الحُب العذري الرومانسي
«… وكان بالعراق ملك يُسمَّى عبد القادر، وكانت له بنت كالقمر الطالِع وكانت تُسمَّى حياة النفوس، وكانت تبغض الرجال فلا يكاد أحدٌ يذكُر الرجال بحضرتها .. فسمع أردشير ابن الملك بذكرها فأعلم والدَه بذلك، فنظر إلى حاله ورقَّ له وصار كلَّ يومٍ يُوعده بزواجها …»
«… فقال في نفسه: يا ترى أي شيء في هذه البقجة التي أهداها لنا الملك من التحف؟ فأخذها وأخذ الشمعة ونزل من فوق التخت وترك ساعدًا نائمًا ودخل الخزانة وفتح البقجة فرأى فيها قباءً من شغل الجان، ففتح القباء وفرَدَه فوجد على البطانة التي من الداخل في جهة ظهر القباء صورة بنت منقوشة بالذهب، ولكنَّ جمالَها شيءٌ عجيب. فلمَّا رأى هذه الصورة طار عقله من رأسه وصار مجنونًا بعِشق تلك الصورة ووقع على الأرض مَغشيًّا عليه وصار يبكي وينتحِب ويلطم على وجهه وصدره ويُقبلها …»
«… ومما يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد، أن الخصيب صاحب مصر كان له ولد ولم يكن هناك أحسن منه، وكان من خوفه عليه لا يُمكِّنه من الخروج إلَّا لصلاة الجمعة، فمرَّ وهو خارج من صلاة الجمعة على رجلٍ كبير وعنده كتُب كثيرة، فنزل عن فرسه وجلس عنده وقلَّب في الكتُب وتأمَّلها فرأى فيها صورةً لامرأةٍ تكاد أن تنطق، لم يرَ أحسن منها على وجه الأرض، فسلبَت عقله وأدهشت لُبه فقال له: يا شيخ، بِكَم تبيعُني هذه الصورة؟ فقبل الأرض بين يدَيه ثم قال: يا سيدي، بغير ثمن. فدفع له مائة دينار وأخذ الكتاب الذي فيه هذه الصورة، فصار ينظُر إليها ويبكي ليلَهُ ونهارَه وامتنع عن الطعام والشراب والمنام وقال في نفسه: لو سألتُ الكُتبي عن صانع هذه الصورة من هو لربَّما أخبرَني؛ فإن كانت صاحبتها في الحياة تَوصَّلتُ إليها وإن كانت صورة مُطلقة تركت التولُّع بها ولا أُعذِّب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له …»
•••
تزخر قصص ألف ليلة وليلة بحكايات الحُب والعِشق والغرام التي تأخُذ أشكالًا مُتنوِّعة ومُختلفة. فهناك قصص الحُب العادية البسيطة، وقصص أخرى مُطوَّلة ومُعقدة، تأخُذ أبطالها في رحلات وتقلُّبات قد تمتدُّ سنواتٍ كثيرة وتُغطي بلادًا عديدة بل وقاراتٍ مختلفة أيضًا. ويجد القارئ في كتاب ألف ليلة وليلة — بصورته الكاملة — نماذج لكلِّ أنواع الحُب والغرام: الحُب العذري الرومانسي (الذي ينتهي إما بالوصال السعيد أو بالبعاد والجنون والموت) – الحب بالسماع أو برؤية رسْم المحبوب فحسب – الحب من أول نظرة – الحب الحِسِّي – الإيروسية – الجنس الصريح – الخيانات الزوجية. كما يُغطَّى الجنسُ في الكتاب بأنواعه المُختلفة، كما سيأتي فيما بعد.
وقد ذكرت الباحثة «ميا جيرهارت» أن قصص الحُب التي تقوم على السماع بأوصاف المحبوب دون معرفة المحبوب شخصيًّا هي قصص ذات أصلٍ فارسي. وتعتمد تلك القصص على هيام البطل — وهو عادة ما يكون أميرًا أو ابن ملك من الملوك — بفتاة قصِيَّة اعتمادًا على ما سمِعه من أوصافها الجميلة أو إعجابًا باسمها أو رسمها، ثم يشرَع بعد ذلك في التحايُل إلى الوصول إليها، ويخوض مغامراتٍ عجيبة وأهوالًا رهيبة تنتهي عادةً ببلوغ مُراده والفوز بالحبيبة والعيش معها في هناءٍ حتى يأتيهم هادم اللذَّات ومُفرق الجماعات.
