الزواج والطلاق في المجتمعات العربية
ظل قانون الزواج والطلاق في مجتمعاتنا العربية من الأمور الثانوية التي تُترك لموظفي الشئون الاجتماعية أو بعض الجمعيات النسائية، بل إن بعض القيادات النسائية التي وصلت إلى مقاعد البرلمان أو الحكم، كانت تَبتعِد عن مناقشة هذا القانون حتى لا تُتهم بأنها ضيقة الأفق محدودة الاهتمامات بما هو نسائي. وظلَّ رجال السياسة بما فيهم الاشتراكيون ينظرون باستخفاف إلى قضية تحرير المرأة، أو تغيير قانون الأحوال الشخصية. إنهم يظنُّون أن الأحوال الشخصية للمرأة والرجل، لا علاقة لهم بالسياسة العليا التي تشغلها القضايا الكبرى، وترى الواحد منهم مُنهمِكًا في اجتماعٍ انتخابي داخل الاتحاد الاشتراكي أو في قاعات البرلمان أو في إحدى حفلات السفارة والسلك السياسي.
إن السياسة العليا لأي بلد لا تجري في هذه القاعات والردهات والحفلات الدبلوماسية، وإنما هي تجري في حياة الناس الصغيرة اليومية، في خروج الفلاح إلى عمله صباح كل يوم، بعد أن يبول بغير ألمٍ أو دم (مرض البلهارسيا يَستنزف دم الفلاح المصري كل يوم، ويَستنزف الدخل القومي بما يصل إلى ٧٠٪)، في تناول العامل كل صبح قطعة من الجبن أو بعض الفول المدمَّس يساعده على مواصلة الوقوف أمام الآلة، في خروج الفلاحة إلى الحقل دون أن يدفعها أحد من الخلف، في امتناع الزوجة عن ممارسة الجنس مع زوجها إذا كانت مُتعَبة أو مريضة، في رعاية الأب لأطفاله وعدم الهروب منهم إلى زوجة ثانية أو عشيقة جديدة … إلخ.
إنَّ هذه الأمور الشخصية والخاصة جِدًّا والصغيرة جِدًّا، كالأكل والتبول وممارسة الجنس والخروج كل صباح وركوب الأتوبيس، التي تحدث في حياة الرجل والنساء اليومية، هي التي تصنع الدولة، وهي التي تصنع السياسة العليا في أي دولة. ولا يمكن لمن يهتم بالسياسة العليا في أي دولة أن يهمل هذه الأمور الشخصية الصغيرة جِدًّا. لا يمكن للفلاح أن يعمل وينتج إذا أُصيب بألمٍ ونزْف دموي في كل مرة يذهب فيها إلى دورة المياه (البلهارسيا)، ولا يمكن للعاملة أو للعامل أن يواصل العمل من غير أن يُرضي رغبته الجنسية، ولا يمكن للزوجة أن تنتج في المجتمع وهي مُضطهَدة عاطفيًّا وجنسيًّا؛ بمعنى آخر لا يُمكن للبشر أن يعملوا وينتجوا بغير أن يفكروا ويشعروا ويُمارسوا الجنس، ولا يمكن لهم أيضًا أن يفكروا ويشعروا دون أن تكون هناك نتائج اقتصادية لذلك. لا يُمكن بحال من الأحوال فصل حياة الناس العاطفية والجنسية عن الحياة الاقتصادية؛ إن أي فصل بينهما يقود إلى فكر ناقص سطحي ومشوَّه. إن الذي صنع تاريخ الإنسان ليست هي العلاقات الاقتصادية وحدها كما يؤمن بعض الاشتراكيِّين، وليست العلاقات الجنسية أو الغريزة الجنسية وحدها كما يؤمن بعض الفرويديين، ولكنَّ الذي صنع التاريخ هما الاثنان معًا، في وحدة واحدة وفي مستوى واحد كما أثبت التاريخ.
لهذا فإنَّ الاهتمام بقانون الأحوال الشخصية، وبقضية مساواة المرأة، لا يُقلِّل من قيمة الرجل السياسي الاشتراكي، بل إن الرجل الاشتراكي الحقيقي، يُعرف من موقفه إزاء قضية المرأة. وبقدر ما يكون الرجل اشتراكيًّا، وبقدر ما يكون الرجل إنسانًا، بقدر ما يكون اهتمامًا بقضية المرأة.
وتَستقي قوانين الزواج والطلاق في البلاد العربية أسسها من الشريعة الإسلامية، هذه الشريعة التي تَرتكز أساسًا على القرآن وأحاديث الرسول «محمد» وتفسيرات علماء الدين الإسلامي لهذه الأحاديث والآيات القرآنية.
ولأن أحاديث وآيات القرآن، لم تَصدُر كلها في يوم وليلة، وإنما صدرت في ظروف ومناسبات متعدِّدة ومختلفة، ومن أجل أن تَتناسب مع المجتمع العربي في زمن معين، كل ذلك جعل هذه الأحاديث والآيات تَشتمِل أحيانًا على أوامر متناقضة، وبالذات فيما يختص بحياة المرأة.
وتنصُّ الشريعة الإسلامية على قطع يد السارق، لكن قانون العقوبات في البلاد العربية ومنها مصر لا يُنفِّذ هذه الشريعة وإنما وضَع قوانين أخرى لعقاب السارق. والذي يدرس تاريخ البلاد العربية يُدرك أن السلطة السياسية تطوِّع الدين للسياسة، وتستخرج من الآيات أو من الشريعة، تفسيرات جديدة تتمشى مع رغبة الحكام. وكما طورت الكنيسة نفسها في أوروبا لتُساير العصر الحديث، فقد طوَّرت المؤسسات الإسلامية ومشايخها أفكارها وتفسيراتهم لتُساير العصر الحديث.
وبقدر ما أسرعت السلطة السياسية في تغيير قوانين الدين، لتُناسب النظم الاقتصادية المتغيرة من الإقطاعية إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية، بقدر ما تلكَّأت في تغيير القوانين الدينية المُتعلِّقة بالزواج وحياة المرأة؛ والسبب في ذلك واضح؛ وهو أن السلطة السياسية في كل زمان ومكان لا تُعبِّر إلا عن مصالحها، ولم تكن هذه السلطة في معظم البلاد العربية وغير العربية إلا سلطة أبوية قائمة على سلطة الرجال داخل الأسرة وفي المجتمع الخارجي.
وهذا هو السبب في أن أغلبية نساء أوروبا وأمريكا حتى اليوم، يَفقدْن أسماءهن بعد الزواج، وتَحمل المرأة منهنَّ اسم زوجها. بل إن كثيرات منهن حتى اليوم لا يَملكْن حرية التصرف في أموالهن إلا بإذنٍ من الزوج. إن الزوجات العربيات أكثر حظًّا من الأوروبيات والأمريكيات في هذين المجالين؛ إذ تحتفظ الزوجة العربية باسمها بعد الزواج ولا تَحمل اسم زوجها، كما أن لها حرية التصرُّف في أموالها بغير إذن الزوج، وليس هذا إلا أحد البقايا الضئيلة المتبقية من النظام الأمومي في المجتمع العربي قبل الإسلام، واتِّساع أفق محمد رسول المسلمين، ونظرته المتحررة للمرأة بالنسبة لغيره من الأنبياء أو الزعماء الدينيِّين أو السياسيين.
ورغم احتفاظ المرأة العربية باسمها بعد الزواج (وهو اسم أبيها بالطبع)، ورغم حقها النظري في التصرف بأموالها بغير إذن الزوج، إلا أن القيود الموضوعية على الزوجة العربية قانونًا وعرفًا، والتي تجعل زوجها صاحب الأمر والنهي ودخولها أو خروجها من البيت يجعل مثل هذه الحقوق بغير فائدة فعالة للأغلبية الساحقة من النساء.
وقد استطاعت السلطة السياسية في بعض البلاد مثل تونس والصومال أن تخالف الشريعة الإسلامية فيما يختص بقوانين الزواج والطلاق والإجهاض، وأن تضع قوانين جديدة تَمنع تعدد الزوجات وتُحدِّد حرية الرجل في الطلاق وتبيح الإجهاض وتساوي الرجل والمرأة في الميراث.
ولا تختلف السلطة السياسية في البلاد الإسلامية في تفسيرها أو تطبيقها للشريعة الإسلامية حسب ظروفها الاقتصادية، ولكن رجال الدين الإسلامي أنفسهم يَختلفون في تفسير الدين حسب مصالحهم ومدى ارتباطهم بالسلطة السياسية أو حسب مُستوياتهم الثقافية أو الفكرية.
وقد كان الإمام الشيخ محمد عبده من رواد القرن العشرين من رجال الدين الإسلامي الذي حارب تعدُّد الزوجات، وقال إنه إذا كانت له فوائد في صدر الإسلام فقد أصبح ضررًا على الأمة الإسلامية. والشيخ أحمد إبراهيم الذي قال: «يجب أن نبادر إلى وضع قانون شامل لمسائل الأحوال الشخصية، وعرْض آراء أصحاب المذاهب وأقوال الفقهاء من غيرهم عرضًا جديدًا على مقتضى النهضة العلمية والتطوُّر الفكري، وعلى أساس من فقهين: فقه بأحكام الشريعة الإسلامية المطهَّرة وفقه بأحوال الناس يُساير ما أثبته العلم في مختلف ظروف الزمان والمكان.»
ويُعتبر الإسلام من أكثر الأديان مرونةً تمشِّيًا مع العقل والتطور؛ وذلك بفتحه باب الاجتهاد. وقد رأى أئمة الدين الإسلامي ومنهم الإمام أحمد بن حنبل (وهو صاحب المذهب الحنبلي أحد مذاهب الإسلام الأربعة وأكثرهم تشدُّدًا وتزمُّتًا) أنَّ الاجتهاد ضروري، وأن وجود المُجتهِد المستقل المُطلَق فرض كفاية لا يصحُّ أن يخلو منه أي عصر. ورأى ابن تيمية فتح باب الاجتهاد لكل قادر دون الالتزام بمذهب معيَّن، وقد قال في حرية الاجتهاد والاستقلال المجتهدين عن الأئمة: «هذا اختلاف زمان وليس اختلاف برهان، ولو كان الإمام في عصرنا لقال قولنا.» وإن الذي يبحث في الدين الإسلامي حول موضوعٍ كتعدُّد الزوجات مثلًا يرى أن علماء الدين اختلفوا اختلافًا عظيمًا، فريقٌ من هؤلاء يرى أن الدين الإسلامي يَمنع تعدُّد الزوجات ويستند في ذلك إلى ما جاء بالقرآن في سورة النساء: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.
ويقول هؤلاء إن هذه الآية تحرم تعدد الزوجات؛ لأنها تشترط العدل بين الزوجات، وهو شرط يستحيل على الرجل تحقيقه؛ لأن معنى التعدُّد هو التفضيل، تفضيل الزوجة اللاحقة على الزوجة السابقة، ويكفي هذا التفضيل ليجعل العدل مُستحيلًا على أي رجل وإن كان نبيًّا، بل إن النبي نفسه «محمد» رسول الله لم يستطع أن يعدل بين زوجاته؛ إذ كان يقضي منه أن يقسم ليله بالتساوي بين زوجاته بحيث لا تجور واحدة على ليلة الأخرى، إلا أن مُحَمَّدًا كان بشرًا، ولم يكن في وسعه دائمًا أن يُحقق هذا التقسيم العادل؛ فقد كان يفضل زوجته عائشة ويُحبها أكثر من زوجاته الأخريات، وعن عائشة قالت: «وكانت سودة بنت زمعة (إحدى زوجات الرسول) قد أسنَّت، وكان الرسول ﷺ لا يَستكثِر منها، وقد علمتْ مكاني من رسول الله وأنه يستكثر مني، فخافت أن يُفارقها وضنَّت بمكانها عنده، فقالت: يا رسول الله، يومي الذي يُصيبني لعائشة وأنت منه في حلٍّ، فقبله النبي ﷺ وفي ذلك نزلت الآية القرآنية: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا.»
وأكثر من هذا ما جاء في كتاب الطبقات الكبرى أن حفصة (زوجة النبي): «خرجت من بيتها، فبعث رسول الله إلى جاريته، فجاءت في بيت حفصة، فدخلَت عليه حفصة وهي معه في بيته، فقالت: «يا رسول الله، في بيتي وفي يومي وعلى فراشي؟» فقال رسول الله: اسكتي، فلك الله، لا أقربها أبدًا، ولا تذكريه.»
وهناك علماء في الدين الإسلامي يرون أن الطلاق في الإسلام ليس حقًّا مطلقًا للزوج كما هو في قوانين معظم البلاد العربية ومنها مصر، وأنه لا بد من أن يُرجع إلى القاضي ولا يُستقل بإيقاع الطلاق متى شاء كما هو الحال اليوم.
وتقف تونس في مقدمة البلاد العربية التي طوَّرت قانون الزواج والطلاق في ١٩٥٦؛ حيث تنص المادة ١٨ منه على منع تعدُّد الزوجات، وبالنسبة للطلاق تنصُّ المواد ٣٠ وما بعدها على أن الطلاق لا يقع إلا لدى المحكمة بناءً على طلب الزوج أو الزوجة. وقانون سوريا للأحوال الشخصية سنة ١٩٥٣ اشترط في المادة ١٧ على أن: «للقاضي أن يأذن للرجل أن يتزوج على امرأته، إذا تحقق أنه غير قادر على نفقتها.» وبالنسبة للطلاق ضمن القانون السوري في المادة ٢٧ مبدأ تعويض الزوجة إذا ما تعسَّف زوجها في استعماله لحقِّه في الطلاق، وهو ما يُعرف بمتعة المطلقة.
- (أ)
أن تكون للزوج كفاية مالية لإعالة أكثر من زوجة واحدة.
- (ب)
أن تكون هناك مصلحة مشروعة.
ونص بالفقرة الخامسة على أنه إذا خيف عدم العدل بين الزوجات فلا يجوز التعدد، ويُترك تقدير ذلك للقاضي.
ونص بالفقرة السادسة على أن: «كل من أجرى عقدًا بالزواج بأكثر من واحدة خلافًا لما ذُكر بالفقرتين (٤، ٥) يُعاقَب بالحبس مدة لا تزيد على سنة، أو بالغرامة بما لا يزيد على مائة دينار أو بهما معًا.» ومؤدى هذه النصوص هو تحقق الرقابة القضائية على التعدد بشروطه الثلاثة. فلم تقتصر هذه الرقابة على القدرة المالية فحسب — على ما جاء بالقانون السوري — وإنما تخطاها إلى شرطَي العدل بين الزوجات وقيام المصلحة المشروعة إلى العذر والضرورة. هذا إلى جانب ما تُقرِّر هذه النصوص من تأثيم فعل الزوج الذي يخالف الالتزام بالرجوع إلى المحكمة لاستئذانها في طلب التعدد. وبالنسبة للطلاق، فإن المادة ٣٩ من القانون العراقي تقضي بوجوب رفع الدعوى بطلب إيقاع الطلاق والحصول على حكمٍ به، وإذا تعذَّر ذلك وجب تسجيل الطلاق بالمحكمة خلال مدة العدة، وتبقى حجة الزوج قائمة في هذه الحالة ما لم تبطلها المحكمة.
وقانون الأحوال الشخصية للمملكة المغربية لسنة ١٩٥٧ تنص الفقرة الأولى من الفصل الثلاثين على عدم جواز التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما تنصُّ بالفصل الواحد والثلاثين، على أن للمُتزَوَّج عليها أن ترفع أمرها للقاضي لينظر في الضرر الذي لحق بها بسبب التعدد.
وقانون الأحوال الشخصية بالباكستان ١٩٦٦ يقضي بالنسبة لتعدد الزوجات والطلاق بوجوب استئذان مجلس التحكم بطلب يُقدَّم إليه متضمِّنًا الأسباب التي تبرره، فإذا لم يستأذن الزوج مجلس التحكُّم قبل التعاقد على زواجٍ يؤدي إلى تعدد الزوجات أو قبل أن يوقع الطلاق فإنه يلتزم بتعويض زوجته، فضلًا عن الحكم عليه بالحبس والغرامة أو إحدى العقوبتين. وقد تضمن قانون ١٩٦٧ أحكامًا مماثلةً تقريبًا لما يقضي به قانون الأحوال الشخصية بالباكستان من حيث ضرورة الحصول على الإذن قبل التعاقد الذي يؤدي إلى التعدد وقبل إيقاع الطلاق.
وفي ضوء ما سبق يُعتبَر قانون الزواج والطلاق المصري من أكثر القوانين تخلُّفًا في البلاد العربية وأكثر تعسُّفًا بالمرأة، هذا القانون الذي صدر في سنة ١٩٢٩؛ أي مضى عليه حوالي نصف قرن، وما زال يتحكَّم في مصائر النساء ويتيح للأزواج استغلالهن.
وقد ناضل الاتحاد النسائي المصري من أجل تغيير هذا القانون، كما ناضلت مجموعات من النساء والرجال من ذوي العقول المستنيرة لتطوير هذا القانون دون أثرٍ يُذكر.
ويتصوَّر بعض الناس أن الشريعة الإسلامية هي التي تقف عقبة في وجه تطوير هذا القانون، لكن الشريعة الإسلامية نفسها لم تَمنع تغيير هذا القانون في بلاد إسلامية أخرى، بل إن الشريعة الإسلامية لم تمنع تغيير قوانين أخرى في مصر بعد ثورة ١٩٥٢ منها قوانين تحديد الملكية وبعض بنود قانون العقوبات كعقوبة السرقة والزنا مما يخالف الشريعة.
