الغضب
كثيرًا ما يعترف أحد أعضاء مجموعة الدعم الخاصة بي أنه غَضِب، إما سلوكيًّا وإما لفظيًّا، حين عَلِق الشخص العزيز عليه في حلقةٍ مفرغة، ولم يُجدِ أي قَدْر من التلطُّف والإلهاء نفعًا في تسوية الوضع. وشعرَ بشعورٍ فظيعٍ لأنه سمح لانفعالاته بأن تنفجر بالغضب، وظل يشعر بالذنب بعد مرور أيامٍ على ذلك؛ حتى بعد مدةٍ طويلةٍ من نسيان الشخص العزيز عليه ما حدث. أشار أحد المُيَسِّرين المشاركين معي مرارًا وتكرارًا إلى أن الغضب كان موجَّهًا في واقع الأمر إلى المرض، وليس إلى الفرد المصاب، حتى وإن جرى التعبير عنه بهذا الشكل في تلك اللحظة. وهذا صحيح، ولكن يمكن أن يكون للغضب جذورٌ مختلفة، اعتمادًا على ماضي الشخص.
غالبًا ما يشعر الشخص الذي حظي بعلاقةٍ تسودها المحبةُ مع والده المصاب بالخرف؛ بالسخط الشديد، حتى إنه ببساطة يفقد هدوءَ أعصابه. ثم بعد ذلك يعنِّف نفسه لأنه يشعر أنه كان قاسيًا ومتبلِّد الشعور. لكن غضبه لا علاقةَ له بمشاعره الكامنة. إن التعامل مع مصابٍ بالخرف أمرٌ صعب. فسماعك للسؤال نفسه ثلاثين مرةً يثير استفزازك. والاستماع إلى شخصٍ ينسج خيوط قصَّةٍ خياليةٍ مجنونةٍ عن رجالٍ ينظرون عبر النافذة، أو أشخاصٍ يسرقون منه أثناء الليل؛ لا بد وأن يجعل صبر أي أحدٍ ينفد. في تلك المواقف، إن كان بإمكانك إبعادُ نفسك فترةً كافيةً لأن تتجوَّل في المنطقة المحيطة قليلًا، أو أن تجد مكانًا يمكنك أن تتذمَّر فيه وتسبَّ دون أن يسمعك أحد؛ فافعل ذلك. امنح غضبك متنفسًا غير توجيهه نحو الشخص العزيز عليك.
وينطبق الأمر نفسه على الزوج أو شريك الحياة، إن كان من المصابين بالخرف. وما لم تكن توجد مشكلةٌ كامنةٌ في العلاقة تعود لما قبل التشخيص، فإنك لست غير محبٍّ إن نال منك الغضب في فترةٍ صعبةٍ جدًّا. كلُّ ما في الأمر أنك تتصرف كبقية البشر.
ويختلف الأمر بعض الشيء إن برزت بعضُ مشاعر السخط والاستياء القديمة إلى السطح، وتجلَّت في شكل غضب. مثل الرجل الذي كان والده يضربه وهو صغير، ودائمًا ما جعله يشعر بالدونية. الآن، لا يستطيع ذلك الوالد تذكُّر كيف يعقد رباط حذائه، لكنه لا يزال يتذكَّر كيف يُهين ابنه. تَذَكَّرْ، لا يسلبنا داء ألزهايمر كلَّ شيء. فبعض أنماط السلوك تكون متأصِّلةً بعمقٍ؛ لذا يكاد يكون من المؤكَّد أن الوالدَ الذي كان متعسِّفًا ومهينًا لن يغيِّر من سلوكه. ولكي يتعامل الابن مع شعوره بالغضب، سيحتاج إلى ما هو أكثر من التجوُّل في المنطقة المحيطة. سيحتاج إلى تحليل مشاعر الغضب تلك تحليلًا دقيقًا مفصلًا، ثم يقرِّر ما إن كان يريد الاستمرار بالعيش مع تلك المشاعر أم لا.
