العدالة ليست عادلة
وإن انكشاف مثل هذه الحوادث نادرة جِدًّا بالنسبة لعدد الحوادث التي تقع؛ وسبب ذلك أن البنت تكتم الأمر من شدة الخوف والخِزي معًا، ثُمَّ في الحالات التي تُصرِّح فيها البنت أو ينكشف الرجل صدفةً أثناء الاعتداء، فإن معظم الأسر ترفض إعلان الأمر والذهاب إلى المحكمة حرصًا على سمعة الأسرة وشرفها.
إن شرف الأسرة كلها برجالها ونسائها وأطفالها قد يُهدَر لمجرَّد أن إحدى البنات فقَدت غشاء بكارتها، وقد تكون هذه البنت قد اغتُصبت، ومع ذلك فإن شرف الأسرة كله يُمس؛ لذلك تتكتَّم معظم الأسر على حوادث الاغتصاب التي تقع لبناتها، ولا تُقدِّم الرجل المعتدي للمحاكمة حرصًا على سمعة الأسرة، وبذلك ينجو الرجل المعتدي، لكن البنت التي اعتدى عليها فتاة عذراء؛ أي فتاة بغير غشاء بكارة، وأي فتاة تَفقد غشاءها لأي سبب وتحت أي ظرف — وإن كان هو الاغتصاب — وفي أي سنٍّ — وإن كانت هي الطفولة المبكرة — فقد حُكم عليها إلى الأبد بفقدان شرفها؛ لأن شرفها هو غشاؤها، والغشاء الذي لا يمكن أن يعود مرة أخرى أبدًا.
وأظن أنه لا يخفى على أحد ما تَتعرض له الأطفال البنات أحيانًا من حوادث اعتداء، وقد لا تكون البنت قد بلغت السابعة أو السادسة من العمر، وتُفاجأ بذلك الشاب أو الرجل الذي يعتدي عليها، وقد يكون الأخ أو العم أو الأب.
ومما يزيد المأساة أن الرجل المُعتدي لا يحاول إنقاذ الفتاة إذا تعرَّضت للعقاب، بل إنه أحيانًا ما يشترك في العقاب أو يُوقعه هو بنفسه على البنت الصغيرة من أجل حماية شرفه وشرف أسرته.
وكم سمعنا أو قرأنا عن مثل هذه المآسي التي تحدث للبنات الصغيرات وتمَّ قتلها بالسم؛ لأن أخاها عرف الأمر وأرغَمها على قتل نفسها منعًا للفضيحة والعار الذي يُلوِّث شرف الأسرة لو أن هذه البنت عاشت وهي غير عذراء.
ويدَّعي هؤلاء الرجال الذين يُعارضون تغيير القوانين والتقاليد الجائرة التي تحكم حياة البنات والنساء، أنهم يحافظون على القيم الأخلاقية والشرف والدين، هذا في الوقت الذي يرون هذه القيم تُنتهك كل يوم وليلة في حياتنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الجنسية، ومع ذلك لا يرتفع صوت أحدهم بالاعتراض، بل إن منهم من يُشارك بإيجابية في انتهاك هذه القيم سِرًّا وعلنًا.
ولعل من السمات التي تُميِّز مجتمعنا العربي هي تلك الازدواجية في القيم وازدواجية الحياة، بحيث يصبح للمجتمع أو للفرد حياتان؛ حياة علنية يدَّعي فيها الأخلاق والفضيلة والدين، وحياة سرية ليس فيها الأخلاق والفضيلة والدين.
وقد سبق لي في كتاباتي السابقة أن كشفتُ عن بعض المتناقضات الصارخة في حياة مجتمعنا، وفي حياة الأفراد من الرجال والنساء، لكن الأغلبية الساحقة من القراء في مصر والبلاد العربية يَعلمون أن ما أكتبه وما أعرضه ليس إلا القليل من الأمراض المُتفشية عندنا، والتي لا يمكن علاجها إلا بمزيد من الشجاعة والصدق في كشفها وتشخيصها ومعرفة أسبابها الحقيقية.
وهناك بعض الناس الذين يُخفون رءوسهم في الرمال ويدَّعون أن مجتمعنا ليس فيه تناقضات، وأن كل القيم الأخلاقية والقانونية والتقاليد ولله الحمد كلها على ما يُرام، وكله تمام، وليس هناك أبدع مما كان.
٩ تلميذات صغيرات تتراوح أعمارهنَّ بين السابعة وبين الثانية عشرة، وقفن أمام أمين إسماعيل مهران مدير نيابة شبرا الخيمة تروي كلٌّ منهنَّ في براءة واقعة بشعة: أن مدرس الرسم كان يَصحبهن إلى فناء المدرسة، وفي مكان مُنفرد منزوٍ ينفرد بكل واحدة تحت الشجرة ويَحتضنها ويُقبِّلها، ويأتي معها أفعالًا منافيةً للآداب! وقد أمسك مدير النيابة بأوراق التحقيق بالنسبة للمُدرس وقال في قرار الحفظ: إنه وإن كانت التهمة ثابتة على المتهم بشهادة المجني عليهنَّ التلميذات الصغيرات والتي تطمئن إليها النيابة، الأمر الذي يستوجب محاكمته جنائيًّا بتهمة (هتك عرض!) لبنات صغيرات، والمُعاقَب عليها قانونًا، إلا أنه نظرًا لصِغَر سن التلميذات المجني عليهن، ولعدم إقحامهن أمام محكمة الجنايات للإدلاء بشهادتهن وأقوالهن، فإن النيابة حرصًا منها على عدم تعرُّض الصغيرات وتَجنيبهن ترديد هذه القصص التي جرت على أفواههن، وانطبعت في نفوسهن البريئة الصافية بأثر سيئ لا يُحمَد عُقباه، وأمامهن مستقبل مُشرق ينتظرهن! وتأسف النيابة وهي تحفظ الدعوى الجنائية للمتهم ولسلوكه الشائن إزاء تلميذاته الصغيرات، وما يجب أن يتصف به المختص في تربيه النشء، والذي أجمعت الأديان السماوية والقيم والأخلاق الإنسانية على أنه كاد المعلم أن يكون رسولًا، وتطلب النيابة من المنطقة التعليمية التي تخضع المدرسة تحت إشرافها العمل فورًا على نقله من مهنة التدريس في مدارس البنات إلى مهنة أخرى.
ولو أن كل من قرأ هذا الموضوع فكَّر فيه بينه وبين نفسه لحظة واحدة لأدرك على الفور ذلك التناقض الذي يحكم بعض القيم الأخلاقية في مجتمعنا، فكيف تُثبت مثل هذه التهمة كما تقول النيابة على رجل بالغ ناضج مع أطفال بنات ثُمَّ يُطلَق سراحه، وتبرر النيابة ذلك بسبب حرصها على عدم ترديد هذه القصص التي جرت على أفواه البنات الصغيرات وانطبعَت في نفوسهن البريئة بأثر سيئ لا يُحمَد عُقباه، ومع ذلك فلا زال أمامهن مستقبل مُشرق نظيف ينتظرهنَّ! ولا أدري كيف يكون هذا المستقبل في ظل الظروف والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تحكم حياة الأنثى في مجتمعنا!
ولا شك أن هذه الواقعة تدلُّ بوضوح على ذلك التناقض الشديد الذي يعيش في مجتمعنا، وتلك الازدواجية في القيم الأخلاقية التي تحكم الرجال والنساء، والتي تروح ضحيتها حياة ومستقبل عدد غير قليل من البنات والنساء، منذ الطفولة حتى المراهقة والشباب إلى نهاية العمر. وقد يتصوَّر بعض الناس أن مثل هذه الحوادث قليلة، ولكن بحكم مهنتي كطبيبة، وبحكم الدراسات النفسية في السنوات الأخيرة التي أجريتها على مجموعات من البنات والنساء المصريات (من المتعلمات وغير المتعلمات)، وكان جزء من هذه الدراسات يبحث في طفولة هؤلاء النساء والبنات. أدركتُ أن مثل هذه الحوادث غير قليلة بسبب خجل البنات الصغيرات وخوفهنَّ من التصريح بمثل هذه الحوادث، وإدراكهن أن التصريح بها لن يؤدي إلى أيِّ أذًى يتعرض له الفاعل الرجل، وإنما الأذى كل الأذى سيعود عليهنَّ هنَّ؛ فالفضيحة في مثل هذه الحالات لا تمس إلا البنت وأسرتها؛ ولذلك تُفضِّل أغلب الأسر إخفاء مثل هذه الحوادث عن إعلانها، خاصَّةً إذا كان الفاعل أحد أفراد الأسرة؛ ولهذا لا يذهب إلى القضاء إلا النادر في مثل هذه الحوادث، والذي يُنشَر في الصحف ونقرؤه هو نادر النادر بطبيعة الحال، أمَّا أن تواجه مثل