إن قانون الزواج والطلاق في مصر لا زال حتى اليوم يَمنح الرجل حرية الطلاق وتعدُّد الزوجات، وفي إمكان أي زوج له زوجة ومن الأطفال عشرة أو أكثر ثُمَّ تُقابله امرأة صدفة في الطريق يُعجبه شكلها فإذا به يتزوجها ويُطلِّق زوجته القديمة ومعها العشرة. إن مثل هذه المآسي تحدث في مجتمعنا المصري، ولعلَّ آخر ما قرأتُه في هذا الصدد ما نُشر في جريدة أخبار اليوم تحت عنوان: «ذهب الأب إلى مجلس الآباء، فخرجت زوجته وأولاده من البيت»، ونشرت الجريدة ما يأتي: «انشغل الموظَّف الكبير بالمُشرفة نفسها ولم يَتتبع حديثها، وكان قد تلقى دعوة لحضور مجلس الآباء في المدرسة التي تدرس فيها ابنته، وعندما ذهب إلى هناك قابلتْه المُشرفة على المجلس، وأخذت تتحدَّث عن مجالس الآباء والأمور التي تُهمُّ الطالبات، ولكنه غاب عن الحديث في التطلع إلى وجه المشرفة في إعجاب، وعاد إلى المدرسة التي تَدرُس فيها ابنته، وعندما ذهب إلى هنا قابلته المشرفة في إعجاب، وعاد إلى المدرسة بعد ذلك مرارًا، كانت حجته السؤال عن ابنته، وكان هدفه أن يرى المشرفة. وفوجئت زوجته وهو يدخل البيت ومعه المشرفة التي تزوَّجها، فحملت حقيبتها وأخذت أولادها وذهبت إلى بيت أسرتها، وأمام المحكمة وقفت الزوجة الأولى تُطالب بالنفقة وتقول إن له ٣ أولاد أكبرهم في نهائي طب والثانية بكلية التجارة والثالثة بالثانوي. وحكمت المحكمة بأن يدفع الزوجة نفقة الزوجة والأولاد قدرها ٧٠ جنيهًا في الشهر.»
هل هناك فوضى جنسية أكثر من هذا؟ أيُّ دين من الأديان يمكن أن يُدافع عن مثل هذه النزوات الجنسية غير المسئولة؟ وهل من حق زوج أن يَنجذب إلى أي امرأة أن يُطلِّق زوجته ويُشرد أطفاله؟ وهل ينتهي كل شيء بأن يدفع الرجل نفقةً سبعين جنيهًا في الشهر أو سبعين مليمًا حسب دخله الشهري؟
هذا هو الحال الذي يعيشه الرجال في مصر وبعض البلاد العربية حتى اليوم، وقد صدر في الأيام الأخيرة مشروع جديد لتطوير هذا القانون في مصر، قالت الصحف أنه ظل سنوات عديدة يُناقَش من رجال الدين، وأنه في النهاية عُرض على أكبر هيئة علمية إسلامية، هي مجمع البحوث الإسلامية، ونُشرت التعديلات المقترحة في جريدة الأهرام في ٢٩ فبراير ١٩٧٦، ومنها نرى أنَّ جوهر القديم لم يُمَس، وأن حق الرَّجل في النزوة الجنسيَّة لا زال موجودًا بوجود حقه غير المسئول في الطلاق؛ إذ يقول المشروع: إنَّ الرجل هو الذي يُطلِّق فقط، ويُشترَط لوقوع الطلاق أن يكون الزوج عاقلًا ليس مجنونًا وليس سكرانًا وليس مدهوشًا وليس غضبان، والزوج هو الذي يحدد حالته حين وقوع الطلاق (لا أدري كيف يحكم الشخص على نفسه، ويُصبح الحكم وهو الخصم في وقت واحد). ومن بنود المشروع الجديد أيضًا أن الزوج يُمكن أن يُطلق زوجته إذا قال لها: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» في مجلسٍ واحد، ويُعتبَر ذلك طلقة واحدة فقط، مثلما يقول لها: أنتِ طالق ثلاثًا، فهذه أيضًا طلقة واحدة؛ والزوج يملك على زوجته ثلاث طلقات، وزواجها برجل آخر يهدم طلقاته، فإذا عادت إليه ملك عليها ٣ طلقات جديدة.
ومن الغريب أنه بعد ذلك يَتكلم المشروع عن إجراءات توثيق الطلاق، فيقول إنه في حالة عدم اتفاق الزوجين على الطلاق لا يُوثَّق الطلاق إلا إذا تمَّت إجراءات التحكيم المنصوص عليها في القرآن الكريم، ثُمَّ ثبت عدم نجاح التحكيم في الإصلاح بينهما، ولكن لا يُعتبَر التوثيق شرطًا لوقوع الطلاق؛ ومعنى هذا أن الطلاق يقع بدون التوثيق وبدون إجراءات التحكيم المنصوص عليها في القرآن الكريم، فكيف يكون ذلك؟ وكيف يُناقض المشروع القرآن الكريم: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا؟ وكيف يشتمل المشروع على عبارتين متناقضتين تمام التناقض، وكلٌّ منهما تُلغي الأخرى؟ لكن الطلاق في النهاية يقع بتوثيق أو بدون توثيق لمجرَّد أن يقول الزوج لزوجته: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» في مجلس واحد، ويُعتبر ذلك طلقة واحدة فقط، ويبقى من حق الزوج بعد ذلك طلقتان أخريان؛ لأنَّه يملك ثلاث طلقات على زوجته، وهو يملك أيضًا أن يَتزوج عليها ثلاثًا أُخريات. وقد كسبت الزوجة فقط في هذا المشروع حق الامتناع عن السكن في بيت واحد مع ضرتها (الزوجة الأخرى)، وكسبت حقًّا آخر جديدًا وهو أن تطلب الطلاق من زوجها إذا تزوَّج عليها مرة أخرى. وإذا نظرنا إلى حالة معظم الزوجات، وبالذات الفلاحات اللاتي يعملن بغير أجر لحساب الزوج والأسرة، فمن هي تلك الزوجة التي سوف تستخدم هذا الحق وتَطلب أن تخرج إلى الشارع بغير رجل (ظل راجل ولا ظل حيطة) وتتعرَّض للتشرد الأخلاقي والاقتصادي معًا، في ظل تقاليد تدين المرأة المطلَّقة ومُجتمع يستغل جهود النساء في الحقول والبيت بغير أجر؟
ومن الحقوق التي كسبتها المرأة أيضًا في هذا المشروع أنها يُمكن أن تسافر إلى الحج فقط بغير إذن من زوجها؛ بشرط أن يسافر معها محرم (أخوها أو أبوها)، وهي ملزَمة بالسفر مع زوجها إلى أيِّ مكانٍ يذهب إليه. وفيما يخص بيت الطاعة فلا يجوز تنفيذ حكم الطاعة على المرأة بواسطة رجل البوليس، وهذا كله في رأيي تعديلات طفيفة لا تمسُّ جوهر بيت الطاعة ولا تمس جوهر الظلم الواقع على المرأة المُتزوِّجة، وهي تُناقض روح الشريعة الإسلامية التي مبدؤها المعاشرة بالمعروف أو التسريح بالمعروف.
إن مشكلة الطلاق وتعدد الزوجات في مصر ليست مشكلة المرأة فحسب، ولكنها مشكلة الرجال والنساء والأطفال. وكم سمعنا عن قصص مؤلمة لأطفال شرَّدهم الطلاق، والنساء المُطلَّقات لم يجدن من وسيلة للعيش سوى بيع أجسادهن، وبنات صغار انصرف عنهنَّ الأب إلى عشيقات أو زوجات جديدات.
والطلاق قد يكون أحيانًا ترفًا (بالنسبة لمآسي الزوجة) لا تحصل عليه الزوجة أبدًا، وقد يكون محنة سرعان ما تحصل عليها، وفي كلا الحالَين فإن الأمر بيد الزوج وحده الذي ينطق بكلمة وقد لا يُطلقها أبدًا عنادًا وتجبُّرًا واستغلالًا لحق قانوني جائر، وقد يطلب زوجته في بيت الطاعة ويُحضرها بالبوليس فإذا بها تجد زوجة أخرى مع زوجها.
وتحدُث المأساة حين تصبح المرأة مُطلَّقة وليس لها عمل أو إيراد تعيش منه، ولا يصبح أمامها إلا النفقة التي تحصل عليها بمشقَّة من زوجها، وقد لا تحصل عليها في معظم الأحيان بسبب تحايل الأزواج على القانون أو بسبب ضعف القانون وتشجيعه لتحايل الأزواج وهروبهم من النفقة.
- الحكم الأول: لا نفقة للسيدة التي تحجُّ دون إذنٍ من زوجها؛ لأن النفقة تُعطى للزوجة مقابل الاحتباس، ولا نفقة للزوجة التي تحُجُّ دون إذن زوجها عن فترة الحج. كانت إحدى الزوجات رفعت دعوى نفقة على زوجها الموظف الكبير قالت إنه منَع عنها النفقة عن فترة أدائها فريضة الحج، وأصدرت المحكمة حكمها بعدم أحقية الزوجة للنفقة الشرعية عن فترة أدائها لفريضة الحج التي قامت بها بدون إذن من زوجها؛ لأنَّ النفقة واجبة على الزوج مقابل احتباس زوجته.
- الحكم الثاني: أقامت مطلَّقة دعوى ضد زوجها المهندس، قالت إنه بعد أن طلقها وضعت في مستشفى خاص، وتكلَّفت الولادة ومصروفات العلاج بعد الولادة ٥٠٠ جنيه، وقدمت بها فواتير رسمية، وقضت المحكمة برفض الدعوى، واستندت المحكمة في حكمها بعدم أحقية المُطلَّقة لمصروفات الولادة على فتوى لمحكمة عابدين: «أجر القابلة على مَن استدعاها»؛ فالزوج المُطلِّق غير مُلزَم بدفع مصروفات الولادة، أمَّا العلاج لفترة النفاس فهو علاج مرَضي وليس على الرجل المُطلِّق سداد نفقته.
