الرواد من النساء والرجال العرب
رغم تميُّز الشرق العربي بحضاراته القديمة العريقة في مصر والعراق وفلسطين، تلك الحضارات والثقافات، وعلى الأخصِّ الحضارة المصرية القديمة التي انتقلت إلى الغرب وأخَذ منها الغربيون أُسُسًا متعدِّدة لعلومهم وفنونهم، ورغم الحضارة العربية الإسلامية التي امتدَّت شرقًا وغربًا وكانت من الأعمدة التي ارتكزت عليها حضارة الغرب الحديثة، رغم كل هذا، فقد أصبح الشرق العربي اليوم من البلاد التي يُسمونها «بالبلاد المتخلفة»، ومن ذلك الجزء من العالم الذي يُسمَّى ﺑ «العالم الثالث».
وقد استطاع المُستعمِرون الذين توالوا على مصر والبلاد العربية، أن يَسلبوا العالم العربي ثرواته المادية والثقافية معًا، وأن يَطمسوا كثيرًا من حقائق التاريخ، وأن يُزيِّفوا البعض منها، وأن يُنكروا الدور الذي لعبه بعض المفكرين العرب في وضع أسس بعض العلوم والفنون الحديثة من أمثال ابن سينا وابن خلدون.
وقد استنزف الاحتلال الأجنبي والاستعمار العسكري والاقتصادي والثقافي، دماء الشعوب العربية، سواء في مصر أو السودان أو الجزائر أو تونس أو ليبيا أو الأردن أو سوريا أو لبنان أو فلسطين أو العراق أو السعودية أو الكويت أو قطر أو البحرين أو المغرب أو الصومال.
ولا تزال البلاد العربية حتى اليوم من المناطق الثرية في العالم التي يَتصارع على أرضها الاستعمار الجديد بشتى أشكاله ووسائله، ولا تزال أهم ثروات المنطقة العربية مسلوبة بواسطة الأنظمة الاستعمارية والاحتكارية الجديدة، ولا تزال الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية تعاني الفقر والأمية والمرض، على حين يَستَمتع بثروات العرب المتعاونون مع الاستعمار والرأسمالية العالمية.
ويدلُّنا التاريخ أن الشعوب العربية برجالها ونسائها في أي بلد عربي، لم تَستسلم أبدًا لتلك القوى التي تسلُبها حقها في الحياة الكريمة، وكم مِن شعب عربي ثار وأطاح بحكومته الرجعية! وكم من بلدٍ عربي طرد المستعمرين سواء كانوا من الفرس أو الترك أو الفرنسيين أو الإنجليز أو الأميركان أو غيرهم!
وقد كانت مصر ولا تزال قلب العالم العربي ومنارته الفكرية، بحكم موقعها وعددها وتاريخها الطويل في النضال ضد المستعمرين الأجانب.
وقد عاشت مصر مع العالم العربي عهود ظلام حتى نهاية القرن التاسع عشر، تَقهقر فيها حال الشعب رجالًا ونساءً، واستطاعت الحكومات المستبدة مع الاستعمار الأجنبي، أن تفرض على الرجال والنساء قيودًا اقتصاديةً واجتماعيةً وأخلاقيةً.
أمَّا النساء فقد كان نصيبهنَّ من هذا القيود أشد وأعظم؛ بحكم الأنظمة الأبوية الطبقية السائدة.
وقد بدأت اليقَظة الفكرية العربية في نهاية القرن التاسع عشر على يد جمال الدين الأفغاني وتلاميذه، وأحمد فارس الشدياق أحد المُفكِّرين العرب، الذي أصدر سنة ١٨٥٥ كتابه «الساق على الساق»، ويُعتبر من أوائل الكتب العربية التي نادت بتحرير المرأة العربية. وظهر الرائد الفكري رفاعة رافع الطهطاوي الذي نادى بتعليم المرأة وتحريرها من الظلم، وأصدر كتابه: «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» سنة ١٨٧٢، ثُمَّ كتابه: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» سنة ١٩٠٥.
