأقطار.
ونعود إلى الطائف فنقول: إن عمرانها كان قبل الحرب العامة أكثر منه اليوم بكثير وإنه بسبب الحرب بين الشريف حسين والأتراك ثم بينه وبين النجديين خرب جانب كبير منها ونزح أكثر سكانها.
(٥-١٩) إشراف الحجاز على العمران، بشمول العدل والأمان
وقد بدأ عمرانها بل عمران الحجاز كله بالتراجع في هاتين السنتين بعد استقرار الأمن وشمول الدعة مما أقر به القاصي والداني واعترف الناس بالفضل فيه لله ثم لابن سعود.
ولقد شافهتنا هناك الأهالي في الفرق الذي بين حالتهم الحاضرة وحالتهم الماضية فأجمعوا على أن نعمة الأمن التي هم متمتعون بها الآن لم يعرفوا شيئًا منها من قبل لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم ولا سمعوا بها عن سلفهم.
حدثني بعض الأشراف الهاشميين من أولاد أمراء مكة أنفسهم أنهم كانوا في القرى التي لهم حول الطائف يوصدون أبوابهم ليلًا ولا يفتحونها لأي طارق خيفة الغيلة وحذرًا من سطو اللصوص حتى جاء هذا العهد السعودي فصاروا يأمنون أن يبيتوا وأبوابهم مفتحة وصاروا يفتحون لأي طارق جاءهم.
وحدثني الجميع أنهم كانوا لا يقدرون على التجوال إلا مسلحين، فأصبح الآن كل إنسان يجول في الحواضر والبوادي أعزل لا يحمل شيئًا ولا السكين وقد يكون حاملًا الذهب ولا يخشى عادية ولا حادثة، وكثيرًا ما يترك الناس أوقار دوابهم في قارعة الطريق وتبقى أيامًا وليالي إلى أن يعود أصحابها فيأخذوها ولا يجرؤ أحد أن ينظر إليها.
وكل يوم يؤتى إلى دوائر الشرطة في كل بلدة بأمتعة وأسباب وحوائج وأموال منها الكثير ومنها القليل ومنها الثمين ومنها الخسيس مما يجده السابلة في الطرق اتفاقًا، فلا تجد أحدًا يطمع في شيء بعد أن كان الدعارة يذبحون ابن السبيل من أجل حاجة لا تكاد تساوي قطميرًا.
سبحان الذي أدال من تلك الحال لهذه الحال وأوقع الرعب في قلوب الدعار في السهول والأوعار وليس في باب الأمن في ممالك ابن سعود متطلع لمزيد وقصار ما يتمنى الإنسان دوام هذه النعمة.
ومن هذا الباب أن الثارات والدماء كانت بين قبائل العرب متصلة والغارات مستمرة، وأنه إذا وقع دم بين قبيلة وأخرى انقطع كل اتصال بينهما وصار ابن إحداهما لا يقدر أن يمر بأرض الأخرى إلا تحت خطر القتل، وقد سمعت من القبائل التي شافهتها في الحجاز أنها إلى زمن استيلاء ابن سعود كان بعضها لا يقدر أن يدخل منطقة بعض ولو كان في أقرب محل إليه، وأن كل ذلك قد نسخ الآن بأحكام ابن سعود وصار الناس يمر بعضهم بأرض بعض عزلًا من السلاح ولا يخشى أحد منهم مكروهًا وانطوت تلك الثارات والذحول كأنها لم تكن ولا نظن أن الأعراب ينسون الثارات وليس ذلك من طبيعتهم، ولكنهم إذا وقعت هيبة السلطان في قلوبهم وعرفوا أن ليس عند السلطان إلا العدل وإقامة الحد الشرعي دون هوادة مع أحد انقادوا للأحكام انقياد الغنم.
لهذا نجد العمران قد بدأ يتراجع إلى الحجاز بشمول الأمن واستراحة الفكر؛ فالقوافل والسيارات الكهربائية ذاهبة جائية تخترق الصحاري بالأمنة التي تمر بها في شوارع البلد الحرام والناس بعد أن أمنوا على أموالهم وزروعهم وضروعهم قد نشطوا للعمل ووثقوا بالمستقبل، وإذا مضت عشرون سنة، وهذه الحالة لم تتبدل وهذه الأمنة ممتدة الرواق على البلاد كما هي اليوم؛ فإن البلاد تسير شوطًا بعيدًا في ميدان الفلاح ويتضاعف عدد قَاطينها، وترتفع أثمان أراضيها ويقصد إليها الكثيرون من أهل العالم الإسلامي الذين يثقل عليهم حكم المستعمرين الأوروبيين، كما كانوا بدءوا يهاجرون إليها قبل الحرب العامة، مع أن أمنة السوابل لم تكن حينئذ كما هي الآن.
ومن الأخلاط المشهورة التي شهرتها لا تمنع كونها غلطًا الظن بأن بلاد الحجاز هي من القحولة بحيث لا تتحمل عددًا من السكان يزيد على أهاليها الحاضرين وإن زاد فلا يكون إلا قليلًا، وأن الحجاز ناشفة وأن الحجاز يابس وأن الحجاز كثير الحجار والحرار، قليل الرياض والغياض، غير أريض الأراض إلى غير ذلك من وجوه الاعتراض وهذا كله من الكلام المرسل بدون تحقيق، الذي يقوله من لا يعرف الحجاز ولا يعرف شيئًا عن الحجاز أو بعض الكسالى من أهل الحرمين الشريفين الذي يبدون ويعيدون أمام حجاج البيت الحرام وزوار الروضة النبوية عن فقر الحجاز تعمدًا منهم، ليستزيدوا وابر الحجاج بهم ويستدروا عوارف العالم الإسلامي عليهم.
وحقيقة الحال أنه لو كان سكان الحجاز ثمانية أو عشرة ملايين نسمة لكان ثمة مكان لهذا القول؛ ولكن بدون أن نعرف بالتدقيق عدد أهالي الحجاز نقدر أن نقول: إنهم جميعًا بدوًا وحضرًا لا يزيدون على مليون نسمة وربما لا يناهزون هذا العدد، وأن من عرف جزءًا من الحجاز — لا كله — علم أن الحجاز إذا قام أهله على فلحه وزرعه حق القيام وأعاش منهم ملايين بالراحة التامة وأصار إليهم من الخيرات ما لا يذكر موسم الحج في جانبه شيئًا.
ولقد رأيت على مقربة من مكة وادي فاطمة الممتد إلى وادي الليمون مسافة خمس عشرة ساعة فرأيت جنة من جنان الله في أرضه لا تفضلها بقعة لا في الشام ولا في مصر ولا في العراق.
ولما كنت في المدينة المنورة قبل الحرب العامة وجولت في عواليها والبقاع التي تليها، وشاهدت زكاء تلك الأرضات، وسمعت خرير هاتيك المياه قدرت أن البلدة الطيبة وحدها إذا كانت سكة الحجاز الحديدية متصلة بها وبقيت المهاجرة إليها من الآفاق قد تحمل نصف مليون نسمة ولا يتكأدها أمر معيشتهم، وقد كان بلغ عدد سكان المدينة قبل الحرب العامة نحو خمسين ألف نسمة، وصار المتر المربع من الأرض الفضاء في وسط البلدة يباع بعشر جنيهات وفي الضواحي بجنيه واحد، وكانت الناس مقبلة على الشراء من كل جانب فلما انقطعت السكة الحديدية الحجازية الواصلة بين المدينة والشام بسبب استئثار دولتي فرنسا وإنكلترا اللتين وضعتا أيديهما على قطع هذا الخط التي في سوريا وفلسطين والبلقاء وجهلتا بل هضمتا حقوق المسلمين الخاصة فيه، تقلص عمران المدينة المنورة ونزل عدد سكانها من الخمسين ألفًا إلى ١٥ ألفًا، كما أن جميع القرى التي كانت على جوانب الخط مثل: معان، وتبوك ومداين صالح، والعلا وغيرها قد تراجعت إلى الوراء بعد أن كانت السكة قد بدأت تعيد إليها غابر عمارتها، ولعل التخوف من عمران الحجاز كان من جملة الأسباب التي حدت دولتي إنكلترا وفرنسا على المعارضة في تسليم السكة الحجازية الحديدية للمسلمين … فإن هاتين الدولتين اللتين تسلطتا على نحو ١٥٠ مليون مسلم تكرهن أن يكون لهم ملجأ تهوي إليه أفئدتهم ويكون معمورًا وتتوافر فيه أسباب الراحة وينتهي الأمر بازدحام السكان فيه «ولا سيما الحجاز، ولا سيما الحجاز، ولا سيما الحجاز».
ولكن استئناف عمران الحجاز لا مناص منه مهما وضع الأجانب أعداء الإسلام في طريقه من العراقيل والعواثير؛ لأن المسلمين يأرزون إلى الحجاز من كل صوب كما تأرز الحية إلى وكرها، وقد كانوا يشتكون قلة الأمنة في السبل فقد أزيحت هذه العلة بتمامها بفضل الله ثم بفضل عبد العزيز بن سعود، وقد كانت تطول عليهم المراحل، وتتعبهم أكوار الرواحل فالآن قامت السيارات الكهربائية مقام الأباعر وطوت تلك المسافات الطول طيَّ السجل للكتاب، ولا بد من أن يأتي دور السكة الحديدية يومًا فتكمل من المدينة إلى مكة ويمتد خط من جدة إلى مكة ثم من مكة إلى الطائف، وإذا كان العرب عربًا ساروا به من الطائف إلى أبها إلى صنعاء اليمن إلى عدن، فإن الأمة العربية سائرة إلى الوحدة مهما عارض في ذلك اللئام من أعدائها والمتفلسفون من أبنائها، وإن هذه الوحدة آتية لا ريب فيها ولو بعد مائة سنة أو أكثر.
وطالما قلت: إن من أهم الشروط الأساسية لهذه الوحدة هو مد الخطوط الحديدية بين الشام وجزيرة العرب، والعراق وجزيرة العرب، على أن تكون هذه الخطوط للعرب وبأيدي العرب.
وبينما كنت أقرأ ترجمة حياة «كافور» مؤسس الوحدة الإيطالية بقلم المسيو «باليولوغ» سفير فرنسا في بطر سبورغ سابقًا إذ وجدته يقول: إن كافور كان يرى الشرط الأساسي لوحدة إيطاليا ربط جميع أجزائها بالخطوط الحديدية وقد ابتدأ بذلك من قبل أن أتم الوحدة الإيطالية.
قابلية خيبر للعمران
ونعود إلى عمارة الحجاز فنقول: إن من البقاع الملأى مستقبلًا كما يقول الإفرنج — بقعة خيبر — ولم أصل إلى خيبر ولكني سمعت بها كثيرًا وقيل لي: إن بها سبعة أودية سائلة ونخيلًا من فوق القصور وكنت أيام أنا مبعوث الشام في مجلس النواب باستانبول سعيت بمد شعبة من الخط الحديدي إلى خيبر، ينفصل من قبل الوصول إلى المدينة المنورة بنحو ساعتين ولا تكون مسافة هذا الخط المنشعب من الخط العمودي أكثر من ساعتين فقط، فكان يمكن ذهاب الإنسان من المدينة إلى خيبر في أربع ساعات لا غير وكنا قررنا مد هذه الشعبة إلى خيبر، كما قررنا مد شعبة أخرى من أذرعات — درعا — إلى عجلون في حوران وشعبة أخرى من «ضبعة» إلى الكرك في شرق الأردن، كلها من الخط الحجازي وجاءت الحرب العامة فوقفت كل هذه المشروعات، ثم جاء احتلال الأجانب للبلاد فأخنى على كل شيء، بينما هم يدعون أنهم إنما أتوا لأجل إسعاد البلاد وترقية عمرانها.
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: إن خيبر سبعة حصون: حصن ناعم، وحصن القموص، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة ولها كلها مزارع ونخل كثير.
وروي أن غزاة النبي ﷺ لها كانت لست سنين وثلاثة أشهر وواحد وعشرين يومًا للهجرة وفتحها وحقن دماء أهلها اليهود وقالوا له يا رسول الله: إن لنا بالعمارة والقيام على النخل علمًا فأقرنا، فأقرهم وعاملهم على الشطر من التمر والحب، فلما كانت خلافة عمر ظهر فيهم الزنا، وكان سمع أن النبي ﷺ قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» فأجلى عمر رضي الله عنه يهود خيبر إلى الشام وقسم خيبر بين المسلمين، قال: وكان رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر ليخرص عليهم، فقال: إن شئتم خرصت وخيرتكم وإن شئتم خرصتم وخيرتموني، فأعجبهم ذلك وقالوا: هذا هو العدل، هذا هو القسط وبه قامت السماوات والأرض.