ولست بصدد الدخول تفصيلًا في مهزلة النفقة، وإن حظيَت بها المرأة المطلقة، فهي نفقة مؤقتة لفترة قصيرة محدودة، ثُمَّ تصبح المرأة بغير عائل وبغير مورد.
والعمل المُنتج بأجر يحمي المرأة بالطبع يَمنحها إيرادًا شهريًّا يسد رمقها، لكن المرأة العاطلة تُصبح في الشارع بغير عمل وبغير إيراد، وعليها وحدها أن تنتزع لقمة عيشها من أنياب المجتمع، عليها أن تسرق (إذا تعلمت السرقة) أو عليها أن تبيع جسدها، وهي في كلا الحالين (السرقة والبغاء) مُعرَّضة للسجن. وفي سجن القناطر التقيت بنماذج متعددة من هؤلاء النساء التعيسات اللاتي حُرمن التعليم والعمل بسبب التقاليد القديمة أو لسبب آخر، وحُرمن من الزواج بسبب تطليق الزوج لهن بسبب أو بغير سبب، وحُرمن حتى من العدالة القانونية لأن القانون يُعاقِب المرأة البغيَّ ولا يُعاقِب الرجل.
أمَّا هؤلاء اللاتي لم يَتعرَّضن لمثل هذه الظروف التعيسة فإنهن بسبب فقدان المورد الاقتصادي الكافي يَعِشْن حياة ذليلة، وكم من امرأة مطلقة لم تجد المأوى بعد أن نفدت النفقة التي حصلت عليها وأصبحت حائرة بين بيوت أهلها وأقاربها تتسول لقمة العيش أو تعمل خادمة في بيت تتعرَّض فيه لمشاكل وإهانات لا حصر لها.
وقد تعرَّض مشروع الأحوال الشخصية الجديد لموضوع النفقة لتعديلات طفيفة لم تحلَّ جوهر المشكلة؛ أذكر منها ذلك النص: «إذا طلق الرجل زوجته دون رضاها، ولم تكن الإساءة منها، فإنها تَستحق مبلغًا إضافيًّا بخلاف النفقة يُسمَّى «المتعة»، ويُقدَّر بما لا يتجاوز نفقة سنة حسب حالة الزوج.» ومن هنا نفهم أيضًا أن الرجل يُطلِّق زوجته بدون رضاها وبدون خطأ منها نظير أن يدفع شيئًا إضافيًّا من المال، وبهذا يُعطى الرجل الغني حرية أكثر من الرجل الفقير لإرضاء نزواته الجنسية، ثُمَّ ماذا تفعل نفقة سنة واحدة لامرأة بغير إيرادٍ طلَّقها زوجها دون رضاها ودون خطأ منها؟ وماذا تفعل نفقة سنة أو سنتين لامرأة عاشت مع زوجها عشر أو ثلاثين سنة، وأعطته جهدها وشبابها وأطفالها، ثُمَّ خرجت إلى الشارع بنفقة إن أطعمَتْها سنة فلن تُطعمها السنة الثانية. وفي ظل إمكانيات العمل المحدود في المجتمع وكثرة المتعطلين بغير عمل لا تجد مثل هذه المرأة إلا تجارة الجسد، بل إن مثل هذه المرأة قد لا تَصلُح لتجارة الجسد أيضًا بعد أن استهلك زوجها جسدها وشبابها ثُمَّ ألقى بها في الشارع كمُصاصة القصب.
وقد وُجد أن عددًا من البنات الصغار اللاتي لجأن إلى تجارة الجسد هنَّ ضحايا آباء تركوا زوجاتهم وأولادهم من أجل رغبة جنسية جديدة؛ وقد ثبَت أن الأم بعد الطلاق هي التي تتحمَّل همَّ تربية الأطفال بسبب وضعها الأدنى في المجتمع، وبسبب حرصها على المسئولية الأمومية التي فرضها عليها المجتمع، وبسبب خوفها من ألسنة الناس التي تُهاجم المرأة التي تُهمل أطفالها أكثر من مهاجمة الرجل الذي يهمل أطفاله، وبسبب حبها لأطفالها كإنسانة وأم، وبسبب عدم وجود فرص كثيرة للمرأة المُطلَّقة من الزواج مرة أخرى (الزواج بمُطلَّقة مثل أكل الطبيخ البايت)، وبسبب القيود على حريات المرأة الاجتماعية والشخصية، وبسبب انطلاق الرجل المطلِّق حُرًّا يعربد كما يشاء أو يتزوج كما يشاء دون أن يحمل هم أولاده أو بناته، كل ذلك جعل من المرأة المطلَّقة أكثر التصاقًا بأطفالها وأكثر رعايةً لهم وأكثر مسئولية نحو مصالحهم بعكس الرجل، فلم نسمع إلا نادرًا عن هذا الرجل الذي طلَّق زوجته، ثُمَّ بذل الجهود لرعاية أولاده وبناته. بالإضافة إلى أن الرجل في معظم الأحيان لا يطلق زوجته إلا من أجل الزوجة الجديدة، وإذا لم يستطع التخلُّص منهم فكم من عذاب يراه أولاده وبناته على يد زوجة الأب، وكم آباء يَنحازون إلى صف الزوجة الجديدة المدللة ضد مصلحة أولادهم وبناتهم.
ومع كل ذلك يأتي المشرِّع الجديد لقانون الأحوال الشخصية فيَنزع من الأم حضانتها لأطفالها في سن ٧ سنوات للولد و٩ سنوات للبنت، ويَفرض على البنت وهي طفلة تسع سنوات أن تعيش مع أبيها بالقوة وبدون رغبتها، أمَّا الولد فهو حُر منذ سبع سنوات وله أن يختار الحياة مع أبيه أو مع أمه حسب رغبته.
ولا أدري أين العدالة هنا؟ بل لا أدري أين مصلحة الطفلة البنت هنا حين تُساق إلى أبيها وزوجة أبيها بالقوة وهي تصرُخ للتشبُّث في حضانة أمها؟!
ويقولون إن البنت في حاجة أكثر من الولد لرعاية الرجل؛ لذا فإن الذين يَدرسون حياة الأطفال يُدركون أن الاعتداءات الجنسية على الأطفال الذكور لا تقل عن الأطفال الإناث إن لم تزد، وأن الأم أكثر رعايةً وأكثر حرصًا على صالح بناتها وأولادها من أبيهم، فما معنى هذه التفرقة الغريبة بين الولد والبنت في سن الطفولة؟ وما معنى هذا الاغتصاب لحق الأم دون الأب؟ ثُمَّ إن الذين يَدرسون ظروف البنات الصغار اللاتي لجَأن إلى تجارة الجسد يجدون أن معظمهن ضحايا آباء أهملوا الإنفاق على بناتهم بسبب الزوجة الجديدة أو العشيقة الجديدة، وكلهن ضحايا أسر فقيرة مزَّقها الطلاق وتعدُّد الزوجات.
ويقول المُشرِّع الجديد أيضًا في تعديلاته المقترحة إن مدة حضانة الأم للطفل قد تطول مدةً إضافيةً إذا اقتضت مصلحة الطفل ذلك، لكن المشرع نصَّ على عدم استحقاق الأم الحاضنة للأجر عن هذه المدة الإضافية.
والسؤال هنا: هل الحضانة مسألة ضيافة حتى يُكلَّف بها المضيف؟ أم هي مصلحة الطفل التي اقتضت إطالة مدة حضانة الأم له؟ وإذا كان كذلك فلماذا تُحرَم من أجر الحضانة؟
ولا شك أن الفقر وانعدام المورد الاقتصادي يَلعب دورًا خطيرًا في مآسي الأمهات المطلَّقات الحريصات على صالح أطفالهن؛ ولهذا فإن أول خطوة لتحرير المرأة من الظلم والقهر الجنسي والاقتصادي هو أن تعمل وتنال عن عملها أجرًا من الدولة وليس من الزوج.
ولعلَّ أعجب شيء في قانون الزواج والطلاق في مصر وعدد من البلاد العربية هو ذلك الذي سُمِّيَ «بيت الطاعة»، وتلك الصفة التي تُطلَق على الزوجة أحيانًا وهي «النشوز».
وأن كلمة «ناشز» من الكلمات الشائعة في مجتمعنا، تُلصَق بالمرأة التي تعصي أوامر زوجها، وإن كان هذا الزوج سكِّيرًا أو عربيدًا أو قوَّادًا أو لصًّا أو مُهرِّب مخدرات.
وإذا ضرَب الزوج زوجته بسبب أو بغير سبب فهربت منه إلى بيت أهلها وطلبت الطلاق فهو قادر (إذا أراد) أن يُرسِل إليها (بسلطة قانون بيت الطاعة) رجل الشرطة ليجرَّها من يدها بالقوة إلى بيت زوجها، فإن رفضَت وامتنعت عن الذهاب أصبحت في نظر القانون «ناشزًا».
وقد سبقت كثير من الدول العربية والإسلامية مصر في إلغاء بيت الطاعة وفي تطوير قوانين الزواج والطلاق، ولكن مصر التي هي رائدة الوطن العربي في التقدُّم ورائدة العالم في الحضارة لا يزال بها حتى اليوم بيت الطاعة.