البنات المشاكل في المستقبل فهذا أمر آخر لا يشغل البال كثيرًا؛ فالمهم الآن هو تكتُّم الأمر حتى لا تتردد هذه القصص على أفواه الصغيرات، وتَنطبع في نفوسهن البريئة بأثرٍ سيئ لا يُحمَد عقباه، وليس هناك ما يدل على أننا نضع رءوسنا في الرمال أكثر من هذا؛ فنحن نعلم أن هذه القصص قد ترددت فعلًا على أفواه البنات الصغيرات، وليست القصص فحسب، وإنما الأفعال ذاتها قد وقعت بالفعل، وأنها قد انطبعت بأثر سيئ لا يُحمَد عقباه بطبعة الحال، ولسوف يؤثِّر هذا الأثر السيئ في حياة هؤلاء البنات الصغيرات! لكننا لا نهتم بكل هذا، فليذهب مستقبل هؤلاء البنات الصغيرات! لكنَّنا لا نهتم بكل هذا، فليذهب مستقبل هؤلاء البنات إلى الجحيم ما دمنا نُحافظ على الشكل العام وما دمنا نتكتَّم الأمر، ونحفظ التحقيق والأوراق في الأدراج، ونُغلق عليها بالمفتاح، أمَّا الرجل الجاني فنحن نطلق سراحه كجزء من تكتُّمنا وإخفائنا الحقيقة التي وقعت، فلا يهم أن يطلق سراح رجل اعتدى على ٩ بنات أطفال، ولكن المهم هو أن نحفظ الموضوع طي الكتمان حتى لا تتردَّد هذه القصص على أفواه الصغيرات، إننا نحفظه «مع الأسف»، ماذا تفعل كلمة «مع الأسف» لمستقبل وحياة هؤلاء البنات.
ما مصير هؤلاء البنات (وغيرهنَّ ممَّن تعرَّضنَ لمثل هذه الحوادث الخفية المُحاطة بالكتمان)، لست أدري! بل إنني أدري ما الذي سيحدث لهن في المستقبل، وسوف يَقفن في مكانهن في صفوف النساء التعيسات المريضات نفسيًّا أو المُطلَّقات أو الزوجات المكتئبات المهجورات أو بائعات للهوى في حالة انعدام مورد آخر للرزق.
أمَّا الرجل الذي اعتدى عليهنَّ فلم يحدث له أي أثر سيئ لا يُحمَد عقباه، إنه لا زال يعمل ويعيش، ويَرفع رأسه بين الناس كرجل مُحترم وله رجولة، إنه يعيش في ظل حماية القانون والقيم والأخلاق والعرف لمجرَّد أنه رجل رغم ثبات التهمة عليه، أمَّا البنات التعيسات فعليهن أن يُلاقين مصيرهن المحتوم الذي لا يعلمه أحد إلا الله.
لقد آنَ الأوان أن نُطهِّر مجتمعنا من هذا الظلم الفادح الواقع على حياة البنت في مجتمعنا، آن الأوان أن تكفَّ البنت الصغيرة أن تكون ضحية رجل يحميه المجتمع أخلاقيًّا وقانونيًّا مع أنه المُعتدي والمحرِّض والفاعل، آنَ الأوان أن نرفع رءوسنا من الرمال ونواجه التناقضات الأخلاقية في مجتمعنا بشجاعة وصدق، وأن نقضي على تلك الازدواجية في القيم التي لا تتفق مع أية عدالة وإنسانية، ولا مع مبادئ أي دين من الأديان السماوية أيضًا.
إن هؤلاء البنات التعيسات سوف يواجهن في المستقبل عديدًا من المشاكل بطبيعة الحال، وأهمها مشكلة العذرية والشرف؛ فالمجتمع غير مسئول عن الفتاة أو الطفلة التي تفقد عذريتها أو شرفها وإن اغتُصبت؛ لأنَّ الضرر الواقع عليها ضرر جسدي لا سبيل لإصلاحه، والرجل الذي سيتزوجها في المُستقبل يحقُّ له أن يرفضها، بل يحق له أن يُشهِّر بها اجتماعيًّا إذا أراد.
إن المبدأ في القوانين التي تحكم المرأة هي أن الرجل غير مسئول، وتسقط حقوق المرأة قانونًا وعُرفًا إذا ما حدَث لها حادث اغتصاب.
وتُشكِّل مشكلة العذرية أو شرف البنت أهم المشاكل في حياة النساء المصريات والعربيات بصفة عامة، وقد تعرَّضتُ لهذا المفهوم الخاطئ عن الشرف في كتبي السابقة، إلا أنني أعود فأكرر أن هذه المشكلة تؤرِّق وتفسد الكثير من حياة الفتيات والنساء، بل إن المحكمة قد تفسخ عقد الزواج لأن الزوجة ليست عذراء.
