الخبرة والانتباه
ما تشترك فيه جميعُ الأمور الجمالية بسيطٌ جدًّا، وهو الطريقة التي تُمارِس بها انتباهك. يمكن أن يحدُث هذا أيضًا إذا كانت هذه الخبرة ناتجةً عن تأثيرِ المخدِّرات أو الإثارة الجنسية (أو كلَيهما). وكثيرًا ما لا يحدُث حتى عندما تُحدِّق في تحفةٍ فنية.
الفارق الذي يحدِثه الانتباه
حالما ترى هذا التشابه، يصبح من الصعب جدًّا ألا تراه. ويتلاعب الفيلم بعقلك حقًّا لا سيما عندما تعرف أن جولدفينجر يفجِّر احتياطي الذهب الفيدرالي من أجل زيادة قيمة مقتنياته من الذهب. بالنسبة لي، على الأقل، فإنَّ هذا ينتقص كثيرًا من استمتاعي بالفيلم.
يمكن للانتباه إلى التشابُه بين جولدفينجر ودونالد جيه ترامب أن يُحدِث فرقًا كبيرًا. فقد يغيِّر خبرتك الجمالية تغييرًا كبيرًا. ومن هنا تتضح لنا أهميةُ تحديد السِّمات التي نُولِيها انتباهَنا في العمل الفني. ذلك أنَّ الانتباه للسِّمات غير ذات الصلة يمكن أن يحوِّل خبرتَنا عن مسارها، وسيفعل على الأرجح.
في هذا المثال، من المحتملِ أن يصبح الفَرق الجمالي الذي حفَّزه تحويلُ الانتباه فرقًا سلبيًّا. لكنه لن يكون كذلك بالضرورة.
ماذا؟ أين إيكاروس؟ لا أرى أحدًا يسقط. ما علاقةُ هذا الفلاح بذلك الحدثِ الأسطوري الدرامي؟ تتفحَّص الصورة بحثًا عن أثَر لإيكاروس ثم تجده (أو على الأقل تجد ساقَيه؛ فقد سقط لتوِّه في الماء) مباشرةً أسفل السفينة الكبيرة منزويًا في الركن السفلي الأيمن.
أظن أن خبرتك الآن قد اختلفَت كثيرًا. على الرغم من أن الجزءَ من اللوحة القماشية المرسومةِ عليه ساقا إيكاروس لم يكن ملمحًا بارزًا بشكلٍ خاص في خبرتك مع اللوحة في البداية (ربما حتى لم تلمحه)، والآن يبدو أنَّ كل شيءٍ آخر في الصورة مرتبطٌ به بطريقةٍ أو بأخرى.
ربما كنتَ ترى الصورة في البداية أجزاءً مبعثرة، لكن الانتباه لساقَي إيكاروس يجمع أجزاءها معًا. (يبدو أن هذا، على أي حال، هو التأثير الذي كان يهدُف بروجل إلى تحقيقه قبل ما يقرُب من ٥٠٠ عام.)
من الصعب اكتشافُ هذا الأمرِ دون رؤية النوتة الموسيقية. لكنك فور أن تلحَظَه، يصبح من المستحيل ألا تنتَبه لهذه السِّمة في المقطوعة. وهذا هو تحديدًا سببُ تأليف باخ لهذه المقطوعة؛ لإظهارِ مدى مهارته. ومن المرجَّح أن يُحدِث الانتباه لهذه السِّمة فرقًا جماليًّا إيجابيًّا.
لنوضِّح هذا بمثالٍ آخرَ أقلَّ نُخبوية من مسلسل السيتكوم «كيف قابلتُ أمَّكُما» (هاو آي ميت يور ماذر) (من إنتاج شبكة سي بي إس، ٢٠٠٥–٢٠١٤). أكثرُ أجزاء المواسم التسعة التي تزيد عن مائتَي حلقة كانت تدور حول العلاقة الرومانسية المعقَّدة لزوجَي الأحلام بارني وروبن وزفافهما. وقد كان الموسم الأخير مخصَّصًا بالكامل لزفافهما. ولكن جاءت بعد ذلك الحلقةُ الأخيرة وآخر دقيقتَين من النهاية (تنبيه بحرق الأحداث!)، وقرَّر منتجو المسلسل أن ينفصل زوجا الأحلام وأن تعودَ روبن إلى تيد.
غضِب الجمهور. وحصَلَت الحلقة الأخيرة على تصويتٍ بأنها أسوأ لحظةٍ تلفزيونية في ذلك العام. إنَّ هذا التحوُّل الذي حدَث في اللحظة الأخيرة جعل الكثيرَ من المُعجَبين المتشدِّدين للمسلسل يحرقون جميعَ تَذْكاراتهم المتعلقة بالمسلسل ومقتنياتهم، لكنه حقَّق شيئًا آخرَ أيضًا. إذا حمَلتَ نفسَك على مشاهدةِ المواسم التسعة بالكامل مرةً أخرى، فمن الصعب ألا ترى القصة تتكشَّف بشكلٍ مختلِف تمامًا. ستجذب اللحظات بين تيد وروبن انتباهَك بسهولةٍ أكبر. وستَنتَبه للعلاقات بين الشخصيات الثلاثِ على نحوٍ مختلِف للغاية عما حدَث معك عندما لم تكن لديك أدنى فكرة بأن النهاية ستكون على هذا النحو.
لقد استُخدِمَت هذه الحيلةُ على نطاقٍ واسع في الأفلام الروائية. فإحدى الطُّرق التي تجعل الجمهور يُنفِق المزيدَ من المال على الفيلم هي أن يشاهده مرةً أخرى. ويحدُث هذا في الأفلام التي تهدُف إلى تحقيقِ تطلعاتٍ معينة، من خلال الكشف عن شيءٍ في آخرِ لحظةٍ يغيِّر كلَّ شيء، لدرجةِ أن مشاهدة الفيلم للمرة الثانية، مع معرفةِ ما أصبح المشاهد يعرفه الآن، ستكون خبرةً مختلفة تمامًا. يُعَد فيلما كريستوفر نولان «تذكار» (ميمينتو) (٢٠٠٠) و«استهلال» (إنسبشَن) (٢٠١٠) مثالَين مشهورَين على ذلك، لكن هناك العديد من الأمثلة الأخرى. في هذه الأفلام، لا يكون لديك سوى فكرةٍ ضئيلة للغاية عمَّا سيحدُث حتى النهاية. وعندما تشاهدها للمرة الثانية، تراها مختلفةً تمامًا؛ لأنك تنتبه لسِماتٍ مختلِفة تمامًا في القصة.
