مقدمة الطبعة الإلكترونية
كان يومًا ما زلتُ أذكره من عام ١٩٦١ حين قرَّرت على نحوٍ قاطع أن أتَّخذ الكتابةَ والترجمة مهنةً أساسية لي. كنتُ أدرس آخِر سنة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وقد تشبَّعتُ بالمقررات الدراسية، خاصةً في تلك السنة، وتأثَّرتُ برواية «جيمس جويس»؛ «صورة للفنان في شبابه»، التي قرَّر بطلُها نذْرَ نفسه للأدب والفن والجمال بكل أشكاله. كذلك درسنا «همنجواي» وحياته وأسلوبه الجديد في الكتابة. وكنتُ أتابع ما يَصدُر من كتب مهمة خارج مقررات الدراسة، فتأثَّرتُ بأدب «ألبير كامي» وفلسفته، وكتاب «اللامنتمي» الذي كتبه «كولِن ولسون» وأصبح حديثَ الأدباء.
وكنت قد بدأت القراءة وجمْعَ الكتب منذ كنت في العاشرة من عمري، فنشأت على كتب «توفيق الحكيم» و«طه حسين» و«نجيب محفوظ» و«يوسف السباعي» وشعر «أحمد شوقي». وبدأت أيضًا في جمع الكتب والسلاسل الجميلة التي كانت تَصدُر في مصر في الخمسينيات، ومنها: «الهلال» و«كتاب الهلال» و«روايات الهلال»، و«اقرأ»، و«كتب للجميع»، وكتب ومطبوعات «كتابي» و«الكتاب الذهبي»، وغير ذلك.
وبعد التخرُّج في الجامعة، عرفتُ أن مَن يريد أن يتَّخذ الكتابةَ مهنةً، عليه إجادةُ لغته العربية إجادة تامة، وكذلك ألَّا يعتمد في معيشته على مكافآت الكتابة؛ فدرست القرآن الكريم وتَدبَّرت آياته ولغته، وقرأت كتبَ النحو المتاحة، وما طالَته يدي من كتب التراث العتيقة. ولم أبدأ الكتابةَ إلا بعد أن شغلتُ وظيفةً مناسبة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة، تترك لي وقتًا كافيًا بعدها للقراءة والكتابة. ولما كنتُ أريد الكتابة في النقد الأدبي، كانت أوائل مقالاتي نقدًا وعرضًا لما أحببتُه من الكتَّاب والأدباء. ثم جاءت الترجمة وأفسحتُ لها بعضَ الوقت أولًا، ثم زحفَت على معظم الوقت بعد ذلك. وكان أول كتبي المنشورة عن «إرنست همنجواي»، ثم رواية «جيمس جويس» التي أحببتها. وبدأتُ في دراسة اللغتَين الإسبانية والفرنسية قبل أن تَنتدبني الوزارة للعمل مُلحقًا ثقافيًّا في مدريد، حيث قضيتُ أكثر من أربع سنوات.
وبعد عودتي من إسبانيا، قضيتُ أربعَ سنوات أخرى بالقاهرة أُزوِّد المجلات في القاهرة وبيروت بمقالاتي المُؤلَّفة والمترجَمة، قبل أن أَتوجَّه إلى نيويورك للعمل مترجمًا ثم محررًا بالأمانة العامة للأمم المتحدة. وقد عكفت على الكتابة والترجمة عن الأدب المكتوب بالإسبانية من شِعر ورواية ومسرحية، حتى أساهم في تشييدِ جسرٍ ثقافي للقُرَّاء العرب إلى تلك الثقافة الثرية. ولكن لم أَنسَ اللغات الأخرى، فترجمتُ لشاعر الشعب الأمريكي «والت ويتمان» وبعض آثار اللغة الفرنسية، وزاد إنتاجي بعد التقاعد من العمل حتى قارَبَت أعمالي ثلاثين كتابًا.
ولما كانت الكتب الورقية، رغم أهميتها، تَذْوي وتغيب حروفها بفعل الزمن، فقد رحَّبتُ بقيام مؤسسة «هنداوي» بوضع كتبي رقميةً على النت لتكون متاحة لمن يريد قراءتها، والمؤسسةُ بذلك تضطلع بعملٍ مهم في نشر الثقافة وإتاحتها وحفظها على مر السنين.