المرأة العربية والاشتراكية
ليس من السهل على أحد أن يُنكر الدور الهام الذي لعبه المفكرون الاشتراكيون في كشف الأسباب الحقيقية التي دعت إلى اضطهاد المرأة في تاريخ البشرية، وليس من الصعب على أي دارس أن يَلحظ العلاقة الوثيقة بين درجة تحرير النساء وبين درجة تحول المجتمع إلى الاشتراكية؛ كلما زادت درجة التحول إلى الاشتراكية الحقيقية كلما زاد تحرُّر النساء بالمعنى الحقيقي للتحرر؛ أعني التحرر الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي؛ أي أن تكون المرأة مستقلة اقتصاديًّا، لها عملها الذي تختار، وهو الذي تأخذ عنه أجرًا مساويًا لأجر الرجل، ولها جسدها التي تملك حريته بالكامل، فتَحمل حين تريد وتُجهض نفسها حين تريد وتَمنح اسمها لطفلها حين تُريد وتختار شكل العلاقة الشخصية بينها وبين الرجل وتتزوَّج حين تُريد وترفض الزواج حين تريد، وتتحرَّر من أعباء عمل البيت أو تربية الأطفال حين تريد. تفعل كل ذلك باختيارها وإرادتها، وهي تتمتع بكامل كرامتها وشرفها في المجتمع.
إن هذه الحريات والحقوق الأساسية لأي إنسان لن تستردَّها المرأة إلا في ظل مجتمع نجح في التخلُّص من النُّظُم الطبقية والأبوية معًا، وهو ما لم يَحدث بعد في أي مجتمع اشتراكي. إن المجتمع الروسي حتى اليوم لم يُحقِّق للأغلبية من نسائه هذه الحريات والحقوق الأساسية، مع أنه أول مجتمع في العالم حدثَتْ فيه الثورة الاشتراكية. وقد حظيَت النساء الروسيات بكثير من هذه الحريات والحقوق في بداية الثورة؛ فقد كانت أفكار إنجلز الاشتراكية لا تزال تدوي، وقد كشف عن العلاقة الوثيقة بين الاضطهاد الجنسي والاضطهاد الاقتصادي، وأوضح أن أول اضطهاد طبقي حدث في التاريخ هو اضطهاد الرجل للمرأة، وأن الاضطهاد الذي وقع على المرأة كان مُضاعَفًا؛ فالرجل العامل يُعاني من اضطهاد صاحب العمل، أمَّا المرأة فتعاني من اضطهاد صاحب العمل واضطهاد زوجها. وأوضح أن غاية الاشتراكية هي تحرير العامل (صناعي أو زراعي) وتحرير المرأة لا يتمُّ ميكانيكيًّا بعد تحرير العمال والفلاحين أو بعد التحرير الاقتصادي، لكنَّ التحرير الاقتصادي شرط ضروري لحدوث التحرير الإنساني، وبغير التحرير الإنساني تحوَّل الإنسان إلى أداة للعمل فحسب.
إلا أن الفكر الستاليني الجامد اتهم إنجلز بأنه بالغ في تقدير أهمية تحرير المرأة والتحرير الإنساني، وسرعان ما تقهقرت قضية المرأة إلى الوراء، وسُلبت منها كثير من الحقوق التي حصلت عليها في بداية الثورة الروسية، وأعادها حكم ستالين إلى حظيرة الأسرة الأبوية والخضوع لسيطرة الرجل داخل الأسرة، وأُهملت مشاكل النساء العاملات، ولم تتحمَّس الدولة لتوفير الإمكانيات التي تُسهل لهنَّ الجمع بين العمل خارج البيت وداخله. وفُرضت القيود من جديد على الطلاق، وعلى الإجهاض، وعلى الطفل غير الشرعي. وانحصرت الاشتراكية داخل المفهوم الضيق وعلى المفهوم الضيق المتعلِّق بالتحرير الاقتصادي. لكن التحرير الاقتصادي وحده بغير تحريرٍ إنساني، وفي ظلِّ حكم سلطوي أبوي، لا يقود إلا أن يتحوَّل الرجل إلى أداة للعمل في المصنع، وتتحول المرأة إلى أداة للعمل في المصنع وفي البيت أيضًا. وهذا هو ما حدث للمرأة والرجل في عهد ستالين.
وبالرغم من انتهاء حكم ستالين عام ١٩٥٣، وتجاوز المجتمع السوفييتي لمرحلة الستالينية الجامدة، للمزيد من حريات وحقوق المرأة، إلا أنني لا أستطيع أن أقول إن أغلبية نساء الاتحاد السوفييتي قد تحرَّرن تحريرًا كاملًا. ويَكفي أن نعلم ٧٠–٧٥٪ من النساء العاملات الروسيات لا زلن يجمعن بين العمل خارج البيت وداخله؛ لأن الدول لم تُنشئ من دور الحضانة إلا ما يكفي ٢٥–٣١٪ فقط من الأطفال (هذه النسبة في الولايات المتحدة ٣٪ فقط، وفي ألمانيا الشرقية تبلغ هذه النسبة ٣٠٪).
وإذا عرفنا القيود التي لا تزال تُقيِّد المرأة داخل الأسرة الأبوية، وقيود الإجهاض، والعار الذي لا زال يطارد الأم غير المتزوجة أو الطفل غير الحاصل على اسم أبيه، هذه القيود التي لا زال معظمها يعيش في المجتمعات الاشتراكية، في روسيا وألمانيا الشرقية والصين وغيرها، أدركنا أن استقلال المرأة الاقتصادي (عن طريق العمل بأجرٍ مُساوٍ لأجر الرجل) لا يَكفي لتحرير المرأة تحريرًا حقيقيًّا.
إلا أن شيء أفضل من لا شيء، ووضع المرأة في هذه المُجتمعات الاشتراكية أفضل بكثير من وضعها في البلاد الرأسمالية، ويَكفي أن ندرك أن حركة تحرير النساء في أمريكا، لا تزال تُطالب ضمن ما تطالب به بأجرٍ لعمل المرأة مساويًا لأجر الرجل، وبفُرص متساوية للنساء في التعليم العالي وفي الأعمال الهامة والمجالات الإنتاجية، وبتوفير دور الحضانة لأطفال النساء العاملات بأجور بسيطة تَتناسب ودخولهن، واستقلال المرأة باسمها وأموالها داخل الزواج، والكف عن استخدام المرأة كأداة جنسٍ في التجارة والإعلانات وحوانيت الجنس، وتحرير المُومسات.
إن انخفاض مكانة المرأة في المجتمعات الرأسمالية رغم تقدُّمها العلمي والتكنولوجي وثرائها النِّسبي يجعلنا ندرك أن الطريق نحو الاشتراكية هو الطريق نحو تحرير النساء والرجال معًا؛ لأن الرجل بسلبِه إنسانية المرأة يَسلُب إنسانيته هو أيضًا، وبالمثل الإقطاعي أو الرأسمالي الذي يسلب إنسانية العامل. إن الشخص الذي يَستعبد شخصًا آخر لا يُمكن أن يكون حُرًّا؛ فالسيد والعبد كلاهما مسلوب الإنسانية والحرية.
لكن كثيرًا من الحكام الاشتراكيِّين أساءوا فهم هذه المعاني الجوهرية، وفصلوا قضية تحرير المرأة عن قضية تحرير العمال والفلاحين، وتصوَّروا أن إلغاء الملكية وقرارات التأميم، ستؤدي تلقائيًّا إلى تحرير الإنسان أو تحرير المرأة، وهذا هو الخطأ الذي وقع معظم الحكام العرب الذين رفعوا شعارات الاشتراكية والتأميم في بعض البلاد العربية.
ولعل أهم ما حققته الثورة المصرية ١٩٥٢ هو قراراتها الاشتراكية الخاصة بتحديد الملكية والقضاء على الإقطاع، وتأميم البنوك والشركات الكبرى، ثُمَّ الميثاق الوطني في ٢١ مايو ١٩٦٢ الذي اشتمل على هذا النص «ضرورة إسقاط بقايا الأغلال التي تعوق حركة المرأة الحرة، حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة.»
وبرغم تزايد أعداد البنات والنساء في المدارس والجامعات وميادين العمل في المجتمع، إلا أن الأغلال بقيَت حول الأغلبية الساحقة من النساء المصريات، وفي بعض البلاد العربية، رفع المجتمع شعارات الاشتراكية، ونصَّت مواثيقهم على نصوصٍ مشابهة للنص المصري؛ من حيث إسقاط الأغلال التي تُعرقل حركة المرأة وعملها في المجتمع الاشتراكي، إلا أن الأغلبية من النساء العربيات في هذه البلاد لم يَتحرَّرْن كما يجب، وكان المفروض أن تصدر هذه الحكومات مع قراراتها الاقتصادية والاشتراكية قرارات جديدة لعلاقة الرجل والمرأة، تُلغي سيطرة الرجل داخل الأسرة، وتعطي المرأة من الحريات الشخصية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية ما تُعطيه للرجل.
لكن ذلك لم يَحدث في أي مجتمع عربي حتى اليوم، وهناك بعض البلاد العربية التي قيدت حرية الرجل في الطلاق، ومنَعت تعدُّد الزوجات، إلا أن قانون الزواج والطلاق والنسب والإرث والولاية لا زال يعطي الرجل السيادة على المرأة في معظم هذا البلاد.
وقد حصلت المرأة العربية على حقوق جديدة في المجتمع والأسرة؛ بحكم ازدياد وعيها أو تعليمها أو مساهمتها في الإنفاق كصاحبة عمل بأجر، إلا أن الأغلبية الساحقة لا زلن أميات كادحات، يَجمعن بين العملين داخل البيت وخارجه، ويَخضعْن بحكم الطاعة لقوانين الزواج والطلاق، محكومات في حياتهن داخل الأسرة وخارجها بالتقاليد العتيقة، والقيم الأخلاقية المزدوجة التي تدين المرأة وحدها، وتتحمَّل البنات والنساء سوء العلاقة الزوجية، وفوضى الرجال الجنسية، وتعدُّد الزوجات والطلاق بغير سبب، ومآسي العذرية والشرف والختان، والخوف من الحمل داخل الزواج وخارجه، ومشاكل الإجهاض غير القانوني، وعبء تحديد النسل، يقع كل ذلك على كاهل النساء وحدهنَّ.
ولا شك أنَّ مشاكل المرأة العربية تَختلف باختلاف طبقتها الاجتماعية، وتزيد المآسي والمشاكل كلما هبطت المرأة في السلم الاجتماعي، إلا أن هناك مأساةً تشترك فيها جميع النساء من كل الطبقات؛ وهي مأساة الزواج والطلاق؛ إذ بمجرد أن تتزوج المرأة تُصبح خاضعة لذلك القانون الذي يُطلَق عليه اسم قانون الأحوال الشخصية.
وفي بلدٍ كمصر لم يَنلْ قانون الأحوال الشخصية الاهتمام الكافي من رجال السياسة أو الحكم.