وقد نُشر في جريدة الأخبار الصادرة في ٢٥ فبراير ١٩٧٤ في صفحتها الأولى موضوع بعنوان «مبدأ» في الأحوال الشخصية: «للزوجة عدم الطاعة إذا كان بيت الطاعة في جبل درنكة.» وكتبت الجريدة: «إن محكمة الاستئناف للأحوال الشخصية بأسيوط أصدرت مبدأً هامًّا قضيت فيه بإلغاء حكم الطاعة على زوجة مزارع؛ لأنَّ منزل الزوجية أعده الزوج في جبل درنكة، الذي لا يزال مأوى للهاربين من المجرمين.» وكان الجبل مأوى «الخُط» الشهير زعيم العصابات في الأربعينات. وقالت: «لا يصلح هذا المكان للطاعة؛ لأنه يُشترَط أن يكون بيت الطاعة بين جيرانٍ تأمَن فيه الزوجة على نفسها، وليس لهذا البيت في الجبل جيران. صدر الحكم برئاسة عبد الوارث عبد الحليم عبد الله رئيس المحكمة.»
وإنه لَواضح أنه لم يطرأ على بال المحكمة أن تُناقض فكرة أن تُجبَر الزوجة على العيش مع زوجٍ لا تريده، ولكن كل ما تُناقشه: هل بيت الطاعة أو المكان الذي ستُجبَر على العيش فيه له جيران أم ليس له جيران.
والذين يقولون إن بيت الطاعة نابع من الدين الإسلامي يُغالطون؛ لأن رسول المسلمين نفسه كثيرًا ما ذكر في أحاديثه أن المرأة لا تُجبَر على العيش مع زوج لا تريده أو تكرهه، بل إن من حقها قبل الزواج أصلًا أن تختار الرجل الذي ترغبه.
والمرأة أيضًا في الإسلام لها أن تفصم عقد الزواج إذا خُدعَت فيه أو أُكرهَت عليه، وليس لامرئ أن يَقودها قسرًا إلى ما لا تريده؛ فلقد فصم الرسول محمد زواج خنساء بنت خدام الأنصارية لأن أباها زوَّجها وهي كارهة.
إن قانون الزواج والطلاق في مجتمعنا العربي ليس إلا أحد بقايا قوانين الإقطاع الأبوية التي تجعل الزوجة كقطعة الأرض، يمتلكها الرجل ملكية تامة، يفعل بها ما يشاء، يستغلها أو يضربها أو يَبيعها في أي وقت بالطلاق أو يَشتري عليها زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة. أمَّا حقوق الزوجة فهي أن يعدل الزوج بينها وبين ضرائرها من الزوجات الأُخريات، ولا أدري كيف يمكن أن يعدل الزوج بين زوجة قديمة وبين عروس جديدة، ومَن الذي يُثبت على الزوج العدالة أو عدم العدالة؟
أمَّا بنود القانون التي تُعطي للقاضي حق تطليق الزوجة من زوجها فهي صارمة جِدًّا؛ يقول القانون ما يأتي عن الحالات التي يسمح فيها بالطلاق: «إذا حُبس الزوج ثلاث سنوات فأكثر، فتُصبح للزوجة الحق في أن تطلب تطليقها منه، ولا يُطلِّقها القاضي إلا بعد أن يثبت أن الحكم صدر بالسجن لمدة ثلاث سنوات فأكثر وأنه أصبح نهائيًّا وأنه نُفِّذ على الزوج ومضت سنة فأكثر من تاريخ تنفيذه. وتطلب الزوجة الطلاق في حالة عدم إنفاق الزوج عليها، أو مرض الزوج بالجنون أو البرَص، أو ضرْب الزوج لزوجته إلى حد الإضرار بها (معنى ذلك أن الضرب إلى حدِّ عدم الإضرار مسموح به) أو غياب الزوج عن زوجته مدة طويلة.» وهذه الحالات كلها تُترك للقاضي ليتثبَّت منها. وتتشدَّد بنود القانون في هذه الحالات، بحيث يصبح الطلاق صعبًا جِدًّا؛ مثال ذلك النص بأن مرض الزوج بالجنون أو البرَص أو الجذام لا يُعطي الزوجة الحق في طلب الطلاق بعد عقد الزواج إذا تزوَّجته وهي عالمة بالغيب ورضيَت به.
هذا هو قانون الطلاق المفروض على النساء العربيات في معظم البلاد العربية حتى اليوم، وقد يَختلف القانون من بلد إلى بلد اختلافًا سطحيًّا، أمَّا الجوهر فإن الرجل العربي له حق الطلاق في أي وقت وبإرادته وبغير علم الزوجة أحيانًا، وفي مصر قد يرسل الزوج لزوجته ورقة الطلاق بالبريد دون سابق علمها.
وفي البلاد العربية التي حاولت تقييد حرية الرجل في الطلاق لم يُوضَع قرار الطلاق في يد القاضي كلية كما هو الحال عند الزوجة، ولم تُفرَض عليه الشروط المشدَّدة مثلها، ثُمَّ ما هو القاضي؟ أليس هو رجل من رجال المجتمع الأبوي الطبقي الإقطاعي أو الرأسمالي؟ أليس القضاء كالبوليس جهاز من أجهزة الحكم الطبقي وفرض العدالة أحادية النظرية، عدالة من وجهة نظر الحكام فقط؟
ولستُ أظن أن الزوجة العربية يمكن لها أن تتساوى مع الرجل في حق الطلاق طالما أن المجتمع كان طبقيًّا أبويًّ.، إن مؤسسة الطلاق كمؤسسة البغاء كمؤسسة الأطفال غير الشرعيين، إحدى المؤسسات اللازمة لنشوء واستمرار المجتمع الطبقي الأبوي. لقد أُوجد الطلاق ليتخلص الرجل من زوجته غير المرغوب فيها بأقل تكاليف مُمكنة (ما سُمِّيَ بالنفقة) أو مؤخَّر الصداق، وبحيث يضمن حصوله على أطفاله منها إذا كانت حاملًا حين طلقها، ومراقبة ذلك العمل لمدة معينة (حدَّدها العرب بثلاثة شهور وسموها العدة) حتى لا يتسرَّب إلى حظيرته طفلُ رجل آخر يقتسم مع أطفاله أمواله وتركته.
في كل الأنظمة الاجتماعية منذ نشوء الأسرة الأبوية والطبقات والعبودية ثُمَّ الإقطاع، لم يكن حق الطلاق إلا في يد الرجل؛ فالمجتمع الطبقي الأبوي جعل من المرأة سلعة تَشتري بالمهر أو الصداق، وتُباع بمؤخَّر المهر والنفقة. ولقد حرَّر المجتمع الرأسمالي الفلاحين من عبودية الإقطاع، ليس لأسباب إنسانية تحريرية، بل لأن الرأسمالية كانت في حاجة إلى سواعد الفلاحين في الصناعات الجديدة، وقد حوَّلت سواعد الفلاحين إلى عُمال أو قوة عمل، تدخل السوق أيضًا كسلعة تضمن للرأسمالي حرية شرائها بأبخس الأثمان (كما نشتري المرأة بأقل مهر) أو يَطردها في أي وقت بغير معاش، لتبقى في السوق جائعة تُعاني البطالة، كقوة احتياطية يُمكن أن يستخدمها مرة أخرى بأبخس ثمن إذا احتاج إليها.
وقد يُعيد الرجل العربي زوجته التي طلَّقها خلال مدة «العدة» بغير إرادتها؛ لأنها خلال تلك المدة تكون ملكًا له؛ فهي زوجة ولا زوجة في الوقت نفسه، وحتى لا تستطيع خلال مدة «العدة» أن تتزوَّج رجلًا آخر، وهي تظلُّ تحت رهن إشارة زوجها أو مُطلِّقها إلى أن تنتهي مدة «العدة»، فإذا لم يردَّها إليه أصبحت في حِلٍّ من الزواج برجل آخر.
وبمثل ما حرَّر المجتمع الرأسمالي الفلاحين من عبودية القطاع، فقد حرَّر النساء أيضًا من عبودية البقاء في البيت، ليس لأسباب تحريرية إنسانية، بل لحاجته إلى سواعد النساء في الصناعة، وإذا كان المجتمع الرأسمالي قد أعطى المرأة حق الطلاق كالرجل في بعض البلاد كالرجل في بعض البلاد الصناعية، فلم يكن ذلك إلا لتُصبح النساء قوة عمل متحرِّكة معروضة أو احتياطية في السوق، وقد اقتضى ذلك إعطاء بعض الحرية للمرأة للخروج من تحت سيطرة الرجل، ونتج عن ذلك قوانين زواج وطلاق جديدة سُمِّيَت ﺑ «الزواج المدني». ونجَح المجتمع الرأسمالي المتقدم في فصل الزواج عن الدين، كما نجح في فصل الدين عن الدولة، ليس لأسباب تحريرية إنسانية، وإنما لأسباب اقتصادية استغلالية.
وقد يُفسر لنا هذا ازدياد معدَّلات الطلاق في البلاد الرأسمالية المُتقدمة عن البلاد الإقطاعية المُتخلفة، ويفسر لنا ازدياد الطلاق في المدن عن القرى، وازدياد معدلات الطلاق بين النساء العاملات بأجر عن النساء العاطلات في البيوت تحت رحمة الأزواج أو الفلاحات العاملات بغير أجرٍ تحت سيطرة الرجل.
