موازنات ومقارنات
منذ صدور الترجمة الفرنسية لألف ليلة وليلة على يدَي أنطوان جالان بدءًا من عام ١٧٠٤م، وترجماتها إلى اللغات الأخرى بعد قليل من نشرها، لاقت رواجًا هائلًا لا بين أوساط القرَّاء العاديين فحسْب، بل وأيضًا بين كبار الأدباء. فقد رأينا من الكِتاب الذي حرَّره البروفيسور «بيتر كراكشيولو» عن أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي، كيف «هام» بهذه القصص أدباء مثل كولردج وديكنز ووردزورث، وكيف تأثَّر بها على نحوٍ كبير جوزيف كونراد وﻫ. ج. ويلز وجيمس جويس ووليام بتلر ييتس، بل وت. س. إليوت.
وقد ترتَّب على النجاح الشعبي والأدبي الذي لاقاه الكِتاب على كل المُستويات في أوروبا وأمريكا، أنْ ظهر الكثير من القصص والروايات والكُتب والأشعار التي تسير على خُطاه وتُقلِّد حكاياته، وقد دخل الكثير من تلك المؤلَّفات في عماد الأدب الغربي ووصل بعضه إلى مَصافِّ الكلاسيات الأدبية. وسوف أقتصر هنا على عددٍ من الأعمال المُعيَّنة التي يَستبين فيها بصورةٍ أوضح حجم التأثُّر الذي تركَه الكِتاب العربي في العمل الأوروبي.
(١) الحياة حلم
تعود هذه الحبكة القصصية التي ظهرت في أكثر من عملٍ أوروبي، إلى قصة «النائم اليقظان» التي وردت في ترجمة جالان الأولى وفي نُسخة برسلاو، رغم أنها غير موجودة في معظم الطبعات العربية الكاملة المتداولة حاليًّا.
وقصة النائم اليقظان هي من أحلى قصص ألف ليلة، وهي تُشكل في جزءٍ منها عُمقًا في تصوير الشخصية قلَّما نجِده في القصص الأخرى، وذلك حين يتحيَّر «أبو الحسن» ويتوه في حيرته، أهو نائم أو مُستيقظ، حين تتراوَح حياته بين كونه تاجرًا مُتوسط الحال، وبين كونه الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد.
وتحكي القصة عن الشابِّ أبي الحسن الذي يرِث تجارة أبيه وثروته، فيُقرِّر أن يُقسِّم مُمتلكاته وأمواله إلى قِسمَين: الأول منهما يُنفِقه على مسرَّاته، والثاني يُبقيه للمُستقبل ولا يمسُّه أبدًا. ويعيش أبو الحسن في بادئ الأمر حياةً لاهية، فيستضيف كل ليلةٍ مجموعةً من أصدقائه الحميمين، ويستمتعون بأطايب الطعام والشراب، والموسيقى والرقص والغناء. ويَمضي الحال على ذلك المنوال، حتى يصحو أبو الحسن يومًا فيجد أنه قد أنفق كلَّ المال الذي خصَّصه للَّهو ولم يَبقَ منه شيء؛ ولمَّا يُصارح أصدقاءه بذلك ينفضُّون من حوله الواحد تلوَ الآخر. وحين يُفكر في طلب قرضٍ من أولئك الأصدقاء، يرفضون، بل ويزعُم البعض أنهم لا يعرفونه أصلًا. عندها يشعر أبو الحسن بغدْر الأصدقاء، ولم يعُد يؤمِن بالصداقة ولا الوفاء بين الخلَّان، ويحمد الله أنه قد اقتطع جانبًا من ثروته الموروثة كيما يُنفق منها على نفسه وعلى أُمِّه التي تعيش معه.
ويُصمِّم أبو الحسن ألا يُقيم أواصر صداقةٍ دائمة مع أحد، بيد أنه طلبًا للمُنادمة، كان يقصد جسر بغداد ويَنتقي أحد الغرباء عن المدينة فيدعوه إلى العشاء، ويُمضيان السهرة في الحديث والطعام، ولا يعود أبو الحسن يرى ضيفَه بعد ذلك أبدًا. وفي أمسيةٍ من تلك الأمسيات، تقع قرعة أبي الحسن على الخليفة هارون الرشيد، الذي كان مُتنكرًا كعادته وهو يطوف أنحاء المدينة مُتفقدًا أحوالها وناسها. وكان الخليفة قد تنكَّر في هيئة تاجرٍ قادم من المَوصِل ومعه أحد خدَمِه. ويستضيف أبو الحسن الخليفة بوصفه تاجرًا غريبًا عن بغداد، ويتعشَّيان سويًّا، ثم يتنادمان ويتساقَيان. ويحكي أبو الحسن لضيفه قصَّته، وعن جحود أصدقائه وتنكُّرهم له، فيسأل الخليفةُ التاجرَ أبا الحسن عن أي شيءٍ يطلُبه ردًّا للكرم الذي أسبغَه عليه واحتفائه به بهذا الشكل. ويضحك أبو الحسن، ويقول إن له أمنيةً واحدة، ولكنها عصيَّة على التحقيق؛ فهو يتمنَّى أن يُصبح الخليفة هارون الرشيد لمدة يومٍ واحد، كيما ينتقِم من إمام المسجد الذي يقع في جيرته، لأنه شيخ مُنافق يجمع حولَه جماعة سوءٍ مِثله ويقومون بأعمال النميمة والفساد في كل الجوار. ويضع الخليفة مُخدرًا في كأس أبي الحسن، فينام، ويحمِله خادم الخليفة إلى القصر. وهناك، يطلُب هارون الرشيد من حاشيته ووزرائه وخدَمِهِ مُعاملة أبي الحسن حين يفيق في الصباح على أنه أمير المؤمنين هارون الرشيد الخليفة العباسي.
وتمضي الحكاية لتُصوِّر دهشة أبي الحسن حين يفيق من أثر المُخدِّر ليجد نفسه في قصرٍ يُحيط به الخدَم والحشم، والوزراء والأمراء، والقهرمانات والقيان الحِسان من كل صنفٍ ولَون. ويدخل أبو الحسن في متاهةٍ من التردُّد بين التصديق والتكذيب، وهذا التردُّد هو أجمل ما في القصة وأبرعها تصويرًا: «وصفق بيدَيه أمام عينَيه، وخفض رأسه وقال لنفسه: «ما معنى كل هذا؟ أين أنا؟ ولمن هذا القصر؟ وما معنى كل هؤلاء الخدَم والضباط والسيدات الجميلات والموسيقيين؟ كيف يُمكنني أن أُميِّز إذا ما كنتُ بكامل حواسِّي أم أنني في حلم؟» كل هذا والخليفة الحقيقي مُختبئ من وراء ستارٍ يستمتع بالمَوقف ويضحك في صمتٍ من ردود فعل أبي الحسن.
ويطلُب أبو الحسن من السيدة التي تقِف على مقربةٍ منه أن تعضَّ أصبعه كيما يتأكد أهو نائمٌ أم مُستيقظ. وحين يشعر بألَم العضة يصرُخ ويُدرك أنه في كامل يقظته. وحين تؤكد له السيدة أنه الخليفة هارون الرشيد، يقول عبارته الشهيرة «آه أيتها المخادِعة! إني أعرف تماما من أنا».» وشطرها الثاني هو نفس ما قاله دون كيشوت في خرجةٍ من خرجاته، وأصبح من أشهر الأقوال في الأدب الإسباني، إذ كان جميع من حول دون كيشوت يعرفون حق المعرفة من هو، ما عدا دون كيشوت نفسه الذي كان يتخيل أنه فارس الفرسان وحامي حِمى المُستضعَفين.
وبالطبع، يُصدِّق أبو الحسن آخر الأمر أنه الخليفة، فيأمُر ويَنهى، ويأمر بعقاب إمام الجامع وزُمرته الشريرة كما كان يتمنَّى، وبإرسال ألف دينار ذهبي إلى أُمِّه. وحين يُخدِّره الخليفة الحقيقي آخر الليل ويُعيده إلى منزله ثانية، يتراوح موقفه بين التسليم بأنه أبو الحسن وبين أنه الخليفة، وكلما هدأت نفسه واستسلم لكونه التاجر أبا الحسن، يظهر ما يُعيده إلى التردُّد والشكِّ في حقيقة الأمور، مثلما حدث حين تُخبره أمُّه بما حدث لإمام الجامع من عقابٍ وتجريس، ثم مبلغ الألف دينار الذي جاء الوزير جعفر بنفسه إلى الأُمِّ ليُعطيه لها هديةً من هارون الرشيد. وقد جاء ذلك بتدريج وتراوُح جعلَ من ذلك المَوقف بين الأمِّ والابن مشهدًا يُجسِّم براعةً قصصية وسردية من الدرجة الأولى. ولزم الأمر بعدَها أن يمكُث أبو الحسن فترةً في مُستشفى المجانين (ويبدو أنها كانت في ذلك العصر النهضوي أفضل من أي مُستشفًى للأمراض العقلية في عصرنا هذا!) إلى أن يهدأ نفسيًّا ويقتنع أنه ليس سوى التاجِر أبي الحسن. وتمضي حوادث القصة بأن يتكرَّر لقاء أبي الحسن مع الخليفة المُتنكِّر مرةً أخرى، وتتكرَّر المُنادمة والطعام والشراب، والتخدير، وحمْل أبي الحسن مرةً أخرى ليُصبح في اليوم التالي الخليفة هارون الرشيد. وعندها، تبلُغ الدراما السيكلوجية في نفسية أبي الحسن مداها، ولا يدرى حقًّا أهو في حلمٍ أم يقظة، وتتداخَل الأمور تداخُلًا مُتشابكًا لا يدري معه أبو الحسن ما هي الحقيقة وما هو الوهم وما هو الحلم، حتى يَتدارَكه الخليفة الحقيقي ويكشف حقيقة الأمر. وتمضي القصة بعد ذلك في مجالٍ آخر يردُّ فيه أبو الحسن الخداع للخليفة على نحوٍ مُماثل لا يدخل في مجال بحثنا هذا.
وليس هناك من شكٍّ في اطِّلاع المسرحي الإسباني المشهور «كالديرون دي لا باركا» (١٦٠٠–١٦٨١م) على هذه الحبكة القصصية العربية عند كتابته مسرحيته المشهورة «الحياة حلم»، بل إن لا باركا كان بالضرورة عارفًا بحكايات ألف ليلة وليلة، شفاهةً أو كتابة، فمسرحيته تبدأ بنفس بداية عددٍ كبير من حكايات الكتاب العربي. ذلك أن العرَّافين والمُنجمِّين في بلاط أحد الملوك يتنبَّئون بأن ابنه سيكون ملكًا فاسدًا من بعدِه، قاسيًا لا يعرف فؤاده الرحمة حتى تجاه أبيه نفسه. ويتحقَّق الملك من النُّذُر السيئة لمجيء ابنه حين تموت زوجته الملِكة وهي تضع الابن، فيتثبَّت من قول العرَّافين من هذا الطالِع المشئوم، ويأمر بإلقاء الابن في غيابة سجنٍ انفرادي «تفاديًا للمصير الرهيب الذي ينتظره، مُضحِّيًا في سبيل ذلك بحُريته».
ثم يُقرِّر الملك فيما بعدُ أن يقوم بتجربةٍ تُماثل التجربة التي قام بها هارون الرشيد مع التاجر أبي الحسن، وإن اختلف الهدف منها، بأن يُسلم ولده بعد أن شبَّ عن الطوق مقاليد الحُكم في المملكة، مُوهمًا إيَّاه أنه في حلمٍ عن طريق التخدير، ويُراقب أفعاله كيما يرى كيف سيقوم بإدارة البلاد وحُكم الرعية. ويتمُّ تنفيذ التجربة في الفصل الثاني من المسرحية، فنرى الابن «سيخسموندو» مبهورًا في البداية بمظاهر المُلك والجلال، ثم مُندفعًا بعد ذلك في قسوتِه ونزعاته البدائية لتحطيم كلِّ ما حوله. وعلى ذلك، يُعيده الملك الأب إلى سجنه مُوهمًا إيَّاه أن كل ما مرَّ به هو مجرد حلم. وتتطوَّر الحبكة بعد ذلك على نحوٍ «كالديروني» مُستقل، حين يفرض الشعب الابن خليفةً لأبيه بدلًا من الغرباء الذين أراد الأب أن يَخلفوه في الحُكم، فيُحارب الابن أباه وينتصِر عليه، ولكنه يُكرم الأب بدلًا من أن يُهينه أو ينتقِم منه، ويعمل على حُكم الرعية بمنطق العدل والرحمة، فيثبت بذلك كذِب النبوءات وقراءات الطالِع!
وهناك حكاية أخرى في ألف ليلة وليلة بها ملامح من «الحياة حلم» هي «حكاية الملك جليعاد والشمَّاس»، فهي تدور حول مَلكٍ في بلاد الهند يرى حلمًا يُفسِّره العلماء له بأنه «يظهر منك غلام يكون وارثًا للملك عنك بعد طول حياتك ولكنه لا يسير في الرعية بسَيرِك بل يُخالف رسومك ويجور على رعيتك.» وهذه هي نفس بداية مسرحية كالديرون.
من هنا نرى كيف يتَّفق كالديرون مع هذه الحبكات القصصية التي وردت في ألف ليلة، بيد أنه يتناولها في صياغةٍ درامية حصيفة، فيُقدِّم عملًا مسرحيًّا مُتكاملًا يُبيِّن تطوُّر الشخصية والعوامل النفسية التي تتجاذبها، ويُقدِّم حبكاتٍ جانبية تُسهم في تطوُّر الأحداث والشخصيات، مما جعل من مسرحيته خلقًا فنيًّا رائعًا لا ينتقِص منه استخدام المؤلف لحبكةِ حكايةٍ أخرى، مادام قد استخدم تلك الحبكة على نحوٍ فنِّي مُستقل، ووظَّفَها لخلْق عملٍ جديد.
وقُل نفسَ الشيء في مسرحية شكسبير «ترويض النمِرة» (وكل حبكات مسرحيات شكسبير مأخوذة من أعمالٍ أخرى تاريخية وأدبية). ففي تلك المسرحية، نجد أيضًا نفس قصة النائم الذي استيقظ، بل وفي قصةٍ إطارية أيضًا كما يحدُث في ألف ليلة وليلة. ففي «ترويض النمرة»، يُصادف أحد النبلاء، عند عودته من رحلة صيد، أحد الصعاليك ثمِلًا في الغابة، فيجعل حاشيته يَحملونه إلى قصرِه ويُوهمونه أنه سيد ذلك القصر بمن وبما فيه، وأنه كان مريضًا منذ فترةٍ طويلة، وقد استردَّ عافيته وقُدراته، وأنهم كلهم في خِدمته. وتصِل فرقة مِن المُمثلين الجوَّالين، ويُمثلون أمام النبيل المُزيف إحدى مسرحياتهم لتسليته والترفيه عنه. وبعد ذلك نرى وقائع مسرحية ترويض النمرة ذاتها مشهدًا وراء آخَر وفصلًا تلوَ فصل، حتى تنتهي دون أن يعود المؤلِّف إلى القصة الإطار ليَحكي ماذا حدث للنبيل والصعلوك. ويبدو أن شكسبير قد نسِيَ القصة الإطار، وركز على حبكة النمرة التي يُراد ترويضها، إذ تنتهي المسرحية بترويض النمرة، ولا يدري المُشاهد أو القارئ ماذا كان من أمر الصعلوك المُتشرِّد الذي أوهموه أنه نبيل ثري، كما أوهموا أبا الحسن أنه الخليفة هارون الرشيد.
(٢) الواثق
ويزعم بكفورد أنه كتب روايته «الواثق» في ثلاثة أيام وليلتَين فحسْب؛ وحتى إذا كان ذلك صحيحًا، فهو قد قضى وقتًا أطول في تنقيحِها وإعدادها للنشر. وليس هناك من شكٍّ في أنه قد تأثر في كتابتها بألف ليلة وليلة، فهو قد كتبَها أولًا بالفرنسية؛ اللغة التي ظهرت بها ألف ليلة لأول مرةٍ في الغرب، كما أن تنقيح الرواية قد تزامَن مع تعاوُن بكفورد مع أحد الأتراك ويُدعى «سمير» في إعداد ترجمةٍ حرة إلى الفرنسية لمخطوطٍ مجهول به بعض قصص ألف ليلة وليلة، كان قد جلبَهُ إلى إنجلترا الرحَّالة والمُستشرق «إدوارد وورتلي مُونتاج». ولم يتم نشر تلك الترجمة التي تحتوي على «قصة الحاسد والمحسود» و«أنس الوجود» إلَّا عام ١٩٩٢م في باريس.
وقد تسبَّبت فضيحة أخلاقية في مُغادرة بكفورد إنجلترا إلى الخارج حتى عام ١٧٩٦م، حين عاد وأقام في ضيعتِه قصرًا مهيبًا على شكل الصليب، يُخفيه عن الأنظار جدار طوله ١٢ ميلًا بارتفاع ١٢ قدمًا. وعاش بكفورد في هذا القصر الأسطوري كما يعيش الأباطرة والخلفاء الذين كتَبَ عنهم!
وقد كتب بكفورد رواية «الواثق» حوالي عام ١٧٨٢م ونُشِرت لأول مرة بالإنجليزية عام ١٧٨٦م وأضحت من فورِها عملًا كلاسيكيًّا في الأدب الإنجليزي. وهي تحكي قصة «خيالية» عن مَلكٍ يُدعى الواثق، يقع تحت تأثير أُمِّه التي تتعاطى السِّحر وتُدعى «كارازيس»، فلا يُصبح له همٌّ إلا إرضاء رغباته، فيعقد اتفاقًا مع مندوب إبليس — على نفس النحو الذي يفعله فاوست — الذي يَعرض عليه أن يُعطيه كنوز السلاطين الغابرين شريطةَ أن يقوم الواثق أولًا بقتْل خمسين طفلًا، وهو عمَل يضمن للواثق نار جهنَّم الأبدية. وينطلِق الواثق في رحلةٍ ينشد فيها أطلال مدينة «إيستاكار» حيث الكنوز الموعودة، ويلتقي في طريقه بالأمير فخر الدين، أحد أتباعه المُخلصين، فيغوي الواثق ابنته «نور النهار» (لاحظ الأسماء الألف ليلية!) ويفرُّ معها إلى غايتهما المنشودة. ويهبط الملك مع نور النهار إلى «قصر النيران المخبوءة»، حيث يجدان هناك بالفعل كنوز السلاطين الغابرين، مُكوَّمة تلالًا تلالًا، ويمر في وسطها جمهرة من الرجال يضعون أيديهم فوق صدورهم وتعلو وجوههم صفرة الموت. وبعد ثلاثة أيام، يَمثُل الواثق ونور النهار أمام إبليس، الذي يحكُم عليهما بالتجوال في أنحاء تلك الأبهاء إلى الأبد وقلباهما يتأجَّجان بشعلات النيران!
ويقول «كراكشيولو» عن رواية الواثق إنها «بغضِّ النظر عن كتاب «راسيلاس»، لم يُنجَز عملٌ ذو عُمقٍ أدبي في إطار الأنواع الشرقية الأدبية إلى أن نُشِرَت رواية الواثق. وقد استخدم بكفورد ألف ليلة وليلة، ومعرفته الوثيقة بمواد شرقية أخرى، كيما يخلق فانتازيا لم تظهر من قبل في أيٍّ من القصص التي سارت على نهج الحكايات الشرقية، من حيث قوَّتها وغرابتها وحسِّيتها القاسية.» ولم تفت الرواية النقَّاد العرب، فقد كتبت أستاذتنا الدكتورة فاطمة موسى بحثًا عنوانه «بكفورد والواثق والقصة المَشرقية»، وكتب الدكتور محمود المنزلاوي عن «الانتحال الشرقي في مرحلة انتقال: عصر الواثق»، ونُشِر البحثان باللغة الإنجليزية عام ١٩٦٠م بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عامٍ على صدور الرواية.
(٣) البحث عن الزمن الضائع
ربما يُثير إدراج هذا العمل المَلحمي للروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست ضمن الأعمال التي تأثرت بألف ليلة وليلة دهشةَ القارئ. ولذلك أُبادر بالقول بأن قصص ألف ليلة كانت من أوائل الحكايات التي استمع إليها بروست وهو طِفل من والدتِه وهي تتلوها عليه قبل النوم، خاصة قصص «علي بابا والأربعون حرامي» و«مصباح علاء الدين السحري» و«النائم اليقظان». وبعد ذلك، بعد أن شبَّ بروست عن الطَّوق، عاودته الرغبة في قراءة الكتاب كله، فأرسلت له والدتُه نُسخًا من الترجمتَين المعروفتَين أيامها بالفرنسية: ترجمة «جالان» المُهذبة، وترجمة «ماردريس» الكاملة، رغم تحفُّظ الأم الواضح تجاه الحُرية التي اتَّخذها الدكتور ماردروس في ترجمة الكتاب.
وفي الخواطر الأولى لذكريات بطل رواية «البحث عن الزمن الضائع»، تعود إلى ذاكرته أيام طفولته في «كومبريه»، مع العمَّة «ليوني» التي لا تعرف شيئًا عن مغامرات «شارل سوان» الغرامية ولا عن صِلاته بالشخصيات الأرستقراطية المُعاصرة، وذلك حين كانوا يَدْعونه إلى العشاء في منزلهم الذي كان يُجاور ضَيعتهم بالبلدة؛ ويقول الراوي إن العمَّة لو علِمَت حياة سوان الحقيقية فسوف تؤمِن بأنها إنما تدعو «علي بابا» إلى العشاء، بكلِّ ما سيحمله معه من الكنوز التي يَجلُبها من كهفِه المسحور! وكانت الأُسرة أليفةً بحكايات ألف ليلة، فلدَيها أطباق وصحائف لتقديم الطعام والحلوى مُزينة بصوَرٍ مرسومة لبعض مشاهد علي بابا وعلاء الدين والمصباح السحري والسندباد البحري، وكلها حكايات انتشرت منذ صدور ترجمة أنطوان جالان عام ١٧٠٤م في طول البلاد وعرضها. وذكريات ألف ليلة وليلة هي من العوامل التي تُساعد الراوي في ملحمة بروست — وهو المؤلِّف نفسه — على استعادة ماضيه؛ فهي تُشكل جزءًا من حياته، وهي تعمل على بعْث ذلك الماضي حيًّا في وعيِهِ كيما يسطره على الورق، تمامًا كما فعلت قطعة حلوى المادلين المغموسة في الشاي.
ويقول «هوارد موس» في كتابه الصغير النفيس «فانوس مارسيل بروست السحري»: «هناك كتابان يَستبين عنوانهما أكثر شيءٍ في رواية «البحث عن الزمن الضائع»، أوَّلُهما ألف ليلة وليلة، والآخر «مذكرات سان سيمون» عن حياة البلاط في عصر لويس الرابع عشر في فرساي.» ويأخذنا عنوان كتاب «موس» إلى الصفحات الأولى من رواية بروست، حين يتذكَّر الراوي في شطحات أفكاره أنه كان قد تلقَّى في صِباه هديةً عبارة عن «فانوس سحري» كان ينظر فيه إلى شرائح تُصوِّر حكايات ومشاهد من الرومانسات والأساطير الفرنسية القديمة، وهو نفس الفانوس السحري الذي يَستخدمه لِجلاء بصره فيما يتعلق بذكرياته وماضيه الضائع الذي يحاول استعادته عن طريق كتابته بالتفصيل الدقيق، فما أشبَهَه في هذا بمصباح علاء الدين السحري، الذي يَحكَّه فيظهر له الجِنِّي المارد ويُقدِّم له كل ما يَشتهيه. وهكذا يفعل مارسيل الراوي بفانوسه السحري، فهو يضع فيه شريحةً مصورة تبعث في نفسه ماضيه وذكرياته وأحلامه وأفكاره، فتظهر جليةً واضحة للقارئ الذي يُطالِع روايته.
ويجاهد المؤلف — الراوي — كيما تتمَّ استعادة الماضي بأكمله قبل أن يَطويه الموت، ونحن نقرأ في آخر مجلد من ملحمة البحث عن الزمن الضائع السطور التالية:
«فإذا شرعتُ في الكتابة، لا يكون ذلك إلا في الليل. بيد أن الأمر سيحتاج منِّي إلى ليالٍ كثيرة، مائة ليلة ربما، بل وحتى ألف. ولا بد أن أحيا وسط القلق الذي يتمثَّل في عدَم معرفتي ما إذا كان السيد الذي يحمل في يدِه مصيري سيكون أقلَّ تسامُحًا من السلطان شهريار، وما إذا كان سيوافق — حين يطلع الصباح ويتعيَّن عليَّ أن أقطع قصتي — على مَنحي مهلةً أخرى ويسمح لي بمُواصلة حكايتي في الأمسية التالية.»
وهكذا كان بروست يكتُب ملحمته وأنظاره مُثبتةً على ملحمة شهريار وشهرزاد، فهو يكتُب روايته في مواجهة الموت الذي قد يأتيه في أي لحظة، تمامًا كشهرزاد التي كانت تروي حكاياتها ولا تعرف ما إذا كان شهريار سيُبقي عليها ليلةً وراء ليلةٍ أم لا.
وفيما بين أول مُجلد من مُجلدات البحث عن الزمن الضائع إذ الراوي يحكي ذكريات طفولته وصباه، وحتى آخر مُجلد إذ هو يُصارع الموت كيما يُنهي الحكاية التي بدأها، تمتلئ الفصول والأحداث بالإشارات إلى ألف ليلة وليلة وحكاياتها وشخصياتها المعروفة؛ فمثلًا يذكُر بروست أن الأميرة «دي جيرمانت» تُشبه الأميرة «بدر البدور» في أُبَّهتها. وكذلك، حين يتجوَّل الراوي في طرقات فينيسيا الضيقة وقد ضلَّ طريقه فيها ليلًا، يُشبِّه نفسه بشخصيةٍ من شخصيات ألف ليلة التي يهيم معظمها ضارِبين في آفاق الأرض طولًا وعرضًا، ويَضلُّون الطريق عبر بحار وجزائر قصيَّة مجهولة! وفي الجزء الأخير من رواية بروست، «الزمن المُستعاد»، تبدو باريس إبَّان الحرب العالمية الأولى وقد امتلأت بالجنود السنغاليين وسائقي التاكسي من بلاد الشرق، كأنما هي بغداد أيام هارون الرشيد. وبالعكس من ذلك، تُصبح مدينة «البصرة» كما تتبدَّى في ألف ليلة وليلة، هي نفس المدينة التي تُباشر منها القوات الإنجليزية عمليَّاتها الحربية ضدَّ الأتراك العثمانيين الذين تَحالفوا مع ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا. وبنفس هذه النبرات «التناصِّية»، يُقارن الراوي مشاهدته للبارون «دي شارلي» وهو يُجلَد في أحد مواخير باريس، بما جاء في حكاية الحمَّال والثلاث بنات من عملية الجلد التي تتعرَّض لها الكلبة بالسياط بعد أن تحوَّلت بفعل السحر عن صفتها البشرية.
ويُقال إن بروست كان ينفي دائمًا أنه قصد أن يُقدِّم كتابًا يُضارع به كتاب ألف ليلة وليلة، بيد أنه يذكُر في آخِر روايته أنه «ليس بوسع المرء أن يخلق صورةً جديدة مما يُحِب إلا عن طريق نبذِه جانبًا؛ ولهذا فإن كتابي، مع أنه في طول وضخامة كتاب ألف ليلة وليلة، حريٌّ أن يكون مُختلفًا تمامًا عنه.» ويُضيف «روبرت إروين»، الذي اعتمدتُ عليه في هذا القسم «البروستي»: «إن الراوي في «البحث عن الزمن الضائع»، بنبذه الروايات المُحبَّبة إليه في طفولته من أجل التوصُّل إلى الحقيقة، قد كتب بالفعل (ويا لَلمُفارقة العجيبة!) كتاب ألف ليلة وليلة جديدًا يُناسِب الزمان الذي عاش فيه.»
(٤) إدجار ألان بو
أسهم إدجار ألان بو (١٨٠٩–١٨٤٩م) في معظم الأنواع الأدبية، فقد كتب في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي والمقالة الصحفية، كما أن الجميع يُجمع على أنه أول من كتَبَ الرواية البوليسية الحديثة، وله أيضًا إسهاماتٌ في قصص الخيال العِلمي وقصص الأشباح والرعب. وقد سار بو في طفولته وصِباه المَسار نفسه لمعظم الناس في الغرب من قراءة حكايات ألف ليلة وليلة ضمن الكتُب التي كانت قراءةً شائعة منذ صدور ترجماتها الفرنسية والإنجليزية في أوائل القرن الثامن عشر. ولا عجَبَ بعد ذلك أن يكون له بعض الإسهام فيما يتعلَّق بألف ليلة وليلة، فلَهُ قصة ذات شأنٍ بعنوان «الحكاية الثانية بعد الألف لشهرزاد». وتدلُّ القصة على مدى أُلفة بو بألف ليلةٍ وليلة وتأثيرها عليه. وقبل ذلك، أصدر بو مجموعةً قصصية عنوانها «حكايات الغرائب والأرابيسك»، ورغم عنوانها، فليس فيها شيءٌ عربي، وربما قصد المؤلِّف من ذلك العنوان أنه قد صاغ القصة في تصميمٍ دقيق يُماثل تصميم الزخارف العربية المدعوَّة في الغرب بالأرابيسك. وقصته عن ألف ليلة فيها ذلك الجهد في الصياغة الدقيقة ذات الدلالة، فهي تبدأ بدايةً خيالية أدبية مألوفة، بِقول المؤلِّف إنه قد عثر على كتابٍ مجهول اسمه «إيزيتورنوت» يحتوي على خاتمةٍ مختلفة لكتاب ألف ليلة وليلة كما نعرفها. وقبل أن يذكر النهاية التي وردت في ذلك الكتاب الشرقي المجهول، يعرِض لحكاية الإطار بين شهرزاد وشهريار والوزير، بطريقةٍ مُبتكرة ساخرة. ثم يمضي فيذكر أنه بعد أن عفا السلطان عن شهرزاد وعاشا في تباتٍ ونبات، خطر لشهرزاد أن تُبين أنها قد أخطأت في حق حكاياتها إذ اختصرت رحلات السندباد البحري، ولم تذكُر بقية رحلاتٍ عجيبة قام بها. ثم تتطوَّع، في الليلة الثانية بعد الألف، كي تُصلِح ذلك الخطأ، وتبدأ حكايةً جديدة على لسان السندباد، عن رحلةٍ جديدة يقوم بها. وفي تلك الرحلة، يتوجَّه السندباد إلى شاطئ البحر مع تابعٍ له من الحمَّالين في انتظار سفينةٍ تحمله إلى مكانٍ آخر، فيُفاجآن بجسمٍ حديدي ضخم يقترِب منهما، وإذا هو أشبَهُ بوحشٍ خرافي، تضطرِم النيران داخلَه ودمُه مجبول من النار، وهم مِن صُنع شيطان رجيم يُسلِّطه على الناس، وجعل فوقَه مخلوقات جرثومية لها شكل الآدميين تَنخَسه وتُؤلِمه على الدَّوام فلا يهدأ ولا ينام حتى يؤدي المهام الشريرة التي أوكلها له الشيطان. وخرجت تلك المخلوقات الجرثومية إلى الشاطئ وأسرَتِ السندباد وقيَّدَتْه وحملته فوق جسد الوحش البحري، بينما هرَب خادمه بعيدًا. ويُحاول السندباد التفاهُم مع تلك المخلوقات، إذ هم يُبحرون في عرض البحر، ويتعلَّم منهم بعض كلماتهم ويُعلمهم بعض كلماته، مما أوجد بعض الأُلفة فيما بينهم.
وتمضي شهرزاد في وصف الرحلة على لسان السندباد، وحين تنحرِف القصة كي تذكر أشياء خُرافية غير معقولة، يبدأ السلطان في الهمهمة والتعجُّب، وهذا من سخرية المؤلِّف ألان بو، فما يحدُث في الرحلة الجديدة ليس بأعجبَ مِما حدث في رحلات السندباد السبع السابقة، ولكن بو يَجمع في عجائبه كلَّ الغرائب الحديثة، بل ويتنبَّأ بأشياء من الخيال العلمي تمَّ اختراعها بعد ذلك، كالغوَّاصة والآلة الحاسبة ولاعب الشطرنج الآلي وآلة التصوير البدائية. ويرى القارئ ثورة السلطان تتصاعد رويدًا رويدًا بينما شهرزاد تتدفَّق بوقائع زيارة السندباد على ظهر الوحش البحري وبرفقة المخلوقات الغريبة لعوالِم مُختلفة، من غابات أشجارٍ حجرية، وبُحيرة في قاع المُحيط تنمو بداخلها أشجار دائمة الخضرة، ومَمالك غريبة تعمل فيها النحلات والطيور عملَ رجال الهندسة والحساب والرياضيات، وأخرى فيها أسراب طيورٍ يبلُغ طولها مئات الأميال، وقارة بحالِها مُترامية الأطراف ولكنها تقوم على قرون بقرةٍ زرقاء اللون لها أربعمائة قرن. ويعبر الوحش البحري وعلى ظهره السندباد والمخلوقات الجرثومية القارة من بين سِيقان تلك البقرة إلى بلادِ صديقِه الجرثومي الآدمي، فيجد أنها تعمر بالسحرة التي تنخر الديدان دومًا في عقول أهلها فتُحفِّزهم بذلك على العمل والاختراع على الدوام دون كلَل، فاخترع واحد منهم شيئًا أشبَهَ بالروبوت الآلي الذي يلعب الشطرنج بمهارةٍ تُمكنه من أن يغلب أي شخصٍ في العالم، عدا الخليفة العظيم هارون الرشيد! واخترع آخر مخلوقًا يُمكنه إجراء العمليات الحسابية المعقدة في لحظة واحدة (الآلة الحاسبة والكمبيوتر)، وآخر بإمكانه طباعة آلاف النُّسَخ من الكتاب الواحد في لحظات (آلات النَّسخ). ولا يستطيع الخليفة في النهاية صبرًا على سماع ذلك، فيأمر شهرزاد بالصمت، وأن تذهب لِلقاء حتفِها خنقًا. وتذهب شهرزاد إلى قضائها في استسلام، ولا يشغل بالَها وهي تحت آلة الخنق إلَّا الخسارة العظيمة التي حاقت بزوجها المُتوحِّش؛ إذ حرم نفسه من بقية الحكايات التي كانت ستقصُّها على مَسامعه عن الرحلات الأُخرى للسندباد!
والطريف في قصة ألان بو هو تناوُل المؤلِّف لقصته، فهو، إلى جانب النواحي الغرائبية فيها، يُقدِّمها على أساسٍ من السخرية والتفكُّه، فهو يُعلق في حواشٍ على ما يرِد في القصة تعليقات تُشبِه الحواشي الأكاديمية، مِثلما يفعل عند ذِكر غابات الأشجار الحجرية، حين يذكُر بِكل جدِّية وجود أبحاثٍ تؤكد وجود مثل تلك الغابات، وأشهرها في مدينة السويس القريبة من القاهرة في مصر! وقمَّة الطرافة هي ضيق شهريار من مُبالَغات حكاية سندباد الإضافية، رغم أن رحلاته السابقة بها ما هو أغرب وأعجب، ونالت استحسان السلطان وقتها، بينما هو يَصيح في نهاية قصة بو قائلًا: «أتظُنِّين أنَّني أبله؟» أي كي يُصدِّق تلك الأحداث! ولا عجب أن مُصنِّفي قصص إدجار ألان بو يضعون هذه القصة الآن في باب تحت عنوان «قصص الفكاهة والسخرية» عند إدراجها ضِمن قصص الشرق أو الأرابيسك أو القصص الخيالية.
(٥) موضوعات أخرى
بُحيرة البجع
تقصُّ حكاية حسن الصائغ البصري مغامرات صائغٍ يعيش في البصرة بالعراق، يتعرَّف عليه أحد السحرة المجوس فيتحايَلُ عليه حتى يأخُذه بالقوَّة إلى جبلٍ في أرض قصيَّة ويستغلُّه في الصعود إلى قمة الجبل كي يُلقي له من هناك نباتاتٍ مُعينة يستخدِمها في تحويل النحاس إلى ذهب. ولمَّا يُلقي حسن بالنباتات للمجوسي يتركه لمصيره ويتخلَّى عنه، فيُضطَر حسَن إلى أن يُلقي بنفسه إلى البحر ولكنه ينجو بالوصول إلى جزيرةٍ مجهولة يجد فيها قصرًا تسكُنه سبع بناتٍ شقيقاتٍ يعترفنَ له أنهنَّ بنات ملكٍ من ملوك الجن العظام. وتستضيف البنات حسن البصري ويَعتبِرْنه أخًا لهنَّ. وحين كان مرةً وحيدًا في القصر، يدفعه الفضول إلى فتح بابٍ كنَّ قد طلبنَ منه ألا يفتحه أبدًا، وهنا تبدأ قصة «بُحيرة البجع» على النسق الألف ليلى:
حين يفتح حسن البصري الباب المُحرَّم، يرى سُلَّمًا فيصعد عليه إلى سطح القصر ويهبط من الجانب الآخر، فإذا به وسط مزارع وبساتين وأشجار وأطيار ووحوش وحيواناتٍ من كل نوع. وفي الوسط يجد قصرًا آخر فيه بُحيرة وعلى جانبها سرير مصنوع من خشب الندِّ مُرَصَّع بالدرِّ والجوهر ومُشبَّك بالذهب، وحوله أطيار تُغرد بلغاتٍ مختلفة. وفيما حسن البصري جالس يتعجَّب من كل ما يراه، إذ هو بعشرة طيور قد أقبلوا من جهة البر وهم يقصدون ذلك القصر وتلك البحيرة، فظن حسن أنهم جاءوا ليَشربوا من ماء البُحيرة فاختفى منهم كيلا يَخافوا من رؤيته.
وتهبط الأطيار إلى شجرةٍ عظيمة، وتدور حولها، ويرى حسن من بينهم طيرًا مليحًا هو أفضلهم والجميع يحيطونه بكل مظاهر التبجيل والتعظيم، فيعلَم أنها ملكة هؤلاء الطير.«ثم إنهم جلسوا على السرير وشقَّ كل طيرٍ منهم جلدَه بمخالِبه وخرج منه، فإذا هو ثوب من ريش. وخرج من الثياب عشر بناتٍ أبكار يفضَحْنَ بِحُسنهن بهجة الأقمار. فلمَّا تعرَّين من ثيابهِنَّ نزلن كلهنَّ في البحيرة واغتسلن، وصِرنَ يَلْعبنَ ويتمازحن، وصارت مَلِكتهن ترميهن وتُغطسهن .. فشُغِف حسن بها حبًّا لِما رأى من حسنها وجمالها وقدِّها واعتدالها وهي في لعبٍ ومزاحٍ ومُراشَّة بالماء.»
وتخرج البنات بعد ذلك من البحيرة، وتلبس كل واحدةٍ منهن ثيابها وحُلِيَّها، أما الرئيسة منهن فقد لبست حلةً خضراء «ففاقت بجمالها ملامح الآفاق وزهت ببهجة وجهها على بدور الإشراق، وفاقت على العصور بحُسن التثنِّي، وأذهلت العقول بوهم التمنِّي.»
وتمضي القصة بعد ذلك في مغامراتٍ عجيبة كثيرة، يسرق فيها حسن ريش حبيبته المسحورة ويتزوَّج بها ويعود معها إلى بلدِه، حيث تقع له حوادث ومغامراتٌ أعجبُ شأنًا. ولكن ما يُهِمُّنا هنا هي هذه الحبكة التي هي نفس الحبكة الأساسية في «بحيرة البجع» الباليه المشهور الذي زاده شهرةً موسيقى تشايكوفسكي الرائعة التي جعلت منه أشهرَ باليه عالَمي.
ومن العجيب أن الكتُب تذكُر أنه من غير المعروف على وجه التحديد أصل القصة التي يدور حولها الباليه المشهور، ولا كيفية التوصُّل إلى وضع حبكته بالشكل الذي هي عليه الآن. ويذكر الكاتب «سيريل بومون» في كتابه «الباليه المُسمَّى بحيرة البجع»، أن أسطورة الصبيَّة — البجعة — هي من أقدَم الأساطير وأكثرها جمالًا، وهي تَظهر في أشكال مختلفة في آداب جميع الأمم تقريبًا، غربها وشرقها. ولكن «اللبريتو» الذي عمل عليه تشايكوفسكي هو مِن وضع رُوسِيَّين هما «فلاديمير بيجيشي» و«فازيلي جلتسر». وكان جلتسر هو الذي عهد إلى تشايكوفسكي عام ١٨٧٥ بوضع الموسيقى للقصة، وهو العمل الذي تمَّ تقديمه لأول مرةٍ عام ١٨٧٧م على مسرح البولشوي بموسكو.
وتجدُر الإشارة إلى أن «هانز كريستيان أندرسن»، وهو من أشهر كُتَّاب القصص الخيالية للأطفال، كتب هو الآخر قصة بُحيرة البجع وإن كان على نحوٍ مختلف؛ إذ جعل البجع المسحور أحدَ عشر أميرًا شابًّا عمدت زوجة أبيهم الملك إلى تحويلهم إلى طيور كلَّ ليلة. وتنجح أُخت لهم في اكتشاف السحر وتُعيدهم إلى حالتهم الطبيعية بعد أن تُضحي بنفسها من أجلهم. وقد ذكرنا هنا حالة أندرسن بعينها لأن هناك من يربط بين أندرسن وحكاياته وبين قصص ألف ليلة وليلة، بيد أن ذلك الموضوع يحتاج إلى دراسةٍ مُستقلة مُسهِبة.
ألف ليلة وليلة في الفنون الأخرى
لم يقتصِر أثر ألف ليلة وليلة على مجال القصص والرواية والشعر، بل تعدَّاه إلى أشكال الفنون الأخرى، حتى تلك التي نشأت في العصر الحديث، كالفن السينمائي.
فمُنذ اختراع السينما في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، اهتمَّ المُنتِجون بإخراج أفلام المغامرات والحركة والأساطير، وكان مما جذبَهم الموضوعات الشرقية وعلى رأسها الحكايات المُمتِعة التي حفلت بها ألف ليلة وليلة. وهكذا أنتجت فرنسا عام ١٩٠٠م فيلم «ألف ليلة وليلة» بعد سنواتٍ قليلة من اختراع السينما بإخراج جورج ميلييه. ثم توالى إخراج الأفلام المأخوذة عن قصص ألف ليلة المشهورة منذ عهد السينما الصامتة، فظهر فيلم «علاء الدين والمصباح السحري» عام ١٩١٧م بإخراج ديف فلايشر، وفيلم «لص بغداد» لراءول ولش عام ١٩٢٤م من تمثيل دوجلاس فيربانكس، ثم تمَّ إخراجه من جديدٍ في عصر الصوت واللون عام ١٩٤٠م بإخراج ستة مُخرجين ومن تمثيل «سابو». وجرى إخراج عدَّة أفلام عن قصة علاء الدين والمصباح السحري وحدَها، منذ عام ١٩٥٢م وحتى عام ١٩٨٣م، علاوة على فيلم للرسوم المُتحركة من إنتاج والت ديزني للقصة نفسها. ومن الأفلام المشهورة الأخرى: «علي بابا والأربعون لصًّا» (١٩٤٣م)؛ «ألف ليلة وليلة» تمثيل ماريا مونتيز (١٩٤٥م)؛ «رحلة السندباد السابعة» (١٩٥٨م)؛ «رحلة السندباد الذهبية» (١٩٧٣م) وسندباد وعين النمر (١٩٧٧م). وقد شاهدنا مُؤخرًا إنتاجًا تلفزيونيًّا أمريكيًّا لألف ليلة وليلة عام ٢٠٠٠م، ثم أنتجت استديوهات «دريموركس» فيلمًا بالرسوم المتحركة عن «سندباد وأسطورة البحار السبعة» بصوت «براد بيت» و«كاثرين زيتا جونز»، ممَّا يدلُّ على استمرار السينما الأجنبية في الاهتمام بهذا الكتاب الخيالي العالمي.
وقد أخرجت فرنسا أيضًا فيلمًا عن علي بابا عام ١٩٥٤م قام فيه الكوميدي المشهور فرنانديل بدور البطولة، وفيلم عن شهرزاد عام ١٩٦٣م بطولة أنَّأ كارينا. وفي إيطاليا مثَّل فيتوريو دي سيكا فيلمًا عن ألف ليلة وليلة عام ١٩٦١م، ولكن النقَّاد يعتبرون الفيلم الإيطالي الذي أخرجَه بيير باولو بازوليني بعنوان «ألف ليلة وليلة» هو الأفضل من الناحية الفنية بالنسبة لكل الأفلام، وإن كانت المشاهد العارية فيه قد حدَّت من انتشاره.
كذلك اهتمَّت السينما العربية بألف ليلة وليلة، فتعدَّدت الأفلام المأخوذة عنها. ويُمكن إحصاء الأفلام التالية: «ألف ليلة وليلة» إخراج توجو مزراحي (١٩٤١م)، «علي بابا والأربعين حرامي» لتوجو مزراحي (١٩٤٢م)، «بحبح في بغداد» لحسين فوزي (١٩٤٢م)، «شهرزاد» لفؤاد الجزايرلي (١٩٤٦م)، «معروف الإسكافي» لفؤاد الجزايرلي (١٩٤٧م)، «خاتم سليمان» لحسن رمزي (١٩٤٧م)، «عفريتة هانم» لبركات (١٩٤٩م)، وبها قصة خاتم سليمان، «الفانوس السحري» لفطين عبد الوهاب (١٩٦٠م)، «ألف ليلة وليلة» لحسن الإمام (١٩٦٤م)، وهي أفلام كلها مصرية. وهناك أيضًا «ليالي شهرزاد الجميلة» لتاضير صابيروف (١٩٩٠م) لبناني، و«البحث عن ألف ليلة» لناصر خمير (١٩٩١م) تونسي.
وفي مجال الرسم والتصوير، تنافَس عددٌ من كبار الرسَّامين الغربيِّين في تزيين الطبعات المختلفة لترجمات ألف ليلة وليلة بالرسوم التوضيحية الجميلة. وقد ساعدَهم في الإبداع، الخيال الرحيب الذي أتاحتْهُ القصص العجيبة أمامهم. وقد اعترف الكثير من الناس والأدباء الذين قرءوا الكتاب في ترجماته المُختلفة، أنهم تأثَّروا في بادئ الأمر باللَّوحات الساحرة الجميلة التي احتواها الكتاب، مما جذبَهم أكثر إلى قراءته والتأثُّر به.
وقد اشتملت ترجمتا «بين» و«بيرتون» على رسوماتٍ رائعة، وإن كانت غير مُلوَّنة. وتصدَّر ترجمة بيرتون رسمٌ زخرفيٌّ بديع، أشبَهُ بالأرابسك، ومن يتمعَّن فيه يرى أنه يتصمَّن عنوان ألف ليلة وليلة مكتوبًا بطريقةِ المُكعبات. وقد ذكرت ترجمة بيرتون أن التصميم والرسومات من عمل يعقوب أرتين باشا، الذي كان يشغل منصبًا رفيعًا في وزارة المعارف المصرية في زمن صدور الترجمة، بمعونة الشيخ محمد مؤنس.
ومن أشهر رسامي ألف ليلة وليلة الآخرين «إدمون ديلاك» وهو فرنسي انتقل إلى إنجلترا وتُوفي فيها عام ١٩٥٣م. وقد أمدَّ ديلاك طبعات عديدة في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا برسوماته المُعبرة. وقد قرأ ديلاك نصَّ الكتاب بعناية، وبرع في اقتفاء جوِّ الحكايات وتصويرها بألوانٍ أخَّاذة، مُستخدمًا أفكار الفن الحديث التي كانت مُنتشرة في أوروبا في ذلك الوقت، مع الخيال الذي تبثُّه قصص ألف ليلة وليلة، فأخرج الكثير من اللوحات التي ما زالت تُثير إعجاب كلِّ من يراها.
ومِن الرسَّامين الذين اشتُهروا أيضًا في هذا المجال، جوستاف دوريه، الذي حوَّل الكثير من كتب الأدب إلى لوحاتٍ مُعبرة، فرسم لدون كيشوت والكوميديا الإلهية وقصائد كولردج وإدجار ألان بو، وبالطبع، كانت ألف ليلة وليلة من الكُتب التي اختارها لرسوماته.
ومِن الرسَّامين الذين اشتُهروا برسومات ألف ليلة أيضًا: «إريك بيب، إيرل جودناو، هاري ثيكر، أنتوني جروفز. وهناك خاصَّة الرسام الإنجليزي المشهور «سميرك».»
أما في الولايات المتحدة، فقد قام الرسَّام الشهير «ماكسفيلد باريش» بتزويد طبعات أمريكية بعددٍ رائع من رسوماته الرومانسية للقصص المُحبَّبة لدى القرَّاء الأمريكيين في ألف ليلة وليلة، كالسندباد البحري، والصيَّاد والعفريت، وعلاء الدين والمصباح السحري.
وثمَّة منحوتات مُتفرقة تُمثل حكايات ألف ليلة وأبطالها، خاصة في عاصمة الرشيد بغداد. وقد ذكرت جريدة الحياة اللندنية مُؤخرًا خبرًا عن تمثال «أبو نواس» الذي نحتَه الراحل إسماعيل فتاح، وتمثال «شهرزاد وشهريار» للنحَّات محمد غني، حيث «تجِد مَن يقِف أمامَهما أو بقُربهما .. يُكلِّم أبا نواس الشاعر بأبياتٍ من شعره أو بكلماتٍ تُشبِه الكلمات التي يتبادلها صديقان أو جليسا سمَر. في حين تجد من يجلس قُرب التمثال الآخر هادئًا، مُتكلمًا بصوتٍ خافت، مُناجيًا شهرزاد، لا ليسمَع حكايةً من حكاياتها، بل ليُسمِعها حكايته هو — وغالبا ما تكون حكايةً عاطفية!» وهكذا أصبحت شهرزاد لا المُحللة النفسية لشهريار فحسب، بل لكلِّ من له مشاكل خاصة أيضًا!
وفي مجال الموسيقى، تبرُز إلى الذهن على الفور رائعة الموسيقار الروسي رمسكي كورساكوف (١٨٤٤–١٩٠٥م)، شهرزاد، وهي تحمل رقم ٣٥ من مُجمل أعماله، وتشمل خمس مُتتابِعات موسيقية تصِل إلى حوالي الساعة. وقد تناولتْ خمسَ مُوتيفات مأخوذة من حكايات الكتاب هي:
-
(١)
البحر وسفينة السندباد.
-
(٢)
حكاية الأمير قلندار.
-
(٣)
الأمير والأميرة الشابَّة.
-
(٤)
مهرجان بغداد.
-
(٥)
جبل المغناطيس يجذب مسامير السفينة.
والمعزوفة الموسيقية تنجح في نقل جوِّ الشرق وأجواء ألف ليلة وليلة بطريقةٍ مُذهلة، جعلت منها أصلًا ثابتًا في كثيرٍ من الأعمال الفنية المسموعة المأخوذة عن ألف ليلة وليلة. وما زلنا نذكُر المسلسل العظيم للإذاعة المصرية في الخمسينيات من القرن العشرين الذي قدَّم قصص ألف ليلة وليلة بإخراجٍ وتمثيلٍ وحكي رائع، مرفود بموسيقى كورساكوف التي نبَّهت عقولنا إلى الموسيقى الكلاسيكية على وجه العموم. ثُم زاد ذلك الشغف تأصيلًا بتحليلات الدكتور حسين فوزي لها في برنامجه المشهور عن الموسيقى الكلاسيكية.
وقد قامت فرقة الباليه الروسي التي اشتهرت في أوائل القرن العشرين برئيسها دياجليف وراقِصها الأول نجنسكي بتقديم باليه كامل عن شهرزاد أساسُه موسيقى كورساكوف. بيد أن الباليه اقتصرت قِصته على القصة الأساسية الأولى من ألف ليلة وليلة، وهي قصة شهريار وأخيه شاه زمان وخيانة زوجة شهريار له مع العبد مسعود، وكتب ليبريتو الباليه الفرنسي «ألكساندر بينوا». وقد قُدِّمت أول حفلة لهذا الباليه في عام ١٩١٠م في أوبرا باريس، وتألَّق في رقص مشاهِدِه فاسلاف نجنسكي في دور العبد مسعود، وإيدا روبنشتاين في دور زوجة شهريار التي دَعَوها زبيدة، ربما تأسيًّا باسم زوجة هارون الرشيد.
ومن الغريب أن الموسيقار الفرنسي العالمي «موريس رافيل» قد وضع هو الآخر مقطوعة عن شهرزاد. وقد جاء ذلك نتيجة شغف الموسيقار بحكايات ألف ليلة وليلة، فقرَّر وَضْع أوبرا كاملة عنها مُستقاة من ترجمة أنطوان جالان الفرنسية. بيد أنه للأسف لم يتمَّ منها إلا الافتتاحية، التي استخدمَها مُصمم الباليهات الشهير جورج بالانشاين في إخراج باليه عنها تمَّ تقديمه لأول مرةٍ في نيويورك عام ١٩٧٥م. بيد أن الموسيقى والباليه لم يُلاقِيا النجاح الذي لاقته مُوسيقى كورساكوف والباليه المُصمَّم لها.
أما أوبرا كورساكوف فهي تنقسِم إلى ثلاثة فصول، وفيها شخصيات الملك دودون، والعرَّاف الذي يُقدم له الديك السحري، وامرأة جميلة يَغنمها الملك في حروبه ويعشقها. بيد أن العرَّاف يطلُب مكافأته عن اختراعه السحري بأن يَهَبَه الملك تلك المرأة، وحين يرفض الملك ذلك ويقتل العراف، يطير الديك السحري إلى المَلِك ويقتُلُه نقرًا بمِنقاره. وتنتهي الأوبرا بابتعاث العراف، الذي يُعلن أن القصة كلها خيالية، وأن مملكة دودون ما هي إلا من قصص الجنيات، حيث لا يوجد بشر فيها إلا هو والمرأة الجميلة.
وقد تناول كورساكوف قصة بوشكين، ذات الأصل العربي، لِما فيها من إسقاطاتٍ وسخرية مُقنَّعة من الحُكم الإمبراطوري المُتعسف في روسيا القيصرية أيامها، فكانت شخصية الملك دودون رمزًا للقيصر نيقولا الثاني المُتربع على العرش القيصري. وهذا كان السبب في منع الرقيب للأوبرا إلى ما بعد وفاة كورساكوف. ويُقال إن الموسيقار قد عجَّلت موتَه الحسرة التي شعر بها من جرَّاء ذلك الجور على عبقريته الموسيقية.
ونُشير هنا أيضًا إلى أنَّ النقَّاد عادةً ما يُدرِجون أوبرا «حلاق إشبيلية» لروسيني وأوبرا «اختطاف من قصر الحريم» لموزار ضمن الأعمال المُستوحاة من قصص عربية، خاصة أن أحداث العملَين بهما شخصيات إسبانية، وحبكتاهما تُماثلان حكاياتٍ واردة في ألف ليلة وليلة.
وقد نال المجال المسرحي نصيبًا من ألف ليلة وليلة، وإن لم يكن بالقدْر المُتوقَّع له. ففي اللغة العربية، هناك مسرحية توفيق الحكيم «شهرزاد» ومسرحية عزيز أباظة الشعرية «شهريار» ومسرحية علي أحمد باكثير «شهرزاد» ومسرحية ألفريد فرج «حلاق بغداد» وهناك أيضًا مسرحية لسعد الله ونُّوس بعنوان «الملك هو الملك» تلعب على شكل القصة في ألف ليلة وليلة.
أما في الغرب، فهناك مسرحية غنائية فرنسية عن «علي بابا» بيد أن برودواي ما تزال في حاجة إلى مسرحية — بل مسرحيات غنائية — تُحيي موضوعات ألف ليلة وليلة، وهي تبدو مُناسبةً تمامًا وقابلة للنجاح على المُستوى الذي يتمُّ به إخراج تلك الأعمال المُبهرة في الوقت الحاضر.
وقد استلهم المعمار الغربي الكثير من أساليب العمارة العربية والإسلامية، خاصة الأندلسية منها. وقد صمَّم الكثير من الغربيين ديارًا على النسَق الأندلسي الذي يدور حول الفناء الذي يتوسَّط الدار وبه النافورة التقليدية. وقد ساهمت قصص ألف ليلة وليلة في إذكاء خيال الفنانين والأدباء لتجسيد ما قرءوه فيها في تصميم بيوتهم، كما فعل الأديب الفرنسي «بيير لوتي» في التصميمات الداخلية لداره، التي تحوَّلت متحفًا بعد وفاته. ولكن أغرب المُتأثرين بحكايات ألف ليلة وليلة من المِعماريين المَشهورين هو الإسباني «أنطونيو جاودي» (١٨٥٢–١٩٢٦م)، الذي كان ظاهرةً فريدة في تاريخ الفن المعماري بصفةٍ عامة. وقد صمَّم جاودي بناياتٍ سحريةً غريبة، على أساس الموزاييك والأرابيسك، بيد أنها تتبدَّى كبناياتٍ أسطورية خرجت لتوِّها من حكايات ألف ليلة وليلة الأسطورية. ومن مَبانيه تلك «مُتنزَّه جويي» الذي يَدخله الزائر فكأنما دخل حديقة قصر الأميرات والملوك التي يرِد وصفها في الكتاب العربي، فهو يَمتلئ بالممرَّات المُلتوية، والزخارف العجيبة، وصُمِّمت حدائقه على النسق السحري ذاته. وإن الزائر لِمدينة برشلونة، التي عاش فيها جاودي وابتنى فيها معظم أعماله، يُفاجأ في سيرِه وسط طرُق المدينة الفسيحة، إذ ينظُر إلى المباني العادية الكلاسيكية على جانبَي الطريق، بمبنًى في الوسط لا يكاد الرائي يُصدِّق عينَيه عند رؤيته، فهو يظهر بين مبنَيَين تقليدِيَّين كأنما نبعَ من الوهم أو الخيال، بما يبدو عليه من نمَط شرقي مُتعرج، بألوانٍ أخَّاذة ومُقرنصات وأبراج غريبة. وإن الوصف ليقصُر عن تجسيد تلك الأعمال للقارئ، ولا بدَّ له من رؤيتها في الواقع أو مُصوَّرة كيما يشعر بسطوة الخيال الشرقي الذي أثَّر على جاودي عند إبداعه ذلك المعمار الفريد.