حكايات حِيَل النساء ومكرهن
«… وأخرجت لهما من جَيبها كيسًا أخرجت منه عقدًا فيه خمسمائة وسبعون خاتمًا، فقالت لهما: أتدرون ما هذه؟ فقالا لها لا ندري. فقالت لهما أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فأعطِياني خاتمَيكما أنتما الاثنان الآخران. فأعطَياها من يدَيهما خاتمين. فقالت لهما إن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي، ثم إنه وضعني في علبةٍ داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المُتلاطم بالأمواج، ولم يعلَم أن المرأة منَّا إذا أرادت أمرًا لم يغلبها شيء كما قال بعضهم:
«… وأما ما كان من أمر الجوهري فإن النار اشتعلت في قلبه وقال في نفسه أنا أروح أنظر زوجتي فإن كانت في البيت تكون هذه الجارية شبيهتها وجلَّ من ليس له شبيه وإن لم تكن زوجتي في البيت تكون هي من غير شك، ثم أنه قام يجري إلى أن دخل البيت فرآها قاعدةً بملبسها وزينتها التي رآها بها في الدكان فضرب يدًا على يدٍ وقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقالت له: يا راجل هل حصل لك جنون؟ أو ما خبرُك؟ فما هذه عادتك؛ لا بدَّ أن يكون لك أمر من الأمور، فقال لها: إذا كان مُرادك أن أُخبرك فلا تغتمِّي، فقالت: قل. فقال لها: إن التاجر صاحبنا قد اشترى جاريةً قدُّها مِثل قدِّك وطولها مثل طولك واسمها مثل اسمك وملبسها مثل ملبسك، وهي تُشبهك في جميع صفاتك وفي إصبعها خواتم مثل خواتمك ومصاغها مثل مصاغك، فلمَّا فرَّجني عليها ظننتُ أنها أنت وقد تحيَّرتُ في ليلتنا، ليتَنا ما رأينا هذا التاجر ولا صَحِبناه ولا جاء من بلاده ولا عرفناه فإنه كدَّر عيشتي بعد الصفاء وكان سببًا في الجفاء بعد الوفاء وأدخل الشك في قلبي، فقالت له تأمَّل في وجهي لعلي أكون أنا التي كنتُ معه والتاجر صاحبي وقد لبستُ بصفة جارية واتفقتُ معه على أن يُفرِّجك عليَّ حتى يكيدك، فقال: أي شيءٍ هذا الكلام؟ أنا ما أظن بك أن تفعلي مثل هذه الفعال. وكان ذلك الجوهري مُغفلًا عن مكايدة النساء وما يفعلنَ مع الرجال …»
«… فقال له الملك شهرمان: اعلَم يا ولدي أني أريد أن أزوِّجك وأفرحَ بك في حياتي وأُسلطنك في مَملكتي قبل مماتي. فلمَّا سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسَه ساعة، وبعد ذلك رفع رأسه وقال: يا أبتِ هذا شيءٌ لا أفعله أبدًا ولو سُقِيتُ كأس الردى. وأنا أعلم أن الله فرض عليَّ طاعتك، فبِحقِّ الله عليك لا تُكلفني أمر الزواج ولا تظن أني أتزوَّج طول عمري، لأني قرأتُ في كُتب المُتقدِّمين والمُتأخِّرين، وعرفتُ ما جرى لهم مِن المصائب والآفات بسبب فِتَن النساء ومكرهنَّ غير المُتناهي وما يحدُث عنهن من الدواهي …»
•••
