المقعد الخالي على الطاولة
سواء كان الشخص العزيز عليك مودَعًا في منشأة رعاية، أو كان في البيت في المراحل الأخيرة من داء ألزهايمر، ثمة شكٌّ في أن ينضم إليك أو إلى أفراد الأسرة الآخرين على طاولة الطعام. كان ثمة أوقات بعد أن أصبح أبي طريحَ الفراش، كنت أذهب فيها إلى منزل والديَّ، وكنت أجلس أنا وأمي لتناول الطعام في غرفته، في حين تطعِمه إحدى الممرضات. وفي أوقات أخرى، إن أتى أخي رون لزيارة أبي، كنا، ثلاثتنا، نجلس في غرفة تناول الطعام، وكنتُ أشعر بوطأة المقعد الفارغ على الطاولة. كان يبعث على فيضان من ذكريات من وقت طويل مضى، من وقت قبل داء ألزهايمر؛ أعياد الكريسماس، أو وجنتي والدي وهما تزدادان حمرةً بفعل رشفات قليلة من النبيذ الأحمر، أو النظرة على وجهه حين كان على وَشْك أن يشرع في تحليل جادٍّ عن أمريكا والعالم بوجه عام. ونظرة مختلفة حين كان على وَشْك أن يقص قصة طريفة. وقد تعاظم غيابه عن الطاولة لأنه كان في آخر الرواق، راقدًا وسط ملاءات بيضاء وتُطعمه ممرضة بيدٍ حريصة.
بعد ذلك بسنوات، كنت أشعر بالامتنان لأنني مررت بتلك التجربة من قبل. في مجموعة الدعم الخاصة بي كان يوجد الكثير من الأشخاص الذين كانوا يفقدون أزواجهم، وكنتُ أعرف حتى قبل أن أسأل أن وقت العشاء كان من الأوقات العصيبة. لم يكن ما يفتقدونه هو جلسات العشاء الرومانسية وحسب، بل الرفقة التي كانوا يحظَوْن بها في نهاية اليوم، والإفضاء بالقصص عما حدث في العمل، أو مع الأطفال، أو مع أحد الجيران. يمكن لطاولة العشاء أن تكون بيئةً قائمةً بذاتها تتذكَّر عليها المعنى الحقيقي للبيت؛ إنه شخصٌ موجودٌ لأجلك حين يحل الظلام، شخص يستمع إليك ويشاركك تفاصيل يومه. من دون ذلك، تنقض عليك الوحدة وتغرق في أعماق كلِّ ما فَقَدت.
بحلول المراحل الأخيرة من المرض، من المرجح أن يكون الشخص الذي يفقد شريك حياته أو زوجه، قد تعامَل بالفعل مع اختفاء علاقتهما الجنسية. ولا ألمِّح هنا إلى أن فقدان الحميمية لم يَعُد مؤلمًا، لكن كان ثمة وقت ليستوعب الشخص ذلك ويتأقلم معه. يبدأ ثقل الغياب الجسدي — الجانب الخاوي من الفراش، والمقعد الخالي على الطاولة، والحجرة التي كان يعمل فيها وقد أصبحت فارغة ومهملة — يضغط بقوة فيما يدخل الخرف مراحله الصامتة الأخيرة.
خلال السنوات القليلة الأولى من مرض والدي، كان والداي يتناولان العشاء معًا كما كانا يفعلان دومًا. وذات مرة أدلت لي أمي بتعليق عابر، قائلةً: «إنني أتناول العشاء معه، لكن لم يَعُد بإمكاني حقًّا الحديث معه.» أنا واثقة من أن ما شعرَت به من وحدة كان أسوأ، حين لم يَعُد حتى قادرًا على الوجود بجسده على الطاولة. سمحت لي رؤية مقعده الخالي في مكانه، حيث لم يجلس أحد غيره مطلقًا، بأن أشعر بالمزيد من الحنو على أمي، وكان ذلك أحد أكبر التحديات التي واجهتها في ذلك العَقد. لم أكن أفتقر إلى التعاطف معها، لكن كان من الصعب الشعور بالرقة والحنو عليها، في حين أنها لم تُظهِر لي ذلك من جانبها مطلقًا. لذا كنت أتمسَّك باللحظات التي أشعر فيها بتلك المشاعر تتصاعد بداخلي. وكان مقعد والدي الخالي على الطاولة كبيرًا.