وثمة اختلافٌ بين أن «تُثار حفيظتك» وأن «تكون غاضبًا». فتلك الأخيرة — وهي الحالة التي يكون الشعور فيها محتدِمًا باستمرارٍ — كانت شيئًا تَعيَّن عليَّ معالجته في حياتي.
فكما أوضحت سابقًا، كانت أمي شخصًا مخيفًا جدًّا، ودائمًا ما كنت أخافها. وفي سنٍّ صغيرةٍ إلى حدٍّ ما، لجأتُ إلى الغضب. كان الغضب شعورًا أفضلَ من الخوف. وتلك هي مشكلة الغضب؛ إنه دائمًا ما يقبع فوق شعورٍ آخر، عادةً ما يكون الخوف أو الأسى. وفورة الأدرينالين التي نشعر بها من الغضب تكون أكثرَ استساغةً من الشعور بالضَّعف الذي يصاحب مشاعرَ الخوف أو انفطار الفؤاد. في الواقع، يمكن لفورة الأدرينالين أن تجعلَك تشعر بشعور جيد.
في ثمانينيات القرن العشرين، حين كان والدي رئيسًا وكنت أعبِّر عن معارضتي بقوةٍ بعضَ الشيء في المظاهرات والمسيرات، كنتُ في المطار ذات يومٍ حين تَعرَّفَت عليَّ امرأةٌ نحيلةٌ ذات شعرٍ أبيض. قالت المرأة: «أنتِ شخصٌ غاضب للغاية»، ثم انصرفت عني.
عندها تجمَّد شيءٌ بداخلي. كنتُ أعرف أنها محقَّة، لكنني لم أعرف ما أفعله بشأن ذلك. أظن أنني افترضت أن الغضب كان شيئًا تركَ بصمته عليَّ فترةً طويلةً حتى إنني لن أتخلَّص منه أبدًا. وقد تطلَّب الأمر مني سنينَ طويلةً، والكثير من العلاج النفسي وجهدًا جهيدًا لكي أُدركَ عدم ديمومةِ أي مشاعر. يمكننا أن نتغلَّب على أي شيء، لكن سيتعيَّن علينا أن نكون مستعدِّين لتحليلِه والنظر في كل مكوِّناتِه. أدركت أخيرًا أن الغضب كان، إلى حدٍّ كبير، بديلي عن الانفعالات التي لم أكن أريد التعامل معها.
إن الخرف لأمر محيِّر لمقدِّم الرعاية حين يتعلَّق الأمر بتحديدِ سببِ ما يشعر به من انفعالات. فمن السهل أن يقول المرء: «أنا غاضب وحسب بسبب هذا الداء الجائر المجحف.» أو «أفقد هدوء أعصابي وحسب حين يصبح والدي غضوبًا وعنيدًا.» وفي بعض الأحيان، بالنسبة لبعض الأشخاص، يكون ذلك صحيحًا. لكن ثمَّة مواقف أخرى تتدخل فيها حياةٌ كاملة من المشاعر والانفعالات. أظن أننا جميعًا أكثر وعيًا بالمشهد الداخلي لدينا مما يروق لنا أن نقر به. فحين يكون لديك شعور بالغضب عتيق وأبلاه الزمن، فإنك تعرف ذلك.
يقدِّم لك الخرف فرصةً لتغيير شيء أمضيت سنين طويلة تتجنبه. والأمر كله مسألة اختيار؛ يمكنك أن تستمر في تجنُّبه، لكنك حينها ستفوِّت على نفسك فرصة تعلُّم الدروس القيِّمة التي يمكن لداء الخرف أن يعلِّمك إياها.
حتى الآن، سمعت الكثير من قصص التعسُّف والإهمال على يد والدٍ جرى تشخيص حالته بعد عدة عقود بأحد أشكال داء الخرف. ما كنت لأحاول أبدًا التقليلَ من مشاعر الألم التي مرَّ بها الأبناء، وما كنت كذلك لأقترح أبدًا أن جراحهم غير مبرَّرة ولا ما يشعرون به من غضب. لكن ما كنت أحاول قوله، ما آمُل أن أبلِّغه هنا، هو أن العيش مع ذلك النوع من الغضب لن يجديَ أي أحدٍ نفعًا.
ذات صباحٍ في أحد أيام الشتاء، حين كنتُ لا أزال أعيش في نيويورك، اجتزتُ حديقةَ سنترال بارك متجهةً نحو حلبة ولمان رينك لأذهب للتزلج. كانت مجموعة صغيرة من الناس تذهب إلى هناك مبكِّرًا، قبل أن تفتح الحلبة أبوابها أمام الجمهور؛ لذا كان ضوء النهار قد بزغ لتوِّه حين انطلقت في طريقي. كان الرذاذ يتساقط، وكانت نشرة الطقس تُنبئ بهطول أمطار؛ وقيل لي إن الحلبة ستكون مفتوحة لوقت قصير فقط. بمجرد أن يبدأ الثلج في الابتلال أكثرَ من اللازم بماء المطر، كانت الحلبة ستُغلَق. لم يكن أحد آخر هناك. دخلت على الثلج وحدي في جوٍّ رمادي رطب، وكانت المدينة تهدر من حولي، وتحوَّلت أفكاري إلى حلم مزعج وعنيف كان قد راودني في الليلة السابقة. في الحلم كنت طفلة وكانت أمي فيه، لكن لا يسعني أن أتذكَّر الكثير، فيما عدا أن مشاعر الخوف والغضب كانت قد اجتاحتني حتى إنني حين استيقظت كانت ضربات قلبي متسارعة.
وفيما رحت أتزلَّج على الجليد، سمحت لنفسي بأن أطيلَ التفكير في البقايا التي استطعت تذكُّرها من الحلم، وخطَر لي شيءٌ ما. شعرت فجأةً بالامتنان لشعوري بالغضب؛ إذ أدركت أنه منعني من أن يجرَّني خوفي إلى الحضيض. رأيت طيلةَ عقودٍ أن ذلك كان طوق نجاتي. من دونه، أكاد أكون واثقةً أن المشاعر التي لم أكن بعدُ جاهزةً للتعامل معها كانت ستطغى عليَّ. غيَّرَت رؤيتي للأمر من هذا المنظور كلَّ شيءٍ لديَّ، وساعدتني على إدراك أنني لم أعُد في حاجةٍ لذلك الغضب. في الواقع، كان تمسُّكي بالغضب يعني أنني أعطي لماضيَّ قدرًا هائلًا من السلطة.
•••
ليس من السهل أن تتخلَّى عن المشاعر التي عوَّلتَ عليها وقتًا طويلًا. وأنا أتصوَّر الأمر كالآتي: إنه أشبه بأنك كنت عالقًا في مياه هائجة، متمسكًا بحبلٍ لسنوات لأنك تعرف أنك ستغرق من دونه. ثم يأتي أحدهم ويقول لك: «لا بأس، يمكنك أن تترك الحبل. يمكنك حتى أن تسبح دون مشكلة.» سيكون ردُّ فِعلك الأول: «أوه لا، لا أظن ذلك. أظن أن عليَّ أن أظلَّ متمسكًا بالحبل. كان الأمر مجديًا معي سنوات.» ثم تسمح لفكرة السباحة بحُرِّيةٍ بأن تستقر بداخلك، ويقرِّر جزءٌ منك أن يجرِّب. كان الحبل قويًّا وجيدًا بما يكفي لتتمسَّك به، وينبغي أن تقدِّم له الشكر على خدمته لك، لكنَّك لم تَعُد في حاجةٍ له.
وبمجرد أن تترك الحبل، سيكون عليك بالطبع أن تتعامل مع المياه من حولك. وكان من المفزع لي أن تحتَّم عليَّ أن أعترف لنفسي بحجم الخوف الهائل الذي كان لديَّ من أمي. أردت مرَّات عديدة أن أرتدَّ إلى الشعور بالغضب؛ فقد شعرت أن من الأسهل أن أفعل ذلك. لكنني فكَّرت في والدي والمرض الذي كان يجرُّه بعيدًا؛ وفكَّرت في الوقت وكيف أنني لا أعرف كم تبقَّى لنا منه. لم أُرِد أن أقضي ذلك الوقت المتبقي بنفس مستوى الغضب الذي كنت قد حملته معي سنوات طويلة. يصعب على أيٍّ منا رؤيةُ ما هو أبعد من الغضب، وكم كان كثيرًا ما أردت أن أراه.
وأثناء تطوُّر داء ألزهايمر وتقدُّم حالته، تأتي لحظاتٌ ترى فيها لمحاتٍ جديدةً عن الشخص العزيز عليك، سواء كان أحد والدَيك أو شريك حياتك أو أحد إخوتك. تنقضي تلك اللحظات في طرفة عين. وإن كان ثمة شظايا أو فُتات من الماضي، خاصة شعورك بالغضب والضغينة، تعوق رؤيتك لتلك اللمحات، فستُفوِّت هذه اللحظات على نفسك. أخبرني رجل ذات مرة أن أمَّه، التي كانت في حالة متقدِّمة للغاية من داء ألزهايمر، كانت قاسيةً عليه كثيرًا حين كان طفلًا، حتى إنها كانت تضربه في بعض الأحيان. وقرَّر الرجل في مرحلةٍ ما أن يسامحها حتى يتسنَّى له المضي قُدمًا بحياته. كان دائمًا ما تراوده ذكرياتُ طفولةٍ مؤلمة، لكنه ما عاد يريد أن يحيا حياته مع المشاعر المحطمة التي تسبَّبت فيها والدته. ذات يومٍ أثناء زيارته لها، تركَّزت عيناها عليه وكان ثمَّة شيء حاضر ومتعمَّد فيهما، الأمر الذي جعله ينتبه أكثرَ. فجأةً وبنبرةٍ تكاد تكون همسًا، قالت أمه: «أنا آسفة.» حمل الرجل هاتَين الكلمتَين في قلبه مثل تميمة. لم يطلب الرجل هاتَين الكلمتَين، ولم يكن يتوقَّعهما، لكنه كان يعرف أنه لو لم يُصَفِّ رؤيته الداخلية بمسامحته لأمه، كان إما سيفوِّت على نفسه تلك اللحظة، وإما سيصرِفها باعتبارها غيرَ ذات معنًى؛ مجرَّد كلمات نطقت بها أمه ولا تعني شيئًا. عوضًا عن ذلك، قدَّر الرجل أن كلمات أمه كانت تعني تمامًا ما تمنَّى أن تعنيَه.
وفيما يُصبح إدراك الشخص المصاب بالخرف أكثرَ تفتتًا، تُصبح مشاعره أكثرَ حضورًا؛ وكذلك يُصبح وعيه بمشاعر الآخرين من حوله. فإن كنت غاضبًا في حضور الشخص العزيز عليك، فإنه لم يَعُد لديه القدرة الإدراكية على فهمِ منبع شعورك بالغضب؛ ومن ثَمَّ لا يوجد تفكير عقلاني يؤدي دورَ الحائل. فكلُّ ما يستشعره هو مدٌّ من المشاعر التي تتَّجه نحوه. وإذا كنت تظنُّ أنك تخفي غضبك، فربما ينبغي أن تفكِّر ثانيةً. فنحن جميعًا أكثرُ شفافية مما نظنُّ. لهذا السبب كان بمقدور المرأة في المطار أن تخبرني أنني كنت غاضبةً للغاية. إن أصداء أفكارنا ومشاعرنا تتردَّد لدى الآخرين حتى لو كنا نظن أننا بارعون في إخفائها. إننا نتواصل فيما بيننا على مستويات عدة؛ وليست اللغة سوى أحد هذه المستويات. إن أفكارنا ومشاعرنا تتنقل فيما بيننا عبْر وسيط غامض. ومجرد أن أحدًا ما مصاب بالخرف، لا يعني أنه لا يلتقط تلك الأفكار والمشاعر.
وسواء كنت تصدِّق هذه القصة في مجملها أم لا (إذ أُثير بعض الجدل حيالها)، فإن مغزى هذه القصة هو إظهار قوَّة الفكر، وأن بإمكانه تجاوُز اللغة والتواصل المقصود، وأن بإمكانه التنقُّل عبر وسيط خفي. ولا يتداعى ذلك الرابط بين الفكر والمشاعر بسبب أن أحدًا ما مصاب بالخرف. فهو يعمل عبر وسيط فطري يختلف عن الإدراك الأساسي.
وبينما يمكن للتعامل مع مشاعرك الخاصة الدفينة أن يكون بلا شك ذا تأثيرٍ مفيدٍ على الشخص العزيز عليك المصاب بالخرف، فإن الأمر لا يدور حوله هو وحدَه. إنه يدور حولك أنت أيضًا وحول مسار حياتك. إن بنا جميعًا مواطنَ انكسار؛ وقد أُصبنا جميعًا بجراح بطريقةٍ ما، ولدينا من الندوب ما يثبِت ذلك. عند الكثيرين، تكوَّنت مواطنُ الانكسار هذه في الطفولة، على يد أحد الوالدين. وحقيقة الأمر أن مواطن الانكسار تلك ستظلُّ موجودة دائمًا. فدائمًا ما سيلازمك ماضيك؛ ولا يمكنك العودةُ وتغييره أو حتى مداواته. ما يمكنك فِعله هو بناء جدار عاطفي من نوع ما حول مواطن الضَّعف حتى لا تكون هي ما يحدِّد شخصيتك. لقد سمعت أناسًا يتحدَّثون عن الروابط الأسرية التي كوَّنوها مع أصدقائهم المقرِّبين حيث وجدوا الحب والدعم اللذين لم يجدوهما في أسَرِهم البيولوجية. كما سمعت أيضًا أناسًا يقولون إن المشاركة في العمل الخيري أمدَّتهم بالسَّند والاعتداد بالنفس اللذين لم يحصلوا عليهما أثناء نشأتهم.
منذ عهد بعيد كنت أعرف رجلًا أُصيب في ركبته كثيرًا وهو يمارس الرياضة. كان هذا قبل وقت طويل من كون جراحات استبدال الركبة متاحة؛ لذا لم يكن أمام الرجل خياراتٌ كثيرة. كان الرجل يتدرَّب ويتمرَّن بالتزام شديد، وأخبرني أنه بنى عضلات رجلِه بحيث تمسك حرفيًّا بركبته في مكانها. وأظن أن هذا تعبيرٌ مجازي رائع عما نحن في حاجة لفعله على الصعيد العاطفي والانفعالي. فعوضًا عن أن نفكِّر في أنفسنا: «كيف أزيل هذه الجروح؟» أو «كيف أبطِل الضرر الذي سبَّبه والدي المسيء؟»، فكِّر في أن تضيف داخليًّا أشياءَ ستقوِّي من عضلاتك العاطفية وتنمِّيها، بحيث تُصبح مواطنُ الانكسار والجروح القديمة فيك جزءًا صغيرًا منك وحسب. إن تلك الأشياء تمثِّل ما حدث معك، ولا تمثِّل مَن تكون.
•••
إن المصابين بالخرف سجناءُ ماضيهم. سيتحرَّك هؤلاء بالزمن إلى الماضي، ويزورون فتراتٍ من حياتهم، ولا شيء تقوله أو تفعله يمكن أن يغيِّر ذلك. هم لا يملكون أن يختاروا تفسيرَ خبراتهم على نحوٍ مختلف، أو أن يعملوا على النظر إلى ماضيهم من منظورٍ مختلف. فإن كان الشخص المصاب والدًا مهمِلًا أو قاسيًا، فسيظلُّ حبيس ذلك. لكن لا يتحتَّم عليك أنت أن تكون سجين ماضيه. عدم قبولك للدعوة التي يقدِّمها لك داء ألزهايمر — تحديدًا أن تتخلَّص من النماذج القديمة — يعني أن تظلَّ تمنح السلطةَ لشخصٍ ظللت تمقته سنوات.
عادةً ما يقول الناس: «حسنًا، أنا في حاجةٍ لأن أشعر بما أشعر به.» وهذا صحيح قطعًا. ما كنت ناصحةً أحدًا أبدًا بإنكار مشاعر الغضب التي يشعر بها. لكن ثمة فارقًا بين الشعور بإحساسٍ ما والعيش فيه فتراتٍ مطوَّلة من الزمن.
في الحصار الطويل الذي ضربته جائحة كورونا علينا، كان من المثير للاهتمام أن نرى كيفيةَ تصاعُد شعورنا الجمعي بالغضب. في البداية، كان الناس قلقين بعضهم على بعض. كان ثمة إحساسٌ بوجود رابط، بتلاحم في الشِّدة، بروح حميميةٍ ومودةٍ حتى بين الغرباء. لقد أصابنا جميعًا حزنٌ على خسارتنا حياتنا العادية، التي انتُزِعت منا فجأة. لكن بمرور الشهور، تعمَّق الشعور بالحزن. ظلَّت وتيرةُ الموت تزداد ولم يستطِع الناس أن يكونوا مع أحبائهم في لحظات النهاية؛ وفقد أناسٌ كثيرون وظائفهم، ومصادرَ دخلهم وتأميناتهم الصحية. بدا وكأن الحزن أصبح أكبرَ من أن يُحتمل؛ لذا تولَّى الغضب زمامَ الأمور. والسبب في أن قدْرًا كبيرًا من هذا الغضب انصَبَّ على ضرورة ارتداء الكمامات غير عقلاني على الإطلاق، لكن الغضب بحاجة إلى نقطة محورية يرتكز عليها. الآن على الصعيد الجمعي، في وقت كتابة هذه الكلمات، يقبَع الغضب فوق مشاعر الحزن والخوف التي نشعر بها جميعًا؛ الخوف من الإصابة بالفيروس، والخوف من فقدان بيوتنا وحياتنا. لقد شعرت بالتأكيد في نفسي بإغراء أن أغضب عوضًا عن تقبُّل مدى فظاعة هذه الفترة التي نعيشها في العالم ومدى إثارتها للحزن.
في عالم الخرف، وسواء إذا ما كنتَ تغضب من الشخص العزيز عليك في لحظة حنق أو كان ماضيك مع ذلك الشخص يؤجِّج غضبك، اسأل نفسك السؤال نفسه: هل هذا حقًّا هو الحال الذي أريد أن أكون عليه؟ آمُل أن تكون إجابتك بالنفي. وأحد الأساليب الفعالة إلى حد كبير هو أن تضع مدةً زمنيةً محددةً لغضبك. ثلاثين دقيقة أو ساعة واحدة؛ خلال تلك المدة يمكنك أن تشعر بالغضب كما تريد (بالطبع، ليس من شخص آخر). اعثر لنفسك على متنفَّسٍ ماديٍّ: اضرب كيس ملاكمة، أو اخرُج للركض، فكِّر فيما يجعلك غاضبًا أيًّا كان، كزَّ على أسنانك، أطلِق السِّباب … لكن حين ينتهي الوقت، توقَّف. لا تعطِ لنفسك مزيدًا من الوقت. منحُك نفسَك على نحوٍ متكرِّر ساعةً تكون فيها غاضبًا تمامًا سيؤدِّي بك إلى أن تسأم غضبك بعد نحو خمسٍ وأربعين دقيقة.
لن يتمكَّن أيٌّ منا من تجنُّب مشاعر الغضب تمامًا، ليس في حياتنا اليومية وبالطبع ليس في الموقف العصيب المتمثل في كونك مقدِّم رعاية لشخص مصاب بالخرف. أفضلُ ما يمكننا فِعله هو ابتكار أساليب لترويض الغضب وتصريفه، أن نُحَجِّمه حتى لا يصل به الأمر إلى تحديد مَن نكون.
«فنُّ عيش الحياة يكمُن كلُّه في مزيج بديع بين التخلِّي والتمسُّك.»