إليك مثالًا آخرَ، وهو في هذه المرة ليس مثالًا فنيًّا. إنه عن أسوأ وجبةٍ تناولتُها على الإطلاق. كانت زوجتي على وشْك ولادة طفلنا الأول. أخذتُها إلى المستشفى على عَجل، وكان عليَّ بعد ذلك أن أرجعَ لأحضِر جميعَ الأشياءِ العديدة اللازمة للإقامة في المستشفى. كنتُ أتضوَّر جوعًا، لكني أردتُ بالطبع أن أعودَ بأسرعِ ما يمكن. لذلك وضعتُ بعضَ بقايا الطعام الصيني في الميكروويف بينما كنتُ أحزم الحقيبة. صار الطعامُ ساخنًا جدًّا، لكن لم يكن لديَّ وقتٌ لأتركه يبرُد، لهذا تجرَّعتُه رغم أنه أحرق فمي على نحوٍ بشعٍ للغاية. لم تكن خبرةً رائعة. لكني تمكَّنتُ من الخروجِ من المنزل في غضونِ ثلاثِ دقائق!
قلتُ إنه كان «بعض الطعام الصيني المتبقي»، لكنه في الحقيقة كان حقيبةَ بقايا الطعام المخصَّصة للكلب، والتي أخذتُها من أفضلِ مطعمٍ صيني في المدينة حيث تناوَلنا العَشَاء الليلةَ السابقة، لقد كان طعامًا ممتازًا حقًّا. لن أقولَ إنها كانت أفضلَ وجبةٍ تناولتُها على الإطلاق، لكنها كانت وجبةً جيدة جدًّا. ولم تكن جيدةً بهذا القَدْر في اليوم التالي. فما الذي اختلف في الأمر؟ الجواب الأكيد أن الاختلافَ كان في الانتباه. كان هناك الكثير من الأشياء التي كنتُ أنتبه لها في أثناء قيامي على عَجل بدَس الحفَّاضات وملابسِ الرضيع في الحقيبة، ولم يكن الطعام من بين تلك الأشياء.
ما تنتَبه له يُحدِث فرقًا كبيرًا في خبرتك بشكلٍ عام. وينطبِق ذلك نفسُه على ما تنتَبه له في الأعمالِ الفنية. ذلك أنَّ ما تنتَبه له قد يُدمِّر خبرتك تمامًا، كما سيحدُث عندما ستشاهد فيلم «إصبع الذهب» (جولدفينجر) في المرة القادمة (آسف على ذلك!) أو قد يجعل خبرتَك أكثرَ إرضاءً. وفي بعضِ الحالات، يمكنه أن يواجهَك مباشرةً بمدى الاختلاف الذي يبدو لك عليه العملُ الفني نفسُه، حسب ما يشدُّ انتباهَك فيه.
وبناءً على هذا، مسألةُ الانتباه مهمَّة للغاية لأي شخصٍ مهتَم بالجماليات. وليس للفلاسفة الأكاديميِّين ومؤرخي الفن فحسب بل للجميع. تخيَّل أنك تجلس في مُتحَف، وتُحاوِل فهْم العمل الفني المعروض أمامك. فما الذي ينبغي عليك الانتباه له؟ إنَّ العمل الفني الموجود أمامك ينطوي على الكثير من السِّمات؛ فهو من صُنع فنانٍ ما كان لديه، بلا شك، الكثيرُ ليقوله عنه. هل من المُفترَض أن تنتَبه إلى تلك السِّمات التي رآها الفنان مهمةً في العمل الفني أم يُفترَض بك ألا تنتبه إلا لما يخبرك الدليل الصوتي بالانتباه له؟
عندما نندمج مع عملٍ فني، فإننا نتجاهل دائمًا بعضًا من سِماته ونركِّز انتباهنا على بعضها الآخر. نتجاهل التشقُّقات في الطلاء ونركِّز انتباهنا على السِّمات الأخرى لسطح اللوحة؛ أي إننا نصرفُ انتباهَنا عن الشقوق. عند النظر إلى كنيسةٍ على الطراز الرومانسكي أُعيد بناؤها في عصرِ الباروك، ربما نُحاوِل تجاهُل العناصرِ الباروكية لنتمكَّن من التمتُّع ببِنيَتها التي تعود إلى العصور الوسطى. وتلك حالةٌ أخرى من حالاتِ صَرفِ الانتباه عن بعض سِمات العمل الفني.
لكن كيف نعرف سِماتِ العمل الفني التي ينبغي أن ننتَبه إليها والسِّماتِ التي ينبغي تجاهُلها أو صرفُ النظر عنها عمدًا؟ لا تُوجَد إجاباتٌ سهلة أو طرقٌ مختصرةٌ موفِّرة، مع الأسف. يمكن للانتباه أن يصنع استمتاعَك الجمالي أو يُحطِّمه. يمكنه أن يكون خطيرًا — تذكَّر حالةَ فيلم «إصبع الذهب» (جولدفينجر) — ولكن يمكنه أيضًا أن يكون مُرضيًا للغاية من الناحية الجمالية، إذا وُجِّه توجيهًا صحيحًا. وينبغي علينا بذلُ المزيدِ لمحاولةِ فهْم ما نوليه انتباهَنا، وكيفية قيامنا بذلك في التجربة الجمالية.
محور الانتباه
إننا نعرف الكثيرَ عن الانتباه من علم نفس الإدراك، ونعلم أيضًا الفارقَ الكبير الذي يمكن أن يُحدِثه في خبرتنا. ويتضح هذا جيدًا من خلال واحدةٍ من أشهرِ التجارب الحديثة التي تحظى بالتقديرِ بشأنِ موضوع الانتباه. تتمثَّل التجربةُ في أن يُعرَض على المشارك فيها مقطعٌ قصيرٌ لأشخاصٍ يلعبون كرةَ السلة، فريق يرتدي اللونَ الأبيض في مواجهةِ فريقٍ يرتدي اللونَ الأسود. ومهمة المشارك هي حسابُ عدد المرات التي يمرِّر فيها الفريق الأبيض الكرةَ في أرجاء الملعب. في أثناءِ القيامِ بذلك، لا يتمكَّن أكثرُ من نصف المشاركين في التجربةِ من ملاحظة أن رجلًا يرتدي زيَّ غوريلا يدخل إلى الملعب، ويقوم بحركاتٍ مضحكة، ويقضي سبع ثوانٍ كاملة في المكان، ثم يغادر. إذا لم تكن تُحاوِل القيامَ بأيٍّ من مهامِّ العد، فستَلمَح الغوريلا على الفَور. لذا فإن ما تنتَبه له يؤثِّر جِديًّا على إمكانية رؤيتك لرجلٍ يرتدي زيَّ غوريلا ويندفع في وسط الشاشة. ولهذه الظاهرة اسمٌ طريف: «العمَى غير المقصود».
