الجماليات والذات
لماذا نُنفِق الكثيرَ من المال للاستماع إلى حفلٍ موسيقي أو لشراء كتاب؟ ولماذا نقضي ساعاتٍ في طهي وجبةٍ فاخرة؟ ولماذا نبذل الكثيرَ من الطاقة للصعود إلى قمة جبل؟ إجابتي هي أننا نفعل كلَّ هذه الأشياء من أجل الوصول إلى خبراتٍ لها أهميةٌ شخصية لدينا. وهذه الخبرات مهمة لهُويتنا، وللنحو الذي نرى عليه أنفسنا.
ولكن ما مدى أهميتها؟ تُظهِر بعضُ الدراسات التجريبية الحديثة أن معظمنا يرى أنَّ ذوقه في الموسيقى والأفلام أحدُ أهم سِماته الأساسية. ولا تقلُّ نظرتُنا لذوقنا في الطعام والملابس عن تلك المرتبةِ كثيرًا. تخيَّل أنك تستيقظ غدًا وأنت أذكى بكثير مما أنت عليه الآن. أو أقل ذكاءً بكثير. فهل ستظل الشخص نفسه؟ أو تخيل أنك تستيقظ وأنت أكثر لطفًا أو نحافةً أو انتماءً للجمهوريين أو أقل اهتمامًا باليوجا. هل ستظل الشخص نفسه؟
وفقًا للنتائج، فإن عددًا قليلًا جدًّا من هذه السيناريوهات يمكن مقارنته بسيناريو استيقاظك وقد انقلب ذوقك في الموسيقى تمامًا عما كان عليه من قبل. نحن نميل إلى اعتبار ذوقنا الموسيقي جزءًا أكثرَ أهمية بكثير من آرائنا الأخلاقية، والسياسية، وحتى الدينية في تحديد هُويتنا.
تغيير الذات وتغيير الجماليات
يُعَد ذوقنا في الموسيقى والأفلام والفن، مهمًّا للغاية بالنسبة إلينا. وليس ذلك فحسب؛ فكذلك ذوقنا فيما نأكله، ونوع القهوة التي نشربها، وما نرتديه من ملابس. إننا نتعامل مع تفضيلاتنا الجمالية باعتبارها جزءًا كبيرًا من هُويتنا.
لكن هذه التفضيلات تتغيَّر بسرعةٍ مفاجئة ومن دون أن نلحَظَها في كثيرٍ من الأحيان. وفقًا لبعض النتائج الأخيرة، فإن التفضيلات الجمالية أكثرُ استقرارًا لدى الأشخاص في منتصف العمر وهي أكثرُ مرونةً بكثير لدى المجموعات العمرية الأصغر والأكبر أيضًا، وإن كان مثيرًا للدهشة بعضَ الشيء. على الرغم من ذلك، فحتى في أكثرِ الفئات العمرية استقرارًا، تخضع التفضيلات الجمالية للأشخاص لتغييرٍ رئيسيٍّ واحد على الأقل بمعدَّل كل أسبوعَين في نطاقٍ جماليٍّ ما يهتمون كثيرًا به.
إننا نُحب أن نعتقدَ أننا لا نتغيَّر كثيرًا. وإذا تغيَّرنا، فنحن نُفضِّل الاعتقادَ بأننا نملك زمامَ هذا التغيير. لكننا مخطئون خطأً كبيرًا في هذا. فنحن لا نملك سوى القليل جدًّا من التحكم في كيفية تغييرنا ومقداره.
إليك مثالًا من ظاهرةٍ نفسيةٍ معروفةٍ على نطاقٍ واسع، «تأثير التعرُّض المحض». كلما تعرَّضتَ لشيءٍ ما، زاد ميلك للإعجاب به. إنَّ التعرُّض المحضَ للشيء يغيِّر تفضيلاتك. وهذا يحدُث حتى إن لم تكن واعيًا بما تتعرَّض له.