تعود قصص وحكايات وأساطير الحِيَل التي تلجأ إليها بعض النساء للتَّوصُّل إلى إنفاذ رغباتهن والتغلُّب على أي قيودٍ تُفرَض عليهن، إلى عهودٍ سحيقة في القِدم. ويكفي أن نُشير إلى آدم وحواء، والمتواتر عن تَسبُّب حواء في خيانة العهد فأدَّت بالبشرية كلها إلى الهبوط إلى الأرض والمرور بالتجربة الدنيوية بما فيها من شقاءٍ ونعيم. وبالمِثل، نجد في أقدم النصوص الأدبية والأسطورية التي وصلت إلينا بشكلٍ أو بآخر، الدور الذي تلعبه النساء في تدبير الحِيَل والمكائد. ويحتوي الأدب الفرعوني على قصةٍ فريدة من نوعِها في هذا المضمار، هي قصة الأخوَين. وهي تحكي عن أخٍ أكبر يُدعى أنوبيس، يعيش مع زوجته ومع أخيه الأصغر «باتا». وكان باتا يَعتبِر أخاه بمثابة الأب له، وزوجته بمثابة الأم. ولكن الزوجة أُعجبت ذات يومٍ بقوة باتا وشبابه، فترغب فيه كرجل، وتُمسك به وتطلُب اليه أن يقضي ساعةً معها. ويثور باتا ويرفض طلبَها بعُنف، ولكنه يقول إنه لن يذكُر شيئًا لأخيه مما بدَر من زوجته. بيد أن الزوجة الماكرة تخاف رغم ذلك، فتُبادر بالشكوى إلى زوجها بأن أخاه الأصغر قد حاول إغواءها، وعمدَتْ إلى تلطيخ نفسها بالدهن والشَّحم كيما تُبين لزوجها ما فعلَه باتا بها. ويثور الأخ الأكبر ويعتزم قتل أخيه عند عودته. ولكن رتل الأبقار التي يرعاها باتا تُخبره عما يعتزم أخوه أنوبيس أن يفعل به، فيهرُب بعيدًا؛ وتعمَد الآلهة إلى تفجير نهرٍ يفصل بين الأخوَين وتصطرع فيه التماسيح المُتوحِّشة. ويهتف باتا بأخيه عبر النهر أنه مظلوم، وأن الزوجة هي التي أرادت إغواءه ولكنه رفض، ويُعبِّر عن صِدق ما يقوله بأن يبتر ذكَرَه ويُلقيه طعامًا للتماسيح. وعندها يندم الأخ الأكبر على ظُلمه لأخيه، ويُدرك أن زوجته هي الخائنة، فيعود إلى منزله ويقتُلها.
وهذه هي القصة كما يعرفها معظم القرَّاء الآن، ولكن بقيَّتها أكثر تشويقًا وإن كانت أكثر تعقيدًا، وهي تستمرُّ في الضرب على وتَر خيانة المرأة وضعفها ومكرِها. ذلك أن باتا يذهب بعد ذلك ويعيش في البرية على صيد الحيوانات. وتعطف عليه الآلهة، فتَهبه فتاةً هي أجمل امرأةٍ على الأرض. وعاشت الفتاة معه، ويطلُب منها ألا تذهب إلى الخارج كيلا يختطفها البحر، فهو لا يقدر على حمايتها منه، كما يحكي لها ما وقع له مع أخيه الأكبر وزوجته. بيد أن الفتاة لا تَمتثِل لنصيحته وتخرج، فيسمع فرعون مصر بجمالها الفائق فيأمُر بإحضارها إليه. ولكن باتا يصرع كل الرجال الذين حضروا لأخذِها. ويبعث الفرعون بامرأةٍ معها أجمل أنواع الحُلي فتُبهر فتاةَ باتا بها وتذهب معها طوعًا إلى الفرعون الذي يجعلها السيدة الأولى في البلاد. ويحتال الفرعون حتى تُخبره الفتاة بقصة زوجها باتا، وعندها تخونه الفتاة وتفشي للفرعون السِّرَّ الذي يمكن به أن يصرع باتا (قارن شمشون ودليلة)، وهو أن يقتلعوا بُرعم شجرةٍ من أشجار الأرز عليها قلب باتا. وحين يفعلون ذلك، يموت باتا من فوره. وحين يعلم الأخ الأكبر أنوبيس بموت باتا، يقوم بشتَّى أنواع المراسم والتعاويذ والطقوس حتى يُعيد القلب إلى جسد أخيه فتعود له الحياة. ويعتزم باتا الانتقام من زوجته، فيُغيِّر