المرأة المصرية القديمة
وفي تاريخنا المصري القديم تبدو مرحلة الانتقال من المجتمع الأمومي إلى المجتمع الأبوي واضحة؛ لأنَّ الحضارة المصرية القديمة هي أول الحضارات التي عُرفت وعرف عنها المؤرخون الكثير. وقد اكتشف علماء التاريخ أن المرأة المصرية القديمة بعد أن كانت تُرسَم على الجدران بحجم زوجها تمامًا — دليل التساوي في المكانة والقدر — أصبحت تُرسَم بحجم أصغر من زوجها، ومعنى ذلك أنها أصبحت أقلَّ قدرًا من زوجها، وقد بدأ ذلك الانخفاض في مكانة المرأة مع بدء ملكية الأرض وعصر الأسرة السابعة حتى الأسرة العاشرة (٢٤٢٠ إلى ٢١٤٠ق.م) واستمر وضعها منخفضًا في عصر الدولة الوسطى في الأسرة الحادية عشرة حتى الأسرة الثالثة عشر، وعصر الهكسوس، بسبب تفشي العبودية والظلم والإقطاع. ولم تستردَّ شيئًا من مكانتها الضائعة إلا في عصر الدولة الحديثة (١٥٨٠ق.م) بعد ثورة النساء والعبيد والشعب المصري القديم كله ضد المستعمرين والإقطاع، واستردَّت المرأة المصرية القديمة كثيرًا من مكانتها الأولى في تلك الفترة، وعرفنا الملكات الشهيرات من الأسرة الثامنة عشرة كالملكة نفرتيتي والملكة حتشبسوت ذات الشخصية القوية التي حكمت مصر اثنتين وعشرين سنة (من ١٥٠٤ إلى ١٤٨٣ق.م)، وقد ظهَرت تماثيلها على شكل أبي الهول، لها رأس إنسان وجسد أسد رمزًا لقوة العقل والجسد معًا، وكان عصر حتشبسوت يتميز بالازدهار والتعمير، وأثبتت كفاءتها كحاكمة وملكة، لكنها بعد أن ماتت خلفها تحتمس الثالث، وأمر بتدمير تماثيلها وتشويه رسومها ونقوشها.
أما مكانة المرأة المصرية القديمة، فقد تجلَّت في الدولة القديمة قبل الملكية والإقطاع، وكانت المرأة الفرعونية تعمل في المصانع بالغزل والنسج وصنْع السجاجيد، وتعمل بالتجارة في الأسواق، وتُشارك زوجها أعمال الصيد، وكانت الزوجة تُرسَم على المقبرة حتى الأسرتين الثالثة والرابعة (٢٧٨٠ق.م) بحجم زوجها كدليل على المساواة في الشرف والمكانة والحقوق والواجبات، وفي تمثال «باهجم» (في معبد الكرنك) تتقدم الزوجة زوجها. وهناك نصب تذكاري خاص بالسيدة «بيسيشت» في عصر الدولة القديمة يُبيِّن أنها كانت مديرة للأطباء. وقد حوكم أحد الأزواج لأنه سبَّ زوجته بالجلد مائة جلدة، وبحرمانه من نصيبه من المال الذي كسَبه بالاشتراك معها إذا عاد إلى سبها.
وكان للمرأة المصرية حظ كبير من الثقافة، ويُحكى عن موظف اسمه «خنوم ردي»، كان أمينًا لمكتبة سيدة عظيمة تُدعى «نفروكاببث»، ويقول إن هذه السيدة قد عيَّنتني في دندرة مشرفًا على خزائن الكتب الخاصة بأمها، وكانت تحب العلوم والفنون.
ومارست المرأة المصرية القديمة الرياضة والسباحة والأعمال البهلوانية كالرجال سواء بسواء، وكانت النساء كالرجال يَشربْن الخمور في الحفلات، بل ويُسرفن في الشرب، ويَقرعن كئوسهن مع الرجال، وتقول إحداهن: ناولني ثمانية عشر قدحًا من النبيذ، إنني أريد أن أشرب حتى أنتشي، إن داخلي مثل القش.
ويعتمد بعض علماء الآثار مثل «أرمان» و«موريه» و«برستد» أن الطفل كان يُنسَب إلى أمه، واشتغلت المرأة كل الأعمال، كانت حامية وحاكمة وملكة وكاهنة وآلهة.
ولم تعرف المرأة المصرية القديمة الحجاب، ولم يكن هناك فصل بين الجنسين، وكان الزوج والزوجة متساويَين في كل شيء في الدولة القديمة حتى الأسرتين الثالثة والرابعة، وعندما سيطر النظام الإقطاعي على الحكم في عهد الأسرة الخامسة، فرض الرجل نظامه الأبوي ليورث أبناءه، وبدأ مع النظام الأبوي تعدُّد الزوجات، ثم نظام التسري (المحظيات)، وبدأ الأطفال غير الشرعيين، وانخفضت مكانة المرأة.
وقد حدَثت أول ثورة اشتراكية في التاريخ البشري ضد الإقطاع سنة ٢٤٢٠ق.م في عهد الأسرة الرابعة؛ وهي الثورة التي عُرفت باسم ثورة «منف» ضد الإقطاع والملوك، وقد حرق المصريون والمصريات القصر الملَكي نفسه، ونادوا بتكافؤ الفرص، ونادوا باحتقار الملكية، لكن بعض المؤرِّخين صوروا الأزمة على أنها مجرد تغيير الأيدي القابضة على الثروات، وكتب بعضهم يقول: إن أولئك الذين لم يكن في مقدورهم أن يأمروا بصُنعِ صندل لأقدامهم قد استولوا على الكنوز.
وقد عاد الإقطاع مرة أخرى، وثار الشعب المصري مرة ثانية سنة ٢١٦٠ق.م ضد الإقطاعيِّين من الفراعنة، وجاءت الأسرة العاشرة ونظام «الرودو» قضى على النظام التسري، واختفت ظاهرة الأطفال غير الشرعيين لانتساب الأطفال إلى أمهاتهم، ثم عاد الإقطاع في عهد الإقطاع الثاني عام ١٠٩٤ق.م، حين استولى «حرحورز» الكاهن الأعظم على السلطة، وعاد نظام التسري، وأصبح للرجل وحده حقُّ الطلاق وحق الكهنوتية.
وفي عهد الملك بوكخوريس من الأسرة ٢٤ بعد القضاء على الإقطاع عام ٣٦٣ق.م تحرَّر الأبناء من سلطة الأب، واستردَّت المرأة حقوقها، وتحرَّر الزواج من سلطة الكهنة، فلم يعد الزواج ذا قدسية دينية. وقد اتضح أنه مع النظام الأبوي يُصبح للأب سلطة دينية وكهنوتية ويفرض على الزواج قوانين دينية، ومع النظام الأبوي أيضًا وُجد أنه لا بد من وجود نظام التسري (المحظيات) وتعدُّد الزوجات مع فرض القيود على المرأة دينيًّا واجتماعيًّا وجنسيًّا.