إنَّ تأثير التعرُّض المحض يؤثِّر في إعجابك بالأشخاص، والأغاني، والألوان، وحتى اللوحات. في إحدى التجارب، وضع أستاذ في علم النفس بجامعة كورنيل بعضَ الصور التي تبدو عشوائيةً وسطَ شرائحَ لمحاضرةٍ تمهيدية عن علم الرؤية. وبهذا، ففي منتصفِ محاضرة عن كيفية عمل الرؤية، كنتَ ترى فجأةً لوحةً لرينوار أو موريسو، دون تقديمِ تفسير. كانت موضوعة على سبيل الزينة فحسب.
على الرغم من أن هذه اللوحات قد بدت وكأنها تظهر عشوائيًّا، فقد كانت جزءًا من تجربة. عُرِض بعضها أكثرَ مما عُرِض غيرها، وفي نهاية الفصل الدراسي طُلِب من الطلاب تقييمُ الصور المعروضة. ودائمًا ما كانت اللوحات التي عُرِضَت عدة مراتٍ تحظى بتقييمٍ أعلى من تلك التي عُرِضَت مرةً واحدة. وقلةٌ قليلة فقط من هؤلاء الطلاب هم مَن قالوا إنهم يتذكَّرون رؤيةَ أيٍّ من هذه الصور من قبلُ.
يحدُث تأثير التعرُّض المحض حتى وإن لم تكن واعيًا لهذا التعرُّض. من مجموعةِ النتائج المهمة عن تأثير التعرُّض المحض أنه حتى التعرُّض اللاواعي يزيد من احتمالية التقييم الإيجابي؛ أي إذا عُرِض الحافز مثلًا فترةً قصيرة جدًّا (أقل من ٢٠٠ ملِّي ثانية) أو إذا كان الحافز مُستتِرًا (أي مَخْفيًّا ببراعة). من الصعب ألا تنزعجَ قليلًا من هذه النتائج. إننا نملِك بعضَ السيطرة على أنواع الموسيقى والفنون التي نتعرَّض لها، ولكنها ليست سيطرةً كاملة بالتأكيد. فمن الصعب للغايةِ أن نُوجَد في أيِّ مكانٍ عام من أي نوع من دون موسيقى. المقاهي، ومراكز التسوق، والمصاعد، كلها تُشغِّل الموسيقى. تترك الموسيقى التي تتعرَّض لها في هذه الأماكن بصماتِها على تفضيلاتك، ونادرًا ما يسعدنا هذا الأمر.
إن تفضيلاتنا الجمالية في الموسيقى، والأفلام، والطعام، والملابس، والفن مهمةٌ للغاية بالنسبة إلينا، ويمكن أن تتغير على نحوٍ لا نملِك السيطرةَ عليه، وهي تتغيَّر بالفعل. إذا كنتَ من محبي موسيقى الجاز الحر وتعتبر نفسك شخصًا مهتمًّا بالجاز الحر، فإن سماعك موسيقى جاستن بيبر في السوبر ماركت سيجعل إعجابك بالأسلوب الموسيقي الخاص بأغاني جاستن بيبر يزيد بعضَ الشيء. ومن المحتمل جدًّا ألا يكون لديك أيُّ فكرة عن هذا. فالأمر يحدُث بعيدًا عن إدراكك.
إذا كان من الممكن اختطافُ تفضيلاتنا دون أن ننتَبه، فسيبدو أن جزءًا كبيرًا من ذواتنا نتاجٌ عشوائي للتعرُّض المحض. ونحن عاجزون عن مواجهةِ هذا. عندما كنتُ صغيرًا وأحبُّ لفتَ الأنظار، كنتُ أحرص دائمًا على السيرِ في غرفِ فنِّ البوب في المتاحف وعيناي مغلقتان. لكن النجاح في ذلك صعبٌ وخطير أيضًا إلى حدٍّ ما. وعندما يتعلَّق الأمر بالموسيقى، يصبح أكثرَ صعوبة. إنَّ ذوقنا يتغيَّر، وليس هناك الكثير مما يمكننا فِعله حيال ذلك. إن حقيقة أنه من الصعب ألا نجد هذه النتائجَ مُقلِقة، يوضح مدى أهميةِ النطاق الجمالي لدى الذات. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكننا تجاهُل هذا الرابط القوي بين الجماليات والذات.