فكَّرت في قصة أول موعد غرامي بينهما، كان موعد عشاء، وكيف وقعت أمي في غرامه من فورها. وفكَّرت في الصور التي رأيتها لوالديَّ؛ ثنائي هوليوودي متألق يحتل صدارةَ أعمدة النميمة ومجلات الأفلام، يتناولان الطعام في مطعمهما المفضَّل تشاسينز. وفكَّرت في القصة التي لم يكن من المفترض أن أعرفها والتي عرفتها من الآخرين. كانت أمي قد أخبرت أبي على العشاء في مطعم تشاسينز بأنها حبلى، ووافق على الزواج منها. لم يكن ذلك أكثرَ عروض الزواج رومانسية، وكان ذلك سببًا، من بين أسباب أخرى، في عدم حديث والديَّ عن الأمر مطلقًا. كل ذلك الماضي، وكل تلك الفترات الانفعالية، كان يمثِّلها مقعد والدي الخالي على الطاولة.
لم أذهب في تجوالي داخل نفسي إلى هذا الحد، لكنني بالفعل تساءلت في بعض الأحيان خاصة حين كنا أنا وأمي نجلس وحدَنا إلى طاولة العشاء، كيف كان الحال سيصبح لو أن داء ألزهايمر كان قد أصابها بدلًا من والدي. ماذا لو كان مقعدها هو المقعد الخالي على الطاولة، وكان أبي جالسًا في مكانه المعتاد؟ أكان سينفتح أكثر على أطفاله؟ هل كان سيتسنى لنا أخيرًا أن نجلس معه بصفته والدنا، وليس الوالد لأمريكا كلها، وأن نشكِّل معه علاقة على مستوًى أعمق وشخصي أكثر؟ بالطبع لن أعرف أبدًا إجابة ذلك؛ فهو سؤال آخر بلا إجابة وسيظلُّ كذلك إلى الأبد حين أفكِّر في أبي.
في بعض الأحيان كان بعض الناس في مجموعة الدعم الخاصة بي، يشغَلون ساعات الوحدة وقت العشاء بالذهاب إلى منشأة الرعاية، التي أُودِع فيها الشخص العزيز عليهم، وتناول العشاء هناك. وقد تعلَّمت من قصصهم ما يلي: اصطحب معك حسَّ الفكاهة لديك في ذلك الموقف. فأنت في نهاية المطاف، تتناول العشاء مع مجموعة من النزلاء الذين هم في مراحل مختلفة من الخرف. القول بأن تلك الأمسية ستكون غير متوقَّعة هو قول يتسم بتبسيط الأمور. لا تعوِّل على تناول الفاخر والشهي من الطعام، فذلك ليس المغزى من الأمر. بل هو بالأحرى طريقة أخرى للدخول إلى عالَم الشخص العزيز عليك، فيما تهرُب أيضًا من المقعد الخالي على طاولة طعامك. سيظل الفراغ موجودًا، ينتظرك، لكنَّك منحت نفسك هدنة.
وثمَّة طريقة أخرى للنظر إلى هذه الفترة من الوحدة؛ وهي أنها تعدُّك للنهاية المحتومة، حين لن يعود الشخص العزيز عليك موجودًا. إنك تُصبح أكثر تعوُّدًا على غيابه؛ تُجبَر على الإحاطة به، ومعرفته، ومقارنة ثقله بالذكريات والقصص التي ملأت حياتكما معًا. حين تحين النهاية، تكون تلك الذكريات هي حبل النجاة الذي ستسعى إلى الوصول إليه وتتمسك به.
كثيرًا ما أصغيت من غرفة الطعام إلى الصمت الآتي من الرواق الذي يؤدي إلى غرفة والدي. كنتُ أعرف أنه هناك. ولو أصغيت بشدة، لاستطعت في بعض الأحيان أن أسمع صوت الممرضة الناعم يشجِّعه على تناول الطعام. لكن في أغلب الأحيان كان الصمت سائدًا. قلت لنفسي أن أتخذ ذلك الصمت صديقًا؛ لأن الصمت وحدَه هو ما سيستقر ذات يوم بين جدران تلك الحجرة، وسيزحف إلى الرواق. ذات يوم سيكون أبي قد رحل، وسيتعيَّن عليَّ أن أستعين بإيماني ثانيةً وأتمسَّك به، وأُومِن أن لا أحد يغيب حقًّا، وإنما يذهب إلى مكان آخر فحسب.
«لا يُعرف عمق المحبة إلا ساعة الفراق.»