المرأة قبل أن يلدها آدم
لا زلت أذكر ذلك الحوار القديم الذي حدث بيني وبين أبي عن حقيقة الله، ولماذا عاقبني مدرس الدين حين اعترضتُ عليه حين قال لي: إن الله ذكر وليس أنثى. ولا زلت أذكر محاولاتي اليائسة لأعرف لماذا نُسب الإثم والشر إلى حواء، مع أنها هي التي كانت صاحبة المعرفة، وهي التي قادت آدم إلى شجرة المعرفة، ولولا معرفة حواء وإقناعها لآدم ما جئنا نحن وما جاءت البشرية كلها.
ولا شك أن قصة آدم وحواء بكل ما فيها من رموز قابلة للتفسيرات المختلفة، تُصوِّر مرحلةً من مراحل التطور الإنساني في اكتساب المعرفة التي حصل عليها الإنسان بالتدريج، وارتباط هذه المعرفة بالجنس والمرأة. وقد كان الأجدر بالمُفكِّرين والفلاسفة الرجال (لو كانوا مُتحرِّرين من النظرية الأبوية الذكورية المُتسلِّطة) أن يدركوا أن اكتساب آدم لمعرفة الخير والشر بأكله من الشجرة لم يكن «سقوطًا» وإنما كان ارتفاعًا بالعقل والمعرفة عن مصافِّ الحيوانات، وأن حواء لم تكن سبب «السقوط» وإنما كانت سبب «الارتفاع»، وأن «الجنس» لم يكن سبب «الموت» ولكنه كان سبب «الحياة» واستمرت البشرية. ومن هنا يُمكن أن تتغير النظرة إلى كلٍّ من المرأة والجنس، فترتفع مكانة المرأة، ويَتخلَّص الجنس من فكرة التأثيم والخطيئة والذنب الذي أُلصق به.
إلا أن الرجال أنكروا التاريخ، وطمسوا كثيرًا من الحقائق عن المرأة، وفرضوا على النساء وضعًا أدنى، وجعلوا هذا الفرض مقدَّسًا ودينًا لا يُناقشه أحد، وقانونًا يعاقب بالقتل أو الحبس كل مَن يُحاول التفكير فيه بموضوعية.
وبرغم أن العلم موضوعي وحيادي إذا قورن بالدين، إلا أن كثيرًا من الرجال حتى اليوم يُنكرون العلم، ويَفصلون بين العلم والدين. وتجد الرجل منهم يؤمن بنظرية التطور الدارونية التي تقول بأن الإنسان وُلد من إحدى إناث القرود، وتجده في الوقت نفسه يؤمن بأن آدم هو الذي ولد حواء من ضلعه.
ولا زال كثير من الناس وبالذات في مجتمعاتنا العربية يَتصوَّرون أن حواء هي أول امرأة ظهرت فوق سطح الأرض، ويَنسى هؤلاء أن المرأة ظهرت فوق الأرض قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة بنحو مليون سنة، وأن حواء لم تَظهر أول ما ظهرت إلا منذ أربعة آلاف سنة تقريبًا، وقد ظهرت بظهور التوراة فحسب.
ولكن كم ينسى هؤلاء التاريخ، أو على الأقل لا يُحاولون قراءته والبحث عن ماضيهم وحقيقتهم الأصلية.
إن تاريخ الإنسان الأول تطوَّر عبر ملايين السنين من فصيلة معينة من القرود، يَحتوي على حقائق هامة تكشف عن أن الإنسان الذكر والأنثى كلاهما صارع الطبيعة والبيئة المُتقلِّبة ليعيش ويستمر، وأنَّ الأنثى صارعت بمثل ما صارع الذكر من أجل البقاء، وأن كليهما صارعا معًا جنبًا إلى جنب ضد كوارث الطبيعة وضد وحشية أسود الغابة ونمورها، ولم يكن لديهما من سلاح أمام كل تلك القوى الأقوى منهما إلا أن يَتطور عقلها وذكاؤهما؛ بحيث يَنتصر العقل والذكاء على أقوى وحوش الغابة جسدًا وعلى أعظم كوارث الطبيعة فتكًا.
بعد أن يتخلَّص الرجل والمرأة البدائيان من الخطر المُحدق بوجودهما فوق الأرض، وبعد أن تطوَّر عقلها أكثر وأكثر لسد حاجتهما المتزايدة إلى الطعام والنسل والأمن، استقرت بهما الأمور أكثر فأكثر، واستمر تعاونهما معًا من أجل الحفاظ على حياتهما واستمرار النوع؛ أي البشرية.
