حواء الأنثى البغي، ومريم الأم الطاهرة
وقد كان الفصل بين الحب والزواج أحد نتائج الفكرة القديمة التي تمجِّد الحب العذري أو الروحي، أمَّا الزواج الذي يتضمَّن الجنس فهو نوع من الإثم، وقد أدى كل ذلك إلى أن تُصبح النساء نوعين؛ الأنثى، أو ذات الجاذبية أو الشهوة الجنسية؛ والأم الطاهرة العذراء، الخالية من أي جنس أو شهوة.
ويزخر الأدب العربي بنماذج مُتعدِّدة لهذين النوعين النقيضَين من النساء، وترمز الأم إلى الحب العظيم السامي، وترمز الأنثى إلى الحب الأدنى المدنس.
ويَظهر تقديس الرجل العربي لحب أمه في الثقافة والأغاني والشعر، وفي روايات الأدباء، ومنهم: «المازني» الذي قال لأمه: «أنت سيدتي، إنني أُحبك، وأُجلُّك، وإني مدين لك بكلِّ ما جعلني أنا.»
ويُسقط المازني حبه الطاهر لأمه على المرأة الحبيبة، فيقول: «إن الإنسان لا يمكن أن «يسعد في الحياة إلا في ظل امرأة حبيبة»، مشرقة كالصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مُرهبة كجيش بألوية.»
وقد وقَع المازني هنا في تناقضات عدة؛ إذ خلع على الحبيبة أوصافًا متناقضة بعيدة عن الحقيقة والعقل، فهي مُشرقة جذابة لكنها طاهرة، وهي طاهرة (بكل ما في الطهر من معاني الرقَّة والعذرية والوداعة والسلبية والضعف)، لكنها مُرهِبة كجيش، بكل ما في الجيوش من قوة وخطر محدق.
وهذا في رأيي تعبير عن نفسية رجل ربط الطهر بالجمال بالإرهاب، وهي تُشبه نفسية الطفل الذي يخاف أمه ويرهبها، ويشتهيها، ولكنها في نظره طاهرة محترمة، وهو يحبها، وحبه لها أقوى حب في حياته.
وبسبب ذلك تبدو المرأة الأنثى في نظر المازني غريبة غير مفهومة، والنساء (غير أمه) محيِّرات مُستعصيات على الفهم: «هؤلاء النساء أمرهنَّ عجيب، والذي يستطيع أن يعرفهن على حقيقتهنَّ لم يُخلق بعد.»
ويتخبَّط المازني في وصفه للمرأة، تارةً يراها مجرد أداة للولادة وحفظ النوع، وجمالها وجاذبيتها نوع من الكفر بالله، «هي أداة لحفظ النوع، وجمالها شرك.» وتارة أخرى يقول عنها: «لا تفهم الدنيا باعتبارها كلًّا، ولا تقدر أن تفني في الجماعة.» لكنه يناقض نفسه ويعترف أن المرأة هي كل شيء في الحياة، بل: «وهي الحياة مختزَلة.»
ويتغزَّل المازني في الفتاة العربية التي تحب الرجل بحريتها واختيارها، ويذمُّ الفتاة المصرية التي لا تستطيع أن تحب بحريتها واختيارها؛ ولذلك فإن الزواج في مصر في رأيه: «ليس فيه ما يخدم الآداب أو الفنون أو يُساعد على التقدم.»
إلا أن إعجابه بهذا النموذج من المرأة المُتحرِّرة، يكشف عن أنه إعجابٌ غير حقيقي؛ لأنه سرعان ما يزدري «ليلى» المُتحرِّرة لأنها دفعت «شرفها» وعفافها ثمنًا لتحرُّرها، ويُصرِّح بأن التحرر دنَّسها. ويعبر المازني عن أزمة الرجل العربي المتعلم، الذي تجسَّد في بطل روايته، والذي أراد أن يُحطم سجن التقاليد ليفوز بالفتاة التي أحبها، لكنه في الوقت نفسه يرفض الفتاة المُتحرِّرة من هذه التقاليد ذاتها التي أراد تحطيمها.
ويقف أبطال المازني حائرين سلبيين أمام النماذج المختلفة؛ فالمرأة الأنثى المتحررة مرفوضة، وتَصدم عقلية الرجل العربي المحافظ على مفهوم شرف الفتاة وعذريتها. والمرأة العاملة المكافحة خشنة فقيرة لا تُرضيه؛ لأنه تعود على نساء منعَّمات عاطلات في البيت. أمَّا الفتاة الطاهرة التي تُرضيه فهي فتاة تقليدية بالطبع، وتحول بينها وبينه التقاليد.
وأقصى ما تتمناه البطلات في أدب المازني على اختلاف أنواعهن، هو أن تُحقِّق وجودها بالزواج. إن عالم المرأة عنده ليس إلا الرجال، وأحلام العثور على الزواج، وبعد الزواج لا تنشغل المرأة إلا بفنون الاحتفاظ بالزوج، وتُدرِّبها أمها على هذه الفنون قائلةً: «ينبغي أن تكوني له كل يوم امرأة جديدة، تَتصدى له وتُغريه وتَفتِنه.»
