العمل والمرأة في المجتمع العربي
باستثناء الفلاحات والعاملات الكادحات، والخادمات والجواري، فقد فرَض المجتمع على النساء الانحباس داخل البيت من أجل خدمة الزوج والأطفال والأسرة بغير أجر، اللهم إلا الكساء والطعام والمسكن، ولم تكن المرأة من هؤلاء تخرج من بيتها إلا للضرورة القصوى، كالمرض الخطير مثلًا، وهي تخرج في هذه الحالة محجَّبة، ومعها رجل من الأسرة، وفي بعض الأحيان كانت تموت المرأة دون أن يُصرِّح زوجها بأن يفحصها طبيب رجل.
وقد أدَّى الفصل بين الجنسين إلى ضرورة خلق مِهَن نسائية تكون مهمتها رعاية النساء المحجَّبات من الأسرة العالية والمتوسطة، ومن أول هذه المِهَن هي مهنة التمريض، التي لم تُقبل عليها إلا البنات الفقيرات؛ حيث إن عمل المرأة خارج البيت كان عارًا على الأسرة التي تستطيع أن توفر الطعام لنسائها.
وكان الحكام العرب يُنشئون مدارس التوليد والتمريض من أجل خدمة نساء الطبقات العالية. وقد لاحظ «محمد علي» الذي كان حاكمًا على مصر في ذلك الوقت أن الأسر المصرية العالية تحتاج إلى النساء يَعملن كمُولِّدات وحكيمات، واشترى محمد علي لهذا الغرض بعض الجواري السودانيات، وعَهِد إلى «كلوت بك» مهمة تعليمهنَّ مبادئ الطب والجراحة مع «الأغوات» وهم الخصي الرجال. وأول طلاب عرفتهم مدرسة الولادة الملحقة بمدرسة الطب البشري بأبي زعبل، وفي هذا الزمن كان ظهور المرأة في الطريق يُعتبر عملًا فاضحًا، وكانت مدرسة التوليد تُعلِّم البنات شيئًا يتصل بالتكوين الجسدي «التشريح»، وقد أظهر الرجال المصريون استياءهم من أن تتعلم بناتهم مثل هذا العلم المنافي للأخلاق.
وفي سنة ١٨٤٣ أُنشئت أول مدرسة للمولِّدات في مصر، ثُمَّ أُنشئت أول مدرسة ابتدائية للبنات (السيوفية) ١٨٧٣، وكانت تلميذاتها في البداية من الجواري البيض، المُشتغلات في قصور الأسر الحاكمة، ولم تظهر في مصر من المدارس الخاصة بالبنات قبل هذا العام، إلا من يتولى تعليم بنات الطبقة الفقيرة واليتيمات، من أجل توفير بعض احتياجات الأسر الراقية، وبعض احتياجات الجيش، كالخياطات اللائي يَحِكْن ملابس الجنود.
وقد فرضت الدولة أول الأمر على المُمرِّضات والمدرسات ألا يتزوَّجْن حتى يتفرَّغن للعمل كاملًا، وكانت تأخذ على الواحدة منهنَّ تعهُّدًا كتابيًّا بأنها لن تَتزوَّج، وكانت هؤلاء الفتيات لحاجتهنَّ الشديدة إلى الرِّزق يوافقن على هذا الشرط. وقد استغلت الدولة حاجتهن للعمل، ففرَضت عليهن هذا الشرط، وخلقَت منهنَّ طبقة من العوانس الوحيدات التعيسات، المريضات نفسيًّا؛ حيث إن ممارسة الجنس من أجل الاحتفاظ بالزوج الذي كان يحقُّ له أن يُطلِّق زوجته بسبب أو بغير سبب أو يجمع بينها وبين عدد من الزوجات، أو ما ملكه يمينه من الجواري.