والاقتباس الأول من هذا الفصل هو من حكاية أردشير وحياة النفوس. وفيها يعشق أردشير — ابن ملك العراق عبد القادر — حياة النفوس ابنة ملك شيراز، من مجرَّد سماع أوصافها والتغنِّي بحُسنها، رغم أنها كانت كارهةً للرجال ولم تقبل الزواج من أيٍّ من الملوك والأكاسرة الذين تقدَّموا إليها. ويُرسِل أبو أردشير لخطبة حياة النفوس لابنه فترفُض كعادتها؛ ويتم كل هذا سماعًا فحسب دون لقاء الخطيب والفتاة. ويشرع أردشير في رحلةٍ طويلة وخطة مُعقدة للوصول إلى حبيبته واستمالتها إليه؛ فيتنكَّر في ثياب التجار ويصطحِب وزير أبيه معه ويتوجَّهان إلى بلاد الملك عبد القادر أبي الحبيبة حياة النفوس. ويفتتح أردشير هناك «دكانا» فخمًا مليئًا بالسلع الغالية الجذَّابة. وتأتي له يومًا مُربية الأميرة حياة النفوس، فيرحِّب بها ويُهديها ما تُريد شراءه ويُغدق عليها الدنانير الذهبية، ثم يُفضي إليها بسرِّه في طلَب وصال ابنة الملك، غير أنه يكتُم عنها أنه هو الآخر ابن ملك شيراز. وتقوم المُربية العجوز بدور الوسيط بين أردشير وحياة النفوس عن طريق رسائل من الشِّعر الذي يُدبِّجه أردشير ويُعبر فيه عن حُبه، بينما ردود الأميرة تردَعُه وتُهدِّده بالعقاب، والعجوز تُحاول تليين قلبِها إذ هي تقبل هدايا أردشير الثمينة. وبعد طول مرواحٍ ومجيء، يحتال وزير أردشير على الدخول إلى بستان ابنة الملك ويُغدِق على الحارس حتى يسمح له بترميم القصر والجدار الذي يُحيط بالبستان. ونعرف أن حياة النفوس تُعاني من عقدة نفسية بسبب حلم رأتْهُ أقنعها بغدْر الرجال وخيانتهم، فيحتال الوزير برسْم مناظر ومشاهد على جدار البستان تُخلِّص الأميرة من هذه العقدة. وسيأتي ذكر ذلك تفصيليًّا في الفصل الخاص بالحكاية السيكلوجية في هذا الكتاب. ونكتفي هنا بذِكر لقاء أردشير وحياة النفوس آخِر الأمر بالبستان، وهيام الواحد منهما بالآخر. ولكن الوشاة يتدخَّلون لدى الملك عبد القادر فيغضب على ابنته وحبيبها ويأمر بقتلِهما. وقبل التنفيذ، يصِل والد أردشير بحثًا عن ابنه ومعه جيش جرَّار، وينتهي الأمر بالعفو عن الحبيبَين بعد أن يعلم الجميع أن أردشير ابن ملك هو الآخر، ويتزوَّجان ويعيشان في سعادةٍ وهناء. وكالعادة في قصص ألف ليلة وليلة، تقول شهرزاد عنهما: «وأقاموا في ألذِّ عيشٍ وأهناه، وأرغده وأحلاه، إلى أن أتاهم هادم اللذَّات ومُفرِّق الجماعات ومُخرِّب القصور ومُعمِّر القبور.»
وهناك أيضًا مثال آخر للعشق عن طريق السماع في حكاية «جلنار وبدر باسم»، حين يسمع الملك بدر خالَه «صالح» يتحدَّث عن جلَّنار ابنة ملك البحار ويصف محاسِنها لأُخته التي هي خالة بدر، فعندها «صار في قلبه من أجلِها لهيب النار وغرِق في بحرٍ لا يُدرَك له ساحل ولا قرار.» ويعترف بدر لخالِه أنه سمِعه يتحدَّث بأوصاف جلَّنار وأنه عشِقَها على السماع.