هيئته ويتحوَّل إلى ثورٍ مهيب الطلعة ذي لونٍ عجيب، ويطلُب من أخيه أن يقتاده ويُقدِّمه هديةً إلى الفرعون. ويعجب الفرعون بالثور ويُغدق الهدايا على الأخ الأكبر دون أن يعرف هويته. وبعدها، يتحدَّث الثور، باتا، إلى زوجته حين تكون وحدَها ويُخبرها أنه زوجها باتا وأنه يعرف أنها خانته وأفشت سِرَّه للفرعون، فينتابها الذُّعر، وتمكر مكرَها السيئ مرةً أخرى، وتعمَد إلى ما عمَدَت إليه «سالومي» فيما بعد، إذ إنها تنتزع من الملك الفرعون وعدًا بأن يُجيبها إلى أي شيءٍ تطلُبه منه، وحين يوافق، تطلُب إليه أن يذبح الثور. ويوافق الملك مُرغمًا، ولكن نقطتَين من دماء الثور المسفوح تسقطان على مدخل قصر الفرعون، وتتحوَّلان في ليلةٍ واحدة إلى شجرتَين وارفتَين. وتهمس إحدى الشجرتَين مرةً أخرى للزوجة الخائنة، أنها هي باتا وأنه يعلم بخيانتها. وتُكرِّر الزوجة حيلتها مع الفرعون وتطلُب إليه تلك المرة أن يأمر بقطع الشجرتَين. ولكن، عند قطع الشجرتَين، تطير شظيةٌ من جذع إحداهما وتستقر داخل جوف الزوجة الخائنة فتصير حُبلى بطفلٍ يفرح به الفرعون ويُعلنه وريثًا لعرشه. وبعد أن يموت الفرعون، يتولَّى ذلك الابن المُلك، ويأمر بجمع كل أمراء ووزراء وقادة مملكته، ويُعلن لهم أنه هو باتا نفسه، ويُخبرهم بكل ما جرى له، ويحكم على الزوجة الخائنة بالإدانة، ويوافقه الجميع على ذلك. ثم يعيش باتا بعدَها مع أخيه الأكبر في سلامٍ وهدوء.
هذه القصة الشيقة هي من أقدم ما وصلَنا من نصوصٍ تحكي عن خيانة النساء ومكرهن، وقد أوردتُها هنا نقلًا عن النص الذي نشرَتْه بالإنجليزية «ميريام ليشتهاير» في الجزء الثاني من كتابها «الأدب المصري القديم». والقصة مكتوبة على برديَّةٍ محفوظة في المتحف البريطاني الآن، وتعود إلى نهاية الأُسرة التاسعة عشرة (حوالي ١٣٠٥–١١٩٥ قبل الميلاد).
فإذا انتقلنا إلى أدب اليونان وروما القديمة، نجد أن هذا الموضوع قد ورد — وإن على نحوٍ سلبي — في إلياذة هوميروس وأوديسته، حين تستسلِم هيلين زوجة مينلاوس ملك طروادة، لإغواء باريس ابن ملك إسبرطة وتهرب معه إلى بلاده تاركةً زوجها وبلادها وراءها، فتشعل بذلك حربًا ضروسًا بين طروادة وإسبرطة دامت سنينَ وانتهت بهزيمة إسبرطة بحِيلة الحصان المشهور، وعودة هيلين إلى زوجها. بيد أن تكملة القصة في الأوديسة تُقدِّم لنا الوجه الآخر للنساء، الزوجة الوفية لزوجها ولعهودها وإخلاصها له، مُمثلةً في «بينولبي» زوجة عوليس الذي غاب عنها عشر سنوات في حرب طروادة وما تلاها من حوادث وقعت له في طريق العودة إلى بلده إيثاكا، بعد أن ظن الجميع أنه قد مات، ويتجمَّع الرجال على زوجته طالِبين منها اختيار واحدٍ منهم زوجًا، ولكنها تحتال بحيلة الثوب الذي تَنسجُه في النهار وتَحلُّه في الليل، حتى يعود عوليس أخيرًا ويهزم أعداءه ويفوز بزوجته الوفية التي استخدمت ذكاء المرأة ومكرها — تلك المرة — إخلاصًا لزوجها وحُبها.