ولم يبدأ التعليم الرسمي الثانوي للبنات إلا عام ١٩٠٠، حين أُنشئ قسم معلمات السنية (أُنشئ التعليم الثانوي للبنين سنة ١٨٢٥؛ أي قبل البنات بخمسة وسبعين عامًا). أمَّا الجامعة المصرية فلم تفتح أبوابها للمرأة إلا عام ١٩٢٩، ودخلَتْها أربع طالبات فقط ذلك العام.
وقد تزايد بعد ذلك إقبال البنات المصريات على التعليم، وخاصةً بعد ثورة ١٩٥٢، إلا أن نسبة العاملات بالمِهَن العلمية والفنية لم تصل إلا إلى ١٨٫٩٪ من جملة العاملات في عام ١٩٦٩؛ ومعنى ذلك أن الأغلبية الساحقة من النساء المصريات ٨١٫١٪ لا زلن يعملن بالزراعة أو أعمال الخدمة أو الأعمال الكتابية الصغيرة. وقد بلغت العاملات بالتدريس والتمريض في سنة ١٩٦٠ (٧٢٫٨٪ و٢٨٫٧٪) على التوالي من جملة العاملات بالمِهَن العلمية والفنية، ويُبيِّن تعداد السكان في مصر لسنة ١٩٦٠م أن ٨٩٫٣٪ من العاملات المشتغلات في الخدمات يَقُمن بالعمل بالخدمة المنزلية كخادمات (لا يخفى على أحد الاستغلال الذي تتعرَّض له هذه الخادمات اقتصاديًّا واجتماعيًّا وجنسيًّا).
ويُبيِّن هذا التعداد هناك حوالي ١٠ مليون امرأة في سن العمل (يدخل ضمن ذلك الطالبات والفلاحات وربات البيوت)، ويَبلُغ سكان المدن منهنَّ ٤ مليون، والباقيات (٦ مليون) فلاحات. ويبلغ مجموع النساء العاملات بأجر في جميع القطاعات (ما عدا الفلاحات وربات البيوت) ٦٪ من عدد النساء في سن العامل، وتبلُغ ٦٫٥٪ من القوى العاملة في مصر، وفي تعداد ١٩٧٦ ارتفعت هذه النسبة إلى ٩٫٢٪.
وعلى هذا فإن الأغلبية العظمى من نساء مصر فلاحات يَعملْن بدون أجرٍ لحساب الزوج أو الأسرة، وربات بيوت يعملن بغير أجر لحساب الزوج أو الأب أو الأسرة، ويَنطبِق هذا القول على النساء في معظم البلاد العربية؛ ففي سوريا مثلًا تبلغ قوة العمل النسائية من مجموع الإناث ٦١٫١٪، ثُمَّ إن القسم الأكبر من العاملات وتبلغ نسبته ٨٨٪ يعملن في الحقول والمزارع كفلاحات، والباقيات يعملن في إدارات الدولة ومؤسساتها، وفي الخدمات والصناعة والبيع والتجارة.
إن الفلاحات يُمثِّلن الأغلبية من النساء العربيات العاملات، ولأنهن يعملن بغير أجر فإن كثيرًا من الإحصائيات تَتجاهل وجودهنَّ ضمن قوة العمل النسائية، وفي الإحصاءات تجيء قوة العمل النسائية على أنها ٩٫٢٪ فقط من القوة العاملة، ولكن إذا أُضيفَت الفلاحات إلى النساء العاملات بأجرٍ لأصبَحت نسبة العاملات في مصر تكاد تقترب من نصف القوى العاملة في البلاد، وتُصبح من أعلى النسب العالمية، ولا يزيد عليها إلا نسبة النساء العاملات في الاتحاد السوفيتي.