وتتدرَّب المرأة على فتنة الرجل على يد أمها أو خالتها، كما تدرَّبت نساء ألف ليلة وليلة على الكيد والفتنة والسحر على أيادي «شواهي» و«تودُّد» و«دواهي»، وغيرهن من الساحرات الكائدات.
أمَّا الزوج الذي يتزوج امرأة عاملة قوية الشخصية، واثقة من نفسها، فهو يُصوَّر على أنه رجل ضعيف الشخصية، يَرضخ لإرادة زوجته، ويُعارض أمه التي كانت تُحرِّضه ضد خروج زوجته إلى العمل، ويقول نجيب محفوظ عن مثل هذا الزوج إنه زوج فاشل؛ لأنه ينشأ في حياة تعوَّد فيها أن تكون المرأة هي صاحبة الإرادة ومالكة الزمان، وأنه كان عليه أن يأخذ زمام المبادرة والسيطرة حين أصبح زوجًا، ولكنه لم يفعل ذلك، وبذلك فشل كزوج: «ولم يخطَّ في سِفْر الزواج الضخم حرفًا واحدًا.»
ويُصوِّر نجيب محفوظ المرأة «رباب» على أنها لا تحب مثل هذا الزوج، ولكنها تَعشق رجلًا آخر، وتخون رباب زوجها مع عشيقها، ولا يَغفر لها الكاتب ذلك، فيجعلها تموت أثناء عملية الإجهاض.
وتُمثِّل المرأة الأنثى للرجل خطرًا وخوفًا قديمًا مرتبطًا بالجنس؛ ولذلك هو يريدها طاهرة كاملة أو غير أنثى، ويريدها كالملاك الضعيف المستكين، لكنه في الوقت نفسه يشتهي الأنثى، ويشتهي فتنتها وسحرها، لكنه يَفرُغ من هذه الفتنة التي يقع أمامها صريعًا فاقد القوى.
ويُعبِّر توفيق الحكيم عن ذلك التنافس الذي يعيشه الرجل، حين كتب في «عودة الروح» يصف بطلته «سنية»، ويقول: «وكانت المرأة في سحرها الجسمي والمعنوي، وإن هي أحيانًا خفضت أهدابها الطويلة الجميلة وهي تُكلِّم «محسن»، وضحكت ضحكات نسائية رقيقة غاية في الأنوثة، ومنعت عينيها من إطلاق النظر إلا في أدبٍ وخفَرٍ وتحفُّظٍ، فما كان ذلك كله عن طبيعة فيها، بل هو حياء مصطنع، لعله أرقُّ سحر تمتاز به المصرية، والحقيقة أن المصرية أمهر امرأة تُدرك بالغريزة ما في النظرة الواحدة من وقع وتأثير؛ لذا هي لا تنظر إلى مُحدِّثها كثيرًا، ولا تبخس نظراتها، ولا تُقلِّبها جزافًا كما تفعل الغربية الجريئة النزقة، بل إنها تحتفظ بنظراتها بين أهدابها المرخاة، كما يُحفظ السيف في الغمد، إلى أن تحين الساعة المطلوبة، فترفع رأسها وترشق نظرة واحدة تكون هي كل شيء.»
ويكاد يُشبه هذا الوصف نساء ألف ليلة وليلة، وخبرتهنَّ وتمرُّسهن على وسائل السحر والفتنة، وكيفية إيقاع الرجل في الشَّرَك. وبرغم اشتهاء الرجل العربي لمثل هذه الأنوثة الساحرة سحر الشياطين، إلا أنه لا يَشتهيها إلا للمتعة فحسب، أو العشق. أما المرأة التي يريدها أن تكون زوجة له وأمًّا لأولاده، فهو يَختارها طاهرة كاملة، وهو يُريدها شريفة عفيفة، وليست أنثى أو جريئة كتلك المرأة الغربية المُتحرِّرة.
ويُظهر معظم الكُتَّاب العرب المعاصرين كراهيتهم للمرأة الجريئة المُتحرِّرة، ويَتقزَّز بطل «عبد الحميد جودة السحار» حين يرى «كوثر» حبيبته ﺑ «المايوه» أو لباس البحر: «فثار دمه في عروقه، وشعر بتقزُّز وضيق، فبدت لعينيه بغيضة تافهة.»
وكان من الطبيعي أن يشعر البطل بانجذابٍ أشد نحو المرأة التي يحبها، خاصة وأنها كانت جميلة الجسم، ولا بد أن هذا التقزُّز الذي اعتراه، لم يكن لقبحها، وإنما هو شعور «دفاعي» يلجأ إليه الرجل المحافظ على التقاليد، وهو بدلًا من أن يعترف أنه غير طبيعي، يتهمها بأنها بغيضة وغير طبيعية.