والاقتباس الثاني عالِيه من حكايةٍ تُماثل الأولى في منشأ الحُب والهيام، وإن كان في هذه المرة مرئيًّا برسْمٍ للمحبوبة وليس سماعًا بأوصافها، وترد في حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال. وما يُهمُّنا من تلك القصة هنا أن أحد ملوك مصر ويُدعى عاصم بن صفوان، وله وزير يُدعى فارس بن صالح، وكانا بدون ذُرِّية، مما كان يُسبب همًّا كبيرًا للملك. وسمعا عن شيخٍ صالحٍ قادر على فعل المُعجزات، فبعث له الملك بواسطة الوزير بهديةٍ عظيمة، طالبًا عونه في سؤال الربِّ أن يُنعِم عليه وعلى وزيره بذُرية ترِث الملك والوزارة من بعدِهما. ويقول الشيخ الصالح للوزير إنه والملك لن يبلُغا مُرادهما حتى يؤمِنا وقومهما بالله الواحد القهار ويُخلِصوا له العبادة، ومنحه سيفًا وخاتمًا وبقجةً فيها رداءان مرصَّعان بالجواهر، وقال للوزير أن يُعطي لابن الملك وابنه — المُنتظرين — تلك الهدايا عندما يكبُران. وبالفعل، يُنجب الملك والوزير ابنًا لكلٍّ منهما، بعد أن فعلا ما نصح به الشيخ. ويكبُر الولدان في ظلِّ محبَّةِ أبيهما، ويُصبحان من ألصق الأصدقاء. وحين يبلُغان مبلغ الشباب، يأخُذ سيف الملوك الخاتم والبُقجة ويأخذ ابن الوزير «ساعد» السيف. وحين يفتح سيف الملوك البقجة، يجد فيها قباءً من صُنع الجان، ويفتح القباء ويفرده فيجِد في بطانته صورة بنتٍ منقوشة بالذهب، ولكن جمالها شيء عجيب. «فلمَّا رأى هذه الصورة، طار عقلُه من رأسه وصار مجنونًا بعِشق تلك الصورة ووقع على الأرض مَغشيًّا عليه، وصار يبكي وينتحِب ويلطم على وجهه وصدره ويُقبِّلها.»
وتُمثل هذه القصة نموذجًا فريدًا في العشق من النظر، وهو صورة من صُوَر الحب الذي أفرخ بعد ذلك نماذج مُتنوِّعة من صُور الحُب الرومانسي بأشكاله المتعددة في كل العصور.
ثم هناك قصص الحب العُذري الواقعي، حيث يعرف الحبيب مَحبوبه ويُلاقيه، ولكنه يُصادف العقبات التي لا يمكن تذليلها، فينتهي نهايةً فاجعة بموت أحد الحبيبَين أو كليهما عِشقًا. ورغم قولِنا عن هذا الحب إنه عُذري، فمن المُلاحَظ أن الحبيب يسعى دائما إلى وصال محبوبه، ولا يكتفي بمجرد النظر والتفكير. ومعظم تلك الحكايات مَبنية على قصصٍ حقيقية، كعشق قيس بن الملوَّح ابنة عمِّه ليلى العامرية، وحب جميل لبثينة. ولكن ألف ليلة لا تحكي عن قيسٍ وجميل، ربما لأن قصتَيهما كانتا ذائعتَين معروفتَين للجميع، ولكن حكايات ألف ليلة الغرامية تتناول قصصًا أقلَّ شهرة، وإن كان لبعضها أصل تاريخي أيضًا، مثل حكايات عدي بن زيد، والمُتلمِّس، والخليفتَين معاوية وعبد الملك بن مروان. وهناك حكايات مؤثرة عن الحب العذري وإن لم يكن لها أصل تاريخي، مثل «عاشقان من بني عذرة» و«طيء» و«عتبة وريَّا». وهناك حكاية العاشق المتيم (الليلة ٣٤٨) التي نُثبِتها هنا لقِصَرِها ودلالتها:
«ومما يُحْكَى أنه كان في بني عُذرة رجل ظريف وكان لا يخلو من العشق يومًا واحدًا. فاتفق له أن أحبَّ امرأةً جميلة من الحي، فراسلَها أيامًا وهي لا تزال تجفوه وتصدُّ عنه إلى أن أضرَّ به الغرام والوجد والهيام، فمرِض مرضًا شديدًا ولزم الوساد وجفا الرقاد وظهر للناس أمرُه واشتُهر بالعشق ذكره .. وازداد سقمه وعظم ألمه حتى كاد أن يموت. ولم يزَل أهله وأهلها يسألونها أن تزوره وهي تأبى إلى أن أشرف على الموت فأخبروها بذلك، فرقَّت له وأنعمت عليه بالزيارة. فلما نظرَها تحدرت عيناه بالدموع وأنشد عن قلب مصدوع:
فلمَّا سمعت كلامه بكت بكاءً شديدًا وقالت له: والله ما كنتُ أظن أنه بلغ بك الغرام إلى أن يلقيك بين أيدي الحمام، ولو علمتُ بذلك لساعدتك على حالك وتمتعتُ بوصالك. فلما سمع كلامها صارت دموعه كالسحاب الماطر وأنشد قول الشاعر:
ثم شهق شهقة فمات. فوقعَتْ عليه تلثمُه وتبكي. ولم تزل تبكي حتى وقعت عنده مَغشيًّا عليها، فلمَّا أفاقت أوصت أهلها أنهم يدفنونها في قبره إذا ماتت. ثم أجرت دمع العين وأنشدت هاتين البيتين:
فلما فرغت من شعرها بكت بكاءً شديدًا، ولم تزل تبكي حتى وقعت مغشيًّا عليها. واستمرَّت في غشيتها ثلاثة أيام، وماتت ودُفنت في قبره. وهذا من عجيب الاتفاق في المَحبَّة.»
وعلى نفس النسق تجيء حكاية «عتبة وريَّا»، وفيها يحكي عبد الله بن مُعمر القيسي عن قصةٍ حضرها إبَّان الحج، إذ رأى غلامًا يُنشد أشعارًا في الهوى العذري ويَبكي بحُرقة، فلمَّا سأله عن حالِه أجاب الفتى: «أنا عتبة الأنصاري، عدوتُ إلى مسجد الأحزاب فبقِيتُ راكعًا وساجدًا ثم اعتزلتُ أتعبَّد وإذا بنسوةٍ يتهادَين كالأقمار وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة المَلاحة فوقفتْ عليَّ وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصْل من يطلُب وصلَك؟ ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبرًا ولا وقعتُ لها على أثرٍ وها أنا حيران أنتقَّل من مكانٍ إلى مكانٍ بحثًا عنها. ويظلُّ القيسي يُواسيه حتى أقبلت كوكبة من النسوة وليست صاحبتُه بينهن، فسأل عنها فقُلنَ إنها ريَّا بنت الغطريف السليمي. ويصطحب القيسي الفتى عتبة وأشراف قومهما إلى منازل أهل حبيبته طالبًا يدَها، إلا أن أبيها يقول: أقسمتُ لا أُزوِّجنَّكَ بها أبدًا بعد أن نمى إليَّ حديثك عنها. وبعد توسُّط الأشراف لدى عتبة وأبيها يوافقان على زواج الحبيبَين. إلا أنه في طريق العودة إلى المدينة المنورة، خرجت على القوم غارة حمل عليها عتبة وقَتَل منها عدَّة رجال ولكنه أُصيب بطعنةٍ قضت عليه. وتَبكيه ريَّا حتى تقضي نحبَها معه. ويقول القيسي في روايته: «فحفرنا لهما قبرًا واحدًا وواريناهما في التراب ورجعتُ إلى ديار قومي وأقمتُ سبعَ سنين ثم عدتُ إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلتُ والله لأعودنَّ قبر عتبة، فأتيتُ إليه فإذا هو عليه شجرة عالية عليها عصائب حُمر وصُفر وخُضر، فقلتُ لأرباب المنزل: ما يُقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين.»
ثم هناك «حكاية على بن بكار مع شمس النهار» وهي كلها عبارة عن وصف تباريح الهوى وعذابات الحب بين بطلِها ابن أحد ملوك العجَم الذي كان مُقيمًا ببغداد، ويلتقي مصادفةً بالجارية شمس النهار مَحظية الخليفة هارون الرشيد. ويتمكَّن الحُب بين الاثنين ويلتقيان في ظلِّ خطر اكتشاف الخليفة لسِرِّهما، وفي كل لقاءٍ يُغشى عليهما من فرْط الودِّ والجوى دون أمَلٍ في الوصال، وهو ما يُضني علي بن بكار ويُهلكه في النهاية هو والجارية من فرط العشق والجوى. وتتميز تلك القصة بذكر تباريح العشق وامتلائها بأخبار المرض والسقم من فرْط الحب، وتكرار أن نتيجة العشق الحقيقي إما الوصال وإما الموت.
وكانت نقطة «الانفراج» في هذا الموقف القائم على التحيُّز والنعرات القومية، على يدِ المُستشرقين الإسبان، مُتمثلًا في الخطاب الذي ألقاه الباحث والمُستشرق الإسباني الشهير «ميجيل آسين بالاسيوس» بمناسبة انضمامه إلى الأكاديمية الملَكية الإسبانية في ٢٦ يناير ١٩١٩م، وأعلن فيه لأول مرةٍ أنه قد توصل بعد طول بحثٍ وتدقيق إلى أن دانتي في ملحمته «الكوميديا الإلهية» قد تأثر بأعمالٍ إسلامية في الإطار الذي رسمَه لملحمَته، وفي تفاصيل وصفه للجحيم والفردوس، بل والمُطهِّر (وهو الأعراف في الإسلام)، بما ورد في الكتب العربية الإسلامية في الشروح والتفسيرات لآيات الإسراء في القرآن الكريم، وبرسالة الغفران لأبي العلاء المعرِّي، وكتب الصوفي الأندلسي الأشهر مُحيي الدين بن عربي.
بيد أن الثورة التي قُوبل بها آسين بالاسيوس لم تفتَّ في عضده، بل واصل أبحاثه وأصدر عام ١٩٤٣م — قبيل وفاته عام ١٩٤٤م — طبعةً ثانية مزيدة لكتابه، ردَّ فيها على نقَّاده بالأدلة والبراهين. غير أنه كان يعوزه الدليل المادي المباشر على وجود ترجمات لاتينية عن قصص «الأخرويات» الإسلامية تكون قد تُدوولت في العصر الذي عاش فيه دانتي. وبدأت تلك الأدلة المادية في الظهور منذ عام ١٩٤٩م، حين نشر الإيطالي «إنريكو تشيرولي» ترجمتَين لاتينية وفرنسية لكتابٍ عربي هو «معراج محمد» كان قد تمَّت ترجمته إلى القشتالية (الإسبانية الأولى) ومنها إلى اللاتينية والفرنسية حوالي عام ١٢٤٦م، نشرها الباحث الإيطالي، عن مخطوطاتٍ موجودة بالفعل في مكتبة «بودلي» بأكسفورد والمكتبة القومية في باريس. كذلك نشر الباحث الإسباني «كونيوز سندينو» — مُستقلًا عن تشيرولي — ترجمات إسبانية ولاتينية وفرنسية لنفس الكتاب. ويُورِد الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه سالف الذكر شواهد كثيرة على انتشار ذلك الكتاب بترجماته المُتعددة في كل أنحاء أوروبا قبل مولِد دانتي مباشرة، ثم يُورِد مقاطع وصورًا بلاغية تُوازِن بين ما جاء في الكوميديا الإلهية وبين ما جاء في ذلك الكتاب الإسلامي، بما لا يدع مجالًا للشكِّ في معرفة دانتي الوثيقة به.
والنص اللاتيني لكتاب «معراج محمد» به تصدير لمُترجمه الإيطالي المُسمَّى «بونافنتورا دي سيينا»، سكرتير الملك ألفونسو ملك قشتالة، يذكُر فيه أن إبراهام الطبيب اليهودي للملك العظيم ألفونسو ملك قشتالة وطليطلة وليون وجليقية وإشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والجرف، قد قام — بناء على أوامر الملك — بترجمة هذا الكتاب من اللغة العربية إلى الإسبانية بهدَف «التعرُّف على حياة محمد وحكمته»، وأنه قام بتقسيم الكتاب إلى فصولٍ كيما يُيسِّر الاطلاع عليه. ويُضيف بونافنتورا أنه يقوم بدوره — بناء على أمر الملك ذاته — بترجمة الكتاب من الإسبانية إلى اللاتينية. ونفهم من كلام المُترجم الأخير أن تلك الترجمة كانت بغرَض تبيان حقائق الديانة المسيحية في مُقابل الدين الإسلامي، رغم أنه قد اقتصر على ترجمة النص ولم يُلحِق به أية تعليقات أو إضافات، وقد ذكر الأب فرانك جيلي (في محاضرةٍ سنذكرها توًّا) بأنه يظن أن بونافنتورا قد أضاف ذلك لإرضاء السلطات الكنسية ومحاكم التفتيش في ذلك الوقت.
وقد آذن ذلك الاكتشاف ببعض الانفتاح على الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على الآداب والفنون الأوروبية في العصور الوسطى. وأصبح لنظرية التأثُّر العربي والإسلامي لدانتي مناصرون أكثر من مُعارِضين. وفي محاضرةٍ ألقاها الأب «فرانك جيلي» في «جاليري الكوفة» بلندن في نوفمبر ٢٠٠٢م، وعرضها الباحث إبراهيم درويش، قدم استعراضًا مُشوقًّا لتردُّد الباحثين في الاعتراف بذلك الأثر، نظرًا لأن دانتي «هو الأب المؤسِّس للأدب الإيطالي، وغالبًا ما يُشار إليه باسم الأب دانتي. وتقليديًّا لا يُنظَر إلى دانتي باعتباره شاعرًا بين الشعراء ولكنه: الشاعر .. وهو المعادل الإيطالي للشاعر اليوناني هومر والإنجليزي شكسبير والألماني جوته.» ويتردَّد الأب جيلي في محاضرته بين الاعتراف بالتأثير العربي وإنكاره، وإن كان الاعتراف أقوى، حين يُبيِّن أن أخذ شكسبير لموضوعات مسرحياته من مصادر أخرى لم تنتقِص قَيد شعرةٍ من قدْر مؤلفاته ومن مكانته.
أما فيما يختصُّ بالشعر الأندلسي، فبرغم إنكار عددٍ من الباحثين لأي أثرٍ عربي إسلامي في أشعار وأغاني التروبادور، منهم الباحث الألماني «فردريك ديز» والفرنسي «جانروا» وغيرهما، بدأ بعض الباحثين الموضوعيين في التخلُّص من النعرات القومية والدينية والاعتراف بظهور الأدب البروفنسالي من عباءة الأدب الأندلسي. وقد وقع عبء تأصيل هذا التأثير — في مُعظمه — على عاتق مجموعةٍ من المُستشرقين والباحثين الإسبان، منهم آسين بالاسيوس الذي سبق ذكره، وجونزالز فالنسيا، ومنندث بيدال، وجرسيه جومث الذي أصدر كتابه الأساسي الهام «الشعر الأندلسي»، الذي ألقاه في صيغته الأولى في المعهد المصري بمدريد عام ١٩٥٠م وصدر عن مطبوعات المعهد، قبل صدوره بعد ذلك في طبعاتٍ عديدة وترجمات عديدة. وأتبعه — بعد تحقيقات ضافية — بديوان ابن قزمان الذي أثبت مدى الشَّبَه بين الموشحات والأزجال الأندلسية وبين قصائد التروبادور. وهناك أيضًا الكتاب الفريد لمؤلِّفه الفرنسي «روبير بريفو» المُعنوَن «التروبادور» الصادر عام ١٩٦٥م، الذي أوفى فيه العرب والمسلمين حقَّهم في ريادة الشعر الغزلي في إسبانيا وفرنسا، والذي انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا وإنجلترا وأيرلندا.
(١) نظرة مُجملة في أصل الحُب العذري وأشعار التروبادور
وقد عرَّف «باري» وغيره مفهوم الحب الغزلي بأنه الحُب الذي يخاف الحبيب فيه دومًا أن يقوم بأي شيءٍ يُغضب حبيبته أو يجعله غير جدير بحُبها؛ ومركز الحبيب هو مركز أدنى من حبيبته، فحتى أعتى الفرسان والمُحاربين يرتجف حبًّا في حضور حبيبته. أما من ناحِيتها، فهي تعمل دائمًا على جعل حبيبها غير واثقٍ أو مطمئنٍ تمامًا من عاطفتها نحوه، عن طريق سلوكٍ نزِقٍ مُتعالٍ. والحب هنا مصدر شجاعةٍ وسمو، وإن لا يكون عفيفًا بالضرورة، فكثيرًا ما تكون الحبيبة مُتزوِّجة. وتعمل قسوة الحبيبة الظاهرية على اختبار شجاعة الحبيب وصبره وقوة احتماله. والحُب الغزلي، مثله مثل الفروسية، هو فن له قواعده الخاصة به. والحب الغزلي في مُعظمه حبٌّ نزوي، يائس، ويكون طرفه حبيبة قصيَّة المنال، محجوبة، أو مُتزوجة. وقد ظهرت تعريفات هذا الحُب وغيره عند ابن حزم (٩٩٤–١٠٦٤م) في كتابه المشهور «طوق الحمامة» الذي ترك أثرًا بالِغًا في صور الحب ومفاهيمه في الأندلس وأوروبا منذ تأليفه.
ورغم أن مصطلح الحب الغزلي في أواخر القرن التاسع عشر فحسب، فإن الجدل الأكاديمي حول أصول ذلك النوع من الحب، وأصول الشعر البروفنسالي قد بدأت منذ عصر النهضة الأوروبية، حيث ساد الاعتقاد بين الباحثين بأن الشعر الأوروبي «الجديد» قد بدأ في بروفانس في القرن الثاني عشر، وأن مفهوم الحب كما تبدَّى في أشعار التروبادور مُغاير تمامًا للمفهوم الذي عبَّر عنه الشعراء اليونانيون والرومانيون قديمًا. وقد عدَّد «روجيه بواز» في كتابه الهام «مصادر الحُب الغزلي ومعناه» (١٩٧٧م) أصول شعر التروبادور والحُب الغزلي التي أشار إليها الباحثون والنقاد على مرِّ القرون، وحصرها في سبعة مصادر مُحتملة هي: (١) العربي الأندلسي (٢) تقاليد الفروسية (٣) ديانة «الكاثار» المسيحية (٤) الأفلاطونية الجديدة (٥) تبجيل السيدة مريم العذراء (٦) طقوس الربيع الفولكلورية (٧) التقاليد الإقطاعية.
وهو يذكر أن أكثر الفرضيَّات احتمالًا وقبولًا، هي نظرية الأصل العربي للحُب الغزلي ولشعر التروبادور وموسيقاهم وأغانيهم، بيد أنها لقيت — وما تزال تلقى — معارضةً من عددٍ من الباحثين الغربيين. ويُرجِع المؤلف ذلك إلى النعرات القومية، والاعتقاد بأن الحضارة الغربية قد ورثت مقوماتها من الثقافة الهيلينية والرومانية القديمة. وبرغم التسليم العام بفضل العرب والمسلمين في الحفاظ على الفلسفة اليونانية والإضافة إليها، والإبداع في علوم الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والفلك وغيرها، فإن فكرة الأثر الذي تركَه الأدب العربي الإسلامي في الآداب الأوروبية، تلقَّى صدًّا لا معنى له.
وكان الباحث الإيطالي «جياماريا باربيري» (١٥١٩–١٥٧٥م) هو أول من دافَع عن النظرية القائلة بأن العلاقات مع إسبانيا العربية قد ساهمت في نشأة شِعر التروبادور البروفنسالي في القرن الثاني عشر. وهو يقول إن العرب قد ابتكروا في القرنَين السادس والسابع الشعر المُقفَّى، وأن البروفانس قد تعلَّمت ذلك الفن من إسبانيا أيام الحُكم العربي فيها. ويُضيف — بتحديدٍ غريب — أن هذه النقلة الأدبية قد حدثت عام ١١١٢م، حين تولَّى «رامون برنجر» كونت برشلونة، كونتية إقليم بروفانس، مما أدى إلى توحُّد المُقاطعتَين ثقافيًّا وحضاريًّا. ورغم أن بحث بربيري ذاك لم يُنشَر إلا عام ١٧٩٠م، فهو كان معروفًا ومُتداولًا بين الباحثين ومؤرِّخي الأدب في إيطاليا منذ وَضعِه في القرن السادس عشر.
وهناك الباحث القطلوني (نسبة إلى إقليم قطالونية في الشمال الشرقي لإسبانيا، وله لغته الخاصة به المُتفرعة أيضًا عن اللاتينية) «خافيير لامبياس» (١٧٣١–١٨١٠م) الذي أبرز نظرية اللغوي القطلوني «أنطونيو باستيرو» بأن اللغتَين القطلونية والبروفنسالية كانتا في الأصل مُتطابقتَين؛ فالقطلونية التي دخلت جنوب فرنسا منذ القرن التاسع عن طريق كونتات برشلونة، أصبحت هي اللغة الأدبية لإقليم البروفانس.
ومع أن القرن التاسع عشر قد شهد أبحاثا عدة تُناهِض فكرة الأثر العربي في شعر التروبادور وموسيقاهم، فقد شهد أيضًا مُتحمِّسين لهذه الفكرة، منهم سيموند دي سيسموندي (١٧٧٣–١٨٤٢م)، بأقوال مثل: «إن القصص العربية هي مصدر تلك الرقة والرهافة في المشاعر تجاه المرأة التي سادت عصور الفروسية الأوروبية. والفروسية — التي كانت روح الأدب الجديد أيامها — هي مُستورَد عربي لم يرتبط في بادئ الأمر بالنظام الإقطاعي. فقد أدخل رايموند برنجر ومن تَبِعه إلى بروفانس روح الحرية والفروسية مع العلوم العربية التي وفدت إلينا.» أما الباحث «ديبيكليز» فيقول عام ١٨٤٦م إن النظرة إلى المرأة بوصفها رمزًا مُقدَّسًا قد انتقلت من الشعر العُذري والشعر الصوفي العربي والإسلامي، عبر إسبانيا وعن طريق الصِّلات التي حدثت إبَّان الحروب الصليبية، إلى أوروبا. كما تناول المستشرق الألماني المعروف «فون هامر-بيرجستال» (أحد باحثي ومُترجمي ألف ليلة وليلة) موضوع الأصل العربي للفروسية الأوروبية، فلاحظ أن الشعر العربي الذي انتشر في الأندلس في القرن التاسع يتبدَّى فيه ذلك التقديس الرفيع السامي للمرأة، وهو ما أصبح بعد ذلك من الصفات الأساسية لنظام الفروسية الأوروبي ولشعراء التروبادور.
وفي مسار القرن العشرين، اكتسبت نظرية الأصل العربي لشعر التروبادور والحُب الغزلي زخمًا جديدًا بفضل جهود عددٍ من المُستشرقِين الذين توفَّروا على دعمِها وإثباتها باستخدام أساليب نقدية جديدة في مجالات علوم الاجتماع والأنثروبولوجي وعلم النفس والأدب المُقارن واللغويات والنقد النصي. وقد أكد «خوان ريبيرا» (١٨٥٨–١٩٣٤م) ما ذكره خوان أندريس سابقًا من خروج شعر التروبادور وموسيقاهم من عباءة الزجل الأندلسي والغناء العربي في الأندلس. ودعم ذلك الموقف المُستشرقون «كونراد بورداخ» في ألمانيا، و«جورج ماسينيون» في فرنسا و«كارولينا ميخائيليس» في البرتغال و«منندث بيدال» في إسبانيا. وقد بيَّن بورداخ أن النموذج الأنثوي في نظرية الشعر البروفنسالي والحُب الغزلي يتناقَض مع النموذج المسيحي الكنسي، وأنه ليست هناك سوابق في الأدب اليوناني أو الروماني يمكن أن تكون أساسًا له.