وكان لهؤلاء الرواد دور في حث الجماهير العربية على مقاومة الاستعمار، وتكسير القيود من أجل الحرية والاستقلال، وقد دلَّهم فكرهم الوطني المستنير إلى أن قضية المرأة إحدى القضايا الأساسية في الحرب ضد التخلف وضد الاستعمار الأجنبي.
ومن هؤلاء الرواد أيضًا عبد الله النديم والشيخ محمد عبده، وقد كتب الشيخ محمد عبده يَنقد وضع المرأة الأدنى، ويُهاجم تعدد الزوجات والطلاق كحقٍّ مُطلَق للرجل، وطالب بالقضاء على نظام الجواري والمحظيات، ونادى بمساواة بالرجل وتطبيق جوهر الإسلام.
وتعرَّض الشيخ محمد عبده لكثيرٍ من الهجوم من رجال الدين الإسلامي في ذلك الوقت، لكنه لم يَتردَّد في الاستمرار في دعوته، وأعلن أن من أخطر أسباب الضعف التي أصابت المسلمين هو تخلف المرأة؛ لأن «النساء قد ضُرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهنَّ دينهن أو دنياهن بستار لا يدري متى يُرفَع»، يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تُشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية، وترك البنات يفترسهنَّ الجهل وتستهويهن الغباوة من الجرم العظيم.
ومن أهم الكتب العربية التي تناولت قضية المرأة كتاب «تحرير المرأة» سنة ١٩٠٠ لقاسم أمين، ثُمَّ كتابه الثاني: «المرأة الجديدة» سنة ١٩١١، وبالرغم من أن دعوة قاسم أمين كانت من أجل تعليم المرأة لحماية الأسرة وتربية الأطفال، وبالرغم من أنه استند في دعوته إلى مبادئ الدين الإسلامي ولم يَخرج عليها، إلا أنه هوجم بشدة من رجال الأزهر والذين كانوا أحد الأعمدة التي يَرتكِز عليها حكم الخديوي المُستغِلِّ والمستبد بالشعب المصري بالتعاون مع الاستعمار الإنجليزي. وقد تعرَّض قاسم أمين لغضب الخديوي أيضًا، وهاجمه رجال الساسة المحافظون وعلى رأسهم «مصطفى كامل» الذي كتَب في جريدة اللواء ١٩٠١ يهاجم الدعوة إلى تحرير المرأة، وكانت جريدة اللواء هي لسان حال الرجال المتزمِّتين الرجعيين، وأصدر عبد الحميد خيري كتابه ضد تحرير المرأة: «الدفع المتين في الرد على قاسم أمين»، وأصدر محمد أحمد البولاقي كتابه: «الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس». وقد استطاع أحمد لطفي السيد وزملاؤه أن يُعبِّروا عن الفكر المتقدم في صحيفتهم «الجريدة»، وقد ناصر الدعوة إلى تحرير المرأة في هذه الفترة: سعد زغلول، لطفي السيد، ولي الدين يكن، محمد حسين هيكل، طه حسين، سلامة موسى، مصطفى فهمي، فرح أنطون، أحمد حسن الزيات، مصطفى المنفلوطي، ووقفت مجلة «المنار» لرشيد علي رضا، و«المقتطف» و«الهلال» في صف تحرير المرأة.
وقد شاركت المرأة العربية بقلمها منذ بداية هذه المعركة لتحرير المرأة، ومن هؤلاء النساء عائشة التيمورية التي جمَع قلمها بين الأدب العربي والتركي والفارسي في الشعر والنثر، ثُمَّ جاءت بعدها زينب فواز التي نبغت في الشعر والبيان. أمَّا ملك حفني ناصف التي اشتهرت باسم «باحثة البادية» (١٨٨٦–١٩١٨)، فقد شاركت بقلمها القوي في الكتابة من أجل تحرير المرأة، وكانت معاصرة لقاسم أمين، لكن آراءها اعتُبرت تكملة لدور رفاعة الطهطاوي ودعوته التي سمَّتها إصلاحًا اعتبرها قاسم أمين تحريرًا. وقد نبغَت ملك حفني ناصف في التأليف إلى حد أن لطفي السيد قال: إنَّ كتابتها صورة الكاتبات العربيات اللائي تفوقن على كثير من الكتاب الرجال. وقد كافحت ملك حفني ناصف من أجل تعليم البنات.