وكان تعاونهما متساويًا، بل إن المرأة حظيت بمكانة أكبر لأن مساهمتها في استمرار البشرية كان أكبر؛ لأنها هي التي كانت تلد الأطفال، ولم يكن الرجل البدائي يفهم بعد أسرار الحمل والولادة، وتصور أن قدرة المرأة على الولادة إنما هي قدرة على حقِّ خلق الحياة، وأصبحت المرأة في نظره هي خالقة الحياة، فعبَدها على أنها إلهة الحياة، ومجَّد جسمها وأعضاءها الجنسية.
لقد ظهر الإنسان فوق سطح الأرض قبل ظهور الأديان السماوية بملايين السنين، هذه الأديان التي لم تظهر إلا منذ أربعة آلاف سنة على الأكثر، والتي لا يُمثِّل عمرها بالنسبة لعمر الإنسان شيئًا يُذكَر، وقد عُثر على جماجم بشرية عمرها أكثر من ٢٠ مليون سنة، وهناك من العلماء من يقول: إنَّ هناك ما يُثبت أنَّ عُمْر البشرية قد يصل إلى ١٢٠ مليون سنة.
وتقول المصادر التاريخية إن أقدم التماثيل صوَّرت المرأة البدائية أكثر مما صوَّرت الرجل. وهناك رسوم عُثر عليها في كهف «لاسيل» في فرنسا تصور المرأة راقدة في كبرياء وعظمة كالآلهة، والرجل راكع رافع يدَيه نحوها. وفي بعض كهوف كوجول بإسبانيا عثر على نقوش لنساء كاملات، أما الذكَر فقد رُسم على شكل عضو التناسُل، وعُثر على مثل هذه النقوش في بقاعٍ مختلفة من العالم في الصين وفي الهند.
وكلنا نعرف حضارتنا المصرية القديمة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وقبل ظهور الأديان السماوية، هذه الحضارة التي عُرفت من آثار قدماء المصريين الموجودة حتى اليوم، ومن كتاباتهم على ورق البردي، ومن تماثيلهم ونقوشهم الباقية حتى اليوم.
وكان إخناتون المصري (١٣٧٢ق.م) هو أول من بدأ شريعة توحيدية، واتخذ معبودًا واحدًا هو الإله «رع حاراختي»، الذي يَتألق في الأفق بمظهره «شو» النور، ويَكمُن في قرص الشمس، وقد تأثر موسى نبي اليهود بأفكار إخناتون، ونقَل عنه الكثير مما هو ثابتٌ من تشابه في كتابات إخناتون وبعض الآيات التي وردَت في التوراة (العهد القديم)، وقد نقلت المسيحية عن اليهودية كما نقل الإسلام عنهما معًا بحكم تطوُّر المجتمع.
والآلهة عند قدماء المصريين لم تكن ذكورًا فقط، ولكنها آلهة من الإناث ومن الذكور، وعَرفت مصر في تلك الفترات عهودًا حظيت فيها المرأة المصرية بمكانة عالية في الدنيا والدين على حدٍّ سواء.
وليس المجال هنا للإضافة في تاريخ المرأة أو آلهة الأنثى؛ حيث إن التركيز مطلوب على المرأة في حياتها الحاضرة في ظل الدين الإسلامي وفي المجتمع العربي، إلا أنه لا يُمكن أن نتعرَّض للحاضر دون أن نلقي بعض الضوء على الماضي.
ولا يُمكن أن نعرف الأسباب الحقيقية لانخفاض مكانة المرأة في الأديان السماوية دون أن نَعرف وضعها في المجتمع قبل هذه الأديان.
ومن الخطأ أن نتعرَّض للمرأة في الدين الإسلامي بمعزل عن الأديان الأخرى السماوية، وهي اليهودية والمسيحية؛ حيث إن الإسلام أخذ عنهما وتأثَّر بهما إلى حدٍّ كبير. كما أننا لا يمكن أن نتعرض للمرأة في الأديان السماوية بمعزل عن الأديان غير السماوية السابقة لها؛ حيث إن المجتمع البشري كان متصل الحلقات والمراحل، وكل مرحلة تُؤثِّر في المرحلة التي بعدها، ولا يمكن لنا أن نعرف مثلًا الأسباب التي جعلت القيم الدينية والأخلاقية المفروضة على المرأة تختلف عن القيم الدينية والأخلاقية المفروضة على الرجل في مرحلة تاريخية معينة، إلا إذا عرفنا الظروف الاجتماعية والاقتصادية في هذه المرحلة وفي المراحل السابقة لها، ولماذا تَعامل الدين مع المرأة على نحو مختلف عن الرجل.
