خاتم من الفضة
بينما كانت سيارة الشرطة تنطلق بالشياطين إلى قلب مدينة «برن» قالت «زبيدة»: ينبغي أن نذهب إلى مقرِّ العصابة مباشرةً، يجب ألَّا نُعطيَهم فرصةً للتصرُّف.
كانت هذه وجهة نظرٍ طيِّبةٍ، لكنها في نفس الوقت يُمكن أن تُوقعَ بالشياطين، فلقد هرب «كاسيو» نائب زعيم العصابة … وهذا يعني أنَّ «ويب» الزعيم قد عرَفَ كلَّ شيءٍ الآن، وأنَّ الشياطين سوف يواجهون العصابة بأكملها هذه المرَّة، وأنها مسألةُ حياةٍ أو موت.
كانت السيارة تقطع هدوءَ الليل وصمته، بينما الشياطين كلٌّ منهم يفكِّر في طريقةٍ ما، وعندما اقتربت السيارة من الفيلَّا التي ينزلون فيها، قال «أحمد»: يجب أن ننزل بعيدًا قليلًا، حتى نأخذ احتياطنا، إننا لا نضمن أيَّ شيءٍ الآن، ومَن يدري! قد تكون العصابة في انتظارنا هناك.
أشار «أحمد» إلى السائق، فتوقَّف ونزل الشياطين، ثم انطلقت السيارة. كان الهواء يهبُّ بشدةٍ، حتى إنهم شعروا بالبرد، فاحتمَوْا بالمباني وهم يسيرون في هدوء.
قال «خالد»: يجب أن أعود أنا و«رشيد» إلى المقرِّ السرِّي؛ فإنهم لا يعرفون أننا قد انضممنا إليكم.
وافق الشياطين على رأي «خالد»، الذي انطلق هو و«رشيد» عائدَيْن إلى المقر، وفي نفس الوقت، استمرَّ بقيةُ الشياطين في طريقهم إلى الفيلَّا. كان الشياطين يتقدَّمون بحذرٍ؛ ففي أيِّ لحظةٍ يمكن أن يفاجئهم أحد أفراد العصابة، غير أنَّ الهدوء لم يكنْ يُنبئ عن شيءٍ. استمرَّت خطواتهم، حتى اقتربوا تمامًا من الفيلَّا، لم يكن هناك أحد، فتقدَّم «أحمد» ودفع الباب الحديدي، ثم خطا إلى داخل الحديقة، وتبعه الشياطين، وعندما أصبحوا داخل الفيلَّا، كان الظلام يُحيط بكلِّ شيءٍ.
قال «بو عمير»: يجب أن نبقى في الظلام بعض الوقت … إننا ما زلنا لم نتأكد من شيء؟
تحرَّك الشياطين في الظلام، فاصطدمت «ريما» بأحد المقاعد؛ فانقلب مُحْدِثًا دويًّا في الصمت، اقترب كلٌّ منهم من أحد الكراسيِّ، ثم جلس عليه، وقالت «ريما»: هل سنظلُّ في الظلام؟
ردَّ «بو عمير»: بعض الوقت.
لم ينطق أحد بكلمة، وكان الصمت مُثيرًا … ظلَّ الشياطين يجلسون في الظلام … أخيرًا قالت «زبيدة»: إنني أشعر بالإجهاد.
بو عمير: يمكن أن تنصرفي للنوم.
ريما: وأنا أيضًا مُتْعَبة.
تحرَّكت الاثنتان إلى حيث غرف النوم، وقال «أحمد»: ينبغي أن نبقى بعض الوقت حتى نتأكَّد من أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يُرام.
لم ينطق «بو عمير» … كانت خطوات «زبيدة» و«ريما» البطيئة تصل إليهما، وسمعا صوت فتح الباب، ثم غلقه، وأعقبه حركة هادئة نوعًا، جعلت الاثنين يتحفَّزان، ثم عاد الهدوء من جديدٍ … سمعا صوت نافذةٍ تُفتح، ثم شعرا بتيَّار الهواء البارد، قال «أحمد»: لا بُدَّ من إضاءة النور، يبدو أنَّ هناك شيئًا.
تحرَّك «بو عمير» في اتجاه زرِّ النور، ثم ضغط عليه، غير أنَّ الصالة الواسعة ظلَّت غارقةً في الظلام.
أخرج «بو عمير» بطاريةً صغيرة، ثم أضاءها في اتجاه الزِّر، وتحوَّل إلى «أحمد» وهو يقول: النور مقطوعٌ!
وقف «أحمد» بسرعةٍ، فسمع صوت سيارة تنطلق. جرى «أحمد» في اتجاه غرف النوم … فتح الغرفة التي دخلتها «زبيدة» و«ريما» فوجد النافذة مفتوحةً، وضوء الشارع يُضفي على الغرفة ضوءًا شاحبًا، ولم تكونا هناك … استدعى «أحمد» «بو عمير» الذي كان لا يزال واقفًا عند زرِّ النور.