وقد يقول بعض الناس: إنَّ مثل هذه الأفكار تسود في الريف فقط، وتنتشر بين الرجال غير المتعلمين، ولكن الحقيقة أن التعليم في المدارس والجامعات لا يُغيِّر كثيرًا من عقلية الرجل؛ وذلك لأخطاء في التعليم نفسه، وأخطاء في النُّظم المسيطرة على المجتمع؛ ولهذا قد يحظى الرجل بدرجات عالية في التعليم، وقد يُسافر إلى الخارج في بعثات تعليمية، ثُمَّ يعود إلى مصر يحمل الشهادات والدكتوراه ويحمل معها أيضًا عقليته المُتخلِّفة في نظرته إلى المرأة.
عاد المهندس المصري الذي يعمل بألمانيا الغربية بعد غيبة ٥ سنوات إلى مسكن أسرته في إمبابة، وبعد أيام من لقائه مع أسرته لاحظ انتفاخ بطن شقيقته الجميلة الطالبة بالثانوي ١٧ سنة، وأخذ يَتحرى في الأمر، ماذا يفعل في شرف العائلة التي لوثته شقيقته بسلوكها؟! وأثناء وجوده بمفرده في الشقة أخذ يبحث في غرفة نوم شقيقته، فعثر في دولابها على زجاجة دواء أخذها وذهَب إلى إحدى الصيدليات، وأخبره الصيدلي أن الدواء خاص للسيدات الحوامل اللاتي يرغبن في إجهاض أنفسهن، وصُعق الشقيق وتأكَّدت شكوكه في سلوك أخته. وواجه المهندس شقيقته بزجاجة الدواء التي في دولابها وشكوكه، ولم يتمالك نفسه، فجرى إلى المطبخ وأحضر سكينًا وأخذ ينهال بها على شقيقته حتى سقَطت تلفظ أنفاسها الأخيرة! وتولَّت النيابة التحقيق وأمرت بحبسه، وجاء تقرير الطب الشرعي بالصفة التشريحية أن شقيقته عذراء وليست حاملًا!
وفي المعارضة في حبس المهندس أمام محكمة جنايات الجيزة تَرافع أحمد ناصر المحامي، فقال: إن المهندس كان يعيش في خطٍّ وهمي، وأنه توهَّم أن شرفه وشرف أسرته تلوث، وأكَّدت له الظواهر واعتراف شقيقته هذا الشك، فالمهندس قتَلها دفاعًا عن نفسه وشرفه. وأمرت المحكمة بالإفراج عن المهندس بلا ضمان.
وفي الوقت الذي تُفرج فيه المحاكم عن القتلة من الرجال من أمثال هذا المهندس المتعلم، وأمثال ذلك المدرس الذي اعتدى جنسيًّا على تلميذات فصله وهنَّ لا زلن في سن الطفولة، في الوقت الذي تُفرج فيه المحاكم والقوانين عن هؤلاء الرجال وأمثالهم ممن يَنتهكون الأخلاق والشرف الإنساني والعدالة، في كل يوم وليلة؛ إذا بها تتشدَّد في عقاب نساء بريئات أو فتيات ساذجات، أو زوجات مغلوبات على أمرهن. وفي الوقت الذي يُطلَق فيه سراح مدرس اعتدى جنسيًّا على تلميذات فصله تُعاقب بشدة مُدرِّسة لمجرَّد أنها دخلت على زميلتها الحمام وهي عارية دون استئذان، أو تعاقب المُدرِّسة بشدة لمجرد أنها أخذت التلميذات أثناء رحلة وجلست بهنَّ على أحد الكازينوهات.
ولست بصدد التعرض مرة أخرى إلى المهازل الأخلاقية التي تحدث تحت ستار عقد الزواج، وكيف يَبيع الآباء بناتهم الصغار باسم الزواج لرجال عجائز أو مرضى أو فاسدي الأخلاق. كم قرأنا عن مثل هذه الحوادث التي أصبَح الزواج فيها ليس إلا نوعًا من البغاء المُقنَّع بالعقد الشرعي.
قبَضت النيابة على الأب والأم؛ ثار الشك حولها عندما تقدَّمت بطلب استخراج جواز سفر لمصاحبة زوجها إلى الخارج! قدمت شهادة ميلاد تُفيد أن سنها ١٨ سنة، في حين أنها تبدو طفلة.
طلب المقدم عادل شعبان رئيس قسم رعاية الأحداث إجراء التحريات اللازمة؛ كلَّف العقيد عبد الحميد منصور مدير إدارة البحث الجنائي بالنيابة الرائد محمد شريف عبد الرازق بالذهاب إلى مركز البدرشين بالجيزة للبحث وأجروا التحريات عن الزوجة الصغيرة.
وكشَفت التحريات أن أحد الأشخاص بالحوامدية أغرى والد الطفلة بتزويجها من أحد كبار السن في الخارج في مقابل مهرٍ كبير، وقام بتزوير شهادة ميلاد الطفلة (١٢ سنة) إلى ١٨ سنة، وتبين أن نفس الشخص سبَق له عقد زيجات مختلفة بنفس الطريقة.
وكم يُسيء الآباء استخدام سلطتهم على بناتهم الصغار أو الكبار، وكم يكون هذا الأمر مُدمِّرًا لحياة بنت أو مستقبلها، خاصةً في مجتمعنا؛ حيث تكون الأسرة أبوية قانونًا شرعيًّا، وحيث سلطة الأب مطلقة على ابنته، فلا يستطيع التدخُّل بينهما أحد ولا حتى القانون نفسه، بل كثيرًا ما يقف القانون مع الأب المخطئ ضد الابنة البريئة أو السليمة الموقف.
ولعلَّ هذه الواقعة التي نُشرت في جريدة أخبار اليوم في ٥ يناير ١٩٧٤ تؤكِّد هذه الحقيقة، كتبت الجريدة تحت عنوان: حكَمت المحكمة بالطلاق؛ لأن الفتاة تزوَّجت بدون موافقة الأسرة. الزوجة بلغت سنَّ الرشد، فتزوجت بدون رضا أهلها، ولكن المحكمة حكمت بتطليقها من زوجها لأن الفتاة لم تأخُذ رأي أسرتها، وتحكي الجريدة القصة، وهي أن الفتاة أحبت الشاب وتزوجته بحضور المأذون وشاهدَين (أي أن عقد الزواج كان سليمًا من الناحية القانونية والشرعية). وتقدم والد الفتاة يطلب فسخ العقد لأنه تمَّ بغير موافقته، وقرر الزوجان أمام النيابة بأنهما تزوجا بإرادتهما، وقالت الزوجة إنها بلغت من العمر عشرين عامًا وأصبح لها الحق والحرية في اختيار شريك حياتها الذي رفضته أسرتها عندما تقدم إليها لأنه فقير. وقررت النيابة حفظ التحقيق في شكوى الأب لعدم وجود جريمة؛ فالزوجة بلغت سن الرشد ومن حقها أن تُمارس عقد زواجها بنفسها. ولجأ الأب إلى محكمة جنوب القاهرة للأحوال الشخصية يَطلب الحكم بتطليق ابنته من زوجها لأنها تزوَّجت بغير موافقته، وحكمت محكمة جنوب القاهرة للأحوال الشخصية برئاسة عبد الرحمن البرقوقي بتطليق الزوجة من زوجها، وقالت في أسباب الحكم إنه وإن كان القانون لا يمنع مثل هذا الزواج إذا بلغت الفتاة سن الرشد وأصبح من حقها أن تُباشر عقد زواجها بنفسها، لكن العرف والتقاليد في بلادنا تَمنع مثل هذا الزواجِ المقضي عليه بالفشل؛ لأن الفتاة تصرَّفت بعاطفتها دون عقلها، ولم تأخذ برأي أسرتها التي ترى مصلحتها في زوج المستقبل الذي يَكفل لها الحياة، وقد جرى العرف والتقاليد في مجتمعنا الشرقي على أن يكون الأب أو العم أو أحد أفراد أسرة الزوجة وكيلًا لها عند الزواج.
- (١)
التناقض بين بنود القانون الرسمي والشرعي، وبين التقاليد والعرف؛ ففي الوقت الذي يبيح فيه القانون للفتاة البالغة الرشد اختيار زوجها بنفسها تمنع التقاليد والعرف هذا الحق للفتاة البالغة الرشد.
- (٢)
رغم وضوح القانون فإن المحكمة لم تأخذ برأي القانون، وإن أخذت برأي العرف، وحكمت بتطليق الفتاة من زوجها، وهذا اعتداء صارخ من هيئة قانونية على القانون ذاته، مما يدل على أنه فيما يتعلق بحرية المرأة وإرادتها فإن التشديد واجب إلى حدِّ مراعاة العرف حين يبيح القانون الحرية، والالتزام بالقانون حين يُبيح العرف شيئًا من هذه الحرية.
- (٣)
التناقض بين موقف الأب وتصرُّفاته العملية ضد ابنته وضد مصالح حياتها بتطليقها من زوجها بعد الزواج رغم إرادتها، وهذا الموقف الذي وافقت عليه المحكمة يتناقض مع مفهومنا النظري للأبوة ومشاعر الأبوة، وحرص الأبوة على صالح الأبناء والبنات، ولا أظن أن هناك من يقول بأنه مِن صالح فتاة بالغة الرشد أن تُطلَّق رغم أنفها من زوجها الذي تحبه ويحبها لمجرد أنه زوج فقير كما قالت الزوجة في أقوالها.