ثمَّة شيءٌ مضحك ونادرًا ما يُذكَر عن هذه التجربة، وهو أن الأمرَ لا يسير على هذا النحو إذا كان ما تعُدُّه هو تمريرات الفريق الآخر الذي يرتدي اللون الأسود، للكرة. السبب في ذلك أن زيَّ الغوريلا أسود. إذا كنت تنتبه للفريق الذي يرتدي اللونَ الأبيض، يصبح كل شيءٍ آخر محضَ تشويش، بما في ذلك الفريق الآخر، والصالة الرياضية، وزي الغوريلا. فتتَجاهَله، وتُنحِّيه.
لكنك عندما تنتَبه للفريق الذي يرتدي اللونَ الأسود، ستُلاحِظ زيَّ الغوريلا؛ لأنه أسْودُ أيضًا. ليس هذا مُستغرَبًا. فأنت عندما تُحاوِل إيقافَ سيارة أجرة، ترى جميعَ السيارات إما صفراء أو غير صفراء (أو أيًّا ما كان لونُ سيارات الأجرة في مدينتك). وتصبح السيارات غيرُ الصفراء كما لو لم تكن موجودةً على الإطلاق. إنها مجرَّد تشويش، يُستبعَد. وكذلك عندما تبحث عن شخصية «والدو» في أحاجي «ابحث عن والدو»، يصبح كلُّ ما ليس مخططًا باللونَين الأحمر والأبيض موجودًا فقط لتشتيتك؛ وينبغي عليك أن تتجاهلَه فحسب.
إننا نقضي الكثيرَ من وقتنا في الانتباه لبعض السِّمات المحدَّدة للغاية فيما نراه وتجاهُل السِّمات الأخرى. فعندما نحاول أداءَ بعضِ المهام الصعبة، كحل ألغاز الكلمات المتقاطعة بسرعة مثلًا، يكون أمامنا الكثيرُ مما نُحاول تجاهُله حتى لا يصرفَ انتباهَنا، مثل أيِّ شيءٍ نشمُّه، ونسمعُه، والكثير مما هو موجود في مجالنا البصري (بخلاف لغز الكلمات المتقاطعة). إننا متجاهلون بطبيعتنا.
وأين عسانا أن نكون من دون هذه القدرةِ المذهلة على تنحيةِ الكثير من العالم من حولنا؟ فلِعقلنا قدرةٌ محدودة؛ إذا أردنا التركيزَ على شيءٍ ما، فعلينا أن نتجاهل كلَّ شيءٍ آخر. ونحن نحتاج في معظم الأوقات إلى التركيز على شيءٍ ما؛ تناوُل الإفطار، وقيادة السيارة للعمل، والعمل نفسه، وما إلى ذلك.
ونحن على درايةٍ جيدة إلى حدٍّ ما بالآليات النفسية لكيفية قيامنا بذلك. فحتى المراحل الأولى من معالجتنا البصرية تتميَّز بالانتقائية الشديدة؛ إذ لا تُعالِج سوى المعلومات ذات الصلة في اللحظة المقصودة. ويتخلَّص دماغنا من كل شيءٍ آخر؛ فتُستبعَد بعضُ سِماتِ الغوريلا باعتبارها غيرَ ذات صلةٍ بالمهمة المطلوبة عندما لا تنطوي المهمة إلا على الانتباه لِما يفعله الفريق الذي يرتدي اللونَ الأبيض، وذلك يحوِّل أيَّ شيءٍ أسود (بما في ذلك الغوريلا) إلى خلفيةٍ للمشهد.
وسوف تتوقَّف خبرتُك على ما تنتَبه له. إذا حوَّلتَ انتباهك، فستتغيَّر خبرتُك أيضًا. ستتحدَّد خبرتُك عن قاعة الحفلات الموسيقية نفسها تمامًا، وفقًا لما إذا كنتَ تبحث عن مقعدٍ فارغ أو تبحث عن صديقك وسط الحشد. في الحالة الأولى، سيذوب جميع الناس في الخلفية، وستنبثق المقاعد الفارغة أمامك. في الحالة الثانية، ستظهر لك الوجوه المشابهة لوجه صديقك. خبرتان مختلفتان تمامًا حقًّا.
لكن كيف يميِّز الانتباه خبراتنا الجمالية؟ للإجابة عن هذا السؤال، لن يكفي الحديث بشأنِ «ما» ننتَبه له فحسب، بل سنحتاج أيضًا إلى مناقشة «كيفية» قيامنا بذلك. تُوجَد طُرقٌ مختلفة للانتباه وبعضها أكثرُ تحفيزًا للخبرات الجمالية من البعض الآخر، وإن كان ذلك فيما يتعلَّق بأنواعٍ معيَّنة من الخبرات الجمالية على الأقل.
طُرق الانتباه
أحدُ الدروس المهمة من دراساتِ العمى غير المقصود هو أن أيًّا كان ما لا ننتَبه له لا يظهر في خبرتنا. وكأننا قد عَمِينا عنه. عندما لم ننتَبه للغوريلا، لم نَرَ الغوريلا، فغابت من خبرتنا تمامًا. لذا فإن عدمَ الانتباه لأي شيءٍ لا تنتج عنه أيُّ خبرة على الإطلاق.
إذا كانت أمامك وجبةٌ رائعة في أحدِ المطاعم الراقية، لكنها في مناسبةِ غداءِ عملٍ مهم تحتاج فيها حقًّا إلى أن تنال إعجابَ رئيسك في العمل، فمن غيرِ المرجَّح أن تستمتع بالوجبة. وفيما يتعلَّق بمتعة الطعام، فقد تكون تجربةً مشابهةً لتجربةِ عَشاءٍ متواضعة. ذلك أنَّ انتباهك مُوجَّه إلى شيءٍ آخر، وليس إلى الطعام. الانتباه موردٌ محدود؛ ولا بد من التضحية بشيء.
من الرؤى الأساسية التي يوضِّحها علماء الرؤية وعلماء النفس عن الانتباه هي أنه يمكن تركيزُه أو توزيعُه. عندما تتَّبع مسار خمسِ نقاطٍ مختلِفة على الشاشة في وقتٍ واحد، يكون انتباهُك موزَّعًا. أما إذا كنتَ تتَّبع نقطةً واحدة فقط، فانتباهُك مركَّز. وتلك مفاهيمُ اعتياديةٌ تمامًا في علم النفس تُستخدَم في وصفِ وفهْم ما يُسمى بمهام «البحث البصري» (مهام مثل البحث عن شخصية والدو).
يتعلَّق هذا التمييزُ بعدَد الأشياء التي ننتبه لها. لكن كل شيءٍ منها له عدةُ سِماتٍ مختلفة. فلكوب قهوتي لون، وشكل، ووزن، وما إلى ذلك. يمكننا الانتباه لشيءٍ واحد فقط، لكن لسِماتٍ مختلفة فيه. الانتباه للون الكوب سيؤدي إلى خبراتٍ مختلفة تمامًا عن الانتباه لوزنه. فسوف تتغيَّر خبرتك إذا حوَّلتَ انتباهك من وزن الكوب إلى لونه. وبذلك، فمثلما أننا نختار ما إذا كنا سننتبه لشيءٍ واحد أو إلى خمسة أشياء، نختار أيضًا ما إن كنا سننتبه لسِمةٍ واحدة في الشيء أو إلى خمسِ سِماتٍ فيه.
لا يصبح لدينا إذن طريقتان فحسب للانتباه، بل أربع طرقٍ مختلفة:
-
(١)
شيء واحد، سِمة واحدة.
-
(٢)
عدة أشياء، سِمة واحدة.
-
(٣)
عدة أشياء، عدة سِمات.
-
(٤)
شيء واحد، عدة سِمات.
سيكون هذا لطيفًا ومنطقيًّا، لكن الطريقة (٣) ليست خيارًا في الواقع؛ فنظامنا البصري ليس مصمَّمًا بهذه الطريقة. فمن الصعب توزيعُ انتباهنا على خمسةِ أشياءَ مختلفة في الوقت نفسه. حقيقة الأمر أننا لا نستطيع الاستمرارَ في ذلك إلا لأقلَّ من دقيقةٍ واحدة حتى في الظروف المثالية للغاية. بعد ذلك، نكون منهكين ذهنيًّا تمامًا. وخمسة أشياء هي حدُّنا الأقصى؛ فلا يمكننا فِعلُ أيٍّ من هذا إذا كان العددُ ستةَ أشياءَ مختلِفة بدلًا من خمسة. ذلك أنَّ توزيعَ الانتباه عَبْر الأشياء يضع ضغطًا شديدًا على الموارد، حتى في حالةِ الانتباه لسِمةٍ واحدة فقط. ولا ينجح الأمر إذا حاولنا الانتباه لعدة سِماتٍ في عدة أشياء. تنتهي بنا الحال بفقدان إما بعض الأشياء من مركز انتباهنا أو بعض السِّمات.
لكن الطُّرق الثلاث الأخرى للانتباه كلُّها مألوفة للغاية. فلتنظر إلى جميعِ الأشياء الموجودة على منضدة مطبخك. يمكنك اختيارُ أحدها، لنقُل فنجان قهوة، والانتباه للونه. هذا انتباه لسِمةٍ واحدة فقط في شيءٍ واحد فقط. يمكنك الانتباه للأشياء الحمراء. هذا انتباهٌ لسِمةٍ واحدة فقط في عدةِ أشياء. ويمكن الانتباه لفنجانِ القهوة لكن دون التركيز على أيِّ سِماتٍ بعينها.
كثيرًا ما تتكرَّر حالةُ الانتباه لسِمةٍ واحدة في شيءٍ واحد؛ ففي كل مرة نؤدي مهمةً دقيقة بعينها، مثل تقشير تفاحة، تكون لدينا سِمةٌ واحدة فقط في التفاحة هي موضوع الاهتمام هنا، ونتجاهل جميعَ السِّمات الأخرى (لونها، على سبيل المثال). وتَرِد حالةُ الانتباه لسِمةٍ واحدة في عدةِ أشياء بشكلٍ أكثرَ تواترًا؛ في كل مرة نبحث فيها عن شيءٍ ما، على سبيل المثال.
فهذا بالضبط ما أفعله عندما أبحث عن سيارةِ أجرة. فأنا أبحث عن سِمةٍ واحدة تحديدًا في كل هذه السيارات، وهي ما إذا كانت صفراء. ويُعَد الركض في المطار للحاقِ بالرحلة مثالًا آخرَ على هذه الطريقةِ من طرقِ الانتباه. فهناك العديدُ من الأشياء التي تستحوذ على انتباهي، جميع الأشخاص والحقائب التي في طريقي. لكنَّ سِمةً واحدة فقط منها هي ما يهمُّني، وهي كيف يمكنني تجاوُزها جميعًا. جميع السِّمات الأخرى ليست ذات صلة ويتم تجاهلها.
فأنا لا أنتبه، على سبيل المثال، لعدد الركَّاب ذوي الشارب.
ما يمثِّل إحدى الطُّرق الأقل شيوعًا هو الانتباه لعدة سِماتٍ في الشيء الواحد نفسِه. عندما تُحاوِل أن تتمتع بوجبتك الباهظةِ الثَّمن في أحد المطاعم الراقية أو الإعجاب بلوحةٍ فنية، فأنت بذلك تنتَبه لشيءٍ واحد، وهو الطعام الذي تتناوله والعمل الفني. لكن السؤال هنا يتعلَّق بالسِّمات التي تنتَبه لها في الطعام أو في اللوحة.
لذا فالاختيار بسيط؛ يمكنك أن تكون مهووسًا ومشغولًا تمامًا بسِمةٍ واحدة فقط في الشيء الذي تراه. وهذا ما يلزم في بعض الأحيان عند أداءِ مهمةٍ صعبة. لكنك تستطيع أيضًا الانتباه للعديد من السِّمات في الشيء ذاته. وهذا هو ما يجعل الأشياءَ مثيرةً للاهتمام.
بالرغم من ذلك، فالانتباه للعديد من سِمات الشيء نفسِه لا يضمَن خوضَ الخبرات الجمالية. هو نقطةُ انطلاقٍ جيدة فحسب. عندما يبذل جيمس بوند محاولاتٍ محمومةً لتفكيك قنبلةٍ موقوتة دون معرفةِ وظيفةِ كل جزء فيها، فهو ينتَبه في هذه الحالة لعدة سِماتٍ في الشيء الواحد. لكني أشُك في أن تكون هذه خبرةً يريد تَكرارها.
