كراهية وحب مشبوب
وبرغم محاولات الرجل المستميتة للإقلال من إيجابية المرأة وقوتها، وبرغم محاولاته المستمرة لاعتبارها أدنى وأقل، ولا تستحق أي اهتمام أو عناء، إلا أن المرأة ظلت تشغل أكبر حيِّز في ذهن الرجل. وبرغم أنه نجح في طردها من معظم مجالات المجتمع، إلا أنها ظلَّت كالشبح الجاثم على فكره، لا يستطيع طرده من ذهنه، ولا يستطيع الفرار منه حيثما ذهب.
إن من يستعرض إنتاج الأدباء في الشرق وفي الغرب — قديمًا وحديثًا — لا بد أن يدهش لهذا الكم الهائل من القصص والشعر والروايات التي تناولت المرأة، ورغم أن معظم هذه الكتابات تصور المرأة تصويرًا خاطئًا أو مناقضًا، إلا أنها تدلُّ على أن الرجل لم يتخلَّص أبدًا من خوفه، وأن هذا الخوف قد أنتج الكراهية، وأن هذه الكراهية استحالت إلى نوع من الحب المشبوب؛ فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما تقول الحكمة العربية القديمة، ومن الوسائل التي يحمي بها الإنسان نفسه ضد ما يَكرهه هو أن يَستسلم له ويحبه.
ولعلَّ هذا يفسِّر لنا بعض الأسباب التي جعلت علاقة الرجل والمرأة علاقة حب وكراهية في آنٍ واحد، ولذة وألم، وإقبال وفرار، وراحة وعذاب، وقسوة وحنان، وسذاجة ومكر … إلى آخر تلك التناقضات التي تُميِّز تلك العاطفة الشائعة بين الرجال والنساء، والتي سُمِّيَت على مر الأزمنة ﺑ «الحب» وهي تسمية خاطئة؛ لأن الحب بين الرجل والمرأة طوال هذه الأزمنة لم يكن «حُبًّا»، وإنما رغبة في «الامتلاك».
وبمثل ما كان التناقض جوهر الحب في الأدب العربي جرت المرأة أيضًا في جوهره على التناقض؛ ذلك أن الحب عند الرجل يَرمز إلى المرأة، والمرأة ترمز إلى الحب، وكلاهما في نظره شيء واحد.
ويحتوي تاريخ الأدب العربي على كثيرٍ من الكُتَّاب الذين عُرفوا بعدائهم وكراهيتهم للمرأة؛ ومنهم المعري والعقاد والحكيم وغيرهم. وقد اشتهر عباس محمود العقاد في الأدب العربي باسم «عدو المرأة»، وانعكست كراهيته وعداوته للمرأة في الكثير من كتاباته؛ بحيث تفوق في هذا المجال على أستاذه «شوبنهور» الذي أشاد برأيه في المرأة في عدة مناسبات من حيث إنها طفلة كبيرة الجسم في كل أدوار حياتها.
وفيها من أخلاق الطفل نزقُه، وقصور عقله، ومحاكاته لغيره، واعتماده على غيره، وتقلبه، وكذبه، ورياؤه؛ وهي أخلاق في رأيه تخلَّفت في نفس المرأة من بقايا الهمجية والفطرة، لم تنجح السنون في تنظيف شرِّها وتهذيب طبيعتها.
إلا أن العقاد سرعان ما يُناقض نفسه، فإذا بهذا المخلوق القاصر كطفل أو السلبي كدجاجة، يَنقلب فجأة ليُصبح القوة التي ما بعدها قوة؛ فيقول عن المرأة في روايته سارة أنها: «مظهر القوة التي بيدها كل شيء في وجود، وكل شيء في الإنسان.» بل إن هذه القوة تصبح في قوتها وبطشها وظلمها كقوة دولة طاغية، فيترنم بها في شعره ويقول:
ويتضح لنا الآن كيف تنقلب الكراهية إلى حبٍّ مشبوب، إلى حبٍّ شبه مريض، يستعذب الظلم والجرح والألم، حب ماسوشي، فيه من الذل والهوان إلى حدِّ تقبيل اليد التي تقسو عليه وتضربه وتجرحه.
إلا أن هذه الماسوشية سرعان ما تنقلب إلى سادية شديدة وعُدوان عليها، إلى الحد الذي يرى أن المرأة لا بد أن يَحكمها الرجل ويُخضعها، وأن لا يَتأثر بفتنتها أو جمالها؛ فجمال المرأة في نظر العقاد ليس جمالًا أصيلًا، وإنما هو جمال غير مُستقلٍّ بذاته وغير حر في انطلاقاته؛ لأن إدراك جماله يتوقف على الرجل؛ فالرجل هو الحر لأنه مُستقلٌّ بذاته، وعلى هذا فالجمال في رأيه هو جمال الرجل، أمَّا المرأة فجمالها ليس إلا القبح.
وتبلُغ عداوة العقاد للمرأة وساديته أنه لم يُعطِ نفسه وحده حق إيلامها وخيانتها وهجرها، وإنما جعل من نفسه داعيةً في هذا المجال، وأخَذ يحثُّ الرجال على هجرها وخيانتها، ويتغنى بذلك في شعره قائلًا:
معنى هذا في رأيه أن خيانة الرجل للمرأة تؤدِّي بالرجل إلى أن يصل إلى قلبها وحبها؛ فالمرأة في نظر العقاد لا تُخلص إلا لمن يخون، ولا تُحب إلا من يهجرها ويكرهها، ولا تقول نعم إلا حينما تريد أن تقول لا، وهي مُراوغة ماكرة كاذبة مخلوقة من عجينة الخداع والكيد، وإن «كيدهنَّ عظيم» كما جاء في القرآن. وهو يُقرر أن الكيد والخداع طبيعة المرأة وسلاحها مع الرجال الذين يكرهونها أو يحبونها سواء بسواء:
ومن المعروف أن الوجه الآخر للسادية هو الماسوشية، وفي أدب العقاد وشعره قدر كبير من كليهما، إلا أنه حاول أن يُبالغ في السادية والعداوة وحاول أن يُحوِّلها إلى نوع من التسلُّط والسيطرة، مستعينًا في ذلك بما جاء في القرآن من أن الرجال قوامون على النساء، ولهم على النساء درجة؛ حيث إن النساء (في رأيه) أقل من الرجال قدرة على تحكيم العقل وتغليب الرأي وصلابة العزيمة، وأن النساء ليس لهم سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيعه، وليَقسُ الرجل عليها أو يرحمها أو يعذبها فإنها لسعيدة بالطاعة إذا وجدت من يُطاع ويَقبل عذابها وراحتها ويتلقَّى عزتها وذلها على السواء.
ويَخرج العقاد من ذلك بأن المرأة خُلقت لتُحبَّ الرجل، وأن الرجل خُلق ليُحبَّ نفسه في حبه إياها، وهذا في رأيي على نسق الفكرة الدينية اليهودية والمسيحية أن المرأة خُلقت في صورة الرجل، وأن الرجل خُلق في صورة الإله، أو أن الرجل ظلُّ الله في الأرض وصورته، وأنَّ المرأة ظل الرجل.
وعندنا مثل شعبي في العربية يقول: ظل راجل ولا ظل حيطة؛ أي إن الرجل هو ظل المرأة، وبغير الرجل لا تستطيع المرأة أن تعيش.
أمَّا نموذج المرأة الذي طغى، واحتل أكثر صفحات الأدب العربي بصفة عامة، فهو بغير شك نموذج المرأة «البغي» أو «العشيقة»، ويُقابله أيضًا بالأهمية نفسها نقيضه، وهو نموذج الأم الطاهرة أو العذراء أو الزوجة العفيفة الطاهرة.
وهذه الفكرة التي قسَّمت النساء النوعين: البغي أو الأم، لم يكن ليعرفها العرب إلا من أجدادهم القدامى، الذين بدءوا النظام الأبوي، وبدءوا معه تقسيم النساء إلى زوجات وأمهات من ناحية، وإلى مومسات وعشيقات من ناحية أخرى؛ ثُمَّ ارتباط البغي بالإثم والسقوط والفساد؛ لأن البغي هي التي تُجسِّد الجنس، والجنس من فعل الشيطان أو حواء.
ولست أدَّعي أنني قرأت كل ما صدر في العالم الغربي أو العربي من أدب، لكنني لم أُصادف فيما قرأتُ لأدباء من الغرب أو الشرق أي رجل أديب لم يتحرَّر من هذه الفكرة القديمة، مهما اشتهر في كتاباته بالدفاع عن حقوق الإنسان والحرية والعدالة ومقاومة الظلم. وهذا هو الأديب الروسي تولستري يكتب ويقول إن «المرأة أداة الشيطان، إنها غبية في جملة حالاتها، ولكن الشيطان يُعيرها حين تعمل في طاعته.»
ويحفل الأدب العربي بنموذج المرأة الشيطانية، ذات الوجوه المتعددة؛ «تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية، تفتح عينيها البريئتَين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة، بغير كلفة أو رياء، وتراها بعد حين — وقد تراها في يومها — فأنت مع عجوز ماكرة، أفنت حياتها في ممارسة كيد النساء ودهاء الرجال، وتضحك ضحكة، فتَعرض لك وجهها الذي لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى — وقد يكون على أثر الأولى — فذاك عقل يَضحك ولبٌّ يسخر، كما تَسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنَّكين.»
وهذه أيضًا كلمات العقاد نفسه، الذي يُناقض هنا فكرته عن أن المرأة ليس لها عقل تفكر به، وعلى الرجل أن يَحبسها في البيت بين أربعة جدران ويَحكمها، فهي ناقصة العقل والدين والأخلاق «وثنية لم تتديَّن قط.»