- (٤)
هذه الزوجة أحبَّت زوجها، واحترمته رغم أنه فقير، وهذا الموقف من الزوجة يتفق مع مبادئنا النظرية، ومع أخلاقيات الدين الإسلامي وكل الأديان السماوية، ومع ذلك فلم يكن جزاؤها على الإيمان بهذه المثل إلا التفريق بالقوة بينها وبين زوجها، وفسخ عقد زواجها منه. وهذا تناقض صارخ تقع فيه كثير من أسرنا؛ فإن الآباء والأمهات يُلقنون أطفالهم من الصِّغر مبادئ الدين الذي يُساوي بين الفقير وبين الغني، وأنه لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ثُمَّ حين يأتي موعد الزواج ينسى الآباء والأمهات هذه المبادئ ولا يُشغلون إلا بالتقصي عن عدد الجنيهات التي يكسبها العريس، وإذا بهم يُناقضون أنفسهم، ويُشجِّعون بناتهم على قبول الغني ورفض الفقير، ويا ليت الأمر يقف عند حد التشجيع، ولكنهم يَتدخَّلون ويفرضون على البنت أزواجًا لمجرد الكسب التجاري (بعبارة أخرى يبيعون بناتهم باسم الزواج، وهم بذلك يضربون مثلًا سيِّئًا لبناتهم ويُشجعونهن على بيع أنفسهن من أجل من يدفع أكثر، وهذا هو جوهر البغاء)، بل أحيانًا ما يسعون كما فعل الأب السابق إلى استغلال العرف أو القانون لتحطيم حياة بناتهم. ويحدث كل ذلك تحت ستار التقاليد والقيم المتناقضة التي تُغيِّر أشكالها وألوانها حسب كل ظرف وحسب كل حالة، ولا يدفع ثمن كل هذا إلا البنت المسكينة التي تضيع مستقبلها وحياتها وسعادتها وصحتها النفسية والجسمية ضحية هذه التناقضات التي نقرؤها ونسمع عنها كل يوم، ومع ذلك نفعلها ونشترك فيها أيضًا كل يوم.
إن مجتمعنا المصري والعربي مليء بالتناقُضات التي تنعكس آثارها على حياة البنات والنساء أكثر من حياة الرجال؛ وذلك بسبب التفرقة بين الجنسين وازدواجية القيم والقوانين التي تحكم النساء والرجال، سواء في العمل أو الزواج أو الحب أو الطلاق أو الشرف.
وتُسبِّب هذه التناقُضات للبنات والنساء كثيرًا من المشاكل الاجتماعية والنفسية، وقد تتعرض الكثيرات منهنَّ لأمراض نفسية وعصبية مختلفة؛ ولهذا علينا ألا نندهش حين نلمس ارتفاع نسبة النساء العصابيات، وخاصة بين ذوات العقل الذكي والقادرات على إدراك التناقُضات والإحساس بوطأتها، وفي البحث الذي أجريته في جامعة عين شمس وجدتُ أن نسبة الأمراض العصابية بين الطالبات أعلى منها بين الطلبة، كما وجدت أيضًا أن الفتيات المثقَّفات الذكيات أكثر عرضة للعصاب من الفتيات الأقل ثقافةً وذكاءً.
ولا شك أن الإنسان المثقَّف الذكي أكثر قدرةً على إدراك عيوب المجتمع وأكثر قدرةً على إصلاحها إن استطاع، وإن لم يستطيع فهو أكثر عرضةً للمعاناة النفسية؛ من ذلك الشخص الآخر الذي يَتصوَّر أن عيوب المجتمع ومآسيه ليست إلا إرادة الله أو حكم القضاء والقدر.
ولهذا يُعاني الأذكياء في مجتمعنا من التناقُضات التي تحكم على حياة الرجل، وحياة الأطفال؛ ومن ثُمَّ حياة المجتمع كله.
وقد نَشرت الصحف عدة مرات عن ظاهرة هؤلاء الأذكياء من الشباب الذين يتعرَّضون للأمراض النفسية، وحينما ندرس حياة بعض الشباب، نجد تلك الحيرة وذلك القلق العميق إزاء ما يبدو لهم من تناقُض بين القيم الدينية والأخلاقية، وبين ما يشعرون من رغبات أو ما يمارسونه في حياتهم اليومية، ما يُشاهدونه ويسمعونه في أجهزة الإعلام وفي الحياة الاجتماعية اليومية.
وقد نشرت جريدة الأخبار صباح يوم ٢٧ يناير ١٩٧٤ موضوعًا، ثُمَّ تلته بعدة موضوعات في الأيام التالية تحت عنوان: ابحث عن هذا الطالب العبقري، آخر مرة شوهد فيها طويل الذقن حافي القدمين، يَتسوَّل من الناس ليعيش. وتحكي قصته؛ فهو شابٌّ ذكي متفوق في كلية الهندسة، وهو كما تقول أسرته كان متديِّنًا جِدًّا لدرجة أنه كان يرفض أن يصافح زميلاته أو يتكلم معهن لأن هذا حرام، وأنها كانت تعامله بذوق وأدب، وكانت تحب رجلًا آخر تزوجت وسافرت معه إلى الخارج، وهنا حدثت الصدمة لهذا الطالب، وأُصيب بمرض «الشيزوفرنيا» كما كتبت الجريدة. وفي نهاية الموضوع تتساءل الجريدة: هل هناك أمل في شفاء أحمد؟ وتكتب أن الأطباء النفسيين يقولون إن الأمل كبير في الشفاء من هذا المرض ولكن في مراحله الأولى؛ أي بعد الصدمة التي تسببت في المرض، ولكن المريض الذي في حالة أحمد يحتاج إلى رعاية مستمرة ورقابة شديدة. وتقول الجريدة: «إن الأطباء يَنصحون كل أب وأم بأن يُشجعوا أولادهم على ممارسة أي نوع من الألعاب الرياضية، وخصوصًا في فترة المراهقة؛ حتى لا يَنحرف تفكيرهم إلى هموم قد تسبب لهم في الكِبَر عُقَدًا يصعب حلها.»
ولستُ أعرف كيف يُمكن (طبِّيًّا وعلميًّا) أن نعالج التناقض بين القيم الأخلاقية والاجتماعية في عقول الشابات والشباب الأذكياء بالرياضة البدنية ومباريات التنس وكرة القدم والكرة الطائرة، بل كيف يمكن أن نعالج مثل هذه التناقضات الاجتماعية بالصدمات الكهربية التي نوجهها على رءوس الشباب كجزء من العلاج النفسي؟ كيف يمكن أن نترك جذور أسباب الأمراض النفسية بغير علاج، ولا تهتم إلا بعلاج الأعراض الظاهرية بالحقن والكهرباء وغسيل المخ.
وإن الذي يَدرس أسباب الأمراض النفسية بين الذكور والإناث في مختلف مراحل العمر في مجتمعنا، يجد أمثلة مُتعدِّدة لتلك القصص التي عرَضتْها الصحف عن الشباب الأذكياء، أمثلة متعددة بين الرجال والنساء والبنات الذكيات، وعلينا بدلًا من أن نوجه العلاج إلى رأس المريض أو المريضة، أن يتجه لفحص والعلاج إلى المجتمع، وإلى التقاليد والقيم والقوانين المتناقضة التي يرفضها العقل الذكي؛ وخصوصًا تلك القيم والتقاليد التي تقترب من النواحي الحساسة في مجتمعنا.
إن الإنسان وحدة كاملة، وليس هناك فاصل بين العقل والجسم؛ ولهذا فإن الإنسان ذو العقل الشديد يتَّصف بأن كل ما فيه أيضًا شديد، سواء كان رغبات عاطفية أم جسمية؛ وحيث إن الوجه الآخر للكبت الشديد أو الانفجار الذي يظهر على شكل الاضطراب النفسي، فإنَّ شدة الذكاء أحيانًا ما تكون صفة يدفع الإنسان ثمنها غاليًا جِدًّا، خاصةً إذا كان امرأة.
واني أختلف مع هؤلاء الذين يرون أن علاج مثل هذه المشاكل والتناقضات يكون بتحريك عضلات الجسم في الهواء الطلق أو الرياضة البدنية. ولستُ أعتقد أيضًا أن العلاج هو أن تقتل في هؤلاء الأذكياء والذكيات شعلة الذكاء بالجلسات الكهربية أو غسيل المخ أو بالتحليل النفسي الذي يحاول إقناعهم بالتكيُّف مع هذه التناقضات والتسليم بها كنوع من القدر المحتوم الذي لا يمكن تغييره.
إن العلاج في رأيي لا يكون علاجًا حقيقيًّا إلا إذا تناول الأسباب الحقيقية للمشاكل، وأن تسعى العقول المفكرة الناضجة الشجاعة لإيجاد الحلول لتلك التناقضات الصارخة التي لا زلنا نعيشها.
