الكيد والسحر والفتنة في ألف ليلة وليلة
ولا يختلف «العقاد» وأمثاله من أدباء عصرنا الحديث في تصورهم للمرأة عن أدباء المجتمع العربي القديم، وعن قصص ألف ليلة وليلة؛ فالمرأة في معظم هذه القصص الشعبية كثيرًا ما تظهر على شكل الجارية الفاتنة اللعوب، والشيطانة في ألاعيبها، الداهية في مكرها وكيدها، العاشقة الفاتنة في عشقها، الإيجابية في موضوع الحب والجنس إيجابية الشياطين والجان.
تقول الدكتورة سهير القلماوي: «والمرأة في كل صور هذا الدور جارية، سواء كانت ملكة أم جارية مُشتراة من السوق، تكون بنت ملك تُحارب وحبيبها خائف، ومع هذا تُناديه يا سيِّدي، وتخدمه كما تَخدم مريم الزنارية نور الدين، وتُباع وتُشترى في أكثر القصص، فتكون صفات الجارية وتصرفاتها أقرب إلى واقعها.»
وتحفل قصص ألف ليلة وليلة بهؤلاء النساء الساحرات اللائي استخدمن السحر كوسيلة لتنفيذ خطة المرأة للوصول إلى حبيبها، فإذا بالمرأة تَسحر زوجها حتى لا يقف في طريق حبها. ويُلاحظ أن السحر في ألف ليلة وليلة لم يُستعمل إلا بواسطة النساء الكائدات الساعيات إلى عشاقهن، والبنج أيضًا تستخدمه المرأة التي تريد التسلُّل إلى عشيقها، فإذا بها تُبنِّج زوجها، وهذه ظاهرة تتكرر في ألف ليلة وليلة منذ قصة السلطان محمود صاحب الجزائر السود في الجزء الأول إلى قصة قمر الزمان وعشيقته في الجزء الرابع.
ويرتبط الكيد والمكر في ألف ليلة وليلة بالنساء، وبالحب والجنس والفتنة، وكيد النساء قد غذى هذه القصص بمادة غزيرة، مما يدلُّ على تغلغل قصة حواء في نفوس العرب في تلك الأزمنة. بالإضافة إلى أنَّ القرآن قد احتوى على قصة مشابهة، وهي قصة يوسف وامرأة العزيز، وأصبحت العبارة القرآنية: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تأكيدًا لها بأن كيد النساء حقيقة جوهرية، بل إنه كيدٌ عظيم أيضًا.
وفي قصص ألف ليلة وليلة نجد شبيهات حواء التي أخرَجت آدم من الجنة، فإذا بهؤلاء النساء يكنَّ السبب في هلاك الرجال أو الإضرار بهم بمثل ما حدث في قصص الخياط والمباشر والنَّصراني.
ونجد شبيهات امرأة العزيز التي سُجن يوسف بسببها في قصة قمر الزمان ابن الملك شهرمان، قد أحبَّت امرأتان هما «بدور» و«حياة النفوس» ابني قمر الزمان؛ وكما شكت امرأة العزيز يوسف لزوجها شكت «بدور» و«حياة النفوس» الابنتين لأبيهما، ويأمر الزوج بقتلهما، لولا أن تنقذهما حادثة الأسد مع المملوك، وفي مقدمة هذه القصة تنشد المرأة التي حملها العفريت يوم زفافها وسجنها في صندوق حمله فوق رأسه حتى لا تخونه:
وفي هذه القصص أيضًا نجد نساء يَكدْن لمجرد الكيد، للسخرية من الرجال الذين أحبوهن، مثل قصة الوزير السادس من قصص الوزراء السبع، وقد يقترن ذلك بإمعان في الفتنة، كما في قصص المزين عن إخوته السبعة (الأولى والثانية) من قصة مزين بغداد، ونماذج العجوز الساحرة والكائدة متعددة في هذا الأدب الشعبي. وأبرز شخصية من هذا النوع هي «شواهي» بطلة قصة عمر النعمان وولديه، وهذه المرأة لم تستخدم مكرها وكيدها في مجال الفتنة والغرام والجنس فحسب، وإنما في الحرب والسياسة أيضًا؛ فقادت جيوشًا وهزَّت ممالك وهزت ملوكًا وارتدت ملابس النسك وضحكت على خصومها المسلمين، وقتلت الملك عمر النعمان وابنه، وصبرت في سبيل كيدها ومؤامراتها السنين، وفي الحروب تكون شواهي مركز القتال بين المسلمين والنصارى؛ فهي تخدع المسلمين والنصارى معًا، وهي تُسبِّب الضرر والهلاك للجميع؛ ولهذا فهم يُدبِّرون لها في نهاية القصة حيلة تَنتهي بصلب شواهي على باب بغداد.
وكم تُنفِّس أمثال هذه القصص عن الرجال حقدهم وكراهيتهم الدفينة للمرأة، وكم يشعرون براحة في نهاية القصة حين تُصلَب «شواهي» ومثيلات شواهي.
وتَعكس شخصية شواهي ومثيلاتها المُتعدِّدة في أكثر هذه القصص شخصية المرأة العربية الإيجابية التي كانت تَشترك في السياسة والحروب، وترتدي الدرع وتحارب في أول الصفوف، من مثيلات «هند بنت ربيعة» التي قتلت بسيفها في معركة «أحد» عددًا من الرجال من أتباع «محمد»، بل إنها ذهبت إلى أحد القتلة وهو «حمزة بن عبد المطلب»، فأخرجت (من جسده المقتول) قلبه وكبده، وأخذت تعصر كبد حمزة بيدها وتلوكه بفمها، وتَلعق الدم مُنتشية وهي ترقص على جثته.
وهذا هو السبب في أن المرأة المُحاربة في قصص ألف ليلة وليلة لم تظهر على أنها امرأة مسلمة، ولكنها ظهرت كساحرة شريرة عجوز، أو كامرأة نصرانية، لكن هذه المرأة النصرانية تحب رجلًا مسلمًا، وهي تنضم في النهاية إلى جيش المسلمين، وتُحارب معهم، وتقتل أعداءهم؛ فهذه «إبريزة» النصرانية تحب «شريكان» المسلم، وتتزوَّج عمر النعمان المسلم، وتلد «رمزان»، وهي تنضم إلى جيش المسلمين وتُحارب معهم. وهذه أيضًا «مريم الزنارية» تُعلن إسلامها، وتحارب أباها وإخوتها من أجل الإسلام وتَقتلهم، ويحميها الرشيد في النهاية بسبب إسلامها.
ويعكس هذا الأدب الشعبي رغبة المسلمين في بداية الإسلام من إدخال هؤلاء النساء القويات أمثال «هند بنت ربيعة» في الإسلام، وقد حدَث ذلك فعلًا في تاريخ الإسلام؛ كما يعكس الصورة القوية التي كانت عليها النساء العربيات، واشتراكهن في الحرب والسياسة والدين والمجتمع الكبير، سواء قبل الإسلام أو في حياة «محمد».
كما يَعكس أيضًا ارتباط الفتنة عند العرب بالقوة والإيجابية في المرأة؛ فقد وجدت أن أكثر النساء المحاربات في قصص ألف ليلة وليلة فاتنات تفوق فتنتهنَّ أي نساء أخريات، سواء كنَّ غانيات أو مغنيات أو عشيقات. وفي معظم هذه القصص، فإن المرأة المحاربة لا تكشف عن وجهها إلا في آخر لحظة، هي دائمًا لحظة حرجة، وعندها يتوقف كل شيء؛ الهزيمة البشعة أو النصر المبين، وإذا بالمرأة في هذه اللحظة ذلك الفارس الشجاع الرشيق. كثيرًا ما كانت تَتنكَّر المرأة العربية في الحرب في زي فارس من الفرسان، كما فعلت بنت ربيعة في معركة «أُحُد»، تكشف عن وجهها فإذا بفتنتها تكسب المعركة الأخيرة، كأنما هي سهم أشد فتكًا من سهام الحرب، وهكذا انتصرت معظم البطلات المُحارِبات من أمثال «الدنماء» في قصة الجارية الثانية في اليوم السابع من مجموعة قصص الوزراء السبع.
ومثلما برزت المرأة العربية في الحرب والسياسة والفتنة، برزت أيضًا في الفنون والآداب والعلوم، وقد بلغت بعض النساء والجواري شأنًا عاليًا في هذه المجالات في الحياة الواقعية للعرب، إلى حدِّ أن «الرشيد» نفسه تزوَّج بعض هؤلاء ممن ردَدْن عليه ردًّا حكيمًا، أو أكملن بيتًا ناقصًا من الشعر، أو أنشَدْن أبيات شعر أُعجب بها. وفي قصص ألف ليلة وليلة نجد بعض هذه الوقائع وقد نُقلت من كتبٍ على شكل أخبار، فهناك ثلاثة نساء شاعرات حكم «الأصمعي» بقدرتهن على قول الشعر، وواقعة تحكي عن الرشيد والبنت العربية الشاعرة. واستمدت ألف ليلة وليلة قصصًا من حياة «إسحاق الموصلي» والجواري المغنيات اللائي كان يطرب لهنَّ، وكم من أخبار تُنسب لأبي نواس الشاعر العربي الذي اشتهر في الأدب العربي بالسُّكر والمجون.
وكم تبلغ المرأة من قوة حين تُصوِّرها قصص ألف ليلة وليلة على شكل «جنية» يقع في غرامها وسحرها الرجل، لكنه يَشقى من أجل الوصول إليها، مثل شمسة في قصة «جانشاة» و«منار السنا» في قصة حسن البصري. والمرأة «الجنية» التي تسكن البحر وتحكم طائفة من الجن، مثل «جلنار» في قصة الملك «بدر باسم» أو المرأة «الجنية» التي تحكم مدينة يعبد أهلها الشمس أو النار. وهناك أيضًا شخصية الملكة القوية «لاب» التي تُسخِّر الناس لإشباع شهواتها، وتستخدم السحر لتنتقم من أعدائها، وهي تستطيع أن تسحر نفسها طائرًا إذا أرادت أو تكون آدمية حين تريد، وجلنار قادرة على الغوص في البحر والسير في قاعه والتحدث مع أهله والغضب والانتصار، بمثل ما تفعل على الأرض بالضبط.
وتشغل المرأة «الجنية» حيِّزًا كبيرًا في قصص ألف ليلة وليلة، مما يؤكد أن قوة المرأة ظلت راسخة في وجدان الشعب العربي، وظلَّت مرتبطة بقوة الجان والعفاريت والشياطين منذ الأزمنة القديمة عبر القرون الوسطى وحتى عصرنا الحديث.