تائه في المتحف
تذهب إلى المُتحَف. وتقف في الصف نصفَ ساعة. وتدفع ٢٠ دولارًا. وها أنت ذا بالداخل، تنظر إلى الأعمال الفنية المعروضة، لكنك لا تفهم منها شيئًا. تحاول جاهدًا. تقرأ الإرشادات الموضوعة بجوارِ الأعمال الفنية. وتلجأ حتى إلى الدليل الصوتي. ولكنك لا تزال لا تفهم شيئًا. فماذا تفعل؟
ربما لا يعجبك هذا الفنان كثيرًا. أو ربما لستَ مهتمًّا باللوحات الفنية بشكلٍ عام. أو ربما لستَ مهتمًّا بالفن أصلًا. ولكنك استمتَعتَ بالنظر إلى اللوحات الفنية في مناسباتٍ أخرى بالفعل. واستمتَعتَ بالنظر إلى لوحاتٍ لهذا الفنان نفسِه. ربما حتى باللوحة نفسِها. ولكنك اليوم، لسببٍ ما، لا تستمتع بها.
أيبدو هذا مألوفًا لك؟ لقد عانَينا جميعُنا هذا الأمر. ربما ليس في المتحف، ولكن في قاعةِ الحفلات الموسيقية، أو عندما نحاول قراءةَ إحدى الروايات قبل النوم. من الممكن أن تغمُرنا تجربتُنا للفن بالرضا، لكن من السهلِ أيضًا أن تحيدَ عن هذا المسار. وفي بعض الأحيان، يكون الخيط الفاصل بين الأمرَين رفيعًا جدًّا.
إنني أستخدم هذا المثالَ لتقديم موضوع علم الجمال؛ لأن ما نحاول الحصول عليه في هذه المواقف هو شكلٌ من أشكال الخبرة الشعورية التي يدور حولها هذا الكتاب. وعدمُ القدرة على الوصول إلى تلك الخبرات (رغم المحاولة) يحدِّد حقًّا ماهيتَها ومدى أهميتِها لنا جميعًا.
صحيحٌ أنني استخدمتُ أمثلةً من الفن، لكنَّ هذا قد يحدُث أيضًا عندما نحاول الاستمتاعَ بمنظر الطبيعة من قمَّة جبل، أو عندما نحاول تذوُّق وجبةٍ فاخرة دون جدوى. إنَّ التجربة الجمالية (في الفن، أو الطبيعة، أو الطعام) قد تأخذنا في رحلةٍ وَعْرة.
علم الجمال للعامة
تمثِّل الخبرات التي يتناولها علمُ الجمال طيفًا واسعًا. ونحن نهتَم ببعض الخبرات الحِسية أكثرَ مما نهتَم بغيرها. ولا تقتصر تلك الخبرات على الاستمتاع بالأعمال الفنية في المُتحف أو بعرضٍ في الأوبرا. وإنما تشمل أيضًا خبرةَ الاستمتاع بأوراق الخريف في الحديقة في طريقنا إلى المنزل ونحن عائدون من العمل، أو حتى ضوء غروب الشمس الساقط على طاولة المطبخ. وتتعلَّق الجماليات أيضًا بخبرتك الحِسية عندما تختار القميص الذي سترتديه اليوم، أو عندما تتساءل عمَّا إذا كان ينبغي أن تضع مزيدًا من الفُلفل في الحَسَاء. الجماليات في كل مكانٍ من حولنا. إنها أحدُ أهم جوانب حياتنا.
في بعض الأحيان، يرى الفنانون، والموسيقيون، وحتى الفلاسفة أنَّ الجماليات أمرٌ خاصٌّ جدًّا بالنُّخبة. وهذا ناتج عن سوء فهْم للموضوع، وهو من الأمور التي يهدُف هذا الكتاب إلى تصحيحها. فما يُسمى ﺑ «الفن الراقي» ليس أَوْلى بالانتماء إلى نطاق موضوع الجماليات من مسلسلات كوميديا الموقف «السيتكوم»، أو الأوشام، أو موسيقى البانك روك. ثم إنَّ نطاق الجماليات أوسعُ من نطاق الفن، راقيًا كان أو غيرَ راقٍ. إنه يتضمَّن الكثير مما نهتَم به في الحياة.