ومن الكاتبات الرائدات أيضًا: مي زيادة، المرأة العربية التي استطاعت رغم تخلُّف نظرة المجتمع للمرأة أن تنشئ صالونها الأدبي في القاهرة: ١٩١٥-١٩١٦، وكان يحضر ندوتها الأدبية كل ثلاثاء طائفة من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب، وكانت في العشرين من عمرها، ومع ذلك استطاعت بفكرها الناضج الذكي أن تجمع حولها شيوخ الأدب والفكر في مصر.
وكانت مي زيادة تعيش في مصر، لكن أمها كانت من فلسطين وأباها من لبنان، واستطاعت رغم ذلك أن تفرض شخصيتها على المجتمع الأدبي في مصر، وأن تُخالط الرجال وتحادثهم وتراسلهم في وقت ضُرب فيه الحجاب على مثيلاتها من النساء العربيات.
وقد انتهت حياة مي زيادة بمأساة القسوة والوحدة، والمشاكل التي تتعرَّض لها المرأة الذكية الفنانة في مجتمع رجولي، ولا يَعرف عن المرأة شيئًا سوى أن تكون رحمًا يلد الأطفال أو مهبلًا لإمتاع الرجل جنسيًّا.
وقد تعرَّضت مي زيادة لأزمة عاطفية حين أحبت أحد الكتاب المصريين (عباس العقاد)، وقد فشلت قصة حبهما لنظرته المتخلقة للمرأة، وعاشت مي زيادة في وحدة قاتلة، رغم مطاردة الرجال لها، لكنها لم تكن تجد الرجل الذي يستطيع أن يفهمها ويعاملها كإنسانة لها عقل قبل أن يكون لها مهبل أو رحم.
ولم يفهم أحد مأساتها وحزنها، وسبب وحدتها، واتهمها أهلها بالجنون، وأدخلوها مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في لبنان، التفتَت حولها حينما دخلت قائلةً: «أوَ لم يجدوا سجنًا لي أكرم من هذا السجن.» وأخذت تتوسل إلى المسئولين بالمستشفى لإخراجها، وأضربت عن الطعام مرةً بعد مرة، واستمرت على هذه الحال عدة شهور بالمستشفى، إلى أن كتب مارتان الطبيب الفرنسي تقريرًا ينفي إصابتها بأي مرض من الأمراض، ومع ذلك لم تخرج المستشفى بحجة أن صحتها لا تقوى.
وانتهت حياة مي زيادة وهي في ريعان شبابها في إحدى الشقق بالقاهرة، ماتت وحيدةً تمامًا بغير أحد إلى جوارها، ماتت بعد أن تركت وراءها كتاباتها وشعرها ولوحاتها ومحاضراتها التي ألقَتْها في بيروت ومصر عن الأدب والفن واستقلال المرأة.
وتُعتبر مي زيادة واحدة من النابغات في الأدب العربي، إلا أنها لم تَجنِ من نبوغها الفكري إلا الوحدة والاتهام بالجنون، ثُمَّ الموت المبكر.
ولم يكن مصير مي زيادة المؤلم يختلف عن مصير أي امرأة رائدة حاوَلت أن تغير نظرة المجتمع الرجولي المُتخلِّف للمرأة، ولم يختلف مصيرها كثيرًا عن النساء الذكيات (الساحرات الحكيمات) اللائي اتهمن في العصور الوسطى بالجنون أو الفسق أو السحر، بل لم يختلف مصيرها كثيرًا عن مصير كثير من النساء الذكيات في عصرنا الحديث، اللائي لا يَجنين من وراء ذكائهن إلا الوحدة القاتلة أو الاتهام بالهستيريا أو الشذوذ.