الخبرة في مقابل الحُكم
لقد كان القَدْر الكبير من الجماليات «الغربية» يُعنى بإصدارِ الأحكام الجمالية المدروسة. الأحكام الجمالية هي تصريحات (غالبًا للنفس فقط، ولكن في بعض الأحيان للآخرين أيضًا) بأن شيئًا بعينه جميل، أو بهيج، أو قبيح، أو مثير للاشمئزاز. لكنَّ الغالبية العظمى لتجاربنا الجمالية لا تتخذ هذا الطابعَ على الإطلاق. لو أنها كذلك، لصارَ من الصعب تفسيرُ سببِ اهتمامنا الكبير بكلِّ ما هو جمالي. فنحن لا نشاهد فيلمًا مدتُه ثلاث ساعات أو نذهب في نزهةٍ يومًا كاملًا في الجبال لإصدار حُكم جمالي مدروس بشأن الفيلم أو المناظر الطبيعية. إذا كنا نتعامل مع أهميةِ الجماليات في حياتنا بجِدية، فعلينا الابتعاد عن إصدار الأحكام الجمالية والتركيز على أشكال التجربة الجمالية الأكثرِ إمتاعًا لنا وإرضاءً، وتحدُث لنا على نحوٍ أكثر تكرارًا.
ونحن لا نذهب إلى حفلٍ موسيقي أو نمارس الطهي لساعات من أجل إصدارِ أحكام جمالية. الحقُّ أنه من الصعب معرفةُ ما يجعل للأحكام الجمالية أهميةً كبيرة لدينا. فإصدار الأحكام الجمالية ليس ممتعًا إلى هذا الحد، وليس مُرضيًا أيضًا للغاية. عندما نستمتع بعضَ الشيء بإصدار الأحكام الجمالية (على سبيل المثال، عندما نصنِّف كتبنا أو أفلامنا الخمسة المفضَّلة لنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي)، فإن هذه المتعةَ تأتي على الأرجح من التواصُل بشأن هذا الحُكم، وليس من إصدار الحُكم في حد ذاته. الأمر نفسه ينطبق على النقاشات الطويلة والمكثَّفة مع أصدقائك عن أحدِ الأفلام بعد مشاهدته في السينما.
وعلى العكس من ذلك، نجد أنَّ تكشُّف خبراتنا في السياقات الجمالية على مدارِ الوقت، ممتع، ومُرضٍ، وشيء نهتم به شخصيًّا. وهو يصل في نهايته أحيانًا — وليس دائمًا بالتأكيد — إلى حُكم جمالي، لكن هذا ليس هو السبب في قيامنا به. ومن المزايا الرئيسية للتركيز على الخبراتِ لا الأحكام أن ذلك قد يساعدنا على فهْم الأهمية الشخصية والضرورة لكلِّ ما هو جمالي بالنسبة إلى الذات.
ولكن ماذا عساه أن يكون الحُكم الجمالي؟ تذهب إلى متحف وتنظر إلى لوحة. تجلس أمامها وتقضي عشرين دقيقةً في النظر إليها. وبعد ذلك، تنهَض وقد شكَّلت حُكمًا جماليًّا عنها. ويمكنك نقلُ هذا الحُكم الجمالي إلى أصدقائك أو الكتابة عنه في مدوَّنتك. تستمر خبرتك مع اللوحة عشرين دقيقة. يحدُث الحُكم عادةً في نهايةِ هذه العملية (على الرغم من أنه يمكنك بالطبع إصدار أحكام خلال العملية، والتي قد تراجعها لاحقًا). تركِّز الجماليات «الغربية» بشكلٍ أساسي على الحكم في نهاية هذه العملية، وليس خلال تكشُّف التجربة على مدارِ العشرين دقيقة (مع تحولاتها في الانتباه والمقارنات البصرية، وما إلى ذلك).
لا تحدُث الأحكام الجمالية في كلِّ مرة ننشغل فيها بشيء انشغالًا جماليًّا. إنها سِمةٌ اختيارية. لنفترض أني أمضيتُ عشرين دقيقةً أمام اللوحة لكني لا أستطيع أن أتخذ قرارًا بخصوص مزاياها وعيوبها الجمالية، فأُعلِّق الحكم. هذا لا يجعل تجربتي الجمالية للعمل الفني أقلَّ إرضاءً أو جدوى بأي قَدْر، أو أقلَّ متعة. الحق أنه قد يجعل خبرتