المرأة في الملاحم الشعبية العربية
تلعب المرأة العربية دورًا بارزًا في الملاحم والسير الشعبية، ومن أشهر هذه الملاحم سيرة الأميرة ذات الهمة التي لعبت البطولة فيها امرأة؛ وهي ظلمة بنت مظلوم. في هذه الملحمة نساء فارسات مقاتلات، أكثر شجاعةً وقدرةً على القتال من الرجال، وتتردَّد صفة المرأة المرغوبة بأنها «قتالة الشجعان»، وأنها تَنتصر على أشجع الرجال في المبارزة بالسيف، وهي لا تتزوج إلا الرجل الذي تختاره، والذي يستطيع أن يصمد أمامها في المبارزة. ولا شك أن القاص الشعبي يَعكس واقعًا تعيشه المرأة العربية في ذلك الوقت. وملخَّص قصة الأميرة ذات الهمة هو أن أباها كان يريدها ذكرًا حتى يورثها نصيبه من العرش الذي استولى عليه أخوه الظالم لأنه أنجب ذكرًا، وحين وُلدت أنثى حزن أبوها حزنًا شديدًا: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، فذلك معناه أن يفقد السلطان والملك والجاه والسيادة. وتفكر الأب لابنته، وحاول أن يتخلَّص منها بالقتل، لكن القابلة تشير عليه أن يعهد بها إلى جارية بيضاء من جواريه اسمها «سعدى». وأصبحت سعدى ترضع هذه الطفلة التي سمتها «فاطمة»، وتعيش فاطمة مع مربيتها الجارية، لا تعرف شيئًا عن أبيها وأهلها، وفي إحدى الحروب تؤخذ فاطمة هي وسعدى أسيرتَين وتتعرَّضان للسبي، وتُصبح فاطمة جارية من جواري بني طيء، وهي قبيلة غير قبيلتها، وأصبحت من نصيب رجل اسمه الحارث، غيَّر اسمها إلى ذات الهمة، وجعلها تعمل أعمال الجواري المُهينة. وتقبل فاطمة أو ذات الهمة هذه الحياة الذليلة على كره، وهي تأمل أن يكون لها قوم يأتون لإنقاذها هي وسعدى التي كانت تظن أنها أمها، لكنَّ أحدًا لم يأت لينقذها، فبدأت تشعر أنها يجب أن تُنقذ نفسها بنفسها، فأخذت تتعلم فنون القتال والفروسية بعد أن أدركت أن القوة هي قوة السيف.
ويُحاول أحد الفرسان اغتصابها جنسيًّا على أنها جارية، فتَرفض ويُطاردها مطاردة عنيفة، فتقتله بسيفها. وتبدأ ذات الهمة حياتها كفارسة مقاتلة، ويَثق سيدها بكفاءتها وشجاعتها، ويستعين بها في حروبه وغزواته ضد القبائل الأخرى، وتنتصر ذات الهمة في جميع معاركها وتجلب لسيدها الأموال والزهو والكرامة والسيادة، وأُطلِقَ عليها «داهية بني طيء»، هي ذات الهمة، وأصبحت حامية بني طيء برجالهم ونسائهم.
وفي إحدى غزواتها ضد إحدى القبائل، وهي قبيلة بني كلاب التي يَنتمي إليها أبوها، تنتصر ذات الهمة على القبيلة، وتنقضُّ على أبيها وتأخذه أسيرًا ذليلًا إلى بني طيء، ويرى بنو طيء قتله في يومٍ مشهود، لكن «سعدى» تتعرف على الأب، وتُطلِع ذات الهمة على السر الذي كتمته عنها، وتُنقذ ذات الهمة أباها من الموت، وتعود به إلى قبيلته، حيث تعيش بينهم في الصدارة، فهي منتصرة وهي قوية وهي مقاتلة شجاعة. ويُثري أبوها بفضلها ثراءً عظيمًا، ويحقق انتصارات هائلة مما يُهدِّد نفوذ أخيه الظالم وابنه الذكر الذي أثبتت ابنة أخيه «الأنثى» أنها أقوى منه وأشجع منه.
ومن أجل احتواء ذات الهمة رأى عمها ظالم أن يُزوِّجها لابنه؛ لأنه كان يرى أنها «إذا صارت لولده انكسرت حرمتها وقلَّ نشاطها وذهبت قوتها.» وتدلُّ هذه العبارة عن حقيقة الزواج الذي يسلب المرأة قوتها ونشاطها ويَكسر شوكتها.
غير أنَّ ذات الهمة تكشف الحيلة بذكائها، وتَرفض الزواج من ابن عمها وتقول: «لستُ أريد لنفسي بعلًا إلا سيفي هذا.» ومعنى ذلك أن ذات الهمة فضَّلت أن تتزوَّج السيف على أن تتزوج رجلًا؛ فالسيف يُعطيها قوة وكرامة، ويضعها بشجاعتها وقدرتها فوق الرجال، أمَّا الزواج برجل فإنه يُحوِّلها إلى أنثى محكومة وخاضعة لرجل.
ومن شدة ثقة ذات الهمة بقدرتها القتالية وفروسيتها، فقد أدركت أن رجلًا لا يستطيع أن يهزمها؛ ومن ثُمَّ أطلقت شعارها: «لن أتزوَّج إلا من يقهرني في الميدان.» ويتقدَّم ابن عمها مغرورًا بشجاعته، لكن ذات الهمة تَهزمه هزيمة منكرة أمام القبيلة كلها، فيشعر بالإهانة والغيظ، ويتوسل إلى الخليفة كي يُزوجه منها.
ويتدخل الخليفة في الأمر، وتتزوج ذات الهمة من ابن عمها، لكنها لا تسمح له بالاتصال بها جسديًّا، فيدسُّ لها نوعًا من المخدر في الشراب، وحين تفقد وعيها يتصل بها، فإذا أفاقت هدَّدته بالانتقام منه، لكنها حملت منه ابنها عبد الوهاب.
وتَشتغل الحرب بين العرب والروم، وتعجز قوات المنصور الخليفة العباسي عن الصمود أمام هجمات الروم، فيستعين الخليفة ببني كلاب الذين منهم ذات الهمة، وينتصر المسلمون على الروم بفضل مهارة ذات الهمة في الحروب، ورجاحة عقلها وقوة سيفها، وكانت إذا غابت ذات الهمة لحقت الهزيمة بالمسلمين، وإذا حضرت أحرزت النصر، حتى أصبح مصير الدولة كلها مرتبط بوجودها، وغدت في نظر العرب والروم معًا نصف الإسلام.
وكان جيش الروم أيضًا بقيادة امرأة هي «ملطية» بنت ملك الروم، التي هزمت أبطال المسلمين في غياب ذات الهمة، وتمكَّنت من الاستيلاء على الحصون الإسلامية، لكن ذات الهمة انتصرت عليها وحرَقت حصنها واستولت على مدينة ملطية التي كانت قد سمَّتها باسمها.
وتعكس هذه الملحمة قوة المرأة، سواء عند العرب أو عند الروم؛ بحيث إن أعظم الجيوش كانت تحت قيادة النساء وليس الرجال. ويَستعرض القاص الشعبي في وصفه شخصيات نسائية متعددة تثبت قوتها وإيجابيتها في المجتمع والحياة السياسية العامة، وتتعدَّد النماذج البطولية النسائية وتذخر بها الملحمة من مثيلات «ميرونة» بنت البطرق، و«زنانير» بنت الملك بولس، و«القناصة» بنت مزاحم، والملكة «ميمونة»، وهن نساء في مثل بطولة وشجاعة ذات الهمة نفسها، بل بعضهنَّ تفوَّق أحيانًا عليها في الميدان.
وكل هذه النماذج من النساء تعكس قدرات المرأة في ذلك الوقت، وإمكانياتها غير المحدودة، وتتكرَّر هذه النماذج في معظم الملاحم الشعبية، وليس فقط في ملحمة الأميرة ذات الهمة، مما يدل على أن بطولة المرأة ومشاركتها في الحياة العامة كانت هي القاعدة وليست الاستثناء.
ويَربط القاص الشعبي بين بطولة المرأة وبين الدفاع عن الإسلام، ويجعل المرأة هي الحامية للإسلام، وهي المدافعة عنه؛ فهي امرأة «تغير على دين الإسلام وتحامي على المسلمين.» ويحاول القاص أن يثبت أخلاقيات الدين، ومن أهمِّها عفة المرأة ودفاعها عن شرفها إلى حدِّ أنها تقبل الموت ولا تُفرِّط في عرضها، وهي في معظم الأحيان زاهدة في الجنس، تزوَّجت السيف بدلًا من الرجل، أو تزوجت الإسلام ووهبت حياتها دفاعًا عن الدين، أو وهبت ابنها أو أغلى شيء لديها من أجل الدين. وبرغم أن الملاحم الشعبية تعكس قدرة المرأة القتالية ومشاركتها في الحرب والسياسة، إلا أنها تُصور عفة المرأة دائمًا، كالمرأة مستقلة تعيش وحدها بغير زوج، فهي زاهدة عابدة مقاتلة، أمَّا شخصية المرأة الزوجة أو الحبيبة فهي شخصية امرأة تعيش من خلال زوجها أو من خلال ابنها، إذا كان زوجها بطلًا فهي تخدمه وتُساعده على النجاح، وهي تُخلِص له وتتفانى في هذا الإخلاص إلى حد الموت؛ ومثال ذلك ملحمة عنترة بن شداد وامرأته «عبلة» التي ظلَّت وراءه صامدة أمام كل المغريات حتى أثبَت وجوده وتغلَّب على جميع العقبات، وأصبح فارس الفرسان؛ وفي ملحمة حمزة العرب كانت وراء بطولة حمزة امرأته «مهردكار» أي شمس النهار بنت كسرى أنو شروان.