وقد نشأت فكرة الدين عند الإنسان قبل أن نعرف الأديان السماوية، وخلَق الإنسان البدائي فكرة وجود آلهة أو قوى غامضة فوق طاقة البشر تُؤثِّر في حياة الإنسان، وتُسبِّب له الخير أو المطر أو الزرع، أو تُسبِّب له العواصف والمرض والموت، وتدلُّ المصادر التاريخية أن الآلهة القديمة كانت أنثى، وفي تاريخ مصر الفرعونية القديمة ما يدلُّ على وجود آلهة من الإناث ومن الذكور؛ ومن الإلهات المصريات القديمات «ماعت» كانت ربة الحقيقة، و«نايت» إلهة الحرب وإلهة الفيضان، «وإيزيس» و«سخمت» و«حتحور» وغيرهن.
وكان ارتفاع مكانة المرأة إلى حدِّ حصولها على منصب الألوهية مرتبطًا بارتفاع مكانتها في المجتمع قبل نشوء الأسرة الأبوية والملكية ونشوء الطبقات.
قبل بدء انتساب الطفل إلى الأب، كان الأطفال يُنسَبون إلى أمِّهم لأنها هي التي تلدهم، وعُرف ذلك المجتمع بالمجتمع الأمومي.
وعرَفت الحضارة المصرية القديمة انتساب الابن الشرعي لأمه، وكان نظام التوريث في بعض العهود يأتي عن طريق الإناث؛ فلم يكن الابن الذي يَرِث وإنما كُبرى البنات. وقد ورَد عند المؤرخ الإغريقي «هرودوت» أن شعب الليفيِّين كانوا يَنسبون الولد لأمه، وجاء عن المؤرخ الروماني «تاسيت» أن قبائل الجرمان كانوا يُعطون الأهمية للأخت، وكانت بعض القبائل عند عرب الجاهلية قبل الإسلام يَنسبون الطفل لأمه، وهناك بعض القبائل حتى اليوم في آسيا وأفريقيا ممن يَنسبون الأطفال إلى أمهاتهم.
ومن المعروف في تاريخ البشرية أن مكانة المرأة العالية في المجتمع والدين كانت مرتبطة بنسب أطفالها إليها، وقد حظِيَت المرأة في المجتمعات الأمومية بمكانة اجتماعية عالية، وكذلك حظِيَت بمنصب الألوهية أيضًا، ولم يَحتكر هذا المنصب الذكور كما حدث بعد نشوء النظام الأبوي وانتساب الأطفال إلى الأب بدلًا من الأم.
وفي المجتمع الأمومي كانت النساء من الإلهات، وكان الملوك الرجال يُقدِّمون قربانًا للآلهة، وقد أثبت «فريزر» أن الملك (في نيجيريا) كان مجرَّد مخصِّبًا للملكة؛ إذ لا بد من الحمل حتى تُعطي الأرض ثمارها، وبعد أن يُنهي الرجال (الذين اعتُبروا ممثِّلين للإله القمر على وجه الأرض) مهمَّتهم التناسلية، تقوم النساء بقتلهم. وكان «الحيثيون» يَنثرون دم الملك المقتول فوق أرض الحقول، أما جسده فتأكله الجنيات اللائي هنَّ وصيفات المَلكة بعد أن يرتدين أقنعة من رءوس الكلاب أو الخنازير، وعندما أصبح المجتمع الأمومي مجتمعًا أبويًّا سلَب الملك سلطة الملكة، وأصبح يَرتدي ملابس نسائية، ويضع أثداء صناعية ليأخذ دور الملكة، وأصبح هناك نائبٌ يُقتَل بدلًا منه، ثم استُبدلت الحيوانات بنائب الملك.
وتُعد النظم القانونية المتعلقة بالنسب أو الأسرة مرآةً تعكس الأوضاع الاقتصادية في أي مجتمع، وقد اعتمدت الحياة الاقتصادية في العهود الأولى للبشرية على قطْف الثمار وقطع البذور، وعلى التقاط السحالي والجرذان، وصيد بعض الحيوانات، وكانت هذه الحياة الاقتصادية تضطر الرجال والنساء إلى الترحال المُستمرِّ بحثًا عن القوت والصيد، ولم يكن في وسع أحد أن يملك شيئًا أو يَحفظ شيئًا مع هذا التنقُّل المستمر. وبغياب الملكية الخاصة لم يَنقسم المجتمع إلى حاكم ومحكومين، بل كان الجميع رجالًا ونساءً سواسية أعضاء في الجماعة، كذلك لم يُعرف شيء عن مبدأ تقسيم العمل بين الرجال والنساء أو بين فرد وفرد، فهو مجتمع بلا طبقات، وبلا سادة وعبيد.