ما يلزمنا أيضًا أن يكون انتباهُنا للعديد من سِمات الشيء نفسه حرًّا وغير مُقيَّد. فما يفعله جيمس بوند هو كالآتي: ينقل انتباهَه الذي يتميَّز بالتركيزِ الشديد انتقالًا قَلِقًا من أحدِ أجزاءِ القنبلة إلى آخرَ بحثًا عن طريقة لإيقافها. إنه يعرف بالضبط ما يجب أن يفعَله، لكنه لا يعرف كيف يفعله. إنه ينتبه للعديد من السِّمات لكنَّ انتباهه لجميع هذه السِّمات حادٌّ للغاية.
وعندما نستشعر أنواعًا معيَّنة من الخبرات الجمالية، نفعل عكس ذلك تمامًا؛ فنحن لا نبحث عن أيِّ شيءٍ بعينه. وإنما ننتَبه لسِماتٍ متعدِّدة في المشهد غير المُستغرَب تمامًا أمامنا، لكننا لا نُحاوِل التركيزَ على أي سِمةٍ بعينها أو على أي مجموعةٍ من السِّمات. فانتباهنا حُر وغير مُقيَّد.
لقد فرَّقتُ بين العديد من الأنواع، لكن الفَرق بين فئتَين محدَّدتَين هو ما يهمُّنا الآن. الفَرق بين الانتباه غير المُقيَّد والمُقيَّد (أو، كما سأسمِّيه، «المثبَّت»). لجميع أشكال الانتباه غير المُقيَّد أن تكون موزَّعة، وما كُل انتباهٍ موزَّع غير مُقيَّد بالضرورة؛ فلم يكن انتباه جيمس بوند كذلك على سبيل المثال. يُعد الانتباه الموزَّع بدايةً جيدة إذا أردنا الحصول على انتباهٍ غير مُقيَّد، لكنه ليس كافيًا.
عند تقشير تفاحة، يكون انتباهنا مثبتًا (ربما ليس كانتباه مقشِّري التفاح المحترفين، لكن انتباهي مثبَّت بالتأكيد). إنه مثبَّت على سِمةٍ واحدة لشيءٍ واحد. وهذا انتباه مثبَّت ومُركَّز. يكون انتباهنا مثبتًا أيضًا عندما نبحث عن سيارة أجرة؛ إذ نركِّز على سِمةٍ واحدة فقط في جميع السيارات، وهي اللون الأصفر. لكنَّ انتباه بوند مثبَّت أيضًا، وهو في هذه الحالة مُثبَّت على العديد من سِمات القنبلة. وهو في هذه الحالة انتباهٌ مثبَّت وموزَّع. إنَّ أيًّا من هذه الخبرات لا تتضمَّن انتباهًا غيرَ مُقيَّد ولا تُعد أيٌّ منها ممتعةً بشكلٍ كبير.
كان التمييزُ الأصلي المستمَد من مجال علم الرؤية بين الانتباه المُركَّز والانتباه الموزَّع. لكن الانتباه الموزَّع ليس ضامنًا لعدمِ التقييد. عندما تبحث عن سيارةِ أجرة، يكون انتباهك موزَّعًا (عَبْر الأشياء)، ولكنه لا يكون غير مُقيَّد على الإطلاق. وانتباه جيمس بوند هو أيضًا انتباهٌ موزَّع (عَبْر الخواص)، لكنه ليس غير مُقيَّد. فأنا أحتفظ بوصف «الانتباه غير المُقيَّد» لطرقِ الانتباه التي نوزِّع فيها انتباهنا بين عدة سِماتٍ في الشيء الواحد، ولكن ليس لهدفٍ أو غرضٍ محدَّد في الاعتبار.
الانتباه المثبَّت مُرهِق على المدى الطويل. والانتباه غير المُقيَّد هو شكلٌ من أشكال الاسترخاء للعقل أو لنظام الإدراك الحسي على الأقل. وشدَّ ما يقدِّر نظامُنا الإدراكي الحصولَ على قسطٍ من الاسترخاء بين الحين والآخر!
لنضرب على ذلك مثالًا قد يكون مفيدًا، وهو التمرينات الرياضية. يمكنك الاكتفاءُ بتمرين العضلة العضدية ذات الرأسَين. وتصبح مهووسًا بتمرين هذه العضلة، مرارًا وتكرارًا. يعادل هذا تركيزَ انتباهك على سِمةٍ واحدة فقط. ولكن يمكنك أيضًا تمرينُ عدةِ عضلاتٍ في الوقت نفسِه، لنقُل، تمرين العضلة العضدية ذات الرأسَين مع الركض أيضًا على جهاز المشي. وهذا يعادل الانتباهَ إلى عدة سِماتٍ في الشيء ذاته. لكن لا يُوجَد شيءٌ غير مُقيَّد في أيٍّ منهما.
التمرين مفيدٌ لك بالطبع، لكن ممارسة الرياضة طوال اليوم وكل يوم مجهودٌ كبير للغاية. فأنت تحتاج أيضًا إلى الاسترخاء. وهذا لا يعني أن تكون بلا حَراك، ولكن، لنقُل، أن تتمشَّى على مهلٍ في الشارع، فتُحرِّك الكثيرَ من عضلاتك، مع عدم التركيز على تحريك أيٍّ منها كثيرًا. وهذا ما سيكون مكافئًا للانتباه غير المُقيَّد.
أحدُ الاختلافات الكبيرة أنَّ قلةً قليلة منَّا يمارسون الرياضةَ طوال اليوم. لكننا نركِّز انتباهنا معظمَ الوقت، وإلا لزادت أعدادُ الأطباق المتساقطة، والحليب المسكوب، وحوادث المرور. لذلك، فنحن بحاجةٍ إلى أن نوليَ عنايةً أكبرَ لما نفعله عندما لا يكون من الضروري أن ننتَبه بتركيز؛ لأن هذه اللحظات الثمينة نادرة.