وتختلف السير الشعبية عن ألف ليلة وليلة في أنها لم تجعل المرأة المقاتلة الشجاعة جنية أو ساحرة أو شيطانية، وإنما جعلَتها امرأة حقيقية طبيعية فيما عدا أنها تزهد الجنس والزواج في معظم الأحيان.
وقد تأثَّر الأدب العربي الحديث بالطبع بكل ما سبقه من أدب، إلا أن صورة المرأة كزوجة وحبيبة طغت على صورتها كفارسة مقاتلة في الحرب ومشاركة في السياسة؛ فقد زادت سلبية المرأة بازدياد المدنية الحديثة، وازدياد رسوخ النظام الأبوي ورسوخ النظام الطبقي، وازدياد الفروق الموضوعية بين طبقة وطبقة وبين جنس وجنس وبين لون ولون.
وكما رُسمت المرأة القوية الإيجابية في ألف ليلة وليلة على أنها «جنية» أو ساحرة أو شيطانة، فقد صوَّر الأدب الحديث أيضًا المرأة الإيجابية القوية على أنها جنية أو عفريتة، إلا أن المرأة في الأدب العربي الحديث لم تأخذ صورة الجنية شكلًا ومعنًى، كما حدث في ألف ليلة وليلة، وإنما أخذت المعنى فحسب، واحتفظ جسدها بالشكل الآدمي كغيرها من البشر، ولكن مكرها ظل ينتمي إلى أهل الجانِّ أكثر مما ينتمي إلى البشر.
وقد عبر عن ذلك زكي مبارك حين وصف المرأة بأنها أعظم قدرة من الشياطين والأبالسة على الفتك بالرجل، وعبَّر عن المعنى نفسه العقاد لكنه أرجع قدرتها على الفتك والكيد والإغراء إلى طبيعتها الضعيفة؛ إنَّ حواء في نظره لم تأكل من الشجرة المحرَّمة أو تدفع آدم بالأكل منها، إلا لأن المرأة بطبيعتها تتعلق دائمًا بالشيء الممنوع، وتُسوِّل لها نفسها الضعيفة الغواية والإغراء؛ أي إن هذه الشجرة «هي عنوان ما في المرأة من خضوع» يؤدي إلى لذة العصيان، ومن دلالٍ يؤدي إلى لذة الممانعة، ومن سوء ظن وعناد وضعف، واستطلاع جهل، ومن عجز عن المغالبة، وعجز عن الغلبة، بغير وسيلة التشهية والتعرض والإغراء.
وقد اشتهر توفيق الحكيم أيضًا بلقب «عدوة المرأة»، وله في هذا المجال أفكارٌ تكاد تُشبه أفكار العقاد مع شيء من الاختلاف، وفي قصته «الرباط المقدس» يصور الحكيم امرأةً مُتمرِّدة، وتمرُّدها في رأيه ليس من أجل طموحها الفكري في الحياة والمجتمع، وإنما هو تمرد من أجل ملء الفراغ العاطفي في حياتها، وينادي توفيق الحكيم (وهو المفكر في القصة) بأن المرأة لم يعد عندها وازع ديني بما يَكفي، وأنه على المُفكِّر أن يتولى إيقاظ الضمير الديني عندها. ويُصوِّر الحكيم المرأة كما صورها العقاد مخلوقًا لا يُخلِص إلا لغريزته ونوازع الجسد، وتكاد المرأة عنده تتصرف كسارةِ العقاد بغير قيَم دينية أو فكرية أو اجتماعية.
ولا يمكن للقارئ إلا أن يَشعر أن العقاد والحكيم ينطويان على خوفٍ شعوري أو غير شعوري من ذلك المخلوق الأنثوي الغريزي والقوي في غريزته الجنسية، والذي لا يأبه بدين أو خلق أو مجتمع، والمرأة عند الحكيم تَعتبر اللهو والعبث حقها المشروع؛ فهي تتحدث عن ذلك «بلهجة الواثق المُتحدِّي بأن هذا حقها المشروع.»