وقد لعب العمل بأجر دورًا في تحرير بعض النساء المصريات وخاصة هؤلاء اللائي حظين بقسط من التعليم العالي، ونسبتهنَّ ٣٠ في الألف فقط من جملة النساء لعام ١٩٦٦، وبالنسبة لمجموع السكان تبلغ نسبة حاملات المؤهلات العليا ١٫٢٪ سنة ١٩٧٦، وكانت ٠٫٠٢٪ فقط سنة ١٩٦٠، وقد أدى ذلك إلى تحرُّرهن الاقتصادي، واستطاعت بعض الزوجات منهن أن ينتزعن حقوقًا جديدةً في المجتمع أو داخل الأسرة رغم قانون الزواج الجائر، وبعضهن رفضن الزواج حتى لا يَخضعن لهذا القانون المتخلف، وبعضهن تزوجن ثُمَّ طُلِّقن حرصًا منهن على الاستقلال والحرية.
ولا يوجد أي نص في القانون المصري اليوم يُفرق بين الجنسين في التعليم أو تولي الوظائف، والقانون رقم ٢١٠ لسنة ١٩٥٩ بشأن نظام موظَّفي الدولة لم يشترط في الوظيفة سوى أن يكون المرشَّح لها مصريًّا حسن السيرة مستوفيًا شروط السن والأهلية والكفاءة (المادة ٦)، لكن التفرقة بين الجنسين في التطبيق العملي لهذا القانون.
مثال ذلك أنه في قانون القضاء رقم ١٨ لسنة ١٩٥٢ تنص المادة ٢ على أنه: لا يجوز تعيين أحد في وظيفة قاضٍ إلا بعد التحقُّق من كفايته وصلاحيته للقضاء. وقد استطاع الرجال المسيطرون عليه منع دخول المرأة المصرية فيه حتى اليوم؛ بحجة أن الإسلام جعل شهادة الرجل الواحد تُساوي شهادة امرأتين اثنتين، وفسروا بأن المرأة ليست مؤهلة لتولي عمل القاضي؛ لأنَّ الشهادة لا تزيد على تقرير حادثة في حين أن القضاء حكم في نزاع.
وبالرغم من أن المرأة المصرية أصبحت وزيرة منذ سنة ١٩٦٢، إلا أنها مُنعت من أن تكون قاضية حتى اليوم، ولا زال الرجال في مصر يُناقشون فكرة صلاحية المرأة لتولي منصب القضاء، ولعلَّ آخر ما قرأته بهذا الصدد مقال في جريدة الأخبار في ١٢ يناير ١٩٧٦؛ حيث يقول الكاتب ما معناه أن منصب القاضي مُحرَّم على المرأة في الإسلام؛ لأنه «غنيٌّ عن الإيضاح أن القضاء في الإسلام له شروط عشرة، لا يتمُّ القضاء إلا بها، ولا تنعقد الولاية إلا معها، وهذه الشرائط هي: الإسلام، والعقل، والذكورة، والحرية، والبلوغ، والعدالة، والعلم، وكونه واحدًا، ثُمَّ سلامة حاسة السمع والبصر، ثُمَّ سلامة اللسان.»
ولا يجوز للمرأة المصرية حتى اليوم تولي الوظائف ذات السلطات التنفيذية، كمنصب العمدة في القرى.
وهذا يدلُّ على التناقُض الذي يعيش فيه المجتمع العربي الحديث؛ ففي الوقت الذي يسمح فيه للمرأة أن تصبح وزيرة، وتقود وزارة بها الآلاف من الرجال والنساء، وتصدر أكبر القرارات وأخطرها، يَحرُم عليها أن تكون قاضية في محكمة صغيرة، تبتُّ في بعض المشاجرات والمنازعات الشخصية، ويحرم عليها أن تكون عمدة في قرية صغيرة تحكم بعض المشاكل المحدودة.
وهذا يدلُّ على أن هؤلاء الذين يُعارضون دخول المرأة العمدية أو القضاء يُناقضون أنفسهم؛ فلم نسمع أن واحدًا منهم اعترض على تعيين الوزيرة، هل مسئوليات الوزير في نظرهم لا تحتاج إلى سلامة العقل والذكورة والعدالة والعلم وسلامة اللسان؟
أو أن قرار تعيين الوزيرة يُصدره رئيس الدولة، وهم يعتبرون قرار رئيس الدولة أعلى من القرارات المقدَّسة التي جاء بها الإسلام؟
وقد ظلت المرأة المصرية العاملة محرومة من إجازة الوضع حتى سنة ١٩٥٩، حين تضمن قانون العمل في هذا العام بعض الأحكام الخاصة بعمل النساء، وحصلت المرأة على إجازة وضع خمسين يومًا بمرتب قدره ٧٠٪ من مُرتَّبها الأصلي.
