الاعتداء على الطفلة البنت
جميع الأطفال حين يولدون أصحاء يَشعرون أنهم قد وُلدوا «كاملين» فيما عدا الطفلة البنت، إنها منذ تُولَد وقبل أن تَنطِق تدرك من النظرات حولها أنها وُلدت «غير كاملة» أو «ناقصة»، ويظلُّ السؤال في ذهنها دائرًا منذ ولادتها حتى موتها: لماذا؟ لماذا يُفضِّلون عليها أخاها الولد مع أنها مثله، وقد تَشعُر أنها أكفأ منه في نواحٍ كثيرة أو قليلة.
إن أول اعتداء على الطفلة البنت في مجتمعنا العربي هو عدم الترحيب بقدومها إلى الحياة، وفي بعض الأسر (وعلى الأخص في الريف) قد يصل عدم الترحيب إلى الاكتئاب أو الحزن، أو عقاب الأم بالطلاق أو الغضب بل الضرب. لقد رأيت إحدى عماتي تُضرَب بكف زوجها لأنها أنجبت البنت الثالثة ولم تُنجِب ذكرًا، وسمعت زوجها يهددها بالطلاق لو أنجبت المرة القادمة بنتًا أخرى. ومن شدة كراهية الأب للطفلة المولودة فقد كان يسبُّ الأم إذا ما أبدت اهتمامًا بها أو حتى أرضعَتْها حتى تشبع.
وقد ماتت هذه الطفلة قبل أن تبلغ الأربعين يومًا من عمرها، ولا أدري هل ماتت من الإهمال أم أن الأم كتَمت أنفاسها لتستريح وتُريح كما يقولون.
ولا تزال نسبة وفَيات الأطفال الرُّضَّع عالية في الريف وفي معظم البلاد العربية بسبب انخفاض المستوى الاقتصادي والثقافي، وتزيد هذه النسبة بين الأطفال البنات عن الذكور في بعض الأحيان بسبب الإهمال، إلا أن هذه الظاهرة تَختفي باطراد باستمرار التقدم اقتصاديًّا وثقافيًّا.
وقد تَحظى الطفلة البنت في الأسر المُتعلِّمة في المدن العربية باستقبالٍ أقل كآبة وأكثر إنسانية، إلا أنها منذ أن تبدأ تحبو أو تمشي تتربى على الحذر والخوف.
وتُواجه الطفلة البنت تَناقُض المجتمع؛ ففي الوقت الذي تُحَذَّر فيه من أعضائها الجنسية ومن الجنس ومن كل ما يتعلق بالرجال، تُرَبَّى منذ نعومة أظفارها على أن تكون أنثى أو أداة جنس، تعرف كيف تكون جسدًا فقط، وكيف تُزيِّن هذا الجسد وتكسوه أو تُعرِّيه ليجذب الرجل.
والتربية التي تتلقاها البنت في مجتمعنا هي سلسلة متصلة من الممنوعات والعيب والحرام، وتَكبت الطفلة رغباتها وتُفرغ نفسها من نفسها وتملؤها برغبات الغير. إن تربية البنت في حقيقتها ليست إلا قتلًا بطيئًا لشخصية البنت وعقلها، ولا يبقى من البنت بعد ذلك إلا غلافها الجسدي الخارجي.
إنَّ هذه البنت الفاقدة لشخصيتها وقدرتها على التفكير بعقلها هي — وليس بعقل الآخرين — تُصبح ألعوبة في يد الآخرين، وتُصبح ضحية معظم الأحيان لهؤلاء الآخرين.
ومن هم الآخرون؟ إنهم رجال أسرتها أو غير أسرتها ممَّن تسوقهم الظروف إلى الاحتكاك بها لسبب أو لآخر. هؤلاء الذكور أيضًا على اختلاف أعمارهم من الطفولة إلى الكهولة ليسوا إلا ضحايا مجتمع يَفصل بين الجنسين، وينظر إلى الجنس كإثمٍ وعار، ويحرم على المراهقين والشباب (الذين لم تؤهِّلهم ظروفهم الاقتصادية بعد) أن يُمارسوا الجنس من خلال الأحلام الجنسية الليلية.
هذا هو ما يُكتَب للمراهقين في المدارس الثانوية (وفي العرف والتقاليد)؛ حيث يحرم على الشاب الذكر ممارسة العادة السرية لأنها خطرة، وخطورتها تُساوي خطورة ممارسة الجنس مع المومسات، وليس على الشاب إلا أن يَنتظر حتى يمتلئ جيبه ببعض المال الذي يتيح له الزواج.
وحيث إن امتلاء جيب الشاب بالمال القليل أو الكثير (حسب طبقة الشاب) أمر يأخذ بعض السنين من التعليم والعمل، وخاصةً في المدن حيث أصبح الزواج يتأخَّر بسبب المدنية وبسبب ارتفاع الأسعار وأزمة المساكن وتزايد عدد الشباب العاجزين عن الزواج لأسباب اقتصادية، ونتج عن ذلك ازدياد المسافة بين نضوج الشاب بيولوجيًّا وحاجته الشديدة إلى الجنس، ونضوجه الاقتصادي وقدرته على الزواج، هذه المسافة في المتوسط لا تقل عن عشر سنوات (من ١٥–٢٥ سنة)، فكيف يصرف الشاب طاقته الجنسية الطبيعية خلال هذه السنوات في مجتمع يُحرِّم العادة السرية (لأخطار صحية)، ويُحرِّم المومسات لأخطار صحية واقتصادية، وخاصةً بعد أن ارتفع سعر المومسات مع ارتفاع الأسعار وزادت الأمراض التناسلية في بعض البلاد العربية بعد خروج البغاء من تحت إشراف الدولة.
إن الشاب من هؤلاء في معظم الأحيان قد لا يجد أمامه إلا أخته، الطفلة البنت التي ترقد إلى جواره في سرير واحد (في الأسر المتوسطة والأسر الفقيرة) فتمتد يده إليها وهي نائمة أو هي يقظة، كلاهما سيان؛ لأنها حتى وهي يقظة لا تستطيع أن تَعترض على أخيها الأكبر خوفًا من سطوته المكفولة له شرعًا وقانونًا وعُرفًا، أو خوفًا من الأسرة، أو إحساسًا بالذنب لأنها تشعر ببعض اللذة، أو لأنها مجرد طفلة صغيرة لا تدري مما يحدث لها شيئًا.
وتتعرَّض معظم البنات الأطفال لحوادث مشابهة أو مختلفة حسب ظروف كل طفلة، وقد يكون هذا الشاب الأخ أو ابن العم أو العم أو الخال أو الجد أو الأب، وقد يكون الخادم أو البواب أو المدرس أو ابن الجيران أو أي رجل آخر.
وقد تتمُّ هذه الحوادث بغير عنف أو اغتصاب للبنت، وقد تكون البنت قد بلغت من العمر أو الوعي ما يجعلها تُقاوم أو تَعترض فيتم الاغتصاب بالقوة، أو بالرقة والخداع، وفي معظم الأحيان تَستسلم البنت وتخشى الشكوى لأحد؛ لأن العقاب في مثل هذه الحالات لا يقع إلا عليها؛ فهي التي تفقد شرفها وعذريتها، أمَّا الرجل فلا يفقد شيئًا، وأقصى عقاب يُمكن أن يناله الرجل (إذا كان غريبًا عن الأسرة) هو أن يَتزوج هذه البنت التي اعتدى عليها.
وانكشاف مثل هذه الحوادث نادر بالنسبة لعدد الحوادث التي تقع؛ وسبب ذلك أن البنت تكتم الأمر من الخوف والخزي، ثُمَّ في الحالات التي تصرخ فيها البنت أو يَنكشف الرجل صدفة أثناء الاعتداء؛ فإن كثيرًا من الأسر العربية يَرفضون إعلان هذا الأمر والذهاب في قضية إلى المحكمة حرصًا على سمعة الأسرة وشرفها المُهدَر أن يُعلَن على الملأ، بل إن القضية حين تذهب إلى المحكمة، فإنَّ المحكمة ذاتها كثيرًا ما تحفظ القضية حفاظًا على سمعة البنت الصغيرة وأسرتها، وبذلك ينجو الرجل من العقاب، هذا العقاب الذي يُلغى على الفور إذا أبدى الرجل استعداده للزواج من تلك البنت.
وقد سبقت تونس البلاد العربية (كما سبقتها في قوانين الزواج والطلاق والإجهاض)، وطوَّرت قانونها الخاص بالاغتصاب، إلا أن القضية تسقط ويُطلَق سراح الرجل إذا قرر الزواج من الضحية.
وفي بحث لي سنة ١٩٧٣ في كلية طب عين شمس بالقاهرة على ١٦٠ من البنات والنساء المصريات من مختلف الأسر المُتعلمة وغير المتعلمة، وجدت أن نسبة مثل هذه الحوادث الجنسية التي تقع بين الرجال الكبار والبنات الصغار هي ٤٥٪ في حالة الأسر غير المتعلمة، وتقلُّ النسبة في حالة الأسر المتعلمة إلى ٣٣٫٧٪. وهذه النسبة الأخيرة تزيد عن النسبة التي حصل عليها كينزي في بحثه في الولايات المتحدة الأمريكية (١٩٥٣)؛ إذ إنه وجد أن هذه النسبة ٢٤٪.
ولا يُمكن لي أن أقارن مثل هذه النسب في مجتمعات وظروف شديدة الاختلاف كالمجتمع المصري والمجتمع الأمريكي، كما أن هناك فارقًا زمنيًّا بين البحثين قدره عشرون عامًا، كما أن ظروف كل بحث وطريقته تختلف عن الأخرى.