عبَّر فيتولد جومبروفيتش (١٩٠٤–١٩٦٩)، الرِّوائي البولندي الطليعي، عن هذا الإحساس بأناقةٍ بالغة كما يلي:
ما دائمًا يكون مذاقُ الطعام أفضل في مطاعم الدرجة الأولى. وبالنسبة لي، يؤثِّر الفن فيَّ تأثيرًا أكبرَ عندما يظهر على نحوٍ غيرِ مثالي، وعَرَضي، ومبعثَر، مُشيرًا فحسب بطريقةٍ ما إلى وجوده، مما يسمح للمرء بالشعور به من خلال عدم الكفاءة في تفسيره. إنني أُفضِّل موسيقى شوبان التي تصل إلى سمعي في الشارع عَبْر نافذةٍ مفتوحة على موسيقى شوبان التي تُعزَف بأسلوبٍ رائع على خشبة المسرح في حفلٍ موسيقي.
ليست وظيفة علم الجمال أن يخبرك أيُّ الأعمال الفنية جيدة وأيها سيئ. وليست وظيفة علم الجمال أن يخبرك أيُّ الخبرات الحِسية جديرةٌ بالاستمتاع بها؛ موسيقى شوبان في الشارع أم موسيقى شوبان في قاعة حفل الموسيقى. إذا كانت الخبرة تستحق الاستمتاع بها في نظرك، فإنها تصبح بذلك موضوعًا محتملًا للجماليات. يمكنك الحصولُ على النشوة الجمالية حيثما تجدها. فليس علم الجمال دليلًا ميدانيًّا يخبرك بالخبرات الحِسية المسموح بها، وغير المسموح بها. وهو ليس خريطةً تساعدك في العثور على تلك الخبرات. علم الجمال طريقةٌ لتحليل المعنى وراء استمتاعك بهذه الخبرات. إن علم الجمال لا يتصدَّى لإصدار الأحكام على الإطلاق، وينبغي له ألا يكون كذلك.
دعني أقُص عليك مثالًا معبرًا. يصف فرناند ليجر (١٨٨١–١٩٥٥)، الرسَّام الفرنسي، أنه شاهَد هو وصديقُه صاحبَ متجرٍ للخياطة من نافذة العرض في أثناء تنسيقه سبع عشرة صدريةً مع أزرارِ الأكمام وربطات العنق المناسبة لها. أمضى الخياط إحدى عشرة دقيقةً في تنسيق كل صدرية. حرَّكها إلى اليسار مسافةَ بضعة ملِّيمترات، ثم خرج من المتجر، ووقف أمام المتجر ليُلقيَ نظرةً عليها. عاد بعد ذلك إلى الداخل، وحرَّكها إلى اليمين قليلًا، وما إلى ذلك. كان مستغرقًا جدًّا في الأمر لدرجةِ أنه لم يلحظ حتى أن ليجر وصديقه كانا يشاهدانه. أشعَر هذا ليجر بالإهانة بعضَ الشيء؛ إذ جعله يفكِّر كيف أنَّ قلةً من الرسَّامين فقط يولون أعمالَهم الاهتمامَ الجمالي مقدارَ ما يوليه هذا الخياط العجوز لعمله. والعدد أقلُّ بالطبع بين رُوَّاد المتاحف. ما كان يشير إليه ليجر، وكذلك المبدأ التوجيهي لهذا الكتاب، أن الخبرة الحسية للخياط تستحق أن توصف بكونها خبرةً جمالية لا تقل عن خبرة إعجاب أيٍّ من زائري المتاحف بلوحات ليجر.
