السؤال الحائر بغير جواب
كنتُ في السادسة من عمري، نائمة في سريري الدافئ، أحلم أحلام الطفولة الوردية، حينما أحسستُ بتلك اليد الباردة الخشنة الكبيرة ذات الأظافر القَذِرة السوداء تمتد وتُمسكني، ويدٍ أخرى مشابهة لليد السابقة خشنة وكبيرة تسدُّ فمي وتُطبق عليه بكل قوة لتمنعني من الصراخ، وحملوني إلى الحمام، لا أدري كم كان عددهم، ولا أذكر ماذا كان شكل وجوههم، وما إذا كانوا رجالًا أم نساءً؛ فقد أصبحت الدنيا أمام عيني مُغلقة بضباب أسود، ولعلهم أيضًا وضعوا فوق عيني غطاءً. كل ما أدركته في ذلك الوقت تلك القبضة الحديدية التي أمسكت رأسي وذراعي وساقي حتى أصبحتُ عاجزةً عن المقاومة أو الحركة، وملمس بلاط الحمام البارد تحت جسدي العاري، وأصوات مجهولة وهمهمات يَتخلَّلها صوت اصطكاك شيء معدني، ذكَّرني باصطكاك سكين الجزار حين كان يسنُّه أمامنا قبل ذبح خروف العيد.
وتجمَّد الدم في عروقي، ظننتُ أن عددًا من اللصوص سرقوني من سريري ويتأهَّبون لذبحي، وكنت أسمع كثيرًا من هذه القصص من جدتي الريفية العجوز.
وأرهفتُ أذني لصوت الاصطكاك المعدني، وما إن توقَّف حتى توقف قلبي بين ضلوعي، وأحسستُ وأنا مكتومة الأنفاس ومغلقة العينين أن ذلك الشيء يقترب مني، لا يقترب من عنقي وإنما يقترب من بطني، من مكانٍ بين فخذيَّ. وأدركت في تلك اللحظة أن فخذيَّ قد فُتحتا عن آخرهما، وأن كل فخذ قد شُدَّت بعيدًا عن الأخرى بأصابع حديدية لا تلين، وكأنما السكين أو الموسى الحاد يسقط على عنقي بالضبط، أحسستُ بالشيء المعدني يَسقط بحدة وقوة ويَقطع ما بين فخذيَّ، جزءًا من جسدي.
صرختُ من الألم رغم الكمامة فوق فمي؛ فالألم لم يكن ألمًا، وإنما هي نارٌ سرت في جسدي كله، وبركة حمراء من دمي تحوطُني فوق بلاط الحمام، لم أعرف ما الذي قطعوه مني، ولم أحاول أن أسأل. كنتُ أبكي وأنادي على أمي لتنقذني، وكم كانت صدمتي حين وجدتها هي بلحمها ودمها واقفةً مع هؤلاء الغرباء، تتحدَّث معهم وتَبتسم لهم وكأنما لم يَذبحوا ابنتها منذ لحظات.
وحملوني إلى السرير، ورأيتُهم يُمسكون أختي التي كانت تصغرني بعامين بالطريقة نفسها، فصرختُ وأنا أقول لهم: لا. لا … ورأيتُ وجه أختي من بين أيديهم الخشنة الكبيرة، كان شاحبًا أبيض كوجوه الموتى، والتقت عيني بعينيها في لحظة سريعة قبل أن يأخذوها إلى الحمام، وكأنما أدركنا معًا في تلك اللحظة المأساة؛ مأساة أننا خُلقنا من ذلك الجنس، جنس الإناث، الذي يُحدِّد مصيرنا البائس، ويسوقنا بيدٍ حديدية باردة إلى حيث يُستأصَل من جسدنا بعض الأجزاء.
لم تكن أسرتي من الأسر المصرية غير المُتعلمة، كان أبي متعلمًا تعليمًا عاليًا، بل كان مراقبًا على التعليم في محافظة المنوفية في السنة «١٩٣٩»، وكانت أمي قد تعلَّمت في مدرسة فرنسية قبل أن يُزوجها أبوها الذي كان مديرًا للقرعة العسكرية في ذلك الوقت. ومع ذلك فقد كانت تلك العادة المعروفة بختان البنات (أو الطهارة) منتشرة، ولم تكن تُفلت منها أي بنت سواء في الريف أو المدن، وقد سألتُ زميلاتي في المدرسة (بعد أن شُفيتُ وعُدت إلى المدرسة) فإذا بهن جميعًا قد تمَّت لهن عملية الختان، سواء مَن كانت منهن من أسرة عالية أو متوسطة أو فوق المتوسطة.
أما في الريف بين الأسر الفقيرة غير المتعلمة، فقد علمت من بنات قريتي «كفر طحلة» أنهن جميعًا مختونات، ولا تزال هذه العادة شائعة في الريف حتى اليوم. بل إن كثيرًا من الأسر في المدن لا زالوا يؤمنون بها. إلا أن التعليم وازدياد الوعي قد ساعَد بعض الآباء والأمهات على الإحجام عن إجرائها لبناتهم.
وقد ظلت حادثة الختان تُراودني في أحلامي كالكابوس، ولم أكن أعرف بالضبط ما الذي ينتظرني في المستقبل، وما إذا كان هناك من حوادث أخرى تُخبئها لي أمي أو أبي أو جدتي أو المجتمع من حولي، الذي أشعرني منذ فتحت عيني على الحياة أنني بنت، وأن كلمة «بنت» حين ينطقها أحد فهو لا يَبتسم.
وبعد أن كبرتُ وأصبحت طبيبة (١٩٥٥) لم تفقد ذاكرتي الحادث المؤلم الذي أفسد طفولتي، والذي حرَمني في شبابي وزواجي من حياة جنسية ونفسية مُكتملة، وظلَّ كابوس من هذا النوع يُراودني في الأحلام، خاصة وأنا طبيبة ناشئة أعمل بالريف، حين كانوا يَحملون إليَّ البنت الطفلة لإسعافها وهي تنزف بسبب الختان، وكم من بنات أطفال نزفن وفقدن حياتهن نزفًا بسبب هذه العادة البشعة، أو تعرَّضنَ للالتهابات الحادة أو المزمنة بسبب تلوث الجرح، أو تَعرَّضن للمشاكل النفسية أو الجنسية فيما بعد.
وساقتني ظروف عملي أن أفحص بعض النساء السودانيات، وكم كانت دهشتي حين رأيتُ أن البنت السودانية تَتعرَّض لعملية ختان أبشع من تلك التي تحدث في مصر، إنهم في مصر يقطعون البظر فقط، أما في السودان فإنهم يقطعون جميع الأعضاء الجنسية للبنت، يقطعون البظر والشفاه الأربعة الداخلية، ثم يُخيطون الجرح، ويغلقون فتحة المهبل تمامًا إلا من ثقب صغير لمرور دم الحيض، وعند الزواج تُفتَح الفتاة بالموسى أو المشرط حتى يُمكن لعضو الزوج أن يدخل في المهبل. أما المرأة السودانية المُطلَّقة فإنهم يغلقونها مرة أخرى حتى لا يُمكنها ممارسة الجنس، فإذا تزوجت مرة ثانية عادوا وفتحوها بالموسي أو المشرط.
كم كنتُ أشعر بالغضب والثورة تتجمَّع في صدري وأنا أفحص هؤلاء النساء أو أسمع ما يقولون عن ختان البنات السودانيات، وكم بلغ بي الغضب حين سافرت إلى السودان (١٩٦٩) وعلمت أن هذه العادة السيئة لا تزال تُمارَس في الريف والحضر.
ورغم أنني كنت طبيبة وأنظر إلى نفسي كامرأة متعلمة، إلا أنني لم أعرف في ذلك الوقت لماذا يَفعلون تلك الأفعال البشعة بالبنات؟ كثيرًا ما سألت نفسي السؤال: لماذا؟ لكني لم أعرف الجواب. وكثيرًا ما لاح لي السؤال وأنا طفلة صغيرة: لماذا؟ لماذا فعلوا ذلك بي وبأخواتي البنات؟
لماذا يُميِّزون أخي عليَّ في الطعام والملابس وهدايا العيد والحرية في الخروج من البيت؟ لماذا يَضحك أخي بصوت عالٍ، ويُحرِّك ساقَيه بحرية، ويَجري ويلعب كما يشاء، وأما أنا: بنت، والبنت يجب ألا تُحملق في عيون الناس، وتخفض عينها حين تنظر إلى أحد، وإذا ضحكت تضحك بصوت لا يسمعه أحد أو تبتسم فقط، وإذا لعبت فيجب ألا تُحرك ساقيها بحرية وإنما تمشي بأدب. والبنت عليها أن تُنظِّف البيت وتساعد في الطبخ وتُذاكر أيضًا إذا كانت في المدرسة، أما الولد فليس عليه إلا أن يذاكر فقط.
ولأن أسرتي كانت مُتعلمة، وترسل بناتها إلى المدارس للتعلم، فلم تكن التفرقة بين البنات والأولاد شديدة كما كانت في الأسر الأخرى. وكم كنتُ أشفق على البنات من أقاربي حين كنت أرى الواحدة منهنَّ تترك المدرسة ليُزوِّجوها إلى عجوزٍ لديه قطعة أرض، أو أرى الواحدة منهنَّ وهي تُضرَب أو تُهان من أخيها الأصغر لمجرَّد أنها لم تسمع أوامره.
وكان أخي يُحاول فرض سيطرته عليَّ، لكن أبي كان رجلًا واسع الأفق، وكان يُحاول أن يساوي بين البنات والأولاد، وكانت أمي أيضًا تقول لنا أحيانًا إن البنت مُساوية للولد، لكني كنتُ أحس أن هذه المساواة ليست كاملة في أحيان كثيرة.
وكنتُ أثور دائمًا حين أشعر بهذه التفرقة الواضحة، وأسأل أمي وأبي: لماذا يحظى أخي بامتيازات لا تُعطى لي، مع أنني أتفوق في المدرسة؟ ولم تكن أمي أو أبي يجدان جوابًا على سؤالي سوى: كده، وأرد وأقول: كده ليه؟ ويَجيئني الجواب: هو كده، هو الأمر كذلك.
وأبالغ في العناد، فأسأل مرة أخرى: هو كده ليه؟ وحينما تضيق أمي أو أبي بسؤالي الملح يقولان: هو ولد، وأنت بنت.
وكأنما كانا يَتصوران أن هذه الإجابة كافية لإسكاتي أو إقناعي، لكنها كانت على العكس من ذلك، تزيد تساؤلي حدة، فأقول: وما الفرق بين البنت والولد؟ لماذا الأمر كذلك؟
وهنا قد تتدخل جدتي العجوز إذا كانت قد جاءت في زيارة لنا وشهدت ذلك الحوار الذي كانت تُسمِّيه دائمًا خروجًا على الأدب، وتنهرني بحدة قائلة: لم أرَ في حياتي بنتًا لها مثل لسانك الطويل، طبعًا أنت لست مثل أخيك، أخوك ولد، ليتك وُلدت ولدًا مثله.
ولم يستطع أحد في البيت أن يردَّ على سؤالي ردًّا مقنعًا، وظل السؤال حائرًا في رأسي، يَتردَّد من حين إلى حين كلما وقع شيء جديد يؤكد لي أن الذكر يُعامَل في كل مكان أذهب إليه على أنه الجنس الأعلى من الجنس المؤنث.
وحينما ذهبت إلى المدرسة لاحظت أنهم يَكتبون اسم أبي فوق كراساتي وكتبي، ولا يكتبون اسم أمي، وسألتُ أمي عن السبب فقالت لي: كده. أما أبي فقال لي إن الأطفال يُنسَبون إلى الأب فقط. وحينما سألته: لماذا؟ قال: كده.
واستطعت أن أسأله مرة واحدة: لماذا كده؟
وأدركت من وجه أبي أنه لا يَعرف الإجابة. ولم أسأل أبي مرة أخرى حتى حدَث بيني وبينه جدال من نوع آخر، بعد أن دخل رأسي معلومات جديدة.