وفي الأدب الروماني، نجد أن أوفيد قد حكى الكثير من نوادر النساء وقصص غرامياتهن، خاصة في كتابه «فن الحب». ولأوفيد كتُب أخرى عالَجَ فيها العلاقات الغرامية والجنسية، وأسدى فيها النُّصح للمُحبِّين والمُحبَّات عن طرُق التحايل على الأزواج الغيورين!
وفي تلك الأثناء، كان الكثير من كتب القصص والأمثولات والحكايات الشعبية العربية قد ذاعت في أوروبا وتناقَلَها الرواةُ والحكواتية، ثم صدرت مكتوبةً بعد ذلك، على النحو المذكور في فصولٍ أخرى من الكتاب.
وما إن نصِل إلى الديكاميرون وحكايات كانتربري، حتى نرى الكمَّ الهائل من قصص مكائد النساء وأحابيلهن التي ترِدُ في قصص هذَين الكتابَين. فالديكاميرون مُعظمه قصص عن خداع النساء واحتيالهن على نيل أوطارهن، وكثير من حكاياته عربي النكهة والمنشأ، ونفس الشيء ينطبق على «حكايات كانتربري»، وقد ذكرنا ذلك في مكان آخر من هذا الكتاب.
وثمَّة قصة وردت في حكايات ألف ليلة وليلة انتقلت برمَّتها إلى الأدب الأوروبي في العصور الوسطى، وهي قصة «حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة». وهي تَحكي عن ملكٍ يُرزَق بعد جهدٍ بِوَلدٍ ليرث عرشه، فيعمل على تنشئته وإعداده إعدادًا صالحًا على يد رجلٍ حكيم من حاشيته يُسمَّى «السندباد»، الذي يُعلِّم الولد الحكمة والآداب إلى أن يصير بلا نظيرٍ في عِلمه وأدبه وفهمه. ويستطلِع الحكيم النجوم فيرى في طالِع الأمير أنَّ ثمَّة أسبوعًا كاملًا إذا تكلَّم فيه الولد كلمةً واحدة يَصير هلاكه، فيتفق مع أبيه الملك على تسليمِه إلى أخصِّ جوارى الملك وأفضلهنَّ ليمكُث عندها حتى تنتهي تلك الأيام السبعة المشئومة. وهناك، ترى الجارية — مَحظية الملك المُفضلة — الابن فتعشَقه من أول نظرة، وتُريد وصاله، فيتأبَّى الولد ويُنذرها بأنه سوف يُخبر أبيه بمراودتها له عن نفسه بعد انقضاء الأيام السبعة. فخافت الجارية من مغبَّة ذلك وفعلتْ ما فعلته زوجة الأخ الأكبر في قصة الأخوَين الفرعونية، فتوجَّهَت إلى الملك شاكيةً باكية، وقالت له: يا مولاي، إن سيدي قد راودني عن نفسي وأراد قتلي على ذلك فمنعتُه وهربت منه. ويثور الملك غاضبًا ويُحضر وزراءه ويأمُرهم بقتل ابنه جزاءً على فعلته. ولكن الوزراء يتفقون على أن يُدبروا ما يمنع الملك من قتل ابنه، إلى أن تمضي الأيام السبعة ويتمكن الابن من الكلام مدافعًا عن نفسه. ويذهب أول وزير إلى الملك ويُحذِّره من قتل ولده بناء على شكاية جارية «إما أن تكون صادقةً أو كاذبة، ولعلَّ هذه مكيدة منها لولدك.» ويقول الملك: «وهل بلغك شيء من كيدهن أيها الوزير؟ قال نعم.»