إن التفكير في الجماليات بهذه الطريقة الشاملة يفتح طرقًا جديدة لفَهم المسائل القديمة بشأنِ الجانب الاجتماعي لتجاربنا الجمالية وأهمية القيم الجمالية لذواتنا. ويجعل من الممكن التفكيرُ في الفن والجماليات بطريقةٍ عالميةٍ خالصة لا تنطوي على الافتراض المسبَق بتفوُّق «الغرب».
عِلم الجمال أم فلسفة الفن؟
عِلم الجمال وفلسفة الفن موضوعان مختلِفان. ففلسفة الفن تُعنى بالفن. بينما يتعلَّق عِلم الجمال بالعديد من الأشياء، بما فيها الفن. لكنه يتعلَّق أيضًا باستمتاعنا بالمناظر الطبيعية الخلابة، أو بنمط الظلال على الحائط المقابل لمكتبك.
هذا الكتاب عن عِلم الجمال. وهو بذلك أوسعُ وأضيقُ نطاقًا في الآن نفسِه من كتاب عن فلسفة الفن. تتناول فلسفة الفن مجموعةً متنوِّعة وكبيرة من المسائل الفلسفية المتعلقة بالفن؛ مسائل ميتافيزيقية، ولغوية، وسياسية، وأخلاقية. وأنا لن أتطرَّق إلى معظمِ هذه المسائل. فعلى سبيل المثال، لن أتحدَّث عن تعريف الفن، أو عن مدى اختلافِ الأعمال الفنية عن جميع الأشياء الأخرى في العالم.
يُشتَهَر عن بارنيت نيومان (١٩٠٥–١٩٧٠)، الرسام التجريدي الأمريكي، أنه قال إن الفنانين غيرُ معنيِّين بعلم الجمال مثلما أن الطيور غيرُ معنية بعلم الطيور. ويجب التوضيح أن فلسفة الفن هي ما كان من شأنه أن يكون المكافئ لعلم الطيور في هذه المناوشة الصريحة، وليس الجماليات. ففلسفة الفن هي ما يُعنى بتصنيف الأعمال الفنية والتفكُّر في الاختلافات بين أنواعها وفئاتها، وليس الجماليات. لذا فإن ملاحظةَ نيومان في الواقع عن فلسفة الفن، وليس الجماليات. فالجماليات، وهي دراسةُ الخبرات الحسية التي يعمل الفنانون وفقًا لها ويحاولون التعبيرَ عنها في أعمالهم، موضوعٌ وثيقُ الصلة بكل فنان.
غير أنَّ الأعمال الفنية يمكن أن تثيرَ جميع أنواع الخبرات بالطبع، وعلم الجمال لا يتحدَّث عنها كلِّها. أنا متأكد من أن أيَّ لص للأعمال الفنية لديه قَدْر من التذوُّق للعمل الفني الذي يسرقه، لكنَّ هذا النوع من الخبرة الحسية ليس هو النوع الذي يتحدَّث عنه هذا الكتاب على الأرجح. تخيَّل أنني أعدُك بأن أعطيَك الكثيرَ من المال إذا جُبتَ أنحاء مُتْحف متروبوليتان للفنون وعدَدتَ اللوحات المُوقَّعة. أنا واثقٌ من أنه يمكنك فِعل ذلك، لكنه لا يضعك في حالةٍ ذهنيةٍ جمالية، مهما كان فهمُك لهذه الحالة فضفاضًا.
إننا ننخرط مع الأعمال الفنية جماليًّا، لكننا ننخرط فيها أيضًا بجميع الأشكال الأخرى. وثمَّة الكثيرُ من الأشياء الأخرى التي ننخرط معها جماليًّا. (سأستخدم على مدارِ كل الكتاب تعبيرَي «الخبرة الجمالية» و«التجربة الجمالية» بالتبادل تقريبًا، مع الإقرار بأن التجربة الجمالية هي شيءٌ نقوم به، وأن الخبرة الجمالية هي ما نشعُر به أثناء تجربتنا شيئًا ما تجربةً جمالية.) صحيحٌ أنَّ الفن والجماليات موضوعان منفصلان، لكنَّ هذا لا يعني أن نتجاهل الصلةَ بينهما تمامًا. فالعديد من لحظاتنا القيمة من الناحية الجمالية مصدرُها الاندماج مع الفن.
بعبارةٍ أخرى، يمثِّل الفن عنصرًا مهمًّا في الجماليات، لكنه لا يتمتَّع بمكانةٍ مُميَّزة فيه بأي حالٍ من الأحوال. وفقًا لأحد الاتجاهات المؤثِّرة في الجماليات «الغربية»، فإن تجربتنا الجمالية للفن — للفن الراقي في واقع الأمر — تختلف تمامًا عن تجربتنا الجمالية لأي شيءٍ آخر. إنَّ هذا المسار الفكري لا يبخَس علم الجمال قيمتَه بقَدْر ما يقيِّد أهميةَ اللحظات الجمالية في حياتنا وصلتها بها فحسب، بل يتعارض أيضًا مع الغالبية العظمى من التقاليد الجمالية غير «الغربية». وهذا الكتاب مقدمةٌ قصيرة جدًّا عن علم الجمال، لا مقدمة قصيرة جدًّا عن نوعٍ من التقاليد الجمالية شديدِ الخصوصية، على الرغم من أهميته التاريخية، وهو النوع «الغربي».
الجماليات غير «الغربية»
لقد أُنتِجَت القِطَع الفنية في كل مكان في العالم. والموسيقى أيضًا. وكذلك القصص. على الرغم من ذلك، عندما تذهب إلى أي مُتحفٍ فني من المتاحف الرئيسية في العالم، فمن المحتمل أن تصادف أشياءَ مصنوعة في «الغرب» (أوروبا، وإذا كان متحفًا للفن الحديث، فربما تجد أيضًا قِطَعًا من أمريكا الشمالية، سأستخدم علامتَي التنصيص حول كلمة «الغرب» طوال الكتاب للإشارة إلى أن «الغرب» ليس مفهومًا موحدًا على نحوٍ واضح). وإذا كنتَ تبحث عن أشياءَ من أجزاءٍ أخرى من العالم، فغالبًا ما ستحتاج إلى الذهاب إلى جناحٍ بعيد من أجنحة المتحف، بل إلى متحفٍ آخر في بعض الأحيان. لكنَّ الفن ليس حكرًا على «الغرب»، وكذلك الجماليات.
لطالما وضع الناسُ في جميع أنحاء العالم نظرياتٍ بشأنِ خبرتنا مع الفن. وسيكون التمسُّك بالمنظور الأوروبي للجماليات انحيازًا، مثله في ذلك مثل الاقتصار على عرض الأعمال الفنية الأوروبية في المتاحف. لكنَّ الجماليات الإسلامية، واليابانية، والصينية، والإندونيسية، والأفريقية، والسومرية-الآشورية، وما قبل الكولومبية، والسنسكريتية، والبالية كلُّها أنظمةٌ فكرية تتمتَّع بتعقيدٍ مذهلٍ ومليئة بالمشاهداتِ البالغةِ الأهمية عن الخبرات الفنية وأشياءَ أخرى. ويجب ألا يتجاهلها أيُّ كتابٍ عن الجماليات.
الواقع أن الجماليات «الغربية» هي الشاذَّة من نواحٍ كثيرة، بتركيزها (أم يجب أن أقول هوسها؟) على الحُكم على الفن الراقي، وعلى إخراج التجربة الجمالية من سياقاتها الاجتماعية. لن أدَّعي أنني سأغَطي جميعَ التقاليد الجمالية في هذا الكتاب. لكنني أيضًا لن أركِّز حصرًا على الأفكار «الغربية» التي تفشَل فشلًا صارخًا في أن يكون لها صداها لدى بقية العالم، بغَض النظر عن مكانة الرجال البِيض الراحلين الذين قدَّموها.