وقد حرم هذا القانون اشتغال النساء في بعض الأعمال، بحجة أنها ضارة صحيًّا، وكان هذا التحريم ضد المرأة أكثر مما كان في صالحها؛ لأنَّ كثيرًا من أصحاب الأعمال اتخذوا من هذا البند حجَّة في رفض طلبات النساء للعمل، أو فرضوا عليهنَّ أجورًا أقل أو أعمالًا أدنى لا تتناسب مع مؤهلاتهنَّ، وخاصة في مجال الإنتاج وبالذات في القطاع الخاص.
وتَحصُل الموظفات بالحكومة والقطاع العام على أجور مساوية لزملائهنَّ الرجال، لكنهن لا يحصلن على الفرص المتكافئة في الترقية أو التعيين في المناصب الرئاسية أو التدريب على وظائف أعلى.
وفي قانون المعاشات تفرقة واضحة بين المرأة والرجل، وقد سمح القانون حاليًّا للمرأة العاملة أن تَجمع بين مرتبها أو معاشها وبين المعاش المستحَق من زوجها في حدود ٢٥ جنيهًا مصريًّا كحدٍّ أقصى.
وتنص المادة ١٩ من دستور يناير ١٩٥٦ بأن «تُيسِّر الدولة للمرأة التوفيق بين عملها في المجتمع وبين واجباتها في الأسرة.» إلا أن الدولة لم تفعل هذا حتى اليوم، ولا تزال الأغلبية من النساء العاملات مُنسحِقات جسدًا ونفسًا تحت وطأة العملين خارج البيت وداخله.
إن مصر وغيرها من البلاد العربية لا تزال ترى أن المرأة خُلقت أصلًا لتلعب دور المرأة والزوجة؛ من حيث الخدمة في البيت وتربية الأطفال. ولم يسمح المجتمع العربي للمرأة بالعمل من أجل حاجة اقتصادية ملحَّة للمجتمع أو للأسرة؛ فهي تعمل خارج البيت بشرط أن تعود إلى البيت لتؤدي واجباتها الأساسية نحو الزوج والأسرة والأطفال. وبرغم أن بعض البلاد العربية كمصر وسوريا والسودان وغيرها قد رفعت بعض شعارات الاشتراكية، إلا أن المجتمعات العربية لم تجد حلولًا لمشاكل النساء العاملات، وأولها توفير الإمكانيات والمؤسسات في المجتمع التي تحرر المرأة من أعباء الطبخ والتنظيف والخدمة وتربية الأطفال.
إن توفير مثل هذه الإمكانيات والمؤسسات، لا تمثِّل أهمية أو أولوية عند الحكام أو الساسة العرب، كما أن النساء العربيات العاملات في أيِّ بلد عربي لا يُمثِّلن أية قوة للضغط على هؤلاء الحكام أو الساسة، من أجل توفير هذه الإمكانيات. ولا تزال التنظيمات النسائية في البلاد العربية أيضًا إما مجموعات من نساء الطبقات العالمية المنشغلات ببعض الأعمال الخيرية السطحية، أو أقسام من التنظيمات السياسية المسماة بالاتحادات الاشتراكية التي لم تأخذ من الاشتراكية سوى الاسم فقط، والتي لا يعيش داخلها إلا مجموعة سلبية بيروقراطية من الرجال والنساء تتلقى الأوامر من السلطة.