وبدراسة حياة جماعات البوشمن اتَّضح أن المرأة كانت تشترك مع الرجل في التقاط الطعام، وكانت حرة في علاقتها الزوجية به، والمرأة التي تَرغب في علاقة جديدة تستطيع أن تهجر رجلها الأول وتتزوَّج بالرجل الثاني. وفي الجماعات الأسترالية أيضًا تساوت المرأة والرجل من الناحية الاقتصادية؛ فكلاهما يعمل من أجل الرزق؛ لذلك اتَّبعت بعض القبائل النظام الأمومي فيُنسَب الولد إلى أمه ويَلتحق ببطن الأم.
ويرجِّح ليتورنو أن تكون المرأة هي مكتشفة الزراعة البدائية لخبرتها الطويلة في التقاط الثمار والجذور في فترات الالتقاط ومُجتمع الصيد، وقد تولَّت المرأة الزراعة أول الأمر، ونشأ عن ذلك ارتفاع مكانتها الاقتصادية، وما ارتبط بها من ارتفاع مكانتها الاجتماعية ونسب أطفالها إليها؛ ولهذا ساد النظام الأُموي في أول فترات نشوء الزراعة.
وفي هذا المجتمع الزراعي البدائي، شعرت المرأة بأهميتها العظيمة في الاقتصاد الاجتماعي، واحتلَّت مكانتها بالتساوي مع الرجل في التنظيمات السياسية، وكانت لها الصدارة في نظام الزواج والأسرة، وأصبحت البطون أمومة، ويَنحدر النسب عن طريق الأم، ويتبع فيها بينهما نظام الزواج من الخارج. ونظرًا لصدارة المرأة من الناحية الاقتصادية فإن الرجل يَنتقل إلى بيت زوجته، ويعمل في حقلها؛ فهو عنصر جديد ينضم إلى القوى العاملة في البطن، وكانت الحاجة إلى الأيدي العاملة تُفسِّر أيضًا ظهور نظام التبني بين تلك القبائل، فلكلِّ بطن أن تتبنى من تشاء من أسرى الحرب، تَدمجه فيها ليعمل في حقلها. وتظهر الأهمية الاقتصادية للمرأة في قدرتها على الانفصال عن زوجها برغبتها المُنفردة، ويَخرج الرجل من بيت زوجته ويعود إلى ذويه، على حين يبقى الأولاد مع أمهم. وكانت المرأة تتساوى مع الرجل في قيادة التنظيمات السياسية وإمامة الشعائر الدينية، ولم تكن الشعائر الدينية تُفرِّق بين الرجل والمرأة في أي شيء.
إلا أنه بعد أن استقرَّ الإنسان بسبب الزراعة في الأرض، بدأ يشعر بحقه في البقاء فيها هو وأولاده من بعده، ونشأت مع الزمن فكرة الملكية الخاصة للأرض، وحلَّت محل الملكية الجماعية للبطن، وتولَّد عن الملكية الفردية أن نزع الرجل النسب من الأم ليُورِّث أولاده فقط، وانقسم المجتمع إلى طبقات اجتماعية تبعًا لمقدار الثروة التي يمتلكها الفرد.
وهناك نظريات مُتعدِّدة عن الأسباب التي جعلت الرجل هو الذي يسيطر على المرأة وليس العكس، إحدى هذه النظريات تعتمد على أن المرأة البدائية انشغَلت بولادة الأطفال في تلك الفترات التي تطلَّبت زيادة كبيرة في النسل والتناسُل لتعويض الوفيات العالية ولتوفير مزيد من الأيدي العاملة في الزراعة الناشئة.
وبازدياد الملكية الفردية وصَل التمييز الطبقي إلى مجتمع السادة والعبيد، وقد صاحب هذا انحدار في قيمة المرأة في المجتمع والأسرة، وسيطر الرجل عليها سيطرة اقتصادية واجتماعية ودينية، وفقَدت المرأة مكانتها القديمة في الدين وفي إمامة الشعائر الدينية، واحتكر الرجل الدين لنفسه فقط، وأصبَحت الآلهة ذكورًا فقط، وانخفضت مكانة المرأة في الأديان، وأصبح الأب رأس الأسرة وزعيمها الديني المُشرف على الطقوس الدينية فيها، ورسخت مع الأسرة الأبوية «عبادة الأسلاف» تدعيمًا لمركز الأب، فارتفع الأب بعد وفاته إلى مصافِّ الآلهة، بينما هبطت المرأة إلى مستوى الماشية، يملك الرجل عليها حق الحياة والموت، هي وأطفاله في مستوى عبيده وأملاكه وأرضه.