وهكذا تتوالى قصص الوزراء السبعة، يحكون فيها للملك قصصًا تتضمَّن ألوانًا من دهاء النساء ومكرهن، وقد ذكرنا طرفًا من تلك القصص من قبل. والطريف في تلك الحكايات أن الجارية المخادعة تقصُّ هي الأخرى للملك قصصًا عن خداع الرجال ومكرهم كيما يقتنع بحُجَجها، ولكن يلاحظ أن الكثير من قصصها يتضمَّن خداعًا رهيبًا تقوم به النساء كذلك، وإنما هي تحكي القصة لتُبرِز دور الرجل، بينما دور المرأة أكبر وأوضح بكثير. ومن أعجب قصص تلك الحكاية وأطرفها قصة الزوجة التي احتالت — في سعيها للإفراج عن معشوقها الشاب — على الوالي والقاضي والوزير والملك، وأيضًا على نجَّارٍ أوصته بصُنع خزانة ضخمة — أي دولاب — من الخشب ذي خمس طبقات. وبعد أن واعَدَت الجميع على لقائهم في نفس الليلة، احتالت على حبس كلِّ واحدٍ منهم في طبقةٍ من طبقات الخزانة، إلى أن يكتشفوا — بعد أن اختفت المرأة — مدى الغفلة التي تعرَّضوا لها على يدِ تلك الماكرة. كذلك تحتوي تلك المجموعة على أول قصةٍ في ألف ليلة وليلة بها دور العجوز الماكرة التي تقوم بدور الواسطة بين العاشق ومن يهواها من النساء، حتى لو كانت مُتزوِّجة. وتقوم العجوز في القصة بدسِّ حليةٍ على هيئة قناعٍ تحت وسادة المرأة التي يطلُبها العاشق، فيُطلِّقها الزوج. وخلال عشرة أيام، تجمع العجوز بين المرأة والشابِّ الذي يهواها. وبعد أن نال طلبَه منها، تحتال العجوز لإقناع الزوج أنها هي التي نسِيَت القناع الحِلية في بيته، فيندم الزوج ويُراجع زوجته ويُعيدها إلى عِصمته. وهذه العجوز، وأمثالها في قصصٍ أخرى، هي النبتة العربية التي أنتجت بعد ذلك شخصية «سلستينا» الإسبانية، وهي العجوز التي تقوم بدَور الوسيط بين المُحبين، وإن كان المؤلف الإسباني فرناندو دي روخاس لم يُخفِ طبيعة عملِها بذلك العنوان الفرعي لمسرحيته، الذي أصبح يعني صراحة «القوَّادة»!
وهناك حكاية أخرى في ألف ليلة تُماثل حكاية الجارية والوزراء، هي حكاية الملك جليعاد والشمَّاس، وفيها يعهد الملك جليعاد بالمُلك لابنه بعد وفاته، فيسير في البداية على سيرة أبيه من العدل والصلاح، وبمشورة كبير وزرائه الشمَّاس ومُعاونيه، إلى أن يستمع لنصيحة نسائه بأن يتخلَّص من وزرائه ومُستشاريه لأنهم يُضمرون له الشر. ويحكين له قصصًا عن شرور الرجال والوزراء. ويُحسُّ الشمَّاس بتغيُّر المَلك الغلام، فيحكي له أمثلةً وقصصًا عن شرور بعض النساء ومكرهن. وهكذا يتوالى الصراع بين المرأة والمُستشارين الوزراء، عن طريق الحكايات والقصص، إلى أن يتغلَّب دهاء المرأة في نهاية الأمر ويتخلَّص الملك من معاونيه، فيكون في ذلك هلاكه وسوء المصير، ويُدرك خديعة النساء بعد فوات الأوان، إلى أن يُنقِذه من غزو الأعداء ابن الشمَّاس كبير الوزراء الذي يُنقذ البلاد فيُعينه الملك مكان أبيه وينتقم من نسائه اللاتي قدَّمن له نصائح باطنها المكر والاحتيال. بيد أنه تجدُر الإشارة إلى أن تلك الحكاية لا تُعفي الرجال من الخضوع لمكر النساء، بل تحمل عليهم كذلك لضعفهم وانقيادهم لنزوات المرأة دون تدبُّرٍ للعواقب. ففيها يقول ابن الشماس: «اعلم أيها الملك، أن الذنب ليس للنساء وحدهن لأنهن مثل بضاعة مُستحسنة تميل إليها شهوات الناظرين، فمَن اشتهى واشترى باعوه ومن لم يشترِ لم يُجبره أحد على الشراء ولكن الذنب لمن اشترى وخصوصًا إذا كان عارفًا بمضرَّة تلك البضاعة، وقد حذَّرتك ووالدي من قبلي كان يُحذرك ولم تقبل منه نصيحة.»
أما الحكاية التي تعرض كيد النساء بصورةٍ فريدة لم يسبق لها مَثيل فهي حكاية قمر الزمان وزوجة الجوهري، التي أوردنا في المبدأ اقتباسًا منها. فزوجة الجوهري الطيب تحتال على معماري ماهر بالمال حتى عمِل لها سردابًا خفيًّا يصِل ما بين بيتها وبيت قمر الزمان، وصارت تُلاقيه كلَّما نام زوجها. ثم تكيد المرأة بأن تُوهِم زوجها أن قمر الزمان قد اشترى جاريةً هي صورة طبق الأصل منها، وأخذت تظهر له في بيت قمر الزمان، وتعود عن طريق السرداب بعد ذلك إلى بيتها فيجدها الزوج كما رأى جارية قمر الزمان، حتى كاد يغيب عقله. وانتهى الأمر بها إلى هجران زوجها والفرار مع حبيبها.
وقد اختلف النقَّاد في الهدف من وراء كثرة قصص النساء ومكائدهن في ألف ليلة وليلة، وما يَحمله ذلك من دلائل ذكورية أو نسوية، ونشط المُنادون بحقوق النساء وبالنسوية في التعليق على ذلك الاتجاه في القصص، إما بالشجب أو بالتعليل والتبرير. فالباحثة «رنا قباني» في كتابها «الأساطير الأوروبية عن الشرق» (١٩٨٦م)، تذكُر أن قصص ألف ليلة وليلة مُخصَّصة لجماهير ذكورية، وأن المرأة في تلك القصص تنقسِم إلى نوعَين: فئة الزانيات والساحرات والبغايا، وفئة الحكيمات الواعِيات الفُضليات. ونفهم من قولها أن القصص كانت رائجة في الأوساط الدنيا من المُستمِعين في مقاهي القاهرة وغيرها من الحواضر العربية بسبب الأنماط المُعادية للمرأة التي تمتلئ بها الحكايات، وبما تُوحيه من الوضعية الأدنى للمرأة مقارنةً بالرجل. وفي المقابل، تتَّخذ الكاتبة «لالي هولبك» في كتابها «نسوية شهرزاد» (١٩٢٧م)، موقفًا مُناقضًا، إذ تذكُر أن مؤلف الكتاب نسوي صميم، وهو يُقدِّم بطلته شهرزاد بوصفها تُعلِّم عن طريق القصص التي تحكيها، وما تَحكيه يرفع من شأن المرأة ويُمجِّد فضائلها. ويُعقب «روبرت إروين» قائلًا إن كِلا الاتجاهَين — من رنا قباني ولالي هولبك — قاصران، وأن الحجم الهائل لقصص كتاب ألف ليلة وليلة لا يُبرر أيًّا من الرأيين المُعتسفَين.
ولا تقتصر قصص حِيَل النساء وخداعهن في اللغة العربية على ألف ليلة وليلة، فكتاب «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة» الذي سبق ذكره في فصل الجنس والإيروسية، والذي يعود إلى القرن العاشر، به الكثير من قصص مَكر النساء، وقد وردت به قصص أشبَهُ بقصص ألف ليلة وليلة، ومنها قصص فيها كذلك مثل حكاية أبي محمد الكسلان، وبعض قصص هارون الرشيد.
والقصة التي دارت حول مكر المرأة في ذلك الكتاب هي بعنوان «حديث عروس العرائس وما عملت من حِيَلٍ وما تمَّ فيه من عجائب البحار والجزائر». وقد قدَّمت تلك القصة شخصية عروس العرائس الداهية الشريرة الساحرة، التي تسبَّبت في الكثير من الكوارث والمصائب منذ مَولدها ومنذ تنبَّأ المُنجمون لأبيها الملك بشؤم طالِعها، فلم يُصدقهم وأمرَ بقتلهم جميعًا. ولكن عروس العرائس تتقلَّب بها الأحداث فتتفنَّن في الإيقاع بمن حولها كيما تُحقق ما تريد. وانتهى بها الأمر أن أصبحت رفيقة جِنِّي رهيب تفعل به ما فعلت الأميرة بالجِنِّي في أوائل حكايات ألف ليلة وليلة. ولا تنتهي شرور عروس العرائس بمَقتلها، بل تتعدَّاه إلى ما بعد ذلك، حين أعطت الوزير ماءً ليَسكبه على جُثتها، فإذا هو كبريت مسحور يحرق الجميع بناره.
وتناولت الكتب «الكلاسيكية» الجنسية أمور النساء أيضًا، فنرى في كتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر» للنفزاوي، فصلًا بعنوان «في مكائد النساء»، ترِد فيه قصص عن ذلك الموضوع، أولها الحكاية الواردة في ألف ليلة وليلة وكتب أخرى عن العجوز التي احتالت على الزوجة الجميلة في وصالِها بمعشوقها عن طريقة إيهامها بأنها إذا لم تستجب لعِشقه يُصيبها ما أصاب كلبةً أَرَتْها لها، وإنما في هذه القصة أنها جعلت الكلبة إنسانةً في الأصل تحوَّلت إلى كلبةٍ عندما لم تستجب لدواعي العشق والغرام. وقد وردت هذه القصة في عددٍ من كتب القصص الأوروبية الأولى، منقولةً عن العربية. وفيه قصة أخرى تحايلت فيها إحدى الزوجات كي تأخُذ مكان صديقةٍ لها في الفراش مع زوج تلك الصديقة دون أن يشعُر أحد بذلك، وهي القصة التي وردت بعد ذلك أيضًا في الديكاميرون لبوكاتشيو.
وفي كتاب «نزهة الألباب فيما لا يُوجَد في كتاب» للتيفاشي، وهو مُرشد وديل جنسي إيروسي، يورِد المؤلف أوصافًا عديدة لأنواع النساء المُتبذلات، ويروي طرفًا من النوادر في السبل التي يقُمن بها للتوصُّل إلى ما يُردن. أما الكتاب الأشهر «رجوع الشيخ إلى صباه»، فقد تضمَّن الباب العشرون منه، حكاياتٍ عن النساء، وهي كلها تُعنى بغلبة الشهوة عندهن، وكيف يستمتِعن بالجنس ويحتلنَ عليه، وهو ما يدخل في إطار الموضوع العام للكتاب. وهناك كتاب آخر غير مشهور من تأليف «علي البغدادي» عنوانه «كتاب الزهر الأنيق في البوس والتعنيق» ويرجع تأليفه إلى أوائل القرن الرابع عشر، وهو يتضمَّن خمسةً وعشرين فصلًا تدور حول مكائد النساء وحِيلهن في خداع كلٍّ من الأزواج والعشَّاق على حدٍّ سواء. وفي الكتاب قصص مأخوذة من ألف ليلة وليلة، منها تلك التي تدور حول احتيال إحدى العاهرات على نائب والي البهنسا وإخراجه عاريًا إلى الطريق، وهي مأخوذة من إحدى قصص حكاية المُقدِّم الثالث، من حكايات الظاهر بيبرس الواردة في طبعة برسلاو من ألف ليلة وليلة.
وتتراوح قصص كيد النساء في كتاب ألف ليلة وليلة ما بين سحر الساحرات، وبين حِيَل المرأة للظفر بمن تُحب في غفلةٍ من الزوج أو الأب والأم، وما يقع بين هذَين الموضوعَين من مكر النساء في مُعترك الحياة، كحكاية دليلة المُحتالة وابنتها زينب النصَّابة، أو في مُعترك الحروب والسياسة، مثل الألاعيب الغريبة التي قامت بها ذات الدواهي في الحروب بين العرب وبيزنطة.