ومثلما يحتاج جسمك إلى بعضِ الراحة في الأوقات التي لا تُمرِّن فيها أيًّا من عضلاتك، فإن نظامك الإدراكي أيضًا يحتاج إلى بعض الراحة، عندما يكون انتباهُك غير مُركَّز. سيكون من السخف المحض أن تشرع في تمرينِ عضلةٍ مختلفة فور خروجك من صالةِ الألعاب الرياضية. ومن السخف المحض أيضًا أن نقضي تلك اللحظات النادرة التي لا نحتاج فيها إلى التركيز في تجنُّب الازدحام المروري أو في محاولة عدم إفساد ترقيتِنا بمزيدٍ من تركيز الانتباه. إنَّ الانتباه غير المُقيَّد هو وقت استراحة الذهن، وستكون الحياة صعبةً من دونه.
لا أقول إن الخبرةَ الجمالية تعتمد تمامًا على استرخاء النظام الإدراكي. ولكن إذا كان الجهاز الإدراكي مُرهَقًا، فمن غير المرجَّح أن تتحقَّق الخبرة الجمالية. يتميَّز الانتباه غير المُقيَّد بطبيعةٍ خاصة. فهو يسمح لنا بمقارنة شكلَين غير مرتبطَين ظاهريًّا في اللوحة نفسِها. ويسمح لنا بمتابعة تقديم لحن آلة الكمان طِباقًا مع لحن البيانو. أو يسمح لنا بالانتباه إلى أوجهِ التناقُض أو التشابُه بين مكوِّنات وجبةٍ ما. هذه الطريقة للانتباه هي ما يميِّز بعضَ أنواع الخبرات الجمالية على الأقل.
غير أنه لا يميِّزها جميعها. بينما يبدو أن بعض الخبرات الجمالية غير مُقيَّدة، فربما ترى أنَّ بعضًا من أقوى الخبرات الجمالية التي تَمُر بها لا تندرج ضمن هذا التوصيف على الإطلاق. قد ينطوي بعضٌ من خبراتك الجمالية القوية على الانتباه المثبَّت وحتى الانتباه المُركَّز. ولا تجسِّد هذه الخبراتُ انفصالًا عن موضوع الخبرة بل ارتباطًا قويًّا به. كما قالت المخرجة الفرنسية الطليعية دانييل هيليت (١٩٣٦–٢٠٠٦): «إننا نريد أن ينسى الناسُ أنفسَهم في أفلامنا. كلُّ هذا الحديثِ عن «التباعُد» هُراء.» سآتي لهذا الأمر فيما بعدُ. لكنَّ بعض الخبرات الجمالية النموذجية على الأقل تتضمَّن انتباهًا غير مُقيَّد.
حرية الإدراك الحسي
الانتباه في العديدِ من السياقات الجمالية حُر وغير مُقيَّد. أما سعي جيمس بوند لنزع فتيل القنبلة فلم يكن ينتمي لأيٍّ من النوعَين. كان من الجلي أنه لم يكن يمتلك حُريةَ الانتباه إلى أيٍّ من سِمات القنبلة؛ إذ كان سيُصبِح من الغباء أن ينتَبه إلى تناغُم الألوان بين الأسلاك التي كان يفكِّر في قطعِها، على سبيل المثال. وكان من الواضح جدًّا أنها لم تكن عمليةً غير مُقيَّدة.
هذا الارتباط بين الانتباهِ غير المُقيَّد والحرية هو أكثرُ من مجرَّد استعارة. عندما يكون انتباهنا غيرَ مُقيَّد، لا نبحث عن أي شيءٍ محدَّد. ونسعَد بالعثور على ما نجده، ولكن لا تُوجد مهمةٌ محدَّدة لإكمالها. لا يعني هذا أننا لسنا مهتمين بالأمر. كلُّ ما هنالك أنه ليس لدينا أيُّ شيءٍ محدَّد نبحث عنه. ومن شأنِ الانتباه بهذه الطريقةِ غيرِ المُقيَّدة أن يُحرِّر إدراكنا.
عندما ننظر إلى لوحةٍ لم نَرَها من قبلُ، فإننا نوزِّع انتباهنا بين عدةِ سِماتٍ في العمل الفني؛ فننظر هنا وهناك. غير أنه لا تكون لدينا فكرةٌ واضحة عما نسعى إليه. إذا كان هذا بحثًا، فهو بحثٌ بلا قيود، بلا مناطقَ محظورة. أيُّ شيء (أو أي شيءٍ تقريبًا) يمكن أن يكون ذا صلةٍ ومثيرًا للاهتمام.
إننا بارعون للغاية في تجاهُل كلِّ ما نراه تقريبًا وإهماله، وذلك كي نتمكَّن من الانتباه إلى ما هو مهم. لكن عندما يكون انتباهنا غيرَ مُقيَّد، نسمح لأنفسنا بأن نُفاجأ. إنها حالةٌ أقلُّ قابليةً للتنبؤ بكثيرٍ عن الانتباه المُركَّز، وعدم القدرة على التنبؤ هذا هو ما يجعلها أكثرَ إرضاءً.
الانتباه عملٌ؛ إنه عملٌ نقضي فيه وقتَ استيقاظنا بالكامل. ومثل جميعِ الأعمال الأخرى، فإننا نؤدِّيه أحيانًا بحريةٍ وأحيانًا من دون حرية. معظم الوقت، من دون حرية. ففي معظم الأحيان، لا يكون للانتباه مناطقُ محظورة. وغالبية المناطق محظورةٌ بالفعل عندما يكون انتباهُنا مثبتًا. فما لا نركِّز عليه هو مجردُ إلهاء، خارج الحدود.
أما عندما يكون انتباهنا غيرَ مُقيَّد، فيمكنه أن يهيمَ بحريةٍ. وهذه الحرية تفسِّر أيضًا العديدَ من الخصائص المهمة لآلية عمل الانتباه في السياقات الجمالية. من ذلك على سبيل المثال، أنك لا تستطيع، مع الأسف، أن تعُدَّ إلى ثلاثة لكي يصبح انتباهك غيرَ مُقيَّد كما تشاء. إذا حاولتَ تخفيفَ تركيزِ انتباهك؛ أي جعله أقلَّ تقييدًا، فإن فعلَ المحاولة هذا هو في حدِّ ذاته تمرينٌ على الانتباه المثبَّت، الذي يتعارض مع أي شيءٍ غير مُقيَّد. فليس من السهل أن تحاول التوقُّف عن المحاولة.
إضافةً إلى ذلك، يحتاج الانتباه غيرُ المُقيَّد إلى وقت. فمن غير المرجَّح أن تختبره، إذا كنتَ على عَجلة من أمرك. من السهل معرفةُ السبب. إننا نجازف بالطبيعة غير المُقيَّدة للانتباه عندما نكون في عَجلة من أمرنا. لا يمكننا أن نترك انتباهنا يهيم بحرية؛ لأننا نحتاج إلى إنجازِ الأمور في ثلاثين ثانية.
تخيَّل الانتباه كما لو كان قالب زُبد. إنه موردٌ محدود لكننا نستطيع استخدامه بطرقٍ مختلفة. يمكن فردُ طبقةٍ رقيقة أو سميكة منه. إذا وزَّعناه عَبْر عددٍ من السِّمات التي ربما تثير الاهتمام، فسيتوزَّع بتركيزٍ خفيف بحيث تحظى كلُّ سِمة من تلك السِّمات بالقليل منه. ويكون الانتباه الذي تحصُل عليه هذه السِّمات ضعيفًا، وخفيفًا، وأقلَّ حِدة. إنه أكثر إمتاعًا بكثير.
الانتباه الجمالي
يُعَد الانتباه غير المُقيَّد سِمةً مهمة من سِمات الخبرات الجمالية. فهل هو شرطٌ حاسم في التجربة الجمالية؟ ذلك من المُستبعَد تمامًا. إنه يعكس ما كان دائمًا نوعًا مُؤثِّرًا جدًّا من الخبرات الجمالية في فترةٍ زمنيةٍ محدَّدة للغاية (تقريبًا، في المائتَي سنة الأخيرة) وفي جزءٍ محدَّد جدًّا من العالم (تقريبًا، في «الغرب»). ليس لدينا سوى أدلةٍ قليلة جدًّا بشأنِ ما إن كان الناس في العصور الوسطى يستمتعون بالانتباه غير المُقيَّد أم لا، والأهم من ذلك أنه قد يكون في طريقه للاندثار في ظلِّ حاضرنا الذي نشهد فيه هوسًا بالهواتف الذكية، مما لا يساعد على تحقيقِ الانتباه غير المُقيَّد. فمثلما أشارت فنانةُ الأداء الطليعية مارينا أبراموفيتش (١٩٤٦–…): «انتباهنا اليوم أقلُّ من الانتباه للإعلانات التلفزيونية. فنحن ننظر في ستِّ مشكلاتٍ أو سبع في الوقت نفسه.» ولا يبدو ذلك تمامًا انتباهًا غير مُقيَّد.
لقد كتب أشخاصٌ مثل فيرناندو بيسوا، أو سوزان سونتاج، أو مارسيل بروست بشكلٍ جميل عن الخبرات الجمالية التي يكون الانتباه فيها غيرَ مُقيَّد، ومن المهم أن نفهم نوع الخبرات التي كانوا يتحدَّثون عنها. بالرغم من ذلك، فهي ليست النوع الوحيد الذي يمكن اعتباره خبراتٍ جمالية. غير أن النظر بجدِّية لدور الانتباه يمكنه أن يساعدنا في الحكم على الخبرات الجمالية التي يكون فيها الانتباه أكثرَ تقييدًا أيضًا.
عندما نستشعر خبرةً جمالية، فإننا لا ننتبه فقط للشيء الذي نراه. وإنما ننتبه لجودة خبرتنا أيضًا. الأهم من ذلك أننا نهتم بالعلاقة بين الأمرَين. ونحن ننتَبه في معظم الوقت للأشياء من حولنا، دون أيِّ انتباهٍ لخبرتنا معها. في الازدحام المروري، أنتبه عادةً للسيارة التي أمامي، ولإشارة المرور أثناء تحوُّلها إلى اللون الأحمر، وللمشاة في طريقي.
غير أنه يمكننا أيضًا الانتباه إلى أثرِ رؤيةِ شيءٍ ما علينا. هذا يعني الانتباه للعلاقةِ بين الشيء وجودةِ خبرتنا معه. لا يعني ذلك أن نوجِّه أعيننا إلى الداخل وننغمس تمامًا في خبرتنا الشخصية فقط. من المهم أن يكون كلٌّ من الشيء وجودة خبرتنا معه جزءًا مما يأخذ انتباهنا.
لنُوضح هذا بمثالٍ بسيط للغاية، عندما ننظر إلى تفاحة، يمكننا أن ننتبهَ لسِمات التفاحة. أو يمكننا الانتباه لسِمات خبرتنا مع التفاحة. أو يُمكِننا الانتباه للأمرَين، وللعلاقة بينهما. والانتباه بهذه الطريقة الثالثة هو ما أراه سِمةً حاسِمة (وربما السِّمة العامة) للخبرة الجمالية.
سأستَشهِد هنا بعباراتٍ لفيرناندو بيسوا عن الخبرة الجمالية، وأنا أعلم أنني بذلك أستَشهِد به بوصفه مرجعيةً مهمةً. فهو يقول: «تقوم الخبرة الحقَّة على تقليل اتصال المرء بالواقع بينما تعمل على تكثيف تحليل المرء لذلك الاتصال في الوقت نفسِه.» وتكثيف تحليل المرء للاتصال بالشيء المثير للخبرة هو تحديدًا ما أعنيه بالانتباه للعلاقة بين الشيء المثير للخبرة وجودة خبرتنا.
هناك طرقٌ عديدة للانتباه إلى العلاقة بين الشيء المثير للخبرة وجودة خبرتنا. وقد تحدَّثتُ في جزءٍ كبير من هذا الفصل عن طريقةٍ واحدةٍ محدَّدة لتحقيق ذلك، وهي الانتباه غير المُقيَّد، لكنها ليست الطريقة الوحيدة. إحدى النتائج المترتِّبة على الانتباه غيرِ المُقيَّد والمُطلَق هو أنه يمكن لانتباهنا أن يهيمَ بحرية؛ ليس فقط في سِمات الشيء المُدرَك، بل أيضًا في سِمات خبرتنا.
فالانتباه لاختيارك للزي الذي ستحضُر به موعدَك الغرامي الأول ينطوي أيضًا على انتباهٍ لجودة خبرتك؛ إذ تتوقَّف، وتنظر في المرآة، وترى أثَر ما تراه عليك. قد تحدُث أشياءُ أخرى كثيرة؛ فربما تحاول تخمينَ ما قد يكون ردَّ فِعل رفيقتك وكيف يمكن أن يختلف ردُّ فِعلها عن ردِّ فِعلك. ولكن أيًّا كان ما تفعله، فلا بد أن يتضمَّن الانتباه للعلاقة بين الشيء وجودة خبرتك مع هذا الشيء.
