الإلهة الأنثى والمعرفة
من حق الناس أن يَطلبوا من الآلهة الخير والطعام والأمن والستر. أما الفلاسفة والعلماء والفنانون فيطلبون من الآلهة المعرفة، وأول هذه المعرفة هي معرفة حقيقة الآلهة أنفسهم، والفرق بين إنسان وإنسان هي المعرفة، بل الفرق بين إله وإله هي المعرفة أيضًا.
أظن أنني قرأت هذه العبارة وأنا طفلة صغيرة في أحد الكتب القديمة، ولعلها من كلمات الفيلسوف اليوناني بلوتارخوس في كتاب عن الإلهة المصرية القديمة إزيس، ورغم مرور السنين الطويلة، فلا زلتُ أذكر هذه العبارة، وأذكر أيضًا أن «هوميروس» قال: إن الإله زيوس كان أفضل من الإله أوزوريس؛ لأنه كان أعظم منه في المعرفة، أما الإلهة المرأة إزيس فقد كانت أكثر الآلهة معرفة، بل إن اسمها «إزيس» يعني لغويًّا المعرفة والحكمة، ويدلُّ «هيكل إيزيس» على إدراك الحقيقة، فهو يُسمَّى «إيزيون» ليدلَّ على أننا سوف نُدرك الحقيقة إذا دخلنا «زونة» الإلهة أو بيت الإلهة إزيس.
وقد أكَّد لنا كل من كتب عن الإلهة «إزيس» أن عابدها الحقيقي لم يكن هو الكاهن الذي يرتدي الأثواب المقدسة وتتدلى لحيته فوق ذقنه، ولكنه هو الذي يبحث عن الحقيقة والمعرفة بلا كلل أو ملل.
ومن يقرأ قصة إزيس وأوزوريس يرى أن إزيس كانت تقوم دائمًا بالفعل والعمل والخلق، بل إنها كانت تُعيد خلق وبناء ما قد يَهدمه الرجال من أمثال «توفون»، إن «توفون» كان يرمز إلى كل ما هو غير نافع وغير عاقل وغير مرتب.
وكل ما هو مرتب ونافع من عمل إزيس، هذا العمل الذي كان يأخذ شكل «أوزوريس»، فأوزوريس لم يكن إلا الصورة أو الشكل الذي يَتجسَّد به عمل إزيس.
وقد انتصرت إزيس بعقلها ومعرفتها على الداهية توفون الذي مزَّق جسد أوزوريس إربًا، وأكل سمك النيل عضوه الذكري، لكن إزيس استطاعت أن تجمع أعضاء أوزوريس وتُعيد خلقه، بل وتُعيد خلق عضوه الذَّكري وتضع له عُضوًا ذكريًّا آخر مكان العضو المفقود.
وتدل أسطورة «إزيس» بوضوح على أن المرأة القديمة كانت هي الخالقة والفاعلة، أما الرجل فقد كان المفعول به، أو الذي ينتج عن فعل المرأة وحركتها السريعة. إن كلمة «إزيس» لغويًّا تعني العقل والمعرفة والحركة السريعة، أما أوزوريس فلا يَعني إلا «التقيَّ» أو الشيء المقدَّس؛ فقد خلقت إزيس أوزوريس، وهو لم يكن إلا أحد نتاجها؛ لأنها أنتجت أيضًا «هوريس» ابنها الذي أوجدته أو ولدته، بل إن «إزيس» هي التي منحت الحركة والمعرفة ﻟ «زوريوس» الإله الأكبر الذي قال الرجال عنه: إنه هو الذي ولد «إزيس» أو «أثينا» من رأسه.
ويقول يودسكوس إن قدماء المصريين صوَّروا «زيوس» على أنه كان عاجزًا عن السير والحركة؛ لأن ساقَيه كانتا ملتصقتَين، وقد ظل في عزلة شديدة بسبب عجزه عن الحركة، وبسبب خزيه أيضًا من شكل ساقَيه الملتصقتَين، لكن «إزيس» هي التي شقت ساقَيه، وبفضل إزيس أصبح في إمكانه السير والحركة.
والمعنى الواضح في هذه الأسطورة أن إزيس هي التي منحت الحياة والحركة والمعرفة لزيوس وأوزوريس وهورس.
لكن الرجال الذين فسروا هذه الأسطورة لم يُدركوا هذه الحقيقة، أو أنهم أدركوا ثم حوروها وغيَّروها بحيث يصبح الإله الرجل هو الأصل، وهو الخالق، وتُصبح المرأة أحد مخلوقاته؛ فهو يلدها من رأسه كما روى عن زيوس، أو هو يلدها من ضلعه كما روى عن آدم.
ولا تختلف أسطورة آدم وحواء كثيرًا عن أسطورة إزيس وزيوس، اللهم إلا أن أسطورة آدم وحواء جاءت في الكتب السماوية المقدَّسة، فاكتسبت بذلك قدسية تُبعد الكثيرين عن مناقشتها مناقشة عقلية موضوعية.
وقد سُلبت حواء قدرتها على المعرفة والحركة والخلق، رغم أن مَن يُعيد قراءة الأسطورة في أصلها الأول في التوراة يرى بوضوح كيف كانت حواء صاحبة المعرفة والعقل والذكاء، وأن آدم لم يكن إلا أحد وسائلها لتحقيق هذه المعرفة وتجسيد هذا الخلق.
وتقول الأسطورة كما جاءت في التوراة إن آدم أطاع حواء وأكَل من شجرة المعرفة التي أكلت منها حواء، فاكتسب المعرفة التي سبَق أن اكتسبتها حواء، لكن الربَّ خشيَ أن تزيد معرفة حواء وآدم فتمتد يدها بعد شجرة المعرفة إلى شجرة الحياة، فيَعيشان إلى الأبد مثل الآلهة، وخشيَ الرب أن تُنافسه حواء وآدم في الألوهية، فطردهما من الجنة إلى الأرض؛ حيث يعيشان ثم يموتان كالبشر وليس كالآلهة.
«وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فطرَد الإنسان وأقام شرقيَّ جنة عدن الكروييم ولهيب سيف تتقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.»
ورغم وضوح دور المرأة القديمة أو الإلهة القديمة من حيث المعرفة والعقل والخلق، إلا أن هذه الأساطير فُسِّرَت تفسيرًا عكسيًّا، وأصبح الرجل هو الله، وهو الخالق، وهو الذي ولَد المرأة، وليست هي التي ولدته.
واستولى الرجل الذَّكَر على العرش والقوة والأصالة، وألصق بالمرأة تُهمة الضعف والسلبية والتبعية.
في حين أن المرأة لم تكن تابعة للرجل، بل إن آدم هو الذي كان تابعًا لحواء، وكانت إزيس أكثر قوةً من أكثر الرجال قوةً وطغيانًا وهو «توفون»؛ فقد انتصر «توفون» الداهية السياسي الشرير على أخيه أوزوريس الطيب الخيِّر المُسالم، لكن «إزيس» هي التي انتصرت على «توفون» وحاربته بنفس سلاحه؛ وذلك بأن اشترت الشيطان وأغرته بمالها.
كانت المرأة أعرَق من الرجل معرفةً وقدرةً، كانت المرأة أقوى بعقلها وذكائها من الشيطان، وكانت تَنتصر دائمًا بمعرفتها وحكمتها على الشياطين والآلهة معًا؛ فقد انتصرت حواء على الإله، وجعلت آدم يُطيعها هي ولا يطيع الإله.
أما الرجل فقد كان دائمًا يسير وراء المرأة، مُسترشدًا بعقلها وذكائها وحكمتها، وقد يكون نصيبه الحركة والحياة والمعرفة كما حدَث لزيوس وأوزوريس وآدم، وقد يكون نصيبه الهلاك كما حدث لتوفون وغيره من الشياطين.
لكن الرجل لم يكن أبدًا موضوعيًّا في تفسيره لهذه الأساطير القديمة التي تدلنا على المكانة العالية التي كانت تَحتلُّها المرأة في عهود ما قبل التاريخ وما قبل الأديان السماوية.
وهناك مَن يقولون إن الرجل استطاع في فترة ما قبل التاريخ أن يُحارب المرأة ويقهرها بقوة السلاح، ويسلب منها منصبها الألوهي، ويسلب أيضًا عقلها وقدرتها على الخلق ويَنسبها لنفسه.
وفي أسطورة إزيس يُروى أن ابنها «هورس» بتر رأسها، وأطاح بالتاج الملكي أو الألوهي من فوق رأسها؛ لأنها أطلقت سراح «توفون» وعفَتْ عنه حينما جاء إليها مُقيَّدًا بالسلاسل والأغلال.
وقد بترت التوراة أيضًا رأس المرأة وجعلتْها جسدًا بغير رأس، وزوجها هو رأسها، وتبع ذلك تلك الأقوال التي تشيد بأن المرأة بغير عقل أو ناقصة العقل، في حين أنها كانت في الأصل هي صاحبة العقل والمعرفة، والرجل لم يكن إلا تابعًا ومطيعًا لما تقوله.
ولكن كم تغيَّر التاريخ، وكم استطاع الرجل أن يُفسر تلك الأساطير بحيث تتفق مع مصالحه الأبوية بنشوء الأسرة الأبوية ومجتمع العبيد.
ولم يَستطع أحد أن يرد على سؤالي: لماذا اختفَت الإلهة الأنثى من تاريخ الإنسان؟ ولم يعد إلا الإله الذكر في الأديان السماوية الحديثة؟
وقد ظللتُ لسنين طويلة في طفولتي وصباي أُفكِّر في حقيقة الله، وكنتُ أسمع من بعض ممن حولي أن التفكير في الله أمرٌ مكروه، أو على الأقل غير مُستحَب، ولا يُشجعه أحد، لكني كنت لا أزال أذكر عبارة «بلوتارخوس» أن من حق الإنسان أن يطلب المعرفة، وأول هذه المعرفة هي معرفة حقيقة الآلهة. وكنت أقرأ دائمًا أن ما من شيء يَمتلكه الإنسان أقدس من المقدرة على التفكير، وحينما كانوا يَتهمونني بأنني أنتهك المقدسات حين أفكر في حقيقة الله أقول لهم إن ما من شيء يَمتلكه الإنسان أقدس من المقدرة على التفكير والمعرفة، وأول هذه المعرفة هي معرفة حقيقة الإله.
وقد قرأتُ في الأساطير المصرية واليونانية القديمة أن القدماء قالوا إن التمساح صورة الله؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي لا لسان له، ولأن العقل الإلهي (أو الكلمة الإلهية) لا تحتاج إلى صوت. وقالوا أيضًا: إنَّ زيوس كان «أطرشًا»، أي بغير أذنين؛ إذ لا يليق بسلطان الأشياء وربما جميعًا أن يُنصت لأحد.
وقالوا أيضًا إن ساقَيه كانتا ملتصقتين، وكان عاجزًا عن السير، ويزحف كالتمساح، وأن «إزيس» هي التي شقَّت ساقَيه.
ومن هذه القراءات كنتُ أجد أن كثيرًا من الرجال يُعطون أنفسهم الحق في التفكير في حقيقة الله، فلماذا لا أُعطي نفسي هذا الحق؟ ألست إنسانًا؟ وأليس أقدس ما يمتلكه الإنسان هو القدرة على التفكير؟!