المرأة في الأدب العربي
لم تختلف الصورة التي رسمها الأدباء القدامى والمعاصرون للمرأة عن صورتها في عيون أدباء الغرب إلا في التفاصيل، أو بعض الاختلافات التي يقتضيها اختلاف الظروف والسبق أو التأخُّر في مجال عن مجال، وكلها اختلافات سطحية لا تمس جوهر الصورة عن المرأة كمملوكة للرجل، بحكم النظام الأبوي سواء كان زراعيًّا أم صناعيًّا، إقطاعيًّا أم رأسماليًّا، متخلِّفًا أم متقدِّمًا، في الشرق أو في الغرب، مسيحيًّا أو إسلاميًّا.
وإذا كان الفن أو الأدب يَرتكز في مضمونه على الصراع، وسواء انتهى هذا الصراع بالفشل أو النجاح، فهو نوعٌ من الدراما أو المأساة التي تَستحِقُّ الرواية وتستحق التسجيل، سواء كانت مُبكية أو مضحكة، تراجيديا أو كوميديا، وكم من صراعات ومفارقات في حياة الإنسان تدعو إلى الضحك والبكاء معًا.
ولعلَّ أهم هذه الصراعات جميعًا هو الصراع بين الرجل والمرأة منذ انتزع منها حقها (الطبيعي والمنطقي) في النسب. ولأنَّ انتساب الأطفال إلى الرجل كان ولا يزال أمرًا غير طبيعي وغير منطقي، فقد ظلَّ الصراع بين الرجل والمرأة مستمرًّا منذ بدأ النظام الأبوي حتى اليوم، وظل الرجل متخوِّفًا حتى اليوم من أن ينتهي الصراع بانتصار المرأة واستردادها لحقها الطبيعي الأول. والدليل على خوف الرجل من المرأة أنه لا يزال يحوطها بالسلاسل والقيود، التي قد تكون قوانين صارمة مقدَّسة أو نظريات عملية نفسية وأخلاقية معينة، أو حتى عواطف ظاهرها الحب والنبل والحماية وباطنها الغيرة والاستحواذ والسيطرة والامتلاك.
الدليل على خوف الرجل من المرأة أنه لا يزال يقيدها ويملكها بشتى الوسائل، وهو يقيدها بوعيٍ وبغير وعي. وكأنما هو في اللحظة التي يكفُّ فيها عن تقييدها فسوف ينقلب الوضع فورًا وتُصبح المرأة هي الأعلى وليس الأدنى، وهي الأقوى وليس الأضعف.
وبرغم أن الرجل بذل ما عنده لابتكار قيود للمرأة منذ خمسة أو ستة آلاف سنة، إلا أنه لم يتخلَّص أبدًا من خوفه من المرأة، ومن حاجته المُستمرَّة لأن يُقيدها، مما يؤكِّد أن خوفه منطقي وله مُبرِّراته القوية، وله دوافعه الطبيعية؛ وأولها إدراك الرجل أنه يفرض على الطبيعة وضعًا غير طبيعي؛ فالمرأة منذ أصبحت امرأة منذ ملايين السنين وهي تَنسب أطفالها إليها بحكم الطبيعة، والرجل وإن عرف حديثًا الأسرار العلمية للحمل والولادة إلا أنه ظلَّ جاهلًا لها أزمنة طويلة، والجهل يولد الخوف، وظل الرجل بحكم جهله يخاف المرأة من كل مظاهر حملها وولادتها، ولم يكن لبضعة آلاف من السنين أن تقضي على خوف الرجل الذي عاشت معه ملايين السنين، ولم يكن لهذا الزمن القصير بالنسبة لعمر البشرية أن يقتلع من ذاكرة الرجل صورة الأنثى الأم خالقة الحياة والآلهة القديمة.
ولم تكن قصة آدم وحواء إلا تعبيرًا عن خوف الرجل من المرأة، ولولا هذا الخوف ما نُسب الشر والإثم والشيطنة إلى حواء؛ فالمرأة الشيطان ليست إلا تجسيدًا لمخاوف الرجل، والمرأة التي تملك من القوة والسحر والفتنة ما يُوقع الرجل ويُسقطه من الجنة إلى الأرض ويُسبِّب له الدمار والهلاك والموت؛ امرأة لا بد أن تكون مخيفة ومرعبة، وربما كانت كذلك فعلًا.
ويربط علم النفس بين الخوف والكراهية في نفس الإنسان؛ فالخوف يُولِّد الكراهية، والكراهية تغذي الخوف، وكلاهما يستمر باستمرار الأخرى.
… إن عادة الرجل أن يُسقط كراهيته الداخلية العميقة للعالم الخارجي؛ أي ينسبها إلى أي شيء يكرهه، أو أي شيء لم يألفه، وينظر الرجل إلى المرأة أيضًا على أنها مصدر للخطر، وأول علاقة جنسية بينه وبين المرأة تظلُّ في ذاكرته محفوفة بالخطر.
ولا يختلف خوف فرويد من المرأة كثيرًا عن خوف الرجل الإفريقي الذي لا يزال يقول في بعض قبائل أفريقيا بأن المرأة إذا خطت فوق ساق رجل فإنه يعجز جنسيًّا، أو أن الرجل الذي يلمس المرأة في فترة الحيض يَسقط ميِّتًا.
وبمثل ما احتوى العلم على مخاوف الرجل من المرأة كذلك احتوى الأدب على هذه المخاوف، ولا يكاد يختلف خوف فرويد من المرأة عن خوف «برنارد شو». ولا يختلف خوف برنارد شو من المرأة عن خوف «توفيق الحكيم» أو «عباس محمود العقاد».
وتتمثل فكرة فرويد عن سلبية المرأة في أدب تولستري، وكما تغزَّل تشيكوف بسلبية المرأة في قصته «حبيبتي» تغزَّل عباس العقاد بسلبية المرأة في كتاباته؛ فهو يقول: «المرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأنَّ الطبيعة قد جعلتها جائزة للسابق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يَستحقُّها، فتُلبيه تلبية يتساوى فيه الإكراه والاختيار، كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الديكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.»
والتغزُّل في سلبية المرأة باعتبارها طبيعتها وفطرتها يعني بالضرورة هجاء إيجابيتها وقوتها، واعتبارها خارجة عن طبيعتها، أو شاذَّةً تستوجب الكره أو الاستقباح، أو على الأقل السخرية والتهكُّم.
وبلغ من كره الرجل للمرأة الإيجابية القوية أن أسقط عليها كل خوفه القديم، فاقترنت صفات القوة في المرأة بالشر والخطر والغموض والكيد والرياء والكذب والالتواء والفتنة والسحر والشيطنة.
وإذا كانت المرأة سلبية تنتظر مشيئة الرجل، فتُلبِّيه تلبية سلبية أيضًا، يتساوى فيها الإكراه والاختيار كما قال العقاد، فكيف يُمكن إذن أن تكون هي نفسها الشيطانة التي توقع بالرجل وتسقطه من أعلى عليِّين إلى أسفل سافلين كما قال زكي مبارك، أو تسلب عقل الرجل وماله ووقاره وجلاله كما قال ابن المقفع؟ وكيف تكون هذه السلبية بالطبيعة والفطرة إيجابية فجأة كامرأة العزيز في قصة يوسف، تلك المرأة الحسناء التي راودته على نفسها فقال معاذ الله ربي إنه أحسن مثواي، ولولا أنه رأى برهان ربه ولولا أنه من عباد الله المخلصين لاستجاب لها ووقع في السوء والفحشاء؟
إنَّ هذا المأزق الذي وقع فيه الرجل باعتباره المرأة سلبية ضعيفة لم يكن له من حل سوى أن تكون إيجابيتها نوعًا من الدهاء والمكر والكيد والرياء، وقد امتلأ الأدب العربي بهؤلاء النساء الماكرات اللائي يُتقنَّ أنواع المكر والكيد المختلفة، بل إن العقاد نفسه يناقض نفسه، وبعد أن يقرر أن المرأة سلبية بالطبيعة يعود فيقرر ذات كيد معين ورياء، وأن هذا الرياء خاص بها وجزء من طبيعتها، فيقول: «الرياء الأنثوي الذي يصحُّ أن يُقال فيه أنه رياء المرأة خاصة إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضه عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها.»
ويُريد العقاد هنا أن يسلب المرأة إيجابيتها في المكر والرياء، كما سلب أسلافه الفلاسفة إيجابية حواء في الشر، وقالوا إن الشر لم يقع بإرادتها واختيارها وإنما بإرادة آدم أو إرادة الإله.