وبالمثل أيضًا، ربما تقضي ساعاتٍ في تسلُّق قمة جبل. ثم تنظر حولك في نهاية المطاف. ستنتبه للمنظر بالطبع؛ حيث الحقول والأنهار من تحتك. ولكن ليس ذلك فحسب. لو أنَّ الأمر كذلك، لَما كان يستحق قضاءَ كلِّ ذلك الوقت في التسلُّق. فسوف تنتبه أيضًا إلى خبرتك الخاصة، التي ربما يتخللها الشعور بالإنجاز.
وماذا عن إصرار دانييل هيليت على أن الخبرةَ التي تريد إثارتها هي خبرةُ الانغماس وليس عدم التقيُّد أو الانفصال؟ إنَّ الانغماس لا يعني أن خبرةَ ما ننغمس فيه تقع خارجَ الصورة تمامًا. فعندما ننغمس في شيءٍ ما، غالبًا ما نكون مدركين للغاية لانغماسنا؛ فنحن لا نستمتع فقط بما ينغمس فيه انتباهُنا، بل بخبرةِ الانغماسِ نفسِها أيضًا. ومن ثَمَّ فهي طريقةٌ أخرى إلى الانتباه للعلاقة بين ما نُدرِكه والخبرة التي يثيرها فينا ما نُدرِكه.
وبينما قد تكون أهميةُ الانتباه غيرِ المُقيَّد في الخبرة الجمالية شيئًا «غربيًّا»، فإن الانتباه إلى العلاقة بين الشيء المُدرَك وجودةِ خبرتنا لهذا الشيء هو سِمةٌ عامة يمكننا أن نجدَها في عددٍ من التقاليد الجمالية غير «الغربية». أحدُ الأمثلةِ الصريحة اللافتة للنظر هو مفهوم الراسا، وهو المفهوم الرئيسي للجماليات السنسكريتية، الذي لم يقتصِر تأثيره في التفكير في الفن على الهند فحسب، بل امتدَّ إلى إندونيسيا وحتى أجزاء من شرق أفريقيا.
غالبًا ما تُترجَم الراسا على أنها تذوُّق النكهة العاطفية لخبرتنا. كلمةُ النكهة هنا أكثرُ من محضِ استعارة؛ فتجربة الفن في هذا التقليد خبرةٌ متعدِّدة الوسائط تستهدف جميعَ حواسِّنا. لكنَّ النقطة الجوهرية لأغراضنا في هذا المفهوم هي «التذوُّق». إنَّ تذوُّق وجبةٍ يعني أنك تنتَبه للعلاقة بين تبايُن خبراتٍ مختلفة وتناغُمها. هذا يعني الانتباهَ لتأثير النكهات المختلِفة عليك. وهذا بالضبط ما كان مفقودًا في مثالِ تجرُّع بقايا الطعام الصيني. إنَّ نظريةَ الراسا تأخذ شيئًا شبيهًا بما أشرتُ إليه على أنه انتباهٌ جمالي ليكون أحدَ أهم مكوِّنات خبرتنا مع الأعمال الفنية.
قد يتساءل المرء رغم ذلك عما إذا كان هذا من شأنه أن يجعل الخبرةَ الجمالية مبتذلةً للغاية؛ يمكِنُني الانتباه إلى جودة خبرتي أثناء خلعي ضرسَ العقل. أستطيع فِعل ذلك حقًّا. ويُمكِنني أيضًا أن أنتبه للعلاقة بين الضرس وألمي. لكن هذا لا يجعل هذه الخبرةَ خبرةً جمالية (للأسف)؛ إذ يلزم التجربةَ الجمالية أيضًا ألا يُقيَّد هذا الانتباه.
والآن يُمكِننا تجميعُ أجزاء اللغز الذي يجعل الخبرات الجمالية جمالية؛ الطريقة التي نُوجِّه بها انتباهَنا. إنه توجيهٌ محدَّد للانتباه يمكن وصفُه بأنه رؤيةُ الشيء على أنه جميل. ويُمكِن للانتباه أن يَخضع لتعديل العواطف (لكن ذلك ليس بالضرورة).
لقد عرَفْنا من مفهوم «تقدير الشيء لذاته» أهميةَ الانفصال وعدم التقيُّد في النطاق الجمالي، ويُمكِننا تحقيقُ ذلك بالانتباه الحر غير المُقيَّد مع القليل من المناطق المحظورة. وقد رأينا أن مفهومَ المتعة يُلزِمنا بوضعِ نظريةٍ للانتباه الجمالي، وهذا بالضبط ما حاولتُ أن أقدِّمه هنا.
وأخيرًا، حان وقتُ الرجوع إلى مسألة الجنس، والمخدِّرات، وموسيقى الروك. في حالة العديد من التجارب الجنسية، ننتَبه للعلاقة بين ما ندركه وجودةِ خبراتنا، والأمر نفسه ينطبق على المخدِّرات (يدور وصفُ هكسلي الواضح لتجاربه مع مخدِّر البَيُّوط حول هذا تمامًا). لذلك ليس لدينا سببٌ يجعلنا نُنكِر على هذه الخبرات وصفَها بكونها خبراتٍ جمالية.
أحدُ الموضوعات المتكرِّرة في المناقشات القديمة المتعلِّقة بالإدراك، والتي لم يعُد لها معنًى الآن إلى حدٍّ ما، هو أن الإدراك شفَّاف. هذا يعني ببساطة أننا نرى الأشياءَ عَبْر خبرتنا على غرار رؤيتنا لها عَبْر نافذةٍ نظيفة. المنطق الكلاسيكي لهذا هو أنك إذا كنتَ تحدِّق في ثمرةِ طماطم وحاولتَ الانتباه لخبرتك مع الطماطم، فستَشْرع تلقائيًّا في الانتباه إلى الطماطم نفسِها. ومن ثَم فالخبرة نفسُها شفَّافة؛ إذ ترى الأشياء من خلالها.
قد ينطبق هذا الحال أو لا ينطبق إذا كنتَ تنظر إلى الطماطم لأنك تريد أن تأكلها. زعمي أن الأمور تختلف تمامًا عندما يتعلَّق الأمر بخبرةٍ جمالية مع ثمرةِ طماطم. في هذه الحالة، لا تنتَبه فقط إلى الطماطم، ولكن أيضًا إلى جودةِ خبرتك مع الطماطم. وإلى العلاقةِ بين الأمرَين. الخبرات الجمالية ليست شفَّافة.