ويظهر مثل هذا الرجل المحافظ في معظم القصص والروايات، ونراه شديد النفور من تلك المرأة المتعلمة التي تخالط الرجال وتُراقصهم، وهو أيضًا شديد النفور من المرأة المحجَّبة، ومن المرأة الفقيرة أيضًا التي كثيرًا ما «تسقط» بسبب فقرها. أمَّا الفتاة المتعلمة المُتحرِّرة، فهي تزداد سقوطًا وانحطاطًا بسبب تحرُّرها، ويصبح الرجل حائرًا منهارًا: «فانهار، وراح يضرب في الطير وهو حيران، يحسُّ في أعماقه إحساس من يعيش غريبًا في الحياة.»
وتزداد حيرة الرجل العربي الحديث إزاء تزايد خروج المرأة العربية للعمل والمشاركة في المجتمع، وخاصة بعد غزو الأفكار الاشتراكية للشرق العربي؛ ويَنعكس ذلك في الأدب. وبرغم تأييد الرجل لخروج المرأة للعمل، إلا أن الهدف الوحيد من عملها هو مساعدة الرجل في نفقات الأسرة، ويظلُّ عملها خارج البيت في نظره شيئًا ثانويًّا، ومهمَّتها الأساسية والأولى في الحياة هي أعمال البيت وخدمة الزوج ورعاية الأطفال. وعلى هذا فقد ظلَّت المرأة المثالية في الواقع وفي الروايات، هي تلك الجميلة الوادعة المطيعة، غير الجريئة أو الطَّموحة، بعبارة أخرى: المرأة الطاهرة القدِّيسة، أمَّا المرأة الجريئة أو الطموحة أو المتفتِّحة العينين ذات الجسارة والقوة، فهي غالبًا ما ترمز إلى الدمامة أو الفُجر أو عدم الاحتشام؛ بعبارة أخرى المرأة العاهرة أو البغي.
ويظهر هذا التقسيم بين هذين النوعين من النساء واضحًا في أعمال «نجيب محفوظ»، ومنها «ثلاثيته» المعروفة؛ حيث كانت هناك المرأة القديسة الطاهرة «أمينة» وتقابلها العاهرة «هنية أم ياسين»، و«عائشة» الجميلة ذات الحياء والخفر وتقابلها «خديجة» ذات الجرأة والوقاحة والدمامة، وهناك الحب العذري الذي تسودُه القداسة والطهارة، ويُقابله الجنس واللذة المحرمة الآثمة في حياة العاهرات الداعرات البغايا.
وهذا هو التقسيم نفسه الذي أحدثه النظام الأبوي بين النساء؛ فالمرأة إمَّا أن تكون الأم الطاهرة المقدسة، أو الزوجة العفيفة المُخلِصة الباردة المحترمة، وإمَّا أن تكون المومس أو العشيقة الحارة والجذابة والمُحتقَرة. والحب إمَّا أن يكون طاهرًا مقدَّسًا وإمَّا أن يكون جنسيًّا مُنحطًّا.
وقد حاوَل نجيب محفوظ أن يستخدم الاعتداء الجنسي على المرأة كرمزٍ للاعتداء على شعبٍ بأسره؛ ففي الليلة التي اعتدى فيها «ياسين» على نور جارية زوجته، واعتدى أبوه على أم مريم جارتهم، إذ بالإنجليز يدخلون الحي. وبرغم هذا الرمز، إلا أنه على مستوى حياة الأفراد، فإن شرف المرأة عند نجيب محفوظ ظلَّ مُختلفًا عن شرف الرجل، وظلَّ هذا الشرف في رواياته يتعلَّق بسلوك المرأة الجنسي، أكثر مما يَتعلَّق بأي شيءٍ آخر.
وتلعَب الأنثى البغي في الأدب العربي دورًا أكبر مما تلعبه المرأة الطاهرة العفيفة، وكأنما الطُّهر والعفة من الأمور غير الجذابة، سواء في الواقع أو في الخيال، أو كأنما البغي هي الرمز للمرأة الحقيقية، وقد نزعت عن وجهها النقاب: «إن البغي هي المرأة الحقيقية وقد جلَت عن وجهها قناع الرياء، فلم تعد تشعر بضرورة ادعاء الحب والوفاء والطُّهر.»
وكم من نماذج للبغي أو المومس في أدبنا المعاصر، وبالذات أدب نجيب محفوظ الذي كثيرًا ما حاول أن يُغلِّف صورة المرأة المومس بإطار إنساني فيه كثير من الرحمة بها، والتفهُّم لظروفها كضحية للمجتمع، لكنه يظل دائمًا تافهًا ناقصًا، يَعترف بمأساة المرأة الاجتماعية، لكنه لا يصل إلى أعماق هذه المأساة، ولا يَكشف عن أسبابها الحقيقية. أمَّا مأساة المرأة الأخلاقية والجنسية فهذا هو المجال الذي لم يَطرقه الأدباء العرب القدامى أو المعاصرون.