وفي مقابل ذلك، قدم «جون ولكوكس» و«ك. س. لويس» تعريفًا دقيقًا للحُب الغزلي وعناصره تمثَّلت في: تعبُّد الحبيب في محراب حبيبته، ومشاعر الحب الحر، ثم التسامي بها عن طريق أنشطة الفروسية ومُخاطراتها. وقد تمَّ تفسير الحُب الحر بأنه التعبير العفوي التلقائي للرغبة المتبادلة التي تبرُز في وجه الضغوط الاجتماعية والدينية والاقتصادية. (وهذا هو تمامًا ما كان يحدُث في الحب العذري العربي، بإضافة تقاليد القبيلة والأسرة — قارن قيس وليلى وجميل وبثينة وقصص الحُب العذري الأخرى الواردة في ألف ليلة وليلة).
وقد كان الحب الغزلي نبتًا غريبًا في وسط المجتمع الأوروبي عند ظهوره. ففي الوقت الذي بزغ فيه، كانت كنيسة العصور الوسطى لا تُشجِّع فكرة السمو بالمرأة ووضعها موضع التقديس في العاطفة الغرامية. ولم تكن الرغبات الحسِّية — مهما بلغت درجة صِدقها ومشروعيتها — تُعتبَر من العواطف النبيلة. ولم تكن الكنيسة تُشجع عواطف الحب العارم حتى ضِمن نطاق الزواج، بل نظرت إليه نظرةً غير أخلاقية، فالزواج كان هدفه الحفاظ على النسل وحسب. وقد شملت تلك النظرة الحب الغزلي والشعر التروبادوري كذلك. وقد أكد «كريستوفر دوسون» في كتابه «أصول الأعراف الرومانسية» (١٩٣٥م) على أن المقاييس الأخلاقية للمجتمع البروفنسالي في القرن الثاني عشر لم تكن نفس المقاييس الدينية، وأن الملاحم الوطنية التي نشأت في الشمال الفرنسي وما وراءه لم تتبدَّ فيها ملامح المُثل العُليا الجديدة للفروسية والحب الغزلي إلى أن انتقلت إليها تلك المُثُل بعد ذلك من الجنوب.
ثم طلع «رامون منندث بيدال» عام ١٩٣٨م بكتابه الهام «الشعر العربي والشعر الأوروبي»، الذي نادى فيه بأن الزجل الذي كان يُوضَع بالعربية والإسبانية المبكرة، إضافةً إلى الموشحات الأندلسية، هي نتاج انصهار الرومانس والثقافة العربية في شِبه الجزيرة الأيبيرية، وأن هذا النظم المقطعي قد انتقل إلى شمال إسبانيا ومنها إلى المناطق الأوروبية الأخرى. وقد كتب في الموضوع كل من المُستشرقين أ. ر. نيكل وبيير بلييرون وهنري بيريز. وأوضح الأخير أن مخاطبة الحبيبة باسم المذكر، وإخفاء شخصية الحبيب، ودور الرقيب، والعذول، ومساعي الوسيط بين المُحبِّين، كل ذلك بصمات عربية خالِصة.
وقد جاء اكتشاف «صمويل ستيرن» عام ١٩٤٨م لموشحات بها «خرجات» (أى مقاطع ختامية) مكتوبة بلهجات إسبانية كانت شائعة أيام الحُكم العربي لإسبانيا، ليُفجِّر من جديدٍ جدل الأثر العربي في شعر التروبادور. وظهرت أبحاث مُعارِضة وأبحاث مُؤيِّدة؛ ودخل في تلك الأبحاث أثر ابن سينا (رسالة في العشق) وابن رشد وابن حزم في تطوُّر مفاهيم الحب في عصورهم. وظهر نقَّاد يُفرقون بين الحب الغزلي والحب الفروسي (رينيه نيلي، ١٩٦٣م)، ونُقاد يُحللون الحب الغزلي في أضواء فرويدية (ريتشارد كوينزبرج، ١٩٦٧م) يتحدَّثون فيها عن السادية والماسوشية! ومن بين كل تلك النظريات والاتجاهات، ما تزال نظرية الأصل العربي والأندلسي للحب الغزلي وشعر التروبادور وموسيقاهم وأغانيهم هي النظرية ذات الأصل المنطقي حتى وقتنا الحاضر.