أسرع «بو عمير» ونظر إلى الغرفة، لم يكن هناك أثرٌ لشيءٍ … لم تحدث معركة، لم يحدث أي شيءٍ. أسرع «أحمد» إلى النافذة، ونظر منها إلى الحديقة التي كانت مُضاءةً بإضاءة أعمدة نور الشارع، ولم يكن أحد في الشُّرفة … التفت إلى «بو عمير» وقال: لقد خطفوا الاثنتين!
بو عمير: إذن، لقد قطعوا النور من أجل هذا!
أغلق «أحمد» الشرفة، ثم عاد إلى الصالة هو و«بو عمير».
أرسل «أحمد» رسالةً عاجلةً إلى «رشيد» و«خالد» يشرح فيها ما حدث، فجاءه الرد: «مِن «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س»، لقد توقَّعنا هذا!»
قال «بو عمير»: إنَّنا لا نستطيع أن نذهب إلى المقرِّ، ربما تكون هناك عيون ترصدنا.
فكَّر «أحمد» قليلًا ثم قال: هل نذهب إلى العنوان؟
بو عمير: لا أظن … إن المسألة تحتاج إلى بعض التفكير!
جلس الاثنان قليلًا … أخيرًا قال «أحمد»: ينبغي أن تنام الآن … إن المسألة ليست مخيفةً، ولست قلقًا على «ريما» أو «زبيدة» … إنهما تُجيدان التصرُّف.
أخذ الاثنان طريقهما إلى غرف النوم، وعندما استلقى «بو عمير» على سريره، راح في النوم، بينما كان «أحمد» يُقلِّب الموقف في رأسه … فكَّر «أحمد»: هل هما الآن في نفس العنوان؛ شارع ٩٤ رقم ١٤؟ أم أنهما سوف تختفيان إلى الأبد؟ … بدأ الشكُّ يُساوره، حتى إنه لم يستغرق في النوم إلا بعد أنْ ظَهَرَ ضوء النهار.
عندما استيقظ كان «بو عمير» يهزُّه قائلًا: هناك رسالةٌ من الشياطين!
فتح «أحمد» عينيه بصعوبةٍ، لكن لم تمرَّ لحظةٌ حتى كان قد قفز من سريره في نشاط …
قال «بو عمير»: إنَّ الشياطين يسألون عن تحرُّكنا القادم.
قفز «أحمد» يؤدِّي بعض التمرينات، بينما كان ذهنه يعمل في التحرُّك القادم … أخيرًا قال: سوف نجدهما، وعندما نكون هناك سوف نتصل بالشياطين.
عندما كان «بو عمير» يرسل الرسالة إلى الشياطين، كان «أحمد» قد بدأ يرتدي ثيابه، وعندما عاد «بو عمير» إليه، أخذا طريقهما فورًا إلى الخارج، لكن لم يغادر «أحمد» حديقة الفيلَّا مباشرة، بل اتَّجه هو و«بو عمير» إلى الناحية التي تقع في شرفة غرفة نوم «ريما» و«زبيدة» … ظلَّا يبحثان في الأرض عن آثارِ أقدامٍ، حتى توقَّفا أمام عدَّة آثارِ أقدامٍ تدور حول الفيلَّا … ثم تتوقَّف أسفل الشرفة.
عندما جلس «أحمد» يتأمَّل آثار الأقدام، كان هناك شيءٌ لفت نظر «بو عمير» قريبًا من سور الفيلَّا فاتجه إليه، ثم انحنى يلتقطه … كان خاتمًا فضيًّا … ظلَّ «بو عمير» يتأمَّله لحظةً، ثم اتجه إلى «أحمد» … أمسك «أحمد» بالخاتم يتأمَّله هو الآخر، ثم قال: إنه ليس ﻟ «ريما» أو ﻟ «زبيدة»! تأمَّله مرة أخرى، ثم ظهرت ابتسامةٌ ساخرةٌ على وجهه … ثم انحنى، ووضعه على الأرض. نظر «بو عمير» إليه لحظة، ثم أدرك ما يفكِّر فيه، وقال: مَن يدري! ربما تكون هناك أشياء أخرى داخل الفيلَّا!
ابتعد الاثنان قليلًا حتى أصبحا عند باب الفيلَّا، وقال «أحمد» بلغة الشياطين: ينبغي أن نستغلَّ هذا الخاتم.
عاد وأخذه، ثم وضعه في إصبعه. كان منظر الخاتم أنيقًا، فقال «أحمد»: إنه يُذكرني ﺑ «خان الخليلي».
خرج الاثنان سيرًا على الأقدام إلى شوارع «برن»، وبلغة الشياطين قال «أحمد»: يجب أن نستدرجهم إلينا.
بو عمير: كيف؟
أحمد: إنَّ الخاتم يُعطيهم إشارات تدلُّ على مكاننا، وبهذا يجب أن نُوقِعَ بهم.
فهم «بو عمير» ما فكَّر فيه «أحمد» الذي قال: يجب أن نرسل رسالةً إلى «ريما» و«زبيدة»، حتى نعرف الموقف جيِّدًا.
انتحيا جانبًا، وكانت الحياة قد دبَّت في شوارع «برن»، فلفت نظرَ «أحمد» مطعمٌ صغيرٌ أنيقٌ فاتجه إليه، وعندما جلس الاثنان وطلبا إفطارًا، أخرج «أحمد» جهاز إرساله الصغير، ثم أرسل رسالةً إلى «ريما» و«زبيدة»: «من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س»، هل الدجاج لا يزال في نفس القفص؟» … بعد قليلٍ جاء الردُّ: «من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س»، الدجاج انتقل إلى قفصٍ آخر.»
كانت رسالة «أحمد» تعني: هل أنتم في نفس العنوان؛ شارع ٤٩ رقم ١٤؟ وكانت الإجابة: لقد انتقلنا إلى مكانٍ آخر.
تناولا الاثنان إفطارهما في هدوءٍ، ولم يكن أحدٌ في المطعم غيرهما، لكن فجأةً دخل رجلٌ يُثير ضَجَّة.
اتجه إليه الجرسون، وصرخ الرجل: أين الطعام؟
نظر إليه الجرسون في دهشةٍ ثم قال بابتسامةٍ: المطعم جميعه تحت أمرك يا سيدي!
جلس الرجل وهو يتحدَّث بما يُشبه الصراخ: إنني لم آكل منذ أيام … جائع … إنني جائعٌ جدًّا، ومعي نقودٌ كثيرة، هذه هي.
أخرج الرجل من جيبه عددًا ضخمًا من الأوراق المالية، وضعها فوق المنضدة … ابتسم الجرسون وهو يقول: هذه لا تهمُّ يا سيدي، ما يهمُّ أن يُعجبك طعامنا.
نظر له الرجل في ابتسامةٍ وهو يقول: إنه كلامٌ طيِّبٌ … هيَّا إذن، قَدِّمْ لي الطعام.
الجرسون: ماذا تطلب يا سيدي؟
طلب الرجل أطعمةً كثيرةً، وبينما كان يطلب، كانت عيناه تتَّجهان في بعض الأحيان إلى «أحمد» و«بو عمير» … وبينما كان يتكلَّم، قطع كلامه مع الجرسون، ووجَّه كلامه إليهما: معذرةً أيُّها الصديقان، إنني دائمُ الشجار هكذا، وأرجو ألا يضايقكما هذا التصرُّف.
هزَّ «أحمد» رأسه علامة تدلُّ على أنهما غير متضايقَين، وأكمل الرجل كلامه إلى الجرسون، وعندما انصرف … نظر إليهما من جديدٍ وقال: هل تسمحانِ لي أن أنضمَّ إليكما؟ … إنني غريبٌ عن «برن».
أشار له «أحمد» أن يفعل ذلك، فقام الرجل في صخبٍ أيضًا، ثم انضمَّ إليهما قائلًا: إن الإنسان يشعر كثيرًا بالوحشة، خصوصًا إذا لم يكن لديه أصدقاء … إنني تاجرُ جلودٍ، أشتري الجلودَ من كلِّ مكان، وقد حضرتُ إلى «برن» منذ ثلاثةِ أيام، واشتغلت كثيرًا وحقَّقت عددًا من الصفقات الطيبة، وكان لا بُدَّ أن أرتاح، هذه فرصةٌ طيبةٌ أن أتعرَّف إليكما … إنني أملك مزرعةً رائعةً، أتمنَّى أن أدعوكما إليها.
ثم صمت لحظةً، وظهرت في عينيه الدهشة وهو ينظر إلى يد «أحمد»، ثم قال: إنه رائعٌ، رائعٌ جدًّا، ما هذا الخاتم؟ هل يمكن أن تُريَه لي؟
ابتسم «أحمد» وهو يخلع الخاتم ويقدِّمه له، أخذه الرجل وظلَّ يتأمَّله، ثم قال: إنه يُذكِّرني بالشرق، لقد زرت بعض البلدان هناك؛ ذهبت إلى «نيودلهي» و«سومطرة»، ثم نظر إليهما لحظةً وهو يقول: وزرت القاهرة أيضًا، إنها رائعةٌ تمامًا. بلد الأهرامات!
وضع الخاتم في إصبعه، ثم ظلَّ يتأمَّله لحظةً، وأخيرًا قال: كم هو رائع!
كان الجرسون قد جاء بالطعام، وبدأ يضعه أمامه، لكن الرجل لم يلتفت إليه، بل ظلَّ ينظر إلى الخاتم، وأخيرًا قال: هل … هل تبيعه لي؟
فكَّر «أحمد» قليلًا ثم قال: لقد ورثته عن أبي، وعندما أُفكِّر في بيعه، فسوف يحتاج منِّي ذلك إلى التفكير بعض الوقت.
قال الرجل بسرعة: وسوف أكون سعيدًا … لو اشتريته منك.
كان «أحمد» يُفكِّر في شيءٍ ما … وعندما نظر إلى «بو عمير» كان هو الآخر يُفكِّر في نفس الشيء …