جزر أمومية في محيط أبوي
وبدراسة تاريخ بعض القبائل الأفريقية يَتَّضح أن الانتقال من النظام الأمومي إلى الأبوي قد حدث تدريجيًّا، ومر بمراحل غير منتظمة، مثلما حدث في تاريخ مصر القديم، ولا تزال قبيلة الأشانتي على ساحل العاج من أوضح الأمثلة على مجتمعات سيادة الأم في مرحلة الانتقال؛ إذ تَنقسم القبيلة إلى بطون توتمية تتبع نظام الزواج من الخارج، ويَنحدِر النسب عن طريق الأم، وتتمتَّع المرأة بمكانة بارزة، والنفوذ الأكبر في القبيلة بيد امرأة هي «الملكة الوالدة»، لكن هذا المجتمع يَتحوَّل تدريجيًّا من مجتمع سيادة المرأة إلى مجتمع سيادة الرجل، ويرتبط ذلك بامتلاك الرجل الأرض واكتسابه السلطة على أولاده، وتغير في نظام الزواج والنسب بحيث تصبح السيادة لرجل.
وهناك قبائل في أفريقيا تقف على الحدود الفاصلة بين النظامين الأمومي والأبوي؛ منها قبيلة الياكو في جنوب شرق نيجيريا، والثانية قبيلة النيارو في جبال النوبة بمديرية الكردفان، في هاتَين القبيلتين تعمل المرأة مع الرجل جنبًا إلى جنب في الحقل وتُشارك في إنتاج الطعام؛ لذلك يُنسَب الطفل إلى بطن الأم وبطن الأب معًا.
غير أن الرجل بدأ يَنتزع من المرأة سيادتها وأجبرها على السكن في بيته بعد الزواج، واستأثر بملكية الإنتاج وهي الأرض، وفرَض انتقالها من بعده إلى أولاده، كل ذلك بينما يرث أولاد الأخت المنقولات مثل الماشية كما هو الشأن في البطون الأمومية. إن هاتين القبيلتين تقفان مثل الصخرة العالية في نهر الزمان، تكسَّرت خلفها أمواج سيادة المرأة، وبدأ منها تيار حكم الرجل.
وفي جنوب الهند لا تزال هناك بعض المناطق التي تتبع النظام الأمومي، في ولاية كيرالا، وحيث ترتفع مكانة المرأة وتَنتسب الأطفال إليها، كما أن هناك قبائل يمكن أن تُمثِّل مرحلة الانتقال من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي، وفيها تتَّضح كيف يستولي الرجل على كُلية الإنتاج وكيف يستولي على الدين ويَحتكر لنفسه الآلهة والطقوس الدينية، وبعد أن كانت المرأة تشارك في إقامة وإمامة الشعائر الدينية فقط، أصبحت تُمنَع حتى من دخول المعابد.
وبدراسة الحياة في بعض هذه القبائل وُجد أن الأطفال يُنسَبون إلى الأم لأن الأم تتزوج بأكثر من رجل، وأنَّ الأب مجهول في حالات كثيرة. وبالرغم من أن الأم هي عائل الأسرة، وهي التي تعمل وتُنفق على الأزواج والأطفال، إلا أن زعماء القبيلة قد وضعوا تقاليد وقوانين معينة قالوا عنها إنها جاءت من الإله شيفا، وتنص على أن الرجل هو الحاكم، وهو الذي يُصدر القرارات ويُوزِّع الرزق على الناس، وباسم هذه القوانين استولى الرجال على الأجور التي تَكتسبها النساء، ونصب الرجل نفسه حاكمًا على الأسرة، وأصبحت النساء مجرد عاملات يعملن تحت سيطرة الرجال، وبدأ بعض الرجال بهذه السلطة يَنسبون الأطفال إليهم، ويَفرضون على المرأة زوجًا واحدًا حتى تُصبح الأبوة معروفة.
وتُعتبَر هذه القبائل مرحلة متوسطة بين بعض بقايا المجتمع الأمومي في كيرالا جنوب الهند وبين المجتمع الأُبوي السائد في الولايات شمال الهند، وتُمثِّل مرحلة الانتقال من المجتمع القديم الذي سادت فيه المرأة إلى المجتمع الحديث الذي ساد فيه الرجل. وقد اتَّضح أن الرجل لم يستطع أن يَنزع من المرأة سيادتها إلا عن طريق الاقتصاد والسيطرة على الملكية والإنتاج، وكذلك السيطرة على الدين عن طريق ادعاء قوانين إلهية جاءت من عند الآلهة، وباحتكار الآلهة ومعابدهم للذكور، وتحريم دخولها على النساء. وظهر أن الرجال لم يَحتكروا الاقتصاد والإنتاج والآلهة والمعابد إلا حينما شعروا بقوة المرأة في الحياة الدنيا؛ فالمرأة كانت تملك القدرة على خلق الحياة والولادة، وهم لا يَملكون هذه القدرة. ويبدو أن المرأة البدائية كانت أقوى من الرجل في نواحٍ أخرى غير الخلق والولادة؛ فقد لاحظتُ أن النساء الهنديات في هذه القبائل أشد وأكثر صلابة من الرجال، وأن يد المرأة غليظة مُشققة قوية كيَدِ الفلاح المصري، أمَّا يدُ الرجل فقد رأيتها ناعمة بضة.