وخيبر موصوفة من القديم بالحمى وذلك من كثرة مستنقعاتها وفيها اليوم أكرة من السودانيين الزنوج لا يقدرون على الإقامة بها لولا ألفتهم للحمى، وأما إذا قيض لخيبر وللحجاز إصلاح وأعيدت السكة الحديدية إلى مجراها وانشعب من عمودها شعبة إلى خيبر وعمرها الناس فللحمى طرق فنية كثيرة تكفل استئصال جراثيمها تدريجًا من إحدار المياه وحصرها في القنى السائلة، وغرس الغياض الكثيرة من شجر الأوكاليبتوس وتجفيف المناقيع واتقاء الحمى بالكينا وغير ذلك مما جرى مثله في أماكن أخرى كانت وبيئة في الماضي فصارت مصاح للأجسام.
العلا ووادي القرى
ومن الأماكن القابلة جدًّا للعمارة «العُلا» — بضم أوله — وهي على مسافة سبع أو ثماني ساعات من المدينة المنورة إلى الشمال بسير القطار الباخرة.
قال ياقوت: هو اسم لموضع من ناحية وادي القرى بينها وبين الشام نزله رسول الله ﷺ في طريقه إلى تبوك ولم يذكر ياقوت شيئًا عن جنان العُلا ولذة فواكهها وجود ثمارها وتمورها، فهي من أجل المراكز المرجوة لعمران القسم الشمالي من الحجاز ووادي القرى كله من الأماكن المرجوة لعمران الحجاز.
نقل ياقوت في المعجم قول أبي المنذر عن وادي القرى قال: «سمي وادي القرى؛ لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة وكانت من أعمال البلاد وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد.
قال أبو عبد الله السكوني: وادي القرى والحجر والجناب منازل قضاعة ثم جهينة وعذرة ويلي وهي بين الشام والمدينة يمر بها حاج الشام، وهي كانت قديمًا منازل ثمود وعاد وبها أهلكهم الله وآثارها إلى الآن باقية ونزلها بعدهم اليهود واستخرجوا كظائمها وأساحوا عيونها وغرسوا نخلها، فلما نزلت بهم القبائل عقدوا بينهم حلفًا وكان لهم فيها على اليهود طعمة وأكل في كل عام ومنعوها لهم عن العرب ودفعوا عنها قبائل قضاعة.
وروي أن معاوية بن أبي سفيان مر بوادي القرى فتلا قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ الآية ثم قال: هذه الآية نزلت في أهل هذه البلدة وهي بلاد ثمود فأين العيون؟ فقال له رجل: صدق الله في قوله، أتحب أن أستخرج العيون؟ قال: نعم، فاستخرج ثمانين عينًا، فقال معاوية: الله أصدق من معاوية.
وكان النعمان بن الحارث الغساني ملك الشام أراد غزو وادي القرى فحذره نابغة بني ذبيان ذلك بقوله:
في أبيات. وحُنَّ بضم الحاء المهملة والنون المشددة، هو ابن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
وأبو جابر: هو الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ، وكان ممن اجتمعت عليه جديلة طيئ.
ولما فرغ رسول الله ﷺ من خيبر في سنة سبع امتد إلى وادي القرى فغزاه ونزل به وقال الشاعر:
انتهى كلام أبي المنذر وكلام ياقوت.
ووادي القرى اليوم خراب كما كان في أيامها، ولا يرجى له استئناف عمران إلا باستئناف حركة الخط الحديدي الحجازي.
ولقد كان وادي القرى معمورًا في صدر الإسلام وما يليه وبه مات موسى بن نصير اللخمي فاتح الأندلس وغازي الأرض الكبيرة الأوروبية وفاتحها كلها لو تركه أعداؤه وحساده في دمشق يكمل عمله في الغرب.
وقرأت في كتاب «الصلة» لابن بشكوال في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ترجمة أحمد بن محمد بن محمد بن عبيدة الأموي الذي يعرف بابن ميمون من أهل طليطلة: وفيها أنه رحل إلى المشرق سنة ٣٨٠ وحج وزار المدينة وأنه سمع بوادي القرى من أبي جعفر أحمد بن علي بن مصعب وبمدين من أبي بكر السوسي الصوفي وبأيلة من أبي بكر بن المنتصر وبالقلزم من أبي عبيد الله بن غسان القاضي.
فمن ذكره علماء هذه الأماكن يأخذ عنهم مثل ابن ميمون الطليطلي بجلالة قدرة يعرف أنها كانت معمورة مأهولة والحال أنها اليوم خراب، فلا وادي القرى ولا مدين ولا أيلة ولا القلزم عليها رائحة العمارة، أو فيها شيء يشبه القرى فضلًا عن الحواضر أو المزارع، فضلًا عن الجنان النواضر، أين اليوم وادي القرى ومدين وأيلة والقلزم وأين العلم والأدب والسماع منها؟
أودية العقيق في المدينة واليمامة وغيرها
ومن أجمل ما في الحجاز بل في جزيرة العرب الأمكنة التي يقال لها العقيق ويترنم بها الشعراء بالشعر المتين الرقيق والعرب تقول لكل مسيل ماء شقه السيل في الأرض فأنهره ووسعه: عقيق، فمن هذه الأعقة عقيق عارض اليمامة وهو وادٍ واسع مما يلي العرمة يتدفق فيه شعاب العراض وفيه عيون عذبة.
قال السكوني: عقيق اليمامة لبني عقيل فيه قرى ونخل كثير ويقال له: عقيق تمرة وهو منبر من منابر اليمامة عن يمين من يخرج من اليمامة يريد اليمن عليه أمير وفيه يقول الشاعر:
إنه عقيقان الأكبر مما يلي الحرة ما بين أرض عروة بن الزبير إلى قصر المراجل ومما يلي الحمى ما بين قصور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن عثمان إلى قصر المراجل ثم اذهب بالعقيق صعدًا إلى منتهى البقيع والعقيق الأصغر ما سفل عن قصر المراحل إلى منتهى العرصة وفي عقيق المدينة يقول الشاعر وهو المديح المرقص الذي ليس وراءه مديح في الكرم:
قال: وفي هذا العقيق قصور ودور ومنازل وقرى. قال القاضي عياض: العقيق وادٍ عليه أموال أهل المدينة وهو على ثلاثة أميال أو ميلين وقيل ٦ أو ٧ وهي أعقة «أحدها» عقيق المدينة عق عن حرتها وهذا العقيق الأصغر وفيه بئر رومة والعقيق الأكبر بعد هذا وفيه بئر عورة. وعقيق آخر أكبر من هذين وفيه بئر على مقربة منه وهو من بلاد مزينة.
ومنها العقيق الذي جاء فيه «إنك بوادٍ مبارك» هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة.
ومنها عقيق اليمامة لبني عقيل وفيه يقول ابن حمير — بضم فتشديد — العقيلي:
ومنها العقيق ماء لبني جعدة وجرم، تخاصموا فيه إلى النبي ﷺ فقضى به لبني جرم.
ومنها عقيق البصرة وادٍ مما يلي سفوان.
ومنها عقيق آخر يدفع سيله في غوري تهامة وهو الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه فقال: لو أهلوا من العقيق كان أحب إليَّ — يريد أهل العراق الذين من عادتهم أن يهلوا من ذات عرق.
ومنها عقيق تمرة قرب تبالة وبيشة، وقيل عقيق تمرة هو عقيق اليمامة.
والعقيق وادٍ لبني كلاب نسبة إلى اليمن؛ لأن أرض هوازن في نجد مما يلي اليمن، وأرض غطفان في نجد مما يلي الشام وإياه عنى الفرزدق بقوله:
انتهى ملخصًا من معجم البلدان.
وسيد الأعقة كلها عقيق المدينة المنورة وهو الذي يدور ذكره على ألسنة الشعراء. وإذا قيل العقيق وحاجر، اشتد الشوق وسالت الدموع من المحاجر؛ وقد تنزهتُ فيه ونشقت طيب هوائه، ورشفت من عذب مائه، وهو على مسافة ساعة من المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وفيه بئر عثمان بن عفان — رومة — وبئر عروة بن الزبير رضي الله عنهما؛ وقد كانت لنا — أيام زرت المدينة قبل الحرب العامة بسنة — قيلات كثيرة على بئر عروة المشهورة بخفة مائها، والتي كان يرسل بمائها إلى هارون الرشيد.
قال الزبير بن بكار: رأيت أبي يأمر به فيغلي ثم يجعله في القوارير ويهديه إلى الرشيد وهو بالرقة؛ هذا وقد كنت أشعر عند بئر عثمان من انشراح الصدر وانفساح الفكر ما لا أشعر به في مكان آخر، حتى إني أردت مقابلة أعيان المدينة المنورة الكرام على حفاوتهم بي، والمكارم التي أظهروها، والمآرب التي اتخذوها فدعوت منهم خمسين أو ستين شخصًا إلى مأدبة اخترت لها بئر عثمان التي قال فيها النبي ﷺ: «نعم القليب قليب المزني» وهي البئر التي كانت تسمى من قبل: بئر رُومة — بضم فسكون — كانت لرجل غفاري يقال إن اسمه رُومة، فلما أعجبت رسول الله ﷺ اشتراها عثمان بخمسة وثلاثين ألف درهم وتصدق بها على المسلمين، وقال مصعب بن الزبير يذكر بئر رومة ويتشوقها وهو بالعراق:
سَلْع المدينة المنورة
«قلت»: في سَلْع المدينة ذروة تناوحها ذروة أخرى وبينهما منحدر خفيف من الأرض وكان الأتراك قد جعلوا هناك نقطة عسكرية ومدافع ولعلها باقية إلى اليوم، ولقد علوت هذا الجبل راجلًا في جماعة من الأحباب بدعوة من قائد المدينة قبل الحرب العامة «بصري باشا» الذي دعانا إلى شرب الشاي هناك، ولكن سيأتي يوم تعمر فيه مدينة الرسول عمرانًا حفيلًا ويصعد الناس إلى سَلْع بالمرقاة إن شاء الله؛ قال صفي الدين الحلي:
والشعر سَلْع كثير.
ينبع ورابغ وبيشة
ومن الأماكن الحجازية الملأى بالمستقبل — كما يقول الإفرنج — «ينبع» قال ابن دريد: «أُخذ اسمها من الفعل المضارع لكثرة ينابيعها» وهي عن يمين جبل رضوى لمن كان منحدرًا من المدينة المنورة إلى البحر على ليلة من رضوى وعلى سبع مراحل من المدينة.
قال ياقوت: «قال الشريف بن سلمة بن عياش الينبعى: عددت بها مائة وسبعين عينًا.»
وقال عرام بن الأصبع السلمي: «وهي لبني حسن بن علي وكان يسكنها الأنصار وجهينة وليس وفيها عيون عذاب غزيرة وواديها بليل وبها منبر وهي قرية غناء.»
ومنها رابغ وهي بلدة على وادٍ من دون الجحفة يقطعه الحاج من دون «عَزْور» — بفتح فسكون — قال الحازمي: بطن رابغ وادٍ من الجحفة له ذكر في المغازي وفي أيام العرب، ومعنى الرابغ العيش الناعم وكذلك الرابغ الذي يقيم على أمر ممكن له.
ومن مزايا رابغ أن ميناءها آمن ميناء في الحجاز؛ إذ من المعلوم أن مرافئ بحر الحجاز كلها مخوفة لا تقدر السفن أن ترفأ إليها إلا بدلالة بحرية من أهل الحجاز يتخللون البحر أمامها؛ وأما رابغ فقد عافاها الله من هذه العلة.
ومن المواضع الزراعية ذات البال في الحجاز بيشة التي إلى الجنوب من الحجاز نحو اليمن. قال ياقوت: «اسم قرية غناء في وادٍ كثير الأهل من بلاد اليمن، وعن أبي زياد: خير ديار بني سلول بيشة، وهو وادٍ يصب سيله من الحجاز، حجاز الطائف ثم ينصب في نجد حتى ينتهي في بلاد عقيل وفي بيشة بطون من الناس كثيرة في خثعم وهلال وسؤواه بن عامر بن صعصعة وعقيل والضباب وقريش وهم بنو هاشم لهم العمل.»
ثم قال ياقوت: «وبيشة من عمل مكة مما يلي اليمن على خمس مراحل وبها من النخل والفسيل شيء كثير وفي وادي بيشة موضع مشجر كثير الأسد.» قال السمهري:
قلت: طخفة جبل ورجام جبل أيضًا؛ وأما العمل الذي أشار إليه ياقوت فهو ملك لبني هاشم في بيشة. والأصل في تسميته «المعمل» هو هذه القصة: كان في بيشة سلول وخثعم يتنازعون: يحفر السلوليون فيضعون الفسيل فيجيء الخثعميون فينتزعونه ولا يزال بينهم القتال على ذلك وسمي المكان الذي كان يتنازعون فيه مطلوبًا، فتخوف العجير السلولي من وقوع شرٍّ أعظم فأخذ من طين هذا المحل ومائه ولحق بهشام بن عبد الملك الأموي ووصف له صفته وأتاه بالماء والطين وأخبره بما في بيشة من الأودية وما فيها من الفسيل وقال له: إن من الممكن هناك غرس عشرة آلاف فسيلة في يوم واحد، فأرسل الخليفة هشام من الشام إلى أمير مكة أن يشتري مائة زنجي ويجعل مع كل زنجي امرأته ثم يحملهم حتى يضعهم بمطلوب وينقل إليهم الفسيل حتى يغرسوه، ففعل أمير مكة ما أمره به الخليفة، فلما رأى الناس ذلك قالوا: إن مطلوبًا معمل يُعمل فيه، فذهب اسمه «المعمل» إلى اليوم وقال العجير السلولي:
قلت: اليعاقيب جمع يعقوب وهو الذكر من الحجل والقطا. وتجفجف اليعقوب انتفش وتحرك وألقى جناحيه على البيضة. يريد أن يقول لسلول وخثعم: ما زلتم تتنازعون حتى اضطررتموني أن ألجأ إلى الخليفة الأموي وأدعوه أن يملك المحل ويحرمه الفريقين، فبدلتم بالجنان والمغارس ذرق الدجاج وتجفجف القطا.
ولم أشاهد ينبع النخل ولا رابغ ولا بيشة وإنما شافهت كثيرًا ممن شاهدوها وكان أكثر من ذكر لي خصب بيشة وخيراتها الكاتب النمساوي ليوبولد وايس الذي أسلم وتسمى محمد أسد الله، فقد حدثني عنها أن فيها من قابلية الزراعة ما تكفي منه ميرة مكة وجوارها طول السنة لو كان العمل قائمًا فيها كما يجب. وأما النخيل فكثرته تدهش العقل وقد سمعت أسد الله يذكر مثل هذا لجلالة الملك ابن سعود في مجلسه الملوكي بمكة.
وهذه بعض أمثلة أجتزئ بها عن الاستقصاء فأقول.
(أ) الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي
إن الحجاز فيه بقاع زراعية هي في الدرجة القصوى من الخصب والزكاء، ولكن ينبغي لها المال والعلم فلا بد من بناء السدود كما كانت من القديم، ومن حفر الآبار الإرتوازية لاستنباط المياه، ومن الاعتماد في السواني على الآلات الرافعة البخارية — المواتر — وهناك طريقة رأيتها في الصيف الماضي في جزيرة ميورقة وهي الدواليب الهوائية تدور بهبوب الريح فترفع الماء ويتصبب إلى الصهاريج، ولا يتكلف عليها صاحبها زيتًا ولا فحمًا.
- أحدهما: أن تنظيم الميزانية المالية لحكومة الحجاز تنظيمًا حسنًا ويفرز منها جانب وافٍ لمصلحة الزراعة، فتأخذ هذه كل سنة بمشروع وتقوم بإنشائه من مال الخزانة ثم تستوفي ذلك من الأهالي المنتفعين على أقساط معلومة مؤجلة إلى عدة سنوات بحسب جسامة المشروع.
- والثانية: أن تتقدم لهذه الأعمال شركات إسلامية بحتة من حجازيين ونجديين ومصريين وشاميين وهنود وإندونيسيين وغيرهم وتعطيها حكومة الحجاز بها امتيازات إلى آجال معينة، وهذه الشركات هي التي تبني السدود وتستوفي على الري شيئًا معلومًا من الزراع، أو تحفر الآبار الإرتوازية وتأخذ بدل العمل مع الربح الذي يكون وقع عليه الشرط أو تقدم المواتر لأصحاب السواني وتأخذ ثمنها منجمًا على عدة سنوات وما أشبه ذلك.٦٦
- أحدهما: نقل متاجر الهند والشرق الأقصى إلى الغرب موقع العرب بين الاثنين.
- والثاني: ثروة المعادن التي تكنها أرض الجزيرة.
فينبغي الآن وقد مضى وقت الفتوحات وصرنا لا نطمح إلا إلى حفظ الموجود بيدنا، أن نأرز إلى الجزيرة التي هي مهد العرب المنتشرين في أقطار المعمورة جميعًا ونجعلها الكهف المانع، والأصل الجامع، ونستخرج كل ما فيها من عيون الحياة الكامنة، حتى تصون نفسها، وتنجد أخواتها التي انبسطت عليهن أيدي الاستيلاء الأجنبي، وأصبحن لا يملكن لأنفسهن أمرًا، فنزحزح عنهن هذا الرق الذي يرسفن في قيوده، وتتم بذلك الجامعة العربية التي هي نكتة المحيا، ونشيدة آمالنا في هذه الدنيا، ويجب أن لا ننسى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، فقد كانت معادن الجزيرة في القديم من أغزر منابع ثروتها وعزها وارتقائها، وهي لا تزال هي هي لا ينقصها إلا الإرادة والعمل.
ولقد يقال: إن استثمار المعادن ليس بأمرٍ سهل وإنه إن أنشبت الشركات الأوروبية مخالبها في هذه المعادن جنينا منها السيطرة الأجنبية، والذل والندامة، فالأفضل أن نكون فقراء أحرارًا ولا نكون أغنياء أرقاء … ولن نكون أرقاء وأغنياء أبدًا؛ لأن الثروة لا تجتمع مع فقد الاستقلال، وهاؤم أهل المغرب والجزائر وتونس عندهم من معادن الفسفات وغيرها ما يقوم بالمليارات وليس بأيديهم منه شيء حتى كأن ذلك ليس في أرضهم.
كل هذا التعليل صحيح لا اعتراض عليه وأحسن لنا أن نبقى فقراء مستقلين من أن يبتلعنا الاستعمار الأجنبي بواسطة معادن نرجو في استثمارها اليسر، فيؤول بنا الأمر إلى الخسر، ولكن هذا التعليل لا يحل المشكل، ولا يجوز لأمة عاقلة رشيدة أبية تبغي الحياة مثلنا أن تعول في قضية ذات بال كهذه على حل سلبي صرف، نظن أننا قد أجبنا به ضمائرنا الناشزة، وسكَّنا به خواطرنا الثائرة، على حين أنه الحل الذي يليق بالأمم التي استوى عندها الماء والخشبة والتي لا تريد أن تعمل شيئًا، بل تنظر قضاء الاستيلاء الأجنبي أن ينفذ فيها.
- أولًا: أن الذين يقترحون استثمار هذه المعادن الثمينة لا يشيرون بإعطاء أقل شيء
منها لشركة أجنبية أو لشركة مؤلفة من المسلمين هم تبع لدولة أجنبية غير
مسلمة، بل يشيرون بإعطاء الامتيازات لاستثمارها إلى شركات إسلامية مرجعها
حكومات إسلامية، ومما لا نزاع فيه أن الشركات التجارية في بلاد الإسلام
قليلة وأن رءوس الأموال قليلة أيضًا.
فالمسلمون لم يتعودوا أسلوب الشركات في التجارة فضلًا عن أن ثروتهم العامة لا تساعدهم على تأليف هذه الشركات، إلا أن المبالغة في كل شيء مذمومة؛ فلا يجوز أن نظن أن تأليف الشركات عند المسلمين مستحيل ولا أن المال معدوم تمامًا بين أيديهم، فكلا هذين الافتراضين مخالف للمحسوس.
وفي بلاد الإسلام شركات اقتصادية كثيرة، ومن المسلمين عدد غفير من ذوي الثروة، وعدد غفير من ذوي المهارة في الأمور الاقتصادية.
وإذا جربت حكومتا الحجاز واليمن استثمار المعادن التي في هذين القطرين على أيدي متمولين من المسلمين فلا يبدأ هؤلاء بالربح ولا يتحقق المسلمون أن هذه المشروعات ذات عوائد أكيدة حتى يقبلوا على المساهمة من كل صوب، وتجد من رءوس الأموال عند المسلمين ما لا يخطر لك على بال؛ وذلك لأن الربح جلاب وحيث تحقق وجود الفائدة وجد المال بلا إشكال.
إذن يمكننا أن نستثمر معادن جزيرة العرب برءوس أموال أصحابها مسلمون، بل أصحابها مسلمون لا تلي بلدانهم دول غير مسلمة٦٧ ولس بضربة لازب أن نستثمر هذه المناجم كلها دفعة واحدة، بل يمكننا أن نستخرج خيراتها تدريجًا، ولكن الذي لا يجوز أصلًا هو أن نظمأ والماء فوق ظهورنا، أو أن نشكو مزيد الفقر والمال تحت رحالنا. - ثانيًا: أن الظن الذي يظنه بعضنا أن الشروع باستخراج هذه المناجم بفتح أعين
الأوروبيين على الجزيرة لا سيما إذا رأو الخيرات تدر منها وأنهم قد يشنون
الغارات على البلاد لأجل حيازة هذه المعادن وهو ظن لعمري بغير محله.
فإن الإفرنج يعرفون مواقع هذه المعادن، ويعلمون ما فيها إن لم يكن تفصيلًا فإجمالًا، وعندهم علم آخر من طبقات الأرض يجعلهم عارفين بما يحتوي من المعدن والفلز كل نوع من هذه الطبقات، فإن كانوا لم يشنوا الغارات إلى اليوم على الجزيرة فليس لجهلهم بما في بطنها من الكنوز والخيرات، بل لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، والاستيلاء على جزيرة العرب أو على بعض أقسام من جزيرة العرب ليس بالأمر السهل، بل دونه عقبات من وعورة الجبال، وحرارة الرمال، وشجاعة الرجال، فضلًا عما بين الدول من التنافس الذي يحمل بعضهن على الوقوف بالمرصاد لبعض مما يخشى منه وقوع الحرب بينهن، وعلى كل حال فالجزيرة إلى الآن سالمة من استيلاء الأجنبي إلا بعض أطراف لا بال لها.
فليس من الحكمة ولا من الحزم أن نضيع على أنفسنا ثروة نحن في أشد الاحتياج إليها تحت ملاحظات ليست صحيحة وأسباب غير واردة.
- أحدهما: كون الجزيرة طريق التجارة بين الشرق والبحر المتوسط.
- والثاني: وفرة المعادن التي كانت فيها، وأخصها الذهب، فقد كانت هذه المعادن في أواسط عهد الألف سنة قبل المسيح معروفة عند العبرانيين والفينيقيين والآشوريين، وقد كان سليمان بن داود أرسل بعثه على حسابه إلى البحر الأحمر، وعادت بغنائم تدهش العقل.
وذكر سترابون — جغرافي يوناني مات في زمان طيباريوس قيصر — وديودور — مؤرخ يوناني يقال له ديودور الصقلي صاحب تاريخ عظيم، وكان معاصرًا لأغسطس قيصر — أنهرًا في بلاد العرب كان فيها التبر.
وقد كانت جزرة العرب قبل الإسلام وقبل دخولها في الفتوحات النائية ذات ثروة عظيمة بالزراعة والمعادن، وكانت مكة أشبه بمركز حكومة جمهورية ذي مراكز تجارية عظيمة ذات علاقات مع الآفاق، وكان الأخذ والعطاء جاريين بقوة بينها وبين سائر البلدان، وكانت فيها صناعة الحلي بالغة درجة الإتقان، ولا يزال صاغة مكة وصنعاء اليمن، وعنيزة نجد، إلى يومنا هذا مشهورين بإتقان الصنعة.
أماكن معدن الذهب في جزيرة العرب
- أولًا: في الشمال الغربي من الجزيرة بأرض مدين القديمة.
- ثانيًا: في أرض الحجاز الضاربة إلى الجنوب.
- ثالثًا: في الشرق من الجزيرة نحو نجد.
- رابعًا: في الجنوب الشرقي إلى جهة اليمامة.
- خامسًا: في الجنوب الحض بأرض عسير إلى الشمال من اليمامة.
فمدين هي البلاد الواقعة بين البحر الأحمر وقمم الجبال المحاذية للبحر الممتدة من نحو العقبة في الشمال إلى وادي الحمض في الجنوب وهي اليوم تابعة للحجاز، وهناك مراكز على ساحل البحر منها «ظبا، والمويلح، والوجه».