ولا شك أن عمل المرأة العربية بأجر يُساعدها على الاستقلال اقتصاديًّا عن الأب أو الزوج، خاصة وأن جوهر الإسلام يُعطي المرأة حريتها واستقلالها في شئون أموالها، وليس لزوجها أي سلطة على أموالها، ولكن العمل قد يكون نوعًا جديدًا من استقلال المرأة إذا حدث هذا العمل في مجتمع طبقي لا يُساوي بين أفراده، أو في ظلِّ أسرة يسيطر فيها الرجل عرفًا وقانونًا وشرعًا على جسد المرأة وعقلها.
وهل يُمكن للمرأة المحكومة جسديًّا، والتي لا تملك حرية التصرف في جسدها، هل يُمكنها أن تتصرَّف بحريتها في أموالها؟ وهل يُمكن للمرأة التي تخشى الطلاق في أي لحظة أن ترفض تدخُّل زوجها في أموالها؟ وهل يُمكن للمرأة التي تُساق إلى زوجها بالبوليس أن تملك حرية التصرف في مالها وهي عاجزة عن التصرف في حياتها كلها؟
ولهذا فإن العمل بأجر لم يُحرِّر المرأة العربية بصفة عامة، وإنما أضاف إليها أعباءً وهمومًا ومشاكل جديدة.
وفي أحد البحوث المصرية: إن اشتغال المرأة بأجر لم يُؤثِّر في رئاسة الرجل للأسرة، ولم تباشر المرأة هذه الرئاسة إلا في حالة غياب الزوج، وإن أهم المميزات التي حققها اشتغال المرأة هو ارتفاع متوسِّط دخل الأسرة، وأثبت هذا البحث في نتائجه أن المرأة العاملة تُستغل اقتصاديًّا من جانب الزوج والأسرة، وتظلُّ بدون نفوذ أو سلطة، وإنما خاضعة تمامًا لسلطة الرجل.
وقد ظهر من بحث آخر أن وجود المرأة في العمل مع الرجال في مكان واحد أدى إلى تغيير الفكرة التقليدية عن المرأة في أنها لا تَصلُح إلا للمنزل؛ فقد تبين للرجل من واقع العمل أن المرأة العاملة كفء، وتتحمَّل المسئولية مثله تمامًا؛ بحيث لا يوجد هناك فرق بين المرأة والرجل فيما يمكن أن يقوم به كلٌّ منهما من عمل.
وهذا يدلُّنا على أن المرأة العاملة المصرية تَبذُل من طاقتها الجسدية والنفسية أكثر مما يبذله الرجل؛ لأنها تقوم بأعباء البيت والأطفال وحدها بالإضافة إلى أنها لا تتمتَّع بما يتمتع به الرجل من حريات شخصية للترفيه عن نفسه خارج البيت أو محيط العمل؛ فلا زال جو العمل رجوليًّا يُظهر عداءً وكراهيةً للمرأة التي تقتحمه، خاصة إذا كانت ذكية ومؤهلة كي تكون مُنافِسة قوية للرجال.
وفي البحث السابق توصَّلت الباحثة إلى أن «هناك تبادلًا في علاقة العمل بين الجنسين، وليس هناك في العلاقة الخاصة، إذن فالعلاقة عمومًا بين الجنسين مُحاطة بالقيود.»
وبرغم أن المرأة في بعض الأحيان تسعى إلى العمل بأجر «مدفوعة برغبة في تأكيد ذاتها، وتحقيق إمكانياتها، والمساهمة في تطوير المجتمع»، إلا أن ظروف العمل غير المؤهَّلة لعمل النساء، وتقاليد المجتمع والأسرة غير الموحية باستقلال المرأة عن سيطرة الرجل، أو تقصيرها في واجباتها المنزلية، كل ذلك لم يسمح للمرأة العاملة في معظم الأحيان أن تجد الفرصة لتحقيق ذاتها أو ممارسة إنسانيتها على نحوٍ أكثر تحرُّرًا.
إنَّ العمل لأي فردٍ كان (رجلًا أو امرأةً) لا يُمكن أن يُحقِّق التحرر المنشود عقلًا وجسدًا إلا في ظل مجتمع يساوي بين أفراده، ويعطي الفرص المتكافئة للجميع حسب القدرة الشخصية والفكرية، وليس حسب الانتماء لطبقة أو جنس.
وبالرغم من الازدياد المستمر في أعداد النساء المتعلمات والعاملات بأجرٍ في البلاد العربية، إلا أنَّ الغالبية العظمى لا تزال تحت وطأة الأمية. كما أن التعليم نفسه لا يلعب دورًا كبيرًا في القضاء على الأفكار البالية والتقاليد التي لا تزال متفشية بين النساء والرجال. ويظل أغلبية المتعلمات والمتعلمين يرزحون تحت وطأة التخلُّف والخزعبلات التي سمعوها من آبائهم وأجدادهم، ولا يزال يُردِّدها كثيرٌ من الحكام والساسة العرب من أجل تضليل الشعوب من أجل الاستغلال المستمر.
كما أنَّ معظم الأنظمة في البلاد العربية لا تزال أبعد ما تكون عن الاشتراكية أو العدالة، ولا تزال تتآزر بشكلٍ علني أو خفي مع النظم الاستعمارية العالمية، وهذا كله يستدعي أجهزة إعلام وثقافة سطحية مُضلِّلة. كما أن نظم التعليم تظل عتيقة غير متطورة منفصلة عن واقع المجتمع وحاجاته، معتمدة على حشو الأدمغة بغير فهم ولا ربط بين العلم ولا نظرة شاملة تُفسِّر الظواهر والمشاكل التي تعاني منها الأغلبية تفسيرًا صادقًا أو حقيقيًّا، ولا مناقشة أو تحليل أو إقناع، وإنما هي الطاعة والتلقِّي السلبي من أجل تخريج جيوش من الموظفين البيروقراطيين المطيعين للرؤساء والسلطة الحاكمة أو الموظَّفات المطيعات للأزواج والرؤساء.
وقد استطاعت البلاد العربية من خلال ثورات تحريرية شعبية أو عسكرية أن تتخلَّص من بعض الحكام والأنظمة الاستغلالية الرجعية والاستعمار القديم أو الجديد، إلا أنه كثيرًا ما تحدث الانتكاسات، وبعد أن يسير الشعب خطوات نحو الاشتراكية والحرية إذا به يتلقى ضربة جديدة قد تُسدَّد إليه من قوى الاستعمار الخارجي أو قوى الحكم الداخلي أو كليهما معًا.
ومن أهم المشاكل التي لا تزال تَعترض المرأة العربية بالنسبة للعمل هو قوانين الزواج المتخلِّفة، التي لا تزال تُعطي الزوج حق منْع زوجته من العمل أو السفر أو الخروج من البيت حينما يريد. وتقف المجتمعات العربية من المرأة في هذا موقفًا مُتناقضًا استغلاليًّا؛ ففي الوقت الذي تُدفع فيه النساء الكادحات إلى العمل في الحقول والمصانع والمكاتب يُتركن تحت رحمة أزواجهن بشأن التصريح بهذا العمل حسب رغبة الزوج ومصلحته، وعلى هذا تُستغلُّ النساء من جانبين، من جانب الدولة ومن جانب الزوج معًا.
ونظرًا لشدة حاجة الدول العربية (وبالذات الدول التي تحتاج إلى سواعد النساء في الحقول والمصانع والمكاتب) إلى عمل النساء، فقد تردَّدت هذه الدول في إعطاء الزوج السلطة الكاملة لمنْع زوجته من العمل، فلو نفَّذ الأزواج هذا الحق ومنعوا زوجاتهم من العمل لانهار الاقتصاد في تلك الدول بسبب احتمال بقاء الفلاحات والعاملات والموظَّفات في بيوتهنَّ.
إن قوانين العمل في كثير من الدول العربية — مثل مصر وسوريا والعراق وغيرها — تسمح للمرأة بالعمل، على حين أن قوانين الأحوال الشخصية حتى اليوم تعطي الزوج سلطة منْع زوجته من العمل ومن السفر ومن الخروج من البيت إذا أراد.
ويَتعارض موقف الدول العربية من عمل المرأة مع ميثاق حقوق الإنسان، الذي نصَّ على حق العمل كأحد الحقوق الأساسية للإنسان. ويتعارض أيضًا مع جميع الشرائع السماوية وغير السماوية التي نصَّت على حق العمل وتضمَّنت حثًّا على العمل وتكريمًا للعمل، ويتعارَض أيضًا مع ما تعلنه هذه الدول العربية في المحافل الدولية وغير الدولية من أن المرأة العربية تحرَّرت ونالت حقوقها.
وتَتناقض الدول العربية مع نفسها ومع قراراتها في هذا الشأن؛ فقد شكَّلت هذه الدول لجنة خاصة بمركز المرأة العربية في قوانين الأحوال الشخصية، وعُقدت هذه اللجنة في جامعة الدول العربية، وكان من أهم قراراتهم هذا النص: «أن يكون للزوجة حقها الكامل في العمل، ما لم يشترط الزوج في عقد الزواج خلاف ذلك، ومع هذا فللزوجة رغم قيام هذا الشرط أن تلجأ إلى القاضي ليأذن لها بالعمل إذا وجد من الظروف ما يقتضي ذلك.» رغم ضعف هذا النص من حيث عدم إطلاق الحرية الكاملة للزوجة لأن تعمل بغير قيد أو شرط، إلا أن قوانين الأحوال الشخصية لم تتغيَّر لتشمل هذا التطوير في معظم البلاد العربية، حتى تلك البلاد التي سارت في طريق الاشتراكية؛ ففي سوريا لا زال الاتحاد العام النسائي يُطالب للمرأة السورية بالحق للعمل خارج المنزل وإلا تسقط حضانتها لأولادها إذا عملت.
ولا زال قانون الأحوال الشخصية المصري يُعطي للزوج سلطة منع زوجته من العمل إذا أراد. وفي المشروع الجديد الذي لم يُصبح قانونًا بعد، والذي يضمُّ تعديلات طفيفة لا تمس جوهر سلطة الرجل على زوجته، ورَد نصٌّ جديد خاص بعمل المرأة يقول إن من حق الزوج أن يَمنع زوجته من العمل إلا إذا طرأ بعد ذلك ما يجعل تنفيذ الشرط منافيًا لمصلحة الأسرة.
ومن هنا يتَّضح لنا كيف تتردد الدول العربية في إعطاء الزوجة حق العمل الذي مُنح لها بصفتها إنسانة في جميع المواثيق والشرائع واللجان والدول بما فيها جامعة الدول العربية، وكلنا يعرف كيف يَستغلُّ الأزواج حقوقهم، وكيف يَتحايل الزوج باسم مصلحة الأسرة والأطفال على سلب حقوق المرأة، وهو في الحقيقة يعمل لصالحه وحده ضد مصلحة الأطفال بل مصلحة المجتمع، وكم من زوج يستغل حقه في حرمان زوجته من العمل أو دفعها إلى العمل واستغلال أجرها وتسخيرها خارج البيت وداخله.
ومن أهم الأسباب التي تدعو الزوج إلى منع زوجته من العمل هو رغبته في إخضاعها وحرمانها من أجرها الذي قد يُحقِّق لها نوعًا من الاستقلال الاقتصادي، فتستطيع أن تشعر بكيانها وترفض إهانته لها، أو ضربه لها، أو عربدته مع النساء، أو زواجه من امرأة أخرى، أو على الأقل ترفض الفراغ والخمول في البيت بغير عمل مُنتِج يُشعرها بكرامتها الإنسانية.
وكثيرًا ما قرأنا عن هؤلاء الأزواج الذين يَتلاعبون بزوجاتهم من أجل استغلالهنَّ أو إخضاعهن، ولعلَّ آخر ما قرأته في هذا الشأن ما نُشر في جريدة أخبار اليوم تحت عنوان: «إنذار من الزوج لزوجته: اتركي الوظيفة فورًا. والمحكمة تقول: العاملة بدون إذن زوجها ناشز.» وملخص القصة أن إحدى الفتيات زوَّجها أبوها بعد أن حصَلت على الثانوية العامة، ولم يُكمل لها تعليمها كي يُزوجها، وعاشت الزوجة مع زوجها عشر سنوات ثُمَّ شعرت بالفراغ، فبحثَت عن عمل واستطاعت الحصول على وظيفة، لكن الزوج اعترض وطلَب منها أن تترك العمل فورًا، لكن الزوجة رفضت وطلبت الطلاق. وقال محامي الزوج أمام المحكمة إن الزوجة التي تخرج للعمل بغير إذن زوجها تُعتبَر ناشزًا، وأيَّدت المحكمة قول المحامي وقررت أن الزوجة ناشز لأنها تعمل بغير إذن زوجها.
أمَّا ذلك النص الخاص بأن من حق الزوجة أن تَشترط على زوجها قبل الزواج بأن يكون لها عمل خارج البيت فهو نصٌّ لا ينفع إلا القلة النادرة من النساء المستقلات اقتصاديًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا عن المجتمع والأسرة؛ وهو أمر تعجز عنه الأغلبية الساحقة من البنات قبل الزواج، حتى هؤلاء اللائي حظين بالتعليم أو العمل بأجر؛ نظرًا لتقاليد المجتمع والأسرة. ويُشبه هذا النص إلى حدٍّ كبير ذلك النص القديم في قانون الزواج الذي يُعطي الزوجة الحق في الطلاق؛ وذلك باشتراط هذا الحق في عقد الزواج قبل أن تَتزوَّج (أي أن تأخذ العصمة بيدها)، ورغم أن هذا الحق لا يُلغي حق الزوج في تطليق زوجته حين يشاء، وكل ما يفعله هذا النص هو إعطاء الزوجة مثل هذا الحق، إلا أن قلة نادرة من النساء استطاعت أن تستخدم هذا الحق؛ فإنَّ التقاليد العربية كانت ولا تزال تنظر بازدراء لذلك الرجل الذي يَتزوَّج امرأة تأخذ العصمة بيدها أو تشترط عليه ذلك قبل الزواج. إن العكس هو الصحيح دائمًا؛ فوضع الرجل المُتقدِّم للزواج هو الأعلى، وهو المرغوب والمنشود، بل والمُطارَد؛ ولذلك فهو الذي يضع الشروط قبل الزواج وليست البنت الصغيرة التي يُفرَض عليها الزواج بواسطة الأب أو الأسرة، وليس لها أن تختار زوجها في معظم الأحيان، فما بال أن تشترط عليه الشروط قبل الزواج.
هذا، ولا يزال عمل الزوجة خارج البيت في نظر كثيرٍ من الرجال العرب إهانة لرجولة الرجل؛ إذ تقتضي الرجولة وعلى الأخص الرجل (الحمش) أن يكون قادرًا على إعالة زوجته وعدم السماح لها بالاختلاط بالرجال في المكاتب أو الشوارع أو المواصلات العامة. وقد تغلَّب الرجل العربي المثقَّف المُتحرِّر على هذه العقدة، لكن معظم الرجال لا زالوا أسرى هذه الفكرة، وقد يُضطرُّ الواحد منهم إلى تشغيل زوجته خارج البيت لحاجة اقتصادية ملحة، لكنه يظل يعاني نفسيًّا من قدرته على إعالة الأسرة وحماية زوجته داخل البيت، بل إن الزوجة نفسها قد تَشعر بازدراء زوجها لأنها يُشغلها أو تتباهى بأن زوجها لا يسمح لها بالخروج للعمل. إلا أن الحاجة الاقتصادية في السنين الأخيرة قد أجبرت الشباب العربي اليوم على تفضيل الزوجة العاملة بأجر للمساعدة على النفقات.