ولا شك أن النساء والبنات أكثر تعرُّضًا للتناقضات الموجودة في مجتمعنا؛ فالمرأة في معظم الأحيان هي التي تقع ضحية التناقُضات، وكونها أنثى بالمفهوم الأخلاقي والاجتماعي، فهي فريسة تناقُضات المجتمع الأخلاقية والاقتصادية، ومن المعروف أن قيم المجتمع الأخلاقية تتناقض مع قيمه الاقتصادية؛ مثلًا إنَّ جسد المرأة يجب أن يُعرَّى ويُكشَف بطريقة مثيرة جِدًّا في الإعلانات التجارية وفي الأفلام التجارية وفي الرقصات والأغاني والفنون التجارية.
ولا شكَّ أن النساء الفقيرات يدفعن ثمن هذا التناقُض أكثر من نساء الطبقة العليا، وكثيرًا ما تنجو المرأة الثرية من أزمات أخلاقية قد تُكلِّف المرأة الفقيرة حياتها كلها، وقد تضطرُّ المرأة الفقيرة من أجل أن تُطعم أطفالها أن تبيع جسدها، ولا يحاول أحد أن يحاسب أو يعاقب المسئولين عن الفقر، أمَّا العقاب فيقع على المرأة المسكينة وحدها.
وبرغم انتشار تجارة الجسد في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، بسبب حدَّة المشاكل الاقتصادية، إلا أن القانون المصري لا زال حتى اليوم يُعاقب النساء المشتغلات بها، ويُطلق سراح الرجال الذين يمارسون هذا العمل نفسه.
أكثر من ٣٠٠٠ جنحة آداب، بين دعارة وتحريض على الفسق وإدارة منازل للدعارة، سجَّلتها محاضر الشرطة والنيابة في عام واحد، وفصلت المحاكم في ٩٠٪ منها، ولكن القضاة أنفسهم يشعرون أن الأحكام غير عادلة؛ وعذرهم أنهم يُطبِّقون القانون الذي يعتبر الرجل الشريك في الجريمة شاهدًا، ولا يُحكَم عليه بأيَّة عقوبة، ولنستعرض نماذج من القضايا التي نظرتها المحاكم أخيرًا.
اتصل شابٌّ بشرطة النجدة يدَّعي أنه اتفق مع فتاتين من الساقطات لممارسة الجنس مقابل ٤٠ جنيهًا، وطلب منهما مرافقته إلى أحد الفنادق بشارع ٢٦ يوليو، ولكنهما رفضتا لأنهما كانتا تَعتقدان أنه ينزل بشقة مفروشة، وطلب الشاب «المُتبجِّح» معاونته في تنفيذ الاتفاق أو استرداد النقود.
وحضَرت سيارة النجدة وقبضت على الفتاتين، واقتادتهما إلى الشرطة التي أحالتهما إلى النيابة، فاعترفتا باحتراف الدعارة كسبيل للتعيش، وقضت المحكمة بحبسهما، أمَّا الشاب فقد أُخلي سبيله فورًا.
واقعة أخرى سجلتها محاضر شرطة الأزبكية، «الشاهد» فيها شابٌّ عربي يُقيم بشارع زكي، اتصل بالشرطة يستنجد من وجود فتاتين بشقته، قامت بينهما مشاجَرة استعملتا فيها زجاجات الويسكي الفارغة وحطمتا أثاث الشقة. قبضت الشرطة على الفتاتين فاعترفتا باحتراف الدعارة، وقالت إحداهنَّ إنها فوجئت بزميلتها تَقتحم شقة الزبون دون سابق اتفاق، وإن في ذلك منافسة «غير شريفة» لها، فلم تجد أمامها إلا ضربها.
وأُحيلتا إلى النيابة التي قدَّمتهما للمحاكمة، فقضت بحبسهما، أمَّا الشاب فقد أُخليَ سبيله فورًا وخرج من قسم الشرطة وكأن شيئًا لم يكن!
والعيِّنات الغريبة من هذه القضايا لا تنتهي؛ فقد ترك أحد أعيان المنيا مفتاح شقته مع بواب العمارة المملوكة له، ثُمَّ توجه إلى المصيف مع أسرته، وعاد ابنه قبل الموعد المحدَّد بيومين للتنبيه على البواب بتنظيف الشقة، لكنه فوجئ بالشقة مغلقة من الداخل، فكسر الباب حيث وجد البواب وصاحب محل كوافير وأحد الشبان الخنافس ومعهم فتاة من الساقطات، فأعاد إغلاق الشقة عليهم، واستنجد بالشرطة التي أفرجت فورًا عن الخنفس وصاحب محل الكوافير لأنهما في نظر القانون مجرد شاهدَين رغم اعترافهما.