وأما المعادن المهمة في الجزيرة فهي التي في الحجاز واليمن، ويكثر فيها الذهب والفضة، وفيها قليل من النحاس، وفيها الحديد، ففي جنوبي الحجاز معادن كثيرة شهيرة، وكانوا في زمن النبي ﷺ يستخرجون منها بمجرد رفع الحجارة ومما لا شك فيه أن الاستخراج منها وقع بعد المسيح بستمائة سنة وكان حثيثًا.
ولا نعلم أنه تأسست نظارة خاصة بمعادن الحجاز في الدولة الإسلامية إلا سنة ١٢٨ للهجرة، وبعد هذا التاريخ بمائتي سنة خربت هذه المعادن وانقطع الاستخراج منها بحسب رواية الإصطخري، ولم يذكر ياقوت عن استقلالها شيئًا.
وليس عندنا عن أسباب ترك العمل في هذه المعادن إلا افتراضات، فيجوز أن تكون نفذت مادتها، ويجوز أن يكون إهمالها جاء من قبل الفتح الإسلامي الذي نشر العرب في الأقطار، فقد كانت مكة قبل الإسلام مركزًا عظيمًا للأخذ والعطاء، ولم يكن ذلك بسبب حركة أهلها وحدهم، بل بسبب كونها محط رحال القبائل المجاورة، فقد كانت القافلة الواحدة نحو ألف جمل تتقدمها البوادي وتخفرها وتأخذ ٥٠ بالمائة من الأرباح، وهكذا كان البدو متعلقين بأهل مكة تابعين لهم فلما فتح الإسلام البلدان وتفرق العرب لم تبقَ مكة كما كانت من قبل مركزًا كبيرًا للأخذ والعطاء، لكنها بقيت فيها ثروة غير زهيدة.
وأما معادن اليمن وعسير فكانت معروفة من زمان الفينيقيين والعبرانيين وهي «شويلة» و «شيبا»، و«أوفير» و«فراويم» والمظنون أن «شويلة» هي «خولان»، وأن «شيبا» هي سبأ، وأن «فروايم» هي فروة، وأما «أوفير» فمذكور في التوراة، ويظن أنه في المكان المسمى سينبابي.
وفي صعدة من اليمن معدن الحديد، وذكر السائح «هالفي» أنه شاهد بعينه سنة ١٨٧٢ في خولان وسرواح شمالي صنعاء قطعًا من الذهب مع الأدلاء الذين كانوا معه من العرب، وعلمت أنهم يجدون هذا الذهب بشكل حبات في الرمل وفي مجاري الأنهر وفي الأودية، وفي اليمن أيضًا معادن فضة منها معدن «الرحراح» في أرض همدان.
إن جزيرة العرب هي من البلاد التي عرفها السياح أقل من جميع أقطار الأرض وأكثر ما عرفوا منها السواحل وبعض القسم الشمالي، وفي جوف الجزيرة قطعة يعدل طولها بثمانمائة كيلومتر، وعرضها بستمائة كيلومتر، لا يعرف عنها شيء إلا من أي شكل هي، ولا إذا كانت صحراء ميتة أو مسكونة، وإن عدم الاطلاع على حقائق هذه المجاهيل ليس ناشئًا من طبيعة الأرض كما هو ناشئ من طبيعة السكان. انتهى ملخصًا.
(أ) الدين النصيحة!
فأنت ترى من هذه الرسالة المنشورة سنة ١٩١٧ أي منذ أربع عشرة سنة أن الأوروبيين يعرفون ما في جزيرة العرب من المعادن إن لم يكن تفصيلًا فإجمالًا، وأنه ليس عدم سماعهم بثروتها المعدنية هو الذي ثبطهم حتى اليوم عن احتلالها، بل لذلك أسباب سياسية مرجعها حفظ التوازن الدولي، وعسكرية مرجعها صعوبة مراس أهلها.
فالأولى بنا أن نغتنم هذه الفرصة ونشتغل ما أمكننا من هذه المعادن لنقوي بها جيوشنا، ونصلح إدارتنا، ونبث العمارة في بلادنا، وأن لا نأخذ هذه الأمور بالتسويف والمطاولة حتى يصيبنا ما أصاب تركيا في مطاولاتها باستخراج الكنوز التي كانت تحت يدها إلى أن جاء الأجانب واستولوا عليها، فقد كانت قادرة على أن تستفيد من زيت الموصل من عهد طويل، فلم تبت في أمره شيئًا، ولم تزل تماطل إلى أن أضاعت بهذه المماطلة ثروة تقوم بالمليارات الكثيرة من الجنيهات لا من الفرنكات، وكان عندها البحر الميت فلم تصنع في استخراج ثروته شيئًا، ولا أبدت ولا أعادت إلى أن جاء الإنجليز بعد الحرب العامة فحللوا مياهه، وقوموا ما يمكن أن يستخرج منه، فقالوا: إنه يمكن أن يستخرج منه قيمة خمسة آلاف مليار جنيه، وعشرون ألف مليون طن من الفوسفات وهلم جرًّا مما تعيا العقول عن تصوره، وليس في جزيرة العرب شيء من الخيرات التي تقوم بهذه المليارات من الجنيهات، ولكنه بدون شك فيها كثير من المعادن التي يمكن كلًّا من حكومة الحجاز، ونجد السعودية، وحكومة اليمن الإمامية أن ترتفق به وتستعين به على إصلاح بلادها وتعزيز أجنادها، وذلك على شرط أن لا تلجأ في هذا الموضوع إلا إلى رءوس أموال أصحابها المسلمون ليسوا من تبعة الأجانب وهذا ممكن إذا أرادته هاتان الحكومتان وبدأتا بفحص فني عن هذه الأماكن حتى تعلما ما تحت أرجلهما قبل مباشرة العمل.
كلام الهمداني في معادن جزيرة العرب
ولنذكر الآن ما قاله الهمداني في كتابه المنقطع النظير «صفة جزيرة العرب» المطبوع في «ليدن» من سبع وأربعين سنة وذلك عن معادن الجزيرة.
الدبيل: أملاح من أوله إلى آخره، الحذيفة والرابغة وصبيب والهوة ومياه الشرية، وفيها يقول الحارث بن ظالم:
ومن أملاح العصق المنهلة والنعجاوي، ومن أملاح العبامة والثعل والبغرة وإحساء بني جوية، وينوفة حنتل، وناضحة، والبعرة، والنُّجلية، والنقرة، والمجارة مجازة الطريق سوى مجازة اليمامة بين إجلة وبين الفرعة، مياه الحمادة أملاح ونجيل ونجلة، والأباط، والحفيرة، والحامضة وشعبعب مياه منيم إلا الجدعاء وماء يُفاء وبَرك واوان، والخُيَّانية، والنَّهيقة، واللقيطة، وما احتازته بذران فقبة إرام إلى خلفة وعماية عذاب كله، والقضانية ملح ببطن السرة، فأما الملح الذي يمتلح فصباح ملح الحاجر، وملح المطلقية، وملح القصبية، وملح يبرين، وملح بناحية البحرين، وفي رءوس الجبال ملح نحيث أحمر عروق، وهذه ملحات أهل نجد.
فأما ملح اليمن فمن جبل الملح بمأرب، وملح بالقمة من تهامة بناحية مور، والمهجم وكثير من مياه تهامة أملاح، فمنها المعجر والجبال والحويتية، وجوحلي، وكل ما قارب الساحل جميعًا أملاح إلا اليسير.
ثم ذكر الهمداني معدن الرضراض في موضع آخر صفحة ٨١م من النسخة المطبوعة بليدن فقال: وأودية الرضراض وحريب نهم ومشاربها من جبال السرضرع، وسامك ومساقط بلد عبذر مطرة، وبلد يام وهيلان، وتحت سامك الرضراض إليه ينسب معدن الرضراض، وثم قرية المعدن معدن الفضة وهو معدن لا نظير له في الغزر وخرب بعد قتل محمد بن يعفر. ا.ﻫ.
وقد تقدم ذكر الهمداني معدن البرام بقرب الطائف، وقد ذكر أيضًا في كلامه على بلد حرام من كنانة معدن ضنكان «بفتح فسكون» وقال عنه معدن غزير ولا بأس بتبره ثم ذكر معدن عشم «محركة» أيضًا.
تقرير علمي فني في صفة أراضي الحجاز وصخورها
الأراضي التي في منطقة الطائف هي من أقدم طبقات الأراضي الجيولوجية جميعها من الصخور الاندفاعية الصلبة، وهي لا تمتص بالمياه ولذلك يقل وجود الماء في الجبال إذ تتسرب عنها وترسب في الأودية.
- أحدهما: رمل مركب من حديد «مؤكسد» ممزوج به قليل من النحاس ويبلغ مقدار الحديد نحو ٦٠ في المائة ولا بد من تحسن المعدن في العمق.
- والثاني: حديد مؤكسد أيضًا إنما هو صاف من الجنس الجيد يصلح للاستخراج ويحتوي على نحو ٧٠ في المائة حديدًا صرفًا، وفي منطقة الطائف خصوصًا ما بين عين الخضرة والطائف، مقادير وافرة من المرمر الأحمر الجميل الذي من فوائده أنه يعمل أعمدة للأبنية الجميلة وتوضع منه أشكال عديدة للزخرف.
وعلى بُعد أربع ساعات من الطائف محلة تدعى «المعدن» فيها جبل مرتفع ٥٤٠ قدمًا به حفريات قديمة تنبئ باستخراج معدن منه وفيه آثار معدنية تحتوي على شيء من الحديد وقليل من النحاس، وإذا حفر هذا الموضع فلا بد من وجود أشكال معدنية غير الشكل الظاهر على السطح، ومما يبرهن على استخراج هذا المعدن قديمًا آثار بيوت مبنية في قمة الجبل وبوادق من حجر يحرق فيها المعدن بنار الحطب أو الفحم ويستخرج منها الحديد، وإذا أريدت متابعة استخراجه الآن لم يكف له الحفر على وجه الأرض، بل ينبغي حفر آبار تتفرع منها سراديب تحت الأرض.
وفي جبل الوهط جنس صخر يدعى «ميضا» أبيض اللون، تتجزأ منه صحف رقيقة كالورق، شفافة كالزجاج، وهو غير قابل للذوبان في النار مهما بلغت حرارتها، ومن فوائده أنه يستعمل للآلات الكهربائية، وللمراقد الحديدية، المتخذة للدفء، وفيه من الحجر الكلس المتبلور الصافي، الصالح لاستخراج الكلس، الصافي اللون. انتهى.
قلت: وقد رأيت في بلاد الطائف أشكالًا وألوانًا من الحجارة وأتذكر أني رأيت في العقبة المسماة … الصغيرة التي يصعد بها الإنسان من وادي المحرم إلى الهده حجرًا أخضر كثيرًا، وقد جاء في معجم ياقوت عند ذكر حرة بني سليم أن بها معدن «الدهنج» وهو حجر أخضر يحفر عنه كسائر المعادن.
رسالة فريدة في معادن اليمن
ولقد جرنا ذكر المعادن إلى نقل رسالة صغيرة عن معادن اليمن وجدتها في آخر المجلد الذي فيه الجزء العاشر من كتاب «الإكليل» للهمداني من النسخة التي في المكتبة الملوكية في برلين، وليس الكلام للهمداني ولا هو من عبارته، وإنما فيه شواهد أحيانًا من كلام الهمداني.
وحكي أن في سارع بادية تسمى السواد فيها مكان يسمى نبي سعيد، فيها مكان يسمى عدة الزعلا مقابل لمكان يسمى المقتال فيها جنس يفرح القلب.
فواحد: جبل الشرق من بلاد أنس بمكان يسمى الركن، والأشهر في اسمه أبو صلاح بن علي.
وواحد: في أكام بني الأقرعي في مكان يسمى السهر تحت القدرة لونه عجيب يفرح القلب.
عمران جزيرة العرب وما يجب على الحكومتين السعودية والإمامية من استئنافه
- أحدهما: ترقية أحوال الزراعة باستعمال الآلات الرافعة الحديثة واستنباط المياه وبناء السدود، وحفر الآبار الإرتوازية وما أشبه ذلك مما يزيد كمية مياه الري.
- والثاني: تعدين المعادن التي في الجزيرة واستخراج أفلاذ هذه الأرض التي طالما كانت تغني الأهالي في الأعصر القديمة، وما صلح به أول الأمر يصلح به آخره.
فإذا دأبت الحكومات العربية المستقلة في هذه السبيل من الآن وسارت تدريجًا وجدت من العرب الآخرين الذين بالشام ومصر والعراق والمغرب وغيرها من يأخذ بأيديها؛ وذلك لأن جميع العرب في الدنيا يهتمون بتقوية الجزيرة العربية وصيانتها وإصلاح أمورها كما يهتمون ببلدانهم ومساقط رءوسهم، إن لم نقل زيادة؛ لأنها هي دار العروبة، وعقر الأمة الناطقة بالضاد، والمركز الذي تفرقوا منه إلى سائر البلدان، والملجأ الذي يلجئون إليه إذا نبا بهم الدهر، وأديل من المد بالجزر، وحسبك أنها هي أيضًا دار الإسلام ومبعث الدين، ومهوى أفئدة المؤمنين، وأن فيها المثابة التي تخفق عليها قلوب ثلاثمائة وخمسين مليون نسمة من العالمين وهي البيت الحرام حماه الله مركز الحج ومقصد المسلمين من كل فج، فلا يوجد مسلم على وجه البسيطة إلا وقلبه مشغوف بهذا البيت وجواره، مشغول بنصرة حماته وعماره.
ولقد صادفت كثيرين من مسلمي الأمم غير العربية — أذكر الآن منهم كثيرين من أعيان التتر وفضلائهم لقيتهم في موسكو بعد صلاة الجمعة — فرأيت من اهتمامهم بأمر الجزيرة العربية والحجاز الشريف وإحفائهم في الأسئلة عنه، وتواجدهم الشديد، ما لا يمكن أن يكون أكثر منه عند العرب أنفسهم.
(أ) دحض شبهة على قابلية الجزيرة للعمران
ومما يذهب إليه بعض الناس أن جزيرة العرب لا يتهيأ لها أن تكون ذات مستقبل باهر، وأن تكون ميدان عمل للعرب، وذلك لحرارة إقليمها التي تزيد على درجة الاحتمال، وتمنع العرب الذين في الديار الشمالية من الدأب في أطراف الجزيرة ولا رأي أعرق من هذا الرأي في الوهم.
لو كانت الحرارة تمنع العمل لمنعت الأوروبيين الذين نجدهم في الهند والجاوى ومادغشكر وزنجبار والأوغاندة وموزامبيق، وبلاد الرأس، والكونغو، وغينية والسنيغال وأمريكا الجنوبية وغيرها مما لا يحصى، وقد صاروا فيها كالجراد المنتشر، وعمروا فيها أوطانًا، وأدركوا أوطارًا، وهم أقل منا تحملًا للحرارة، وآلف منا للبلاد الباردة، ولكنهم قاتلوا حمارة القيظ بالوسائل الفنية، وبإسالة المياه، وغرس الأشجار، وبث الخضرة حول المنازل، بحيث تجدهم بواسطة الفن في نعيم مقيم في وسط ذلك السعير.
على أن الحرارة الشديدة إنما هي في أشهر معدودات من الصيف، وفي سواحل الجزيرة وتهائمها التي إن ارتفع الإنسان عنها مسافة بضع ساعات في الجبال رق الهواء وطاب الإقليم، ومن هنا كلما ارتفع صار إلى الأهوية اللطيفة والأماكن التي لا يفضلها في الصيف مكان من المعمور كله.
جبال جزيرة العرب أطيب هواء من لبنان وسويسرة
إن في جزيرة العرب سلسلة جبال عالية لا تجد أحسن منها هواء ولا أطيب إقليمًا لا في جبال لبنان ولا في جبال سويسرة ولا في غيرهما.
ولأجل أن تعلم ارتفاع هذه الجبال أريد أن أذكر لك علو بعض المدن والقرى العربية عن سطح البحر مما أمكنني الاطلاع عليه في كتب من تأليف ضباط من أركان حرب الجيش التركي أطالوا الإقامة باليمن وكتبوا عنه.
فالطائف تعلو نحو ١٦٠٠ متر عن سطح البحر على حين عين صوفر أبدع مصيف في لبنان لا تعلو أكثر من ١٢٥٠، ولا يوجد في جبل لبنان مكان مسكون يعلو عن سطح البحر أكثر من ١٥٠٠ متر.
وإن علو «أبها» — مركز حكومة عسير — عن سطح البحر ٢٢٧٥ مترًا وأعلى منها «سوغا» فهي تعلو ٢٣٦٠ مترًا، وهناك بلدة «غامد» وعلوها ٢١١٠ أمتار، و«محائل» وعلوها ١٦١٠ أمتار.
ثم إن صنعاء اليمن تعلو عن سطح البحر ٢٣٤٢ مترًا، وجبل «نُقُم» — الذي تقدم ذكره — يعلو ٢٩٤٢ مترًا، و«كوكبان» ٣٠٠١ متر، و«تعز» ١٣٤٧ مترًا، و«عمران» ٢٣٠٢، و«صعدة» ٢٢١٦، و«الروضة» ٢٣٠٦، و«تلا» ٢٨٦١، و«ذمرمر» — تقدم ذكرها في بحث المعادن — ٢٦٩٨، و«شبام» — تقدم ذكرها أيضًا — ٢٦٣٥، و«ذمار» ٢٤٣١، و«بوعان» ٢٩٣٦، و«سوق الخميس» ٢٣٧٢، و«مناخة» ٢٣٢١.
فارتفاعات مثل هذه مهما يكن من وجودها في منطقة جنوبية لا يمكن إلا أن تكون المثل الأعلى في رقة الهواء وطيب المناخ، والملائمة للصحة، وهذه الجبال هي عندي أوتاد البيت العربي لا في منعتها الطبيعية ومواقعها الحربية فحسب، بل في بيئتها الصحية، ونقاوتها الجوية؛ إذ ذلك من أعظم العوامل التي تعتمد عليها الأسرة العربية في صيانة نفسها.
وهذه السلسلة الجبلية العالية ممتدة من بلاد الشام، ومن أهم أقسامها وأطيبها نجعة جبال الشراة التي كانت معمورة جدًّا في صدر الإسلام، والتي لها مستقبل كبير للعرب ومستأنف باهر لو خلصت من أيدي الإنكليز.
ولقد أقمت بقصبة معان شيع شهر في أثناء الحرب العامة سنة ١٩١٥ إذ كنت ذاهبًا ومعي ١٢٠ مجاهدًا من جماعتي إلى حرب الترعة منضمًا إلى الجيش العثماني الحجازي الذي كان يقوده وهيب باشا، وسرنا من معان هبوطًا مستمرًا إلى قلعة النخل في صحراء التيه، ولقد قطعت في تلك الرحلة جانبًا من جبال الشراة وعرفت أي جبال هي وأي نجعة طيبة هنالك.
قلت: وحدثنا من يعرفون رضوى أنه مصيف كأحسن ما يوجد من مصايف الشام ماءً وهواءً، وهو على مقربة من المدينة ومن ينبع، وعلى ليلتين من البحر، فلا يلزم لرضوى إلا تعبيد طريق تسير عليها السيارات ليعمر وتسكنه الناس وتقصده في أيام القيظ.
وقال الهمداني: الجبال المشهورة عند العرب المذكورة في أشعارها: أجأ وسلمى جبلا طيئ، وأبان (بفتح أوله)، وتعار (بفتح أوله)، وأبن (بضم فسكون)، وقدس ورضوى وعروان ويسوم وحراء وثبير والعارض وقنان (بفتح أوله) وأفرع (على وزن أفعل) والنير (بكسر النون) وعسيب ويذبل والمجيمر ولبنان واللكام.
ومن أنزه الجبال في الجزيرة ألجأ وسلمى جبلا طيء، قيل: إن أجأ اسم رجل وسلمى اسم امرأة، وقيل: أجأ علم مرتجل وقيل: بل منقول معناه الفرار، يقال: أجأ الرجل إذا فر.
قال الزمخشري: أجأ وسلمى جبلان عن يسار السميراء وقد رأيتهما شاهقيْنِ. ونقل ياقوت عن أبي عبيد السكوني: أجأ أحد جبلي طيئ وهو غربي فيد، وبينهما مسير ليلتين وفيه قرى كثيرة، قال: ومنازل طيئ في الجبلين عشر ليال من دون فيد إلى أقصى أجأ إلى القريات من ناحية الشام، وبين المدينة والجبلين على غير الجادة ثلاث مراحل قال امرؤ القيس:
أي: أبت أهل أجأ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، مثل: قالت إنكلترا لفرنسا كذا، واحتجت ألمانيا على كذا، وعقدت أمريكا معاهدة كذا … إلخ، وقال عارق الطائي:
وقال العيزار بن الأخفش الطائي:
وقال زيد بن مهلهل الطائي:
وكان يحدثني عن هذين الجبلين وما فيهما من الريف والخصب والأودية والعيون الأخ رشيد باشا النجدي الذي كان معتمدًا لابن رشيد في الأستانة العلية أيام السلطنة العثمانية، وسمعت أخبارهما من نجديين آخرين، وطالما تمنيت لو أمكنتني الرحلة إلى نجد والتنزه فيهما.
وإذا سار الراكب من الطائف إلى صنعاء اليمن لم يصل إليها إلا في مسيرة شهر كلها في الجبال العالية، والأهوية اللطيفة، والمناظر البديعة، والمناهل العذبة.
ما شاهدنا من الأماكن النزهة بجوار الطائف
وأما ما تيسر لي مشاهدته من الأماكن النزهة بجوار الطائف فهو وادي محرم؛ أي قرن المنازل الذي ينتهي إلى وادي السيل، ومنه يحرم الحجاج الذين هم آتون من الشرق، ولا يبعد وادي محرم عن الطائف أكثر من ساعة ونصف وهو على طريق الكرا، وهو واد يجف في الصيف إلا أن البساتين منتظمة بجانبه على مسافة ثلاث أو أربع ساعات، تشرب بالسواني، وفيها من جميع أصناف الفواكه وألذها، ولم أصادف عنبًا أشهى ولا أكبر حبًّا من عنب وادي محرم، ومن هذا الوادي يصعد الإنسان إلى الهدة مرتقيًا العقبة المسماة «الكرا الصغير» وخمنت علوها بثلاثمائة متر ومرتقاها صعب.
وقد كان الواجب على الحكومة وعلى أهالي القرى الكثيرة المجاورة ولا سيما وادي محرم أن يصلحوا هذا المرتقى الذي يترجل فيه كل الركبان من وسط العقبة، وإذا وصل الإنسان إلى سطح الجبل وجد يفاعًا منبسطًا ينشرح له الصدر، وشاهد جنانًا ناضرة تشرب بالسواني أيضًا يقال لها بستان المغربي، وبستان البني وغيرهما، ولقد بتنا ليلتين بوادي محرم، وليلة واحدة في بستان المغربي ضيوفًا على صاحب البستان وهو مغربي تونسي الأصل أبوه جاء إلى هذا المكان وتمكن به، وهناك جبل عال جدًّا ربما يعلو ٢٥٠ مترًا عن البساتين يقال له جبل الهندي وهو ناتئ من الأرض صعدًا أشبه بالمئذنة، وكان في إحدى ذراه حصن بقيت فيه مدافع وجنود إلى آخر أيام الملك حسين، وقد طلعنا هذا الجبل إلى قنته فظهر لنا جانب كبير من الحجاز وبدت لنا خضرة ونضرة وأودية لا يأخذها الإحصاء، وكان منظرًا يبهر العقول.
وبإزاء هذا الجبل جبل آخر أقل منه ارتفاعًا اسمه «جبل الكمل» بحذائه قرية بل قرى وبساتين تسقيها النواضح، ومن الكمل إلى قرية الهدة مسيرة نصف ساعة لا غير، والهدة قرية من أشهر قرى الحجاز تعلو ١٧٦٠ مترًا عن سطح البحر، وفيها جنان ومنازه وبعض مصايف لأهل مكة، ولها منظر على وادي نعمان لا مثيل له في بلاد العرب؛ لأن الناظر يشرف منها على شفير الوادي المسمى «الكرا الكبير» ذي العقبة الشهيرة التي تأخذ ثلاث ساعات على الصاعد وهي من الوقوف في مثل الحائط، وإذا أشرف الرائي على حافة هذا الشفير لم يكن أمامه العمق الهائل فقط، بل العمق الهائل والعرض المدهش، فللنظر هناك صعد ليس له حد.
قلت: والقرود توجد في جبل الكمل الذي فوق الهدة وتقدم ذكره، وتكثر في بعض جبال الحجاز، ولكنها في جبال اليمن أكثر جدًّا.
ومن كثرة ما توصف اليمن بالقردة صار الذين يريدون أن يتنادروا على أهل اليمن يقولون: إن أباهم قرد.
روى ياقوت أن زياد بن عبيد الله الحارثي — خال الخليفة أبي العباس السفاح — اجتمع بابن هبيرة الفزاري — وكان الأول يمانيًّا وكان الثاني قيسيًّا — فقال ابن هبيرة لزياد: ممن الرجل؟ فقال زياد: من اليمن، فقال ابن هبيرة: فأخبرني عنها، فقال زياد: أما جبالها فكروم وورس، وأما سهولها فبر وشعير وذرة. فتغير وجه ابن هبيرة وقال: أوليس أبو اليمن القرد؟ فقال زياد: إنما يكنَّى القرد بولده وهو أبو قيس فيوجب أن يكون أبا قيس عيلان، فاصفر لون ابن هبيرة من هذا الجواب.
فمن هنا يظهر أن مذهب داروين كان ملحوظًا في الغابرين، وكان خاطر أبوة القرد لابن آدم واردًا، لا أن ما كان يقال في الماضي مزاحًا صار اليوم جدًّا بحتًا وحقيقة علمية بحسب رأي بعضهم، وإلا فليس بصحيح أن الجمهور كلهم في أوروبا تلقوا هذا الرأي بالتسليم، بل العلماء في أوروبا لا يزالون فيه مختلفين، وقد كثر في السنين الأخيرة العلماء القائلون بنقضه، والأكثرون على عدم الجزم لعدم كفاية دلائله، ولوفرة نواقضه ونواقصه، ومن العلماء من يقف موقفًا وسطًا في النظرية الداروينية فيحكم بصحة بعضها ويرد البعض الآخر مما ليس هنا موضعه.
ناحية الشفا من جبال الطائف
ومن أنزه الجبال التي عهدتها في حياتي وأبدعها مصيفًا وأطيبها نجعة وأنقاها إقليمًا الناحية التي يقال لها «الشَّفا» — بفتح أوله — وهي جبال المسكون منها يعلو عن الطائف نحو ألف متر وربما أكثر، وسكان هذه الناحية السفاينة من ثقيف ولا تبعد عن الطائف أكثر من أربع أو خمس ساعات بالسير المعتدل.
قصدنا إليها من الوهط والوهيط في رفقة من إخواننا الدكتور محمود بك حمدي رئيس الصحية الحجازية، وفؤاد بك حمزة مستشار الخارجية، وفوزي بك القاوقجي قائد القوة النظامية الحجازية، والسيد الطيب الهزاز من رجال المعية الملوكية، ورشيد بك ملحس محرر جريدة «أم القرى» فبتنا ليلة في الوهط وليلة في الوهيط، ثم أصبحنا قاصدين شقرا صاعدين إليها في عقاب، فبلغناها بعد مسير ساعتين من الوهيط، ومررنا في طريقنا بخربة ذات جبانة متسعة يستدل منها على أن القرية كانت ذات شأن، وفي تلك الأودية سدر كثير وطلح وأشجار غيرها، وفي الجبال عرعر كثير.
وأما شقرا ففي واد لطيف عن جانبيه البساتين تسقيها النواعير أو السواني وهي حارتان: شقرا العليا، وشقرا السفلى، وقد كان نزولنا عند مختار شقرا السلفي، وشعرنا من النشاط ورقة الهواء في شقرا ما لم نعهده لا في الطائف ولا في مكان آخر، ولغة أهل تلك الديار فصيحة، سمعتهم يقولون: خصر الماء، أي: برد، فخطر ببالي قول شاعر قريش في الحجاز عمر بن أبي ربيعة:
قرية الفرع وموقعها من أفضل مصايف الدنيا
ومن مسيمير تسلقنا في عقبة أوعر من كل ما مضى أخذت أكثر من ساعة ونصف أفضنا في منتهاها إلى يفاع أفيح عليه قرية كبيرة متفرقة الحارات اسمها «الفرع» هي من أعلى المعمور في جبال الحجاز، ومعنى الفرع في اللغة أعلى الشيء، ومن محاسن هذه القرية أنها مع علوها ولا أظنه أقل من ٢٥٠٠ متر عن سطح البحر، واقعة في بسيط من الأرض تحيط به الهضاب الخضر المغطاة بالحراج من الآرز والعرعر، وهذا البسيط المطمئن في الوسط منه ما هو مزارع للحبوب، ومنه ما هو مباقل للخضر ومنه ما هو جنان للفواكه، وكل ما ينبت هناك يأتي بغاية الزكاء والفكاهة، والجنان تسقى بالسواني والماء غزير.
ولما صرت في الفرع تمنيت أن يكون لي هناك مصيفًا، ورجحته على أي مصيف آخر حتى على عين صوفر التي هي أنزه مصايف جبل لبنان مع كثرتها والتي قضيت مدة شبابي أقيظ بها، ولي فيها الأراضي الواسعة والعقارات، نعم لم أجد أعلى ولا أهنأ ولا أعزل من الفرع.
وإلى الغرب من الفرع على مسافة ٢٠ دقيقة فقط شفير عال يشرف منه الإنسان على واد عميق قد حزرت انحطاطه عن الفرع بنحو ألف متر، وقد ذكر لي أهل الفرع أنهم في فصل الشتاء ينحدرون من الفرع إلى هذا الوادي بمواشيهم ويشتون فيه ولا يبقى في القرية سوى بعض الحراس.
وأما هذا الوادي إلى جهة الغرب — أي إلى البحر — جبل عال أيضًا لكنه ليس بعلو جبل الفرع، ووراء هذا الجبل أودية أخرى ثم جبال أقل ارتفاعًا وهكذا إلى أن تصل إلى البحر بين جدة والليث، وقد سألتهم: كم مرحلة من الفرع إلى جدة؟ فقالوا: إنهم يصلون إلى جدة في ٨ أيام بسير البعير.
وإلى الجنوب الغربي من الفرع جبل متصل بالفرع له قمة شاهقة تعلو نحوًا من ثلاثمائة متر عن أرض القرية يشرف منها الإنسان على البحر الأحمر، وقد حدثني صديقي الشيخ عبد القادر الشيبي أنه رأي بناظوره من تلك القمة المراكب الشراعية ماخرة في بحر الليث، وشعفات الجبال هناك كلها شاهقة في السماء أينما وقف فيها الرائي رأى منظرًا عجبًا.
وإلى الشرق الشمالي من الفرع قرية يقال لها «الشرف» — محركة — هي على مساواة الفرع، ولم يقدر لنا الذهاب إلى هذه القرية وما جاورها من القرى التي هي في جبال هذيل، وجبال هذيل ممتدة من هناك إلى تهامة؛ أي إلى ساحل البحر.
لغة ثقيف وهذيل في هذا العهد
وأما عربية الأهالي ثقيف وهذيل فنقية، وكيف لا وثقيف مضرب المثل بفصاحتهم يقال: شاعر ثقفي، ويقال مثل آخر: أكثر من شعراء هذيل، وكان عمر يقول: لا يملي مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف، وكان عثمان يقول عند جمع القرآن: اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف.
ومررت بسانية في الفرع يديرها شاب لا يتجاوز العشرين فأخذت أحادثه وأسأله عن الفرع فقال لي: سقى الله الفرع فيها من فضول الله ما لا يحصى. أعجبني جدًّا كلامه، وقوله «سقى الله الفرع» هذه العبارة الشعرية ثم قوله: «فضول الله» ولو كان من أهل بلادنا الشامية، لقال: أفضل الله، فجمع فضلًا على أفضال وهو خطأ وصوابه فضول كما قال الشاب الفرعي الثقفي، وحسبك أن أدباءنا وقعوا في هذا الخطأ فضلًا عن عوامنا، وانتقد أحمد فارس الشدياق على ناصيف اليازجي وكلاهما من مفاخر سورية قوله:
ولكن عند ثقيف وهذيل لغة لم أقرأ عنها في كتاب ولا سمعت بها في مجلس وهي أن يتلفظوا بالضاد والظاء كاللام المفخمة فيقولون مثلًا: الليف في الضيف وصلاة اللهر، في صلاة الظهر، وقرية الليق في قرية الضيق، وهلم جرًّا.
وقد لاحظت أنا ذلك ولحظه جميع الرفق وقضينا من هذه اللغة العجب، ولم نسمع هذه اللغة في بلدة الطائف، ولا في وادي محرم، ولا في الهدة، ولا في وادي لية، وإنما سمعناها من الوهيط فصاعدًا؛ أي في الشفا عند هذيل، وهذا الحي من ثقيف.
وبتنا ليلة واحدة في الفرع، ولكن لم نقدر أن ننام إلا بعد أن أشعلوا النار في الموقد وأكبروها وبعد أن التحفنا أسمك الأغطية.
وكنا في صلاتي المغرب والعشاء نتوضأ بالماء السخن، وجلسنا بعد الظهر على سطح بيت فلما كان عند أذان العصر شعرنا بالبرد ودخلنا إلى الداخل وكان مبيتنا في الفرع ليلة ٢٢ أغسطس؛ أي في إبان القيظ، فإذا كان هذا في الصيف فما ظنك بالربيع والشتاء والخريف.
ثم انحدرنا من الفرع إلى واد لطيف ملآن بالشجر اسمه «الضيق» — بفتح أوله — أو على رأيهم «الليق» بتعظيم اللام، وتناولنا الغداء في قرية بهذا الوادي ثم انتهينا إلى الوادي الذي ذكرنا أنه مبدأ لمياه وادي لية وصعدنا منه عقبة أفضنا منها إلى أراضي منبسطة جيدة للزرع وفيها السواني والبساتين والقرى، وأبنية جميع القرى هناك، وفي جميع جبال الحجاز كلها بالحجر وبغاية المتانة، ومنها ما يخاله الإنسان أبراجًا وحصونًا، وفي كل قرية أو دسكرة برج للحصار مستدير الشكل عال متين البناء معمم الرأس بمدماك من الحجارة البيض.
وكانوا في أثناء غزوات بعضهم لبعض والوقائع التي تحصل بينهم إذا هاجمت القرية قوة تفوق قوة أهلها لجئوا إلى هذا البرج واعتصموا به، وجعلوا يرمون بالبندق من أعلاه.
أما اليوم فقد مضى كل هذا وأينما سرت يقولون لك ذلك القول الذي رويناه من قبل وهو: إن الأمن في زمن ابن سعود خيم تخيمًا تامًّا على جميع البلاد، وإن الدماء والثارات كلها انقطعت وصار الجميع يسيرون في كل مكان بدون سلاح، وقيل لنا: إن الأودية التي سلكناها، والفروع التي فرعناها، لم يكن أحد في الماضي ليسلكها إلا برفقة شائكة السلاح، وإن الحكومة في أيام الأتراك لم تصل ولا مرة إلى الفرع والشفا، ولا قدر أحد من الترك أن يطأ تلك الأرض.
ومن هناك سرنا إلى قرية يقال لها «الأمت» — بفتح فسكون — هي أدنى قرى الشفا إلى مدينة الطائف لا تبعد عنها أكثر من ثلاث ساعات، وقد كان مبيتنا بتلك القرية وهي قرية في واد تشرف عليه حروف جبال كثيرة الصخور والجنادل، والأمت بالعربي معناه المكان المرتفع، ومعناه الروابي الصغار، ومعناه مسايل الأودية، ومعناه الوهدة بين نشزين، ومعناه الانخفاض والارتفاع، ومنه قوله تعالى: لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا أي لا انخفاض فيها ولا ارتفاع، وأصح معنى ينطبق على الأمت الذي نحن في صدده «مسايل الأودية» أو «الوهدة بين نشزين»؛ لأن القرية هي في مسيل وادي وهي منخفضة بين نشزين، ويجوز أن يكون من باب الانخفاض والارتفاع؛ لأننا هبطنها بعقبة ثم بعد أن وصلنا إليها وجدنا عقبة ثانية على مقربة منها إلى ناحية الطائف.
ومن «الأمت» إلى الطائف مررنا بواد كانت فيه سدود عدملية قديمة تجري منها المياه بأقنية منحوتة في الصخر إلى بساتين خاوية الآن على عروشها، ثم إننا ملنا إلى بستان اسمه بستان القصر في نفس هذا الوادي عليه سانية غزيرة الماء تخص رجلًا من القبيلة التي يقال لها: قريش فتناولنا فيها الطعام وبعد القيلولة ركبنا عائدين إلى الطائف.
سكان الطائف وما حولها
أما سكان الطائف فهم شتى شماطيط من عرب من ثقيف وعتيبة وغيرهما ومن ترك وهنود وأجناس أخرى.
وأما إقليم الطائف فكان وادي لية من أوسط الوادي إلى أسفله الزوران فخذ من عتيبة أي هوازن، ومن وسط الوادي إلى أعلاه الفعور وهم أشراف تقدم ذكرهم، وأما الذين هم بأعلى الوادي — ونزلنا عندهم لما ذهبنا إلى وادي لية — فهم عوف بطن من حرب، حرب من بني هلال.
وأما ركبة الشهيرة التي تقع إلى الشرق الشمالي من الطائف ففيها عدة أفخاذ من عتيبة أهمها: العصماء، الشيابين، الروقة، المقطاء، الجعدة، الوذانين، السوطة، العمارة، القثمة، الثبتة.
وأما وادي محرم فعلوه ثقيف، ووسطه النمور، وأسفله إلى وادي السيل طويرق، وأما الهدة فأهل وادي الأعمق الذراوة، والزنان، وآل أبي شنب، والمعالوه، وكلهم من ثقيف.
ونفس قرية الهدة فيها الغشامرة والقصران وبنو صخر ومرجعهم أيضًا إلى ثقيف، والعرج وهو عدة قرى على واد ينصب إلى وادي وج إلى الشرق من لقيم سكانه الأشراف ذوو ناصر الذين منهم حمود وشاكر.
وكانت ثقيف ممتدة إلى ركبة لكن هوازن أرجعتهم إلى جبال الحجاز، ثم إن ثقيفًا تنقسم إلى عدة أفخاذ أكبرها سفيان وثمالة، ومنها قريش بني سالم والغشامرة والقصران، وبنو سفيان سكان الشفاء ينقسمون إلى بني عمر آل حجة وإلى آل ساعد وآل عيشة وآل حسن.
وثمالة تنقسم إلى المشاييخ الحدادين — يقال إنهم من سلالة الشيخ الحداد — والضباعين والسودة وآل زيد وآل مقبل وآل ساعد وآل عمر.
وجميع قبائل الطائف وبلادها ما عدا الأشراف وما عدا العدوان تفزع مع ثقيف ضد هوازن، وتسمى ثقيف يوم الفزعة خندقًا، وتسمي هوازن أو عتيبة شبابة، ولا تنحصر عتيبة في هوازن، بل قد دخلها بطريق الحلف قبائل أخرى، وهذيل يسكنون في جبل برد وما يليه وتسمى هذيل الطلحات.
(أ) استطراد «في قبائل الحجاز بين الحرمين وشمالي المدينة المنورة»
لما كنا قد ذكرنا قبائل هوازن وثقيف وهذيل وغيرها من سكان جبال الطائف فلا بأس بذكر سائر قبائل الحجاز ممن ينزلون بين الحرمين، ومن المدينة إلى الشمال، وقد كنا يوم زرنا المدينة النبوية قبل الحرب العامة بسنة أخذنا جدول هذه القبائل من سجلات الحكومة، واطلعنا على معلومات ذات قيمة بشأنها فرأينا إلحاقها بهذا الكتاب إتمامًا للفائدة.
فأهم هذه القبائل حرب، وهم بنو حرب بن هلال بن عامر بن صعصة من العرب العدنانية وحرب خلف أربعة أولاد: سالم ومسروح وعبد الله وعمرو، فمسروح أكثرهم ولدًا وقد دخلت بطون بني عبد الله وبني عمرو في مسروح.
أما صبح الأعشى فيقول نقلًا عن الحمداني: إنهم ثلاثة بطون: بنو مسروح وبنو سالم وبنو عبيد الله، وقال: إن من حرب زبيد الحجاز وذكر أن منهم بني عمرو، ومنازل مسروح من مكة إلى المدينة المنورة وعددهم يزيد على ستين ألف نسمة.
وأما بنو سالم من حرب فمنازلهم من مكة إلى المدينة إلى وادي الصفرا إلى الجديدة إلى ينبع البحر، وهم يزيدون على خمسين ألفًا، فحرب إذا اجتمعت تزيد على مائة ألف نسمة، وكان شيخ مشايخ حرب خلف بن حذيفة الأحمدي، وكان ناصر بن نصار الظاهر ومنصور الظاهري من مشايخ المراوحة من بني سالم من حرب.
وبنو مزينة الذين بأطراف المدينة والذين منهم زهير بن أبي سلمى المزني صاحب المعلقة داخلون الآن في بني سالم من حرب، والحال أن مزينة في الأصل هم بنو عثمان وأوس ابني عمرو بن أد بن طابخة واسمه عمرو بن إلياس بن مضر على ما في صبح الأعشى، فقد دخلوا اليوم في بني سالم من حرب وكان شيخهم حجاب بن بخيت معدودًا من مشايخ المراوحة من بني سالم.
وكان من مشايخ حرب يوم زرت المدينة المنورة أو قبل ذلك بقليل بخيت بن بنيان شيخ اللهبة من عوف من مسروح، والشيخ إبراهيم بن فهيد شيخ قرية قبا والشيخ أحمد بن معين من مسروح، وكان محارب بن موقد شيخ الصواعد من عوف من مسروح، ومرزوق بن عمر شيخ بئر الماشي من عوف من مسروح أيضًا، وكان أحمد بن مزيع بن ريبيق شيخ بني عمرو من مسروح بوادي الفرع، ومريع بن محمد شيخ قبيلة جهم من بني عمرو بوادي الفرع أيضًا، وكان عبد الله أبو ربعة شيخ قبيلة السهلبة من عوف ثم قبيلة صخ ببدر وشيخها ابن حصاني الصبحي، وقبيلة صبح تنقسم إلى اللبدة، وبني عبد الله وذوي مرزوق، ويوجد فرقة من الأشراف بمدر كان شيخهم الشريف محمد بن سالم بن عبد الله بن نامي ثم قبيلة زبيد بين ينبع وجدة، ومن زبيد هذه في الجزيرة الفراتية وفي الديار الشامية وفي بلدان أخرى مما نزله العرب، وزبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة هو ابن معن بن عمرو بن عنيز بن سلامان بن عمرو بن الغوث بن طيئ، ومنهم بساحل الحجاز الشمالي عدد كبير يقال: إن منهم نحوًا من ثلاثين ألف رجل يعملون في البحر، يجلبون الصدف ويغصون على اللؤلؤ، وكان الشيخ حسين بن مبيريك شيخ رابغ هو شيخ زبيد، ومن مشايخهم الكبار محمد بن حسم وإلى المشرق منهم بنو سليم وبنو عبد الله والروقة، وبنو سليم — بضم السين — من أشهر قبائل العرب، ويقول الحمداني: إنهم أكبر قبائل قيس هم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان من العدنانية، ومن منازلهم حرة سليم وحرة النار بين وادي القرى وتيماء، وأكثر عرب برقة والجبل الأخضر من بني سليم بن منصور، وهم هم الذين ابتلاهم الله بالطليان في هذا العصر ولم يزالوا يجاهدون عن دينهم ووطنهم منذ عشرين سنة، وفي عرب مصر كثير من بني سليم بن منصور، ومشايخ الأحامدة الذين هم مشايخ حرب في الحجاز يقال: إنهم من سليم وإن جدهم العباس بن مرداس السلمي.
ثم قبيلة جهينة المنتشرة من ينبع إلى الوجه، وهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة من العرب القحطانية، وهم من أكبر القبائل، قيل: إن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا أحصاهم فبلغوا في أيامه ٤٠ ألفًا، وسمعت من يحزرهم اليوم بسبعين ألفًا وبمائة ألف، وهم فئتان: موسى ومالك.
وكان أمير جهينة من قبل العرب الشريف جابر بن حمد العياشي يقيم بينبع النخل، ومن جهة الدولة العثمانية لأواخر أيامها بالحجاز الشريف محمد بن علي بن بديوي الهجاري يقيم بينبع البحر، والمروان فرقة تابعة لجهينة، وكان من شيوخ جهينة أحمد بن حماد الشطيري في ينبع النخل وصالح بن حامد الصريصري. وكان حنيشان بن سليم شيخ قبيلة عروة من جهينة، وكان من مشايخهم في ينبع النخل عبد الرحمن أبو رقيبة ومطلق المشرق، وأشهر فرق جهينة العياشي وهم أشراف، والصبحة، والعلاوين، وذبيان، والعقيبي، والحجوري، والمحياوي، والفايدي، والمراوين، والزايدي، والعامري، وهم من قبيلة موسى، وعروة وأشارف ذوي هجار، والموال، ورفاعة، والحصينات، وبنو كليب، والحمدة، والأساورة، والسناني، والصيادي، والريباوي، والقضاة وغيرهم وهؤلاء هم بنو مالك.
ثم قبيلة بلي من الوجه إلى ظبي ومن البحر إلى مدائن صالح شرقًا، وبلي — بفتح الباء — بن عمرو بن الحافي بن قضاعة، وقد ذكر القلقشندي أن من بلي ومن جهينة قبائل في صعيد مصر، وقيل لي في المدينة المنورة إن عدد بلي قريب من عدد جهينة وهم عدة فرق، المعاقلة، والعريفات، والرموث، والهلبان، ووابصة، والسحمة والقواعين، والمواهيب، وذبالة، وكان شيخهم سليمان باشا بن رفاد مات في أثناء الحرب العامة.
وإلى الشرق من بلي قبيلة الفقير وهم من عنزة، ومنازلهم من المدائن إلى تيماء، وهم فرق: الشفقة، والجمعيات، والمغاصيب، والحجور، والخماعلة، وعددهم نحو ١٠ آلاف.
وولد علي وهم من عنزة أيضًا، ومن هؤلاء قبيلة في بر الشام هي فرقتان: إحداهما: شيخها ابن سمير، والثانية: شيخها الطيار.
وأما الذين من ولد علي بالحجاز فمنازلهم بين العلا وخيبر، وقد يبلغون ٣٠ ألفًا وهم: المسعد، والسند، والشراعية، والعطيفات، والرميلات، والخالد، والركاب، والطلوح، والدمجان، وجبارة، والطوالعة، وكان أشهر مشايخ ولد علي يوم زرت المدينة فرحان الأيدة.
وأولاد سليمان وهم كذلك من عنزة، ومنازلهم بأطراف خيبر من جهة الشمال والشرق وهم من ٥٠ إلى ٧٠ ألفًا وهم الشملان، والسبعة، والجعافرة، والبجايرة، والخمشة، والسلمات، وشيخهم العواجي.
ثم إن من قبائل الحجاز مطير وهم أربع فرق: الأولى ميمون وهم العيابين، والهويات، والسكان، والوهيطات، والسميحات، والرماثية، والمدخال، والحرشان، وغراية، والجعافرة، ويبلغون نحو ١٠ آلاف.
ثم الصعبة ومنازلهم بقرب الحناكية إلى الشرق وهم المهالكة، والشطار، والحشوش والشتيات، والعضيلات، والمشاريف، والوطابين، والهجلة، وهم في العدد نظير ميمون، ثم ذوو عوز ومنازلهم من الصفية إلى السوارقية وهم: الحجيلات، وذوو ميزان، والسقايين، وذوو شطيط، وذوو بدير، والحلف وذوو عزيز، وعددهم كعدد ميمون أو الصعبة.
ثم الرياحين ومنازلهم بأطراق السوارقية وهم: الوسمي، والعوارض، والعناثرة، والكراكرة، والعفاسي، والعطال، والمطارقة، والهبور، وعددهم أقل من إحدى الفرق الأخرى ومجموع عدد مطير قد يناهز ٤٠ ألفًا ويقال: إنهم أكثر.
ثم إن من قبائل الحجاز الحويطات ومنازلهم من ظُبى إلى المويلح إلى العقبة، وكان أكبر شيوخهم ياسين بن عليان، ويبالغ الناس في عددهم فيقولون ١٠٠ ألف ويقولون ٢٠٠ ألف ولهم كثير من المراسي على البحر، ويتصل محلهم ببني عطية الذين في جبال الشراة التابعة اليوم لشرقي الأردن.
ومن خيبر إلى الحائط، والحويط إلى الحرة قبيلة هتيم وليست من القبائل المعروفة بالأصالة في العرب ولكنها كثيرة العدد تصادم شمر، وتصادم حرب وتصادم أية قبيلة كبيرة، ويقال إنها نحو ٢٠٠ ألف نسمة، وشرقي هتيم حرب الشرقية؛ أي حرب نجد ومن شرقيهم شمر وهي من أعظم قبائل العرب نسبها في طيئ فيما أتذكر.
وأما منطقة الحوف فهي تابعة لنجد والجميع الآن في مملكة ابن سعود وعرب الجوف هم من عنزة، والشررات، والحوازم، ويبلغ عدد أهل الجوف ١٠ آلاف، ولكنها تسع أضعاف هذا العدد لكثرة مياهها ونخيلها وخصب أرضها وهي تبعد عن دمشق مسيرة ستة أيام وعن بغداد سبعة أيام وعن المدينة المنورة ثمانية أيام وعن حائل سبعة أيام؛ فلا يوجد بلدة أوسط منها في بلاد العرب، وعلى مسافة ١١ ساعة من الجوف مدينة سكاكة وقد تكون أكثر سكانًا من الجوف وأقرب نقطة إلى الجوف من المعمور الغربي هي الكرك؛ لأن من الجوف إلى محطة القطرانة مسيرة يومين، ومن محطة القطرانة على سكة حديد الحجاز إلى الكرك مسيرة ست ساعات لا غير.
وفي منطقة الجوف الطوير وفيها ٤٠٠ مقاتل، وقارة وفيها ٧٠٠ مقاتل، ويتبع هذه المنطقة قُرَيَّات الملح وهي: الكهف، وأثرة، والقرقر، والوشواش، والعقيلة، وأم الأجراس، وفيها كلها نحو ٤٠٠ مقاتل، وهي واقعة في وادي سرحان ومركز عامل ابن سعود فيها قرية كهف، وعلى مسافة ساعتين منها النبك الذي نزل به بقية المجاهدين السوريين لما أجلاهم الإنكليز بالاتفاق مع الفرنسيس عن الأزرق منذ ثلاث سنوات، وأقام أخي عادل بالنبك نحو سنتين، ولا يزال فيه محمد باشا عز الدين الحلبي ومعه بضع مئات منهم، كما أن سلطان باشا الأطرش ومعه بضع مئات نازلون بالحديثة وعين كرم على مقربة من النبك.
وعلى مسافة ثلاثة أيام من مدينة الجوف إلى القبلة بلدة تيماء وهي عن سكة الحجاز الحديدية على مسافة يوم إلى الشرق، ويقول ياقوت: إن الأبلق الفرد حصن السموءل بن عادياء مشرف عليها.
وشرقي تيماء قرى متعددة هي: موقد، وقبة، وقنا، وأم القلبان، وطوية، والجذامية، والوزيد، وبين المدينة وحائل الحائط والحويط.
هوامش
وفي لسان العرب: عكاشة — بتشديد الكاف ويخفف — بن محصن الأسدي من الصحابة.
وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد: عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، ويكنى أبا محصن، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وبعثه رسول الله إلى الغمر سرية في أربعين رجلًا فانصرفوا ولم يلقوا كيدًا، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمر بن عثمان الجحشي عن آبائه عن أم قيس بنت محصن: قالت: توفي رسول الله ﷺ وعكاشة ابن أربع وأربعين سنة.
وقتل بعد ذلك بسنة ببزاخة في خلافة أبي بكر الصديق سنة اثنتي عشرة، وكان عكاشة من أجمل الرجال، ثم ذكر ابن سعد كيفية مقتل عكاشة في قتال خالد بن الوليد لأهل الردة. ا.ﻫ.
- فالأول: مختص في المبتدأ وأصول الأنساب.
- والثاني: نسب ولد الهميسع بن حمير.
- والثالث: في فضائل قحطان.
- والرابع: في السيرة القديمة إلى عهد تبع أبي كرب.
- والخامس: في السيرة الوسطى من أول أيام أسعد تبع إلى أيام ذو نواس.
- والسادس: في السيرة الأخيرة إلى الإسلام.
- والسابع: في التنبيه على الأخبار الباطلة والحكايات المستحيلة.
- والثامن: في ذكور قصور حمير ومدنها ودواوينها وما حفظ من شعر علقمة والمراثي والمساند.
- والتاسع: في أمثال حمير وحكمها باللسان الحميري وحروف المسند.
- والعاشر: في معارف حاشد وبكيل، والله أعلم وأحكم. كنت سمعت بوجود جزء من هذا الكتاب في مكتبة جامع بايزيد في استنبول فأرسلت إلى الأخ الفاضل خالد بك القرقني الطرابلسي المغربي المنسوب إلى بني هرد ملوك سرقسطة بالأندلس، وكان يومئذ بتلك العاصمة ليبحث لي عنه فوجدهم نقلوه إلى مكتبة دار الفنون، ونقل لي بعض صفحات منه، فإذا به الجزء الثامن وقال لي: إنه قد بلغه وجود نسخة من هذا الجزء في برلين، فلما ذهبت إلى برلين أواخر السنة الماضية ١٩٣٠ بحثت عنه في المكتبة الملوكية فوجدت منه جزأين الجزء الثامن والجزء العاشر، ووجدت مع الجزء العاشر في مجلد واحد بعض رسائل منها شيء عن المعادن التي في اليمن وكتابًا من تأليف الملك الأشراف أبي حفص عمر ابن رسول الغساني اسمه «طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب» فأخذت صور جميع ذلك بالفوتوغرافيا، وبينما أنا مصمم على طبع هذين الجزأين من الإكليل؛ إذ بلغني أن اللغوي المحقق الأب أنستاس الكرملي مباشر طبع الجزء الثامن ببغداد معتمدًا في ذلك على خمس نسخ وقعت في يده وأنه سيطبعه مع حواشٍ وتفاسير فلما علمت ذلك وقفت عن طبع هذا الجزء حتى أرى ما يكون، ثم إني أرسلت إلى حضرة صاحب السمو صديقي الأمير سيف الإسلام محمد والي تهامة ونجل الإمام المتوكل على الله يحيى بن محمد بن حميد الدين صاحب اليمن أسأله عما يوجد من أجزاء هذا الكتاب في اليمن، فأجابني بأنه لا يوجد من الإكليل إلا جزءان وثلاثة مقطعة مفرقة، وأنه مع ذلك سيبحث ثانية، وهذا ما عرفنا إلى الآن عن هذا الكتاب.
وأما من جهة ما كان يعود عليه من المعادن فجاء فيها ما يلي:
وكان قدم عليه مال من معدن القبلية ومن معادن جهينة كثير وانفتح معدن بني سليم في خلافة أبي بكر فقدم عليه منه بصدقته فكان يوضع ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نُقَرًا نُقَرًا — بضم النون وفتح القاف — فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا وكان يسوي بين الناس في القسم، الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير. ا.ﻫ. «من حواشي الأصل».
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موسرًا أيضًا باع أرضًا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك في فقراء بني زهرة أقاربه، وفي ذوي الحاجة من الناس، ولما مات ترك ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع في المدينة، وكان يزرع بالحرف على عشرين ناضحًا وقيل: إنه ترك ذهبًا قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وكان له نسوة أربع فخرجت كل واحدة بثمانين ألف درهم.
وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غنيًّا ترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم. ولكن الثروة العظمى كانت للزبير بن العوام رضي الله عنه، جاء في طبقات ابن سعد: أنه بلغ ماله قيمة خمس وثلاثين ألف ألف ومائتي ألف درهم أي ٣٥ مليونًا و٢٠٠ ألف وترك أربع نسوة فأصاب كلًّا منهن مليون ومائة ألف، وحدث ابنه عبد الله بن الزبير أنه دعاه يوم الجمل وقال له: إني سأقتل اليوم مظلومًا يا بني، بع مالنا واقض ديني وأوص بالثلث فإن فضل من مالنا من بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك، قال عبد الله بن الزبير فجعل يوصي بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه، فيقضيه، وقُتل الزبير ولم يدع دينارًا ولا درهمًا. إلا أرضين فيها الغابة، وإحدى عشرة دار بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر، وأما دينه فكان مليونين ومائتي ألف درهم، وكان سبب هذه الديون أن الرجل كان يأتيه بالمال ليستودعه إياه، فيقول الزبير لا، ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة، وكان الزبير اشترى الغابة بمائة وسبعين ألف درهم فباعها عبد الله بن الزبير بمليون وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة فوافاه أصحاب الديون واستوفوا حقوقهم، وقال بنو الزبير لعبد الله: اقسم لنا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي في الموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضينه. فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم، قالوا: كان للزبير بمصر خطط، وبإسكندرية خطط، وبالكوفة خطط، وبالبصرة دور وكانت له غلات كثيرة تقدم عليه إلى المدينة.
وأما طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقد ترك يوم قُتل في واقعة الجمل، تركة عظيمة، جاء في الطبقات: قتل طلحة بن عبيد الله يرحمه الله وفي يد خازنه ألف ألف درهم، ومائتا ألف درهم وقومت أصوله وعقاره ثلاثين ألف ألف درهم، وحدث عمرو بن العاص قال: إن طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار في كل بهار ثلاث قناطير ذهب، وسمعت أن البهار جلد ثور — وفي المصباح المنير: والبهار بالضم شيء يوزن به — وقال إبراهيم بن محمد بن طلحة، كان قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال وما ترك من الناض — المال الصامت: العين في اصطلاح أهل الحجاز — ثلاثين ألف ألف درهم ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض، وسأل معاوية موسى بن طلحة كم ترك أبو محمد يرحمه الله من العين؟ قال ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وكان يغل كل سنة من العراق مائة ألف سوى غلاته من السراة وغيرها، وكان يدخل قوت أهله بالمدينة سنهم من مزرعة بفناة كان يزرع على عشرين ناضحًا، وأول من زرع القمح بفناة هو، وكان لا يدع أحدًا من بني تيم أقاربه عائلًا إلا كفاه مئونته ومئونة عياله، وزوج أياماهم، وأخدم عائلهم، وقضى دين غارمهم، وكان يرسل إلى عائشة كل سنة ١٠ آلاف درهم، وقضى عن صبيحة التيمي ٣٠ ألف درهم، وطلحة هو أحد أجواد العرب المشهورين، وأحد الطلحات الأربعة المضروب بهم المثل بكرمهم. ا.ﻫ. من الأصل.
قال محمد بن أحمد الهمداني: تربة وزبية وبيشة هذه الأودية الثلاثة ضخام مسيرة كل واحد منها عشرون يومًا أسافلها في نجد وأعاليها في السراة، ثم قال: وفي المثل عرف بطني بطن تربة قاله عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب أبو براء ملاعب الأسنة في قصة فيها طول؛ غاب عن قومه فلما عاد إلى تربة وهي أرضه التي ولد بها ألصق به بطنه بأرضها فوجد راحة فقال ذلك. ا.ﻫ. «من حواشي الأصل».
قلت: أتذكر أني قرأت أن أحد خطباء الجوامع كان يدعو لأحد الملوك وأظنه صلاح الدين الأيوبي قائلًا عنه: صاحب مصر وصعيدها، واليمن وزبيدها، والحجاز وعبيدها، والشام وصناديدها، ولعل قائلًا يقول: هذه جرتها السجعة، فأقول له: لا يحسن وقع السجعة إلا إذا جاءت في محلها.
وأما قول الهمداني عن حراز فهو ما يلي: مخلاف حراز وهوزن سبعة أسباع أي سبع بلاد: حراز المستحرزة، وهوزن وكرارا وعليها تنسب البقر الكرارية، وصعفان، ومشار، ولهاب، ومجبح، وشبام، ويجمع الجميع اسم حراز وهوزن وهما بطنان من حمير الكبرى، وهما ابنا الغوث بن سعد بن عوف بن عدي.
- (أ)
الهدى المقصور قال «الهدى» بالفتح منقول عن الفعل الماضي من هدى يهدي إذا أرشد موضع في نواحي الطائف.
- (ب)
الهدة: بالفتح ثم التشديد وهو الخسفة في الأرض، والهد: الهدم، وهو موضع بين مكة والطائف والنسبة إليه هدوي، وهو موضع القرود وقد خفف بعضهم داله.
- (جـ)
الهدة بتخفيف الدال من الهدى أو الهدي بزيادة هاء، بأعلى مر الظهران بمدر أهل مكة، والمدر طين أبيض يحمل منها إلى مكة تأكله النساء ويدق ويضاف إليه الإذخر يغسلون بها أيديهم. ا.ﻫ. وذكر هذه في التاج وزاد أن بعضهم يزيد فيها ألف فيقول الهداة، أقول: ولم أسمع من نطق أهل مكة إلا «الهدى» بالفتح والقصر.
وذكر علماء اللغة أنه سمع إبدال اللام من الضاد فقالوا الضجع؛ أي اضطجع كعكسه في قولهم رجل جضد؛ أي جلد، وبعد كتابة ما تقدم راجعت مادة ضجع في التاج فإذا هو يقول قال المازني: إن بعض العرب يكره الجمع بين حرفين مطبقين فيقول «الطجع» ويبدل مكان الضاد أقرب الحروف إليها وهي اللام زاد في اللسان وهو شاذ، وقال الأزهري: وربما أبدلوا اللام ضادًا كما أبدلوا الضاد لامًا قال بعضهم: الطراد واضطراد لطراد الخيل. ا.ﻫ. وأورد شاهد الكلمة الطجع.