ولا أسوق مثل هذه النِّسَب إلا لأقول لهؤلاء الذين يضعون رءوسهم في الرمال، ويدعون أن مثل هذه الحوادث لا تقع، وأنها إذا وقعت فهي نادرة جِدًّا؛ أقول لهم إن هذه الحوادث تقع في كل المجتمعات، وإنها تقع في مجتمعنا العربي، وإن نسبة وقوعها غير قليلة، كما أن الذي يصل إلى علمنا من هذه الحوادث ليس إلا أقل القليل مما يحدث في الخفاء.
وبحكم خبرتي كامرأة وطبيبة تَفتح قلبها وعقلها لمشاكل الناس، أقول بغير مبالغة إن كثيرًا من البنات في مجتمعنا يَتعرَّضن في طفولتهن المبكرة لأشكال متنوعة من الاعتداءت الجنسية (ابتداءً من المُداعَبات باليد إلى الاغتصاب الجنسي الكامل). وقد تفقد البنت الطفلة عذريتها وهي لا تدري، وتَنسى الحادث تمامًا بسبب الظاهرة التي سُمِّيَت في علم النفس «فقدان ذكريات الطفولة» أو تظلُّ تذكره كالحلم المزعج، يعذبها ويفتك بصحتها النفسية طوال حياته، هذا إذا نجت من العقاب الذي يتربص بها حين تكبر ويَكتشف الأهل أو الزوج ليلة الزفاف أنها ليست عذراء.
وكم من طرق معروفة في المجتمعات العربية — ريفًا وحضرًا — لنزيف دم العذرية أو إصلاح غشاء البكارة بجراحة عند أحد الأطباء.
لكن ما أتعس البنت الصغيرة الفقيرة التي لا تَعرف طريق الطبيب، وإذا عرفته فهي لا تملك ما تدفع.
وغالبًا ما تكون هذه البنت الفقيرة من تلك الفئة الكبيرة العدد في مجتمعنا العربي التي تُسَمَّى بفئة «خادمات المنازل»، وهي غالبًا فتاة ريفية فقيرة، جاءت من القرية إلى المدينة لتخدم في أحد بيوت الطبقة المتوسطة أو تحت المتوسطة أو فوق المتوسطة أو العالية.
وتُصبح هذه البنت الصغيرة المُتنفَّس الجنسي الوحيد لمعظم شباب أرباب هذه الأسر. إن الشباب المراهقين يرون أنها أفضل من الأخت أو القريبة أو الزميلة (من حيث الإحساس بالذنب أو الاحترام الطبقي)، ويرون أنها أفضل من المومس (من حيث أنهم لا يدفعون لها شيئًا ولا تهددهم بالمرض التناسلي).
أمَّا رب الأسرة أو الزوج المحترم، فهو أيضًا قد يَتسلَّل إليها في الليل حين تسافر زوجته أو تمرض (أو في فترات الدورة الشهرية أو الحمل أو الولادة). بل إن الزوجة قد لا تكون غائبة، بل باردة جنسيًّا، ومعظم الزوجات باردات جنسيًّا بسبب التربية القائمة على الكبت النفسي والعضوي، وبسبب غياب الحب بين الزوجين، أو على الأقل التجارب أو حسن المعاملة؛ حيث إن معظم الزيجات تتم لأسباب اقتصادية نفعية أساسًا، وحيث الأسرة الأبوية وسلطة الرجل المستبدة تحرك الزوجين معًا دون أي فرصة للشعور بالتجاوب العاطفي أو الجنسي.
وتُصبح هذه البنت الصغيرة المتنفَّس الجنسي الوحيد لمثل هؤلاء الشباب والأزواج والكهول المحرومين جنسيًّا بشكلٍ أو بآخر. وفي عيادتي الطبية، سواء في بيتي في الجيزة وفي المستشفيات العامة التي عملتُ بها سنوات مُتعددة، كثيرًا ما صادفتني تلك الخادمة الصغيرة التي لا تزيد عن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، وقد ارتفع بطنها في حمل سفاح.
وتُصبح هذه البنت الصغيرة في نظر المجتمع فتاة حاملًا بغير زواج؛ أي فتاة ساقطة عديمة الشرف، وتواجه هذه الفتاة وحدها المجتمع كله، وقد تَنتهي حياتها بيدها أو يد أبيها أو أحد رجال الأسرة، وقد تموت وهي تجهض نفسها بإحدى الطرق الريفية الخطرة (عود ملوخية تدخله في رحمها)، وإذا لم تمت فهي تُحاكَم لأن الإجهاض ممنوع بالقانون، وإذا نجت من القانون فإنها تعيش حياة ذليلة ويعيش طفلها معها حياة أذل.
أمَّا سيدها البيه أو الأفندي أو الشيخ أو الأستاذ المحترم فيظلُّ يعيش في المجتمع الواسع العريض يستمتع بحياته ونجاحه وشرفه المصون في ظل حماية القانون والشرع والدين والعرف.