إنَّ معدَّلات الطلاق في مصر تدلُّ على أن معدَّل الطلاق في محافظة القاهرة ٢٫٩ لكل ألف من السكان وكذلك محافظة الإسكندرية، وهما أعلى معدل للطلاق في مصر، وهما أكبر مدينتين في مصر، وتتركز فيهما الشركات الكبرى والصناعات والوظائف الحكومية، وتعيش فيهما أكبر النسب من النساء العاملات بأجر. ويهبط معدل الطلاق بعد ذلك إلى ١٫٢ في كفر الشيخ و١٫٣ في سوهاج و١٫٤ في المنوفية و١٫٩ في الدقهلية.
ويكاد يكون هذا هو الحال في معظم البلاد العربية؛ ففي سوريا مثلًا تزيد معدلات الطلاق بين النساء العاملات بأجر عن النساء المعتمدات على الرجل في الإعالة. إن معدَّل الطلاق بين النساء الأخريات هو ٠٫٠٦٪، كما أن إقبال النساء العاملات بأجر على الزواج أقل من إقبال النساء غير العاملات. في سوريا نسبة المتزوجات بين النساء العاملات هي ٤٦٫٧٪ فقط، أمَّا بين النساء الأخريات فإن هذه النسبة ترتفع إلى ٧٨٫٢٪.
وهذا أمر طبيعي؛ فالمرأة التي تستطيع أن تُطعم نفسها بأجرها المستقل لا تستسلم للعبودية كالمرأة التي تحتاج للزواج لتأكُل، أو تخشى الطلاق فتفقد موردها الوحيد للطعام. وإذا تركنا موضوع الطعام وتكلمنا عن موضوع الجنس أو حاجة المرأة لإشباع حاجتها الجنسية، فإن الزواج هو الوسيلة الوحيدة أمام المرأة العربية لممارسة الجنس؛ فالعلاقات الجنسية قبل الزواج ممنوعة تمامًا بالنسبة للبنت العربية في أي بلد عربي حتى اليوم، كما أنَّ العادة السِّريَّة ممنوعة ومحرَّمة في المجتمعات العربية، والمرأة غير المُتزوِّجة أو المطلَّقة أو الأرمل لا تستطيع أن تمارس الجنس إلا إذا تزوجت، وإذا لم يَتزوَّجها رجل فهي تظل عذراء أو عزباء، وقد تُضحِّي المرأة بسمعتها لتقيم علاقة حرة برجل، لكنها تُصبح في نظر المجتمع العربي امرأة مُحتقَرة أقرب ما تكون إلى المومس.
إلا أن المجتمع العربي أصبح يَشهد في السنين الأخيرة قلة من النساء العاملات بأجر، والمستقلات نفسيًّا وأخلاقيًّا إلى حدٍّ كبير، وممن يستطعن رفض الدخول في مؤسسة الزواج أو الطلاق الأبوية، ويخترن طريقة الحياة التي تُرضيهن ويفرضن على المجتمع احترامهن أيضًا والاعتراف بهنَّ، لكن الأغلبية الساحقة من النساء العربيات، لا زلن مذعورات من كلمة «الطلاق» خوفًا من الجوع والتشرُّد وألسنة الناس، يتقبَّلن أي معاملة سيئة من الزوج دون شكوى أو تذمُّر، وقد تخدم الواحدة منهن ضرتها (الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة) كما يحدث حتى اليوم في الريف المصري. بل إن الفلاحة المصرية قد تبحث بنفسها لزوجها على زوجة أخرى لتُرضيه، لتُخفِّف على الأقل من قسوته عليها، أو لتُنجب الزوجة الجديدة له طفلًا ذكرًا إذا كانت هي قد أنجبت بناتٍ فقط، وما أتعس تلك الزوجة العربية التي لا تنجب طفلًا ذكرًا خاصةً في الريف. إن أقل ما يُمكن أن تتعرَّض له هو أن تسقط على وجهها من حين إلى حين كفُّ زوجها الغليظة في صفعات قوية بسبب وبغير سبب، أو صوته الغاضب الخشن، يرتفع لأتفه سبب في وجهها صائحًا: «عليَّ الطلاق بالثلاثة.»
وكم تحدث كل هذه الأعمال الوحشية تحت مظلَّة كثيفة من القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، وتحت وابلٍ من الألفاظ الرنانة البليغة عن الشريعة الإسلامية، وواجب المرأة من حيث الطاعة واحترام زوجها، والمحافظة على كيان الأسرة والأطفال.
أمَّا الرجل العربي فهو غير مطالب بالحفاظ على الأسرة والأطفال، مع أن الأسرة والأطفال ملك له هو وليس ملك المرأة، ويُساعد القانون والعرف والشرع الرجال على العبث بالنساء. إن الشرع قد أباح للرجل المسلم أن تكون له أربع زوجات في وقت واحد، لكن الرجل يستطيع أن يكون له أكثر من أربع زوجات شرعيات في ظلِّ القانون نفسه بسبب «العدة» وحرية الطلاق وقدرة الزوج على إعادة زوجته إليه في أي وقت قبل انتهاء «العدة» (ثلاثة شهور). إن الرجل قد يكون له أربع زوجات في البيت، وأربع زوجات أُخريات في «العدة»، وحين تُردُّ إليه واحدة من «العدة» يطلق واحدةً من البيت، وعلى هذا النحو قد يكون للرجل أي عدد من الزوجات في أي وقت، عن طريق إخراجهنَّ من «البيت» وإدخالهن «العدة» وتطليق ما يزيد عن الحاجة عند الضرورة، وقد اشتهرت هذه الطريقة في المجتمع الصومالي الإسلامي بين طبقة الرجال الأثرياء، بعد أن بدأ المجتمع يلغي نظام الجواري والسراري وَمِلْك اليمين.
وكم من أشكال مشابهة من الزواج واللازواج الذي يُباح للرجال المسلمين تحت مظلة الشريعة مثل ما سُمِّيَ ﺑ «مهر شرطي» في الصومال وغيرها من البلاد الإسلامية؛ وهو شبيه بزواج المتعة أو الزواج المؤقت. ثُمَّ ما سُمِّيَ ﺑ «الخطبة السرية»؛ وهي أن يتزوج الرجل سِرًّا حتى لا تَغضب زوجته الأولى، وكم من مفارقات تحدث حين تَلتقي الزوجتان بالصدفة في مكان واحد، أو يلتقي طفل الزوجة الأولى مع طفل الزوجة الثانية في مدرسة واحدة، ويَكتشف الطفلان أن أباهما واحد.
ويُبيح الإسلام للرجل أن يَتزوَّج امرأةً غير مسلمة، لكنه يُحرِّم على المرأة الزواج إلا من رجل مسلم.
والزواج من الكتابيات (اللاتي يؤمنَّ بالكتب السماوية الأخرى غير القرآن) أمر ثابت في الشريعة الإسلامية، ويُمارسه المسلمون منذ الصدر الأول للإسلام حتى اليوم.
أمَّا المرأة المسلمة فلا تستطيع أن تتزوج إلا رجلًا مسلمًا وإلا خرجت عن دينها.
وليس في المجتمع العربي ما يُعرف في الغرب باسم «الزواج المدني»، وقد استطاع المجتمع الأوروبي مع التقدم الصناعي والعلمي أن يَخرج على احتكار الكنيسة للسلطة الروحية التي كانت تَستأثر بعقد الزواج، بحيث إذا لم يحدث عن طريقها ووَفق مشيئتها أي بدفع الرسوم المالية المفروضة فإنها لا تُقر الزواج ولا تَعتبر عقد الزواج منعقدًا.
وحين تخلَّصت أوروبا من سيطرة الكنيسة شرعت نظام الزواج المدني، لكي يتزوج من شاء بمن شاء في مركز الأحوال المدنية بدون تقيُّد بإرادة الكنيسة.
ويُعتبر الزواج المدني من المسائل المطروحة الآن على صعيد العالم الإسلامي والعربي، وفي المجتمعات المختلفة التي تضمُّ مسلمين وغير مسلمين، والزواج المدني لا زال ممنوعًا في الإسلام، وهو لا يَعني إلا شيئًا واحدًا، وهو حرية المرأة المسلمة من الزواج برجل غير مسلم، هذا الحق الذي يُعطيه الإسلام للرجل ويمنعه عن المرأة.
وفي مصر عندنا نوع من الزواج يُسمَّى بالزواج «العرفي»، وهو نوع من الزواج الشرعي بغير عقد رسمي يُتيح للرجل أن يحصل على معاش زوجته من الحكومة؛ إذ إن القانون المصري يحرم المرأة من معاشها حين تتزوَّج، وقد عرفت عددًا من النساء من قريباتي وجاراتي ممن تزوَّجن زواجًا عرفيًّا، وكانت الواحدة منهنَّ تعيش دائمًا مهددة؛ فهي تخشى الحكومة وهي تخشى المجتمع وهي تخشى زوجها، وهي في النهاية مدفوعة إلى مصيرها هذا بغير حماية من أحد.
إلا أن المرأة العربية الجديدة لم تعد في حاجة إلى حماية من أحد إلا نفسها، طالما أنها تعمل وتنال عن عملها أجرًا يضمن لها الاستقلال الاقتصادي والأخلاقي أيضًا، وقد أصبحت المرأة العربية العاملة بأجر في مصر والسودان وسوريا والكويت وتونس والأردن والمغرب والجزائر واليمن، بل والسعودية أيضًا، أصبحت قادرة أن تعيش في بعض الأحيان بمفردها بغير زوج، وأن ترفض الزواج إذا أرادت، وأصبحت قادرة على اختيار زوجها أو تركه حين ترفضه، غير مبالية بنقد المجتمع أو هجومه عليها، طالما أنها تَعول نفسها بنفسها، وطالما أن لها عملًا منتجًا تحقق به ذاتها وكرامتها. كما أن الأفكار الاشتراكية الجديدة قد غيَّرت المجتمعات العربية، وقد غيَّرت الكثير من عقلية الرجال والنساء معًا، وبالرغم أنها ظلَّت شعارات جوفاء في أحيانٍ كثيرة إلا أنها تركت من الصدى ومن الأثر ما شجَّع المرأة العربية على النضال من أجل مزيد من التحرُّر. وفي اليمن الجنوبية والعراق وتونس والصومال قوانين جديدة تعطي المرأة بعض حقوقها المسلوبة.
ورغم المشاكل والقيود التي لا تزال تُعرقل حركة المرأة العربية، إلا أن خروج المرأة للعمل بأجر قد أصبح حقيقة في معظم البلاد العربية، كما أن هناك زيادة مستمرة في عدد البنات والنساء اللاتي يَعملن في مختلف المؤسَّسات والمهن، وإذا كانت خاضعة لمنطق الرجل، إلا أنه لا يُمكننا أن نُنكر أثر حصول المرأة على أجر في تغيير شخصيتها السلبية الخاضعة واستغنائها التدريجي عن إعالة الرجل لها.
ورغم تواضُع هذا الأثر بسبب الضغوط التي لا تزال تُحاصر المرأة العربية، إلا أنه أثر يزداد وضوحًا وقوةً بمرور السنين. وقد لاحظ بعض الرجال الذين يتابعون تطور الأسرة في المجتمع العربي أن المرأة العربية العاملة أصبحت أقل حرصًا على الزواج وأقل خوفًا من الطلاق؛ بسبب حصولها على أجر يضمن لها استقلالها الاقتصادي عن الرجل.
وفي تعداد ١٩٧٦ في مصر وُجد أن نسبة الإناث اللاتي لم يَتزوَّجن قد ارتفعت إلى ١٩٫٧٪، وكانت في سنة ١٩٦٠ (١٢٫١٪) فقط.
كما أنَّ نسبة المُتزوِّجات انخفضت إلى ٦٤٫٧٪ سنة ١٩٧٦، وكانت ٦٧٫٥٪ سنة ١٩٦٠.
وقد أُجريَ في تونس إحصاء بعد مرور عشر سنوات على نفاذ التشريع الجديد الذي ساوى بين الزوجة والزوج في حق الطلاق أمام المحكمة، فاتَّضح أن حوادث الطلاق زادت، كما تزيد نسبة الطلاق بين الزوجات العاملات بأجرٍ عن الزوجات حبيسات البيوت. ويُحذر كثيرٌ من الرجال العرب من هذه الظاهرة ويسمُّونها ظاهرة انحلال الزواج، التي تهدد المجتمع العربي كما هدَّدت المجتمع الغربي المُتقدِّم؛ «فالمجتمعات الصناعية في رأيهنَّ تحوَّلت من النمط القديم، الذي اتصف بتفوق الرجل على المرأة، إلى النمط الحديث المُسمَّى بنمط المساواة بين الرجل والمرأة، وأن هذه المساواة من عوامل انحلال الزواج؛ فما دام الزوج في المجتمع يشعر بتفوقٍ على المرأة العربية، وبمسئولية أخلاقية تجعله يَحميها، فإنه كان يتردَّد طويلًا قبل حل الزواج بالطلاق.»
وهذا الاعتقاد صحيح، فما الذي يدفع المرأة التي تستطيع أن تعول نفسها بنفسها إلى الخضوع والذلِّ داخل الزواج والأسرة الأبوية؟
ويُحاول كثيرٌ من الرجال العرب مقاومة التغيير الاجتماعي والحاجة الاقتصادية التي تدفع بمزيد من النساء للعمل في مجالات الإنتاج والصناعة والتجارة والمِهَن المختلفة، لكن تيار خروج النساء أقوى، وما من قوة تستطيع أن تُعيد المرأة إلى حظيرة البيت.
ومن الحقائق الواضحة أن الأسرة العربية الكبيرة القديمة قد تخلَّت عن كثير من وظائفها لمؤسَّسات الدولة الحديثة؛ فالمجتمع العربي لم يعد قبائل أبوية، وانتزعت الدولة كثيرًا من سلطات الأب والزوج في الأسرة، وسوف تتقلَّص وظائف الأسرة على الدوام وتتقلص معها سلطة الرجل في الأسرة.
إن الرجل العربي هو الذي كان مُكلَّفًا بحماية أسرته وأمنها، لكن الدولة اليوم أنشأت جهاز الأمن والبوليس الذي يتولى عن الرجل الحماية والأمن وعقاب القتلة.
ومن الصراع الذي لا زال دائرًا بين الرجال والدولة، هذا الصراع حول الثأر الذي لا زال موجودًا في صعيد مصر؛ إذا قُتل رجل في أسرة صعيدية فلا بُدَّ أن يُقتَل قاتله، أو رجل آخر مقابل له في الأسرة الأخرى، والثأر عند العرب لا شأن له بالنساء، مما يدلُّ على أنهن لسن أشخاصًا حقيقيِّين في الأسرة بل مجرد أشياء، المرأة قد تكون سبب نزاعٍ يُولِّد الثأر فيما بعد، لكنها لا تكون أبدًا «الدم» الذي يُطالَب بالتعويض أو الثأر له.
ولا زال الرجل المصري الصعيدي يَعتقد أن من العار أن يثأر بوليس الدولة له، وأن الشرف هو أن يثأر الرجل بنفسه دون حاجة إلى جهاز أمن الدولة.
ومن الصراع الذي لا زال دائرًا بين سلطة الزوج وسلطة الدولة هو عمل الزوجة، وقد رأينا كيف تَتعارَض قوانين العمل مع قوانين الزواج في هذا الشأن.
إلا أنه رغم ذلك فإن الأسرة الأبوية تتخلَّى شيئًا فشيئًا عن وظائفها القديمة مثل الإنتاج والتشريع والتعليم والعقاب وتنظيم الأسرة وغيرها.
وتدلُّ الظواهر في المجتمع الغربي الصناعي المتقدم أن الأسرة مهدَّدة بالزوال تمامًا، بعد تلك التجارب المستمرة على الإنجاب الصناعي الذي سيُحطِّم الأسس الموروثة للقرابة وعلاقات الدم. وهناك كثير من أشكال الزواج غير القانوني، والعلاقات بين الرجال والنساء، التي تسن لنفسها قوانينها ومبادئها الجديدة.
وكل ذلك يدل على أن الأسرة الأبوية الكبيرة أو الصغيرة في المجتمعات النامية أو المجتمعات المُتقدِّمة، إنما هي مؤسسة ذات قيَم ومعايير غير ثابتة.
وهذه حقيقة يجب أن تُوضَّح لهؤلاء الرجال العرب الذين يتصوَّرون أن الأسرة مقدسة وثابتة منذ الأزل وإلى الأبد، وأن أي مساس بها إنما هو مساس بالمقدَّسات والدين.
ويلعب الدين دورًا كبيرًا في حماية الأسرة في البلاد العربية، إلا أن الدين لم يستطع أن يمنع الدولة من أن تنتزع من الرجل كثيرًا من سلطاته داخل الأسرة.
وقد انفصل الدين عن الدولة في المجتمعات الصناعية الغربية المتقدمة، وتراجعت سلطة الكنيسة أمام الزحف الرأسمالي والتكنولوجي، الذي أطاح بكثير من المقدسات المسيحية والإقطاعية.
إلا أن الدين لم ينفصل عن الدولة في معظم البلاد العربية الإسلامية، وهذا أحد الأسباب التي تُبعد كثيرين من المفكرين العرب عن النقد العلمي أو التحليل الموضوعي للأسرة، وما يطرأ عليها من تغيُّرات واضحة.
فالتفكير الحر في الدين أمرٌ لا يزال محظورًا في معظم البلاد العربية، وكذلك التفكير الحر في نظام الحكم والسياسة.
وتتَّصف معظم الحركات الإصلاحية للمجتمع العربي والإسلامي بأنها لا تُغيِّر جوهر المسائل، وإنما سطَّحها فحسب.
ولا يُمكن أن ننكر أن تطوُّرًا في كثير من المفاهيم التي شاعت عن الإسلام يحدث على نحو مستمر في المجتمع العربي والإسلامي؛ بسبب حركات التجديد والاجتهاد المستنير على يد الرواد من أمثال سيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨) في الهند والباكستان، والحاج سالم (١٨٨٤–١٩٥٥) في إندونيسيا، والشيخ محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥) وطه حسين (١٨٩١–١٩٧٣) وقاسم أمين (١٨٦٥–١٩٠٨) في العالم العربي، ونامق كمال (١٨٤٠–١٨٨٨) وتوفيق فكرت (١٨٧٠–١٩١٥) في تركيا، وحسين علي رشيد في إيران، وعلى يد الزعماء السياسيِّين المفكرين من الرجال المسلمين أمثال إقبال (١٨٧٦–١٩٣٨) وجمال الدين الأفغاني (١٨٤٧–١٨٩٧).
وفي رأيي أن «طه حسين» في مصر كان أكثرهم عمقًا وتحرُّرًا في فكره، لكنه اتُّهم من رجال الدين بالإلحاد، فتراجع بعض الشيء وحاول أن يُغيِّر أفكاره.
إن سلاح «الإلحاد» سلاح قوي يُستخدَم عند اللزوم لإرهاب أي مفكر حر عميق.
ويُمسك بهذا السلاح أياد مُتعددة، أهمها أيادي الذين ينهبون ثروات الشعوب العربية في الداخل أو في العالم الغربي.
إلا أن الفكر العربي أصبح أكثر شجاعة في العرض ونقد المشاكل والمظالم التي تعيشها الأغلبية الساحقة من النساء والرجال، وأصبحت المرأة العربية أكثر شجاعة في مواجهة المجتمع، إن المرأة العربية تُدرك أن تحرُّرها لن يعني إلا أن تفقد سلاسلها.
لكن الحرية لها ثمن، تدفعه المرأة المُتحرِّرة من صحتها وراحتها ونظرة المجتمع العادية لها، لكن المرأة أيضًا تدفع ثمن العبودية والخضوع من صحتها وشخصيتها ومستقبلها. والأفضل للمرأة أن تدفع الثمن فتكون حرةً على أن تدفع الثمن وتظل عبدة.
وفي رأيي أن الثمن الذي تدفعه المرأة في العبودية (رغم الرضا والأمن الاجتماعي) أشد من الثمن الذي تدفعه في التحرير (رغم التهديد وعداء المجتمع). ولا شكَّ أن استردادها لنفسها وشخصيتها وإنسانيتها الكاملة أهم من رضا المجتمع الرجولي عنها.
إن تفوق المرأة الفكري في عمل خلاق بالمجتمع الكبير أهم من تفوقها في الطبخ والغسل وخدمة الأسرة، لا بُدَّ أن يزيد طموح المرأة العربية لتنشد النبوغ في المجال الفكري الذي تختاره.
رغم كل ذلك فإن المرأة العربية تَسير نحو التحرر بخُطًى قد تكون بطيئة، لكنها تسير، وهذه حقيقة هامة لا يُمكن إغفالها.
إن مَن يَسير اليوم في شوارع القاهرة أو دمشق أو بغداد أو تونس أو الجزائر أو الرباط أو الكويت، يرى هذه الأعداد المتزايدة من البنات والنساء العاملات في المجالات التي كانت مغلقة من قبل على الرجال.
إنهنَّ يسرن بأقدام لا تكون ثابتة تمامًا، وقد تكون مُتردِّدة بين الاستمرار في العمل أو التفرغ للزواج والبيت، وقد تُضحِّي الكثيرات منهن بمستقبلها الفكري في مقابل زوج وبيت زوجية، لكن بعضهنَّ رغم قلتهنَّ أصبحنَ قادرات على التضحية بالزواج من أجل المستقبل الفكري والعلمي.
إن المرأة العربية مطالَبة من أجل أن تتحرَّر أن تتخذ مواقف شجاعة في حياتها الخاصة والعامة.
عليها أن تجعل من نفسها إنسانة لها عقل يفكر ويُنتج ويخلق قبل أن يكون لها مهبل ورحم.
عليها أن تدرك أن وظيفتها الأساسية في الحياة هي الإنتاج الفكري في أي مجال تختاره.
عليها أن تُحارب المنطق الذي يقول: إنَّ الرَّجل للإنتاج والمرأة للاستهلاك؛ فالذي ينتج أكثر إنسانيةً وشرفًا وقيمةً من الذي يستهلك.
وعليها أن تحارب المنطق الذي يقول إن الرجل له رغبة جنسية أشد من رغبتها، أو أنه الإيجابي وهي السلبية.
وعليها أن تحارب المنطق الذي يقول: إنَّ السَّبب الأساسي لقهرها وتخلفها هو الإسلام أو الثقافة الشرقية؛ لأنَّ الثقافة الغربية والمسيحية، والأديان الذكورية الأخرى ليست أقل قهرًا للمرأة بل أكثر قهرًا من الإسلام.
ومن المهم للمرأة العربية أن تدرس التاريخ، وأن تدرس المجتمع الأمومي قبل المسيحية وقبل اليهودية، لتعرف كيف كانت تتمتَّع المرأة في الإنتاج والعمل، وكيف أبعدت عن عالم الإنتاج وعالم الرجال والحياة الاجتماعية.
من المهم للمرأة العربية أن تدرس التشابه والخلاف بين الأديان، لتعرف أن الاختلافات بين الأديان ليست جوهرية فيما يخص المرأة، بل إن هذه الاختلافات موجودة في الدين الواحد في البلاد المختلفة؛ فالإسلام في الهند يختلف عن الإسلام في الباكستان، يختلف عن الإسلام في تونس أو مراكش أو السعودية. إنَّ كل مجتمع يفسر الدين حسب أحواله الاقتصادية وحسب تطور نظام الحكم.
ومن المهم للمرأة العربية أن تدرس الأديان القديمة في مصر والهند واليونان. ونحاول أن نفهم كيف ارتبطَت فكرة الإله بالمرأة أكثر من الرجل، وأن الإلهة الأنثى كانت ترمز إلى المعرفة والعقل بمثل ما رمزت إلى الخير والوفرة والإنتاج.
ومن المُهم للمرأة العربية أن تُعيد دراسة قصة حواء وآدم، لتُدرك أن حواء ارتبطت بالمعرفة، وهي التي أكلت من شجرة المعرفة (حسب نص التوراة)، واكتسبت المعرفة قبل آدم، وأن إزيس الإلهة المصرية القديمة كانت إلهة المعرفة والخلق، وهي التي خَلقت أوزوريس، وأنها أو «أثينا» لم تَرِد من رأس «زيوس».
من المُهم للمرأة العربية أن تدرس لماذا فُسِّرَت مثل هذه الأساطير التاريخية تفسيرًا عكسيًّا؛ بحيث صُورت ناقصة المعرفة وناقصة العقل، وزوجها هو عقلها، ولماذا اختفت حقائق كثيرة في تاريخ البشرية، ولماذا اختفت الإلهة الأنثى من الحضارة التي نعيشها حتى اليوم؟
ومن المهم للمرأة العربية ألا تشعر بالنقص أمام النساء الغربيات، أو تظن أن التراث أو الثقافة الشرقية أو الثقافة العربية أكثر اضطهادًا للمرأة من الثقافة الغربية.
إن تراثنا فيه الكثير من الإيجابيات وفيه أيضًا السلبيات، وعلى المرأة العربية أن تدرس التراث، وفي تاريخ العرب وفي بدء الإسلام كثيرٌ من الأفكار المُتقدمة في نظرتها للمرأة، وهناك أيضًا كثيرٌ من الأفكار المعادية للمرأة والتي يجب نقدها وكشفها بموضوعية ونظرة علمية دون خوف من مساس المقدَّسات.
إن أول المقدسات في حياتها هو الإنسان، والإنسان امرأة أو رجل. وأول المقدسات هو أن تكون المرأة إنسانة أوَّلًا، أن تكون إنسانة كاملة العقل والجسد.
وأول اعتداء على المقدَّسات هو الاعتداء على المرأة؛ وذلك باستئصال عقلها والادِّعاء أنها بغير عقل أو ناقصة العقل، واستئصال بعض أجزاء من جسمها مثل استئصال العضو الجنسي من جسمها في عادات الختان الشائعة في بعض مجتمعاتنا. هذا هو الاعتداء الأول على المقدسات؛ وهو الاعتداء على الإنسان فيها، وتحويلها إلى أداة ولادة أو إدارة جنس أو إدارة خدمة أو إدارة استهلاك.
ومن المهمِّ أن تَدرس المرأة العربية السياسة والاقتصاد، بالإضافة إلى التاريخ، وتُتابع حركات التحرير في البلاد العربية وغير العربية لتُدرك أن حروب التحرير الشعبية تسرع بتحرير المرأة. إن حرب التحرير في الجزائر كشفت عن كثير من مشاكل المرأة الجزائرية، وأسرعت بوضع بعض الحلول لها من أجل تحرير النساء في الجزائر، وحرب التحرير الفلسطينية تجعل المرأة الفلسطينية تُمارس كل الأعمال خارج البيت، بما فيها أعمال الحرب والقتال.
وعلى المرأة العربية أن تُدرك أن قضية تحرير النساء العربيات ليست قضية إسلامية وليست قضية جنسية، وليست عداءً للرجل وليست ضد التقاليد الشرقية؛ ولكنها قضية سياسية واقتصادية أساسًا، وهي ضد الأنظمة الاستعمارية داخل المنطقة العربية وفي العالم الخارجي، وهي ضد جميع أنواع القيود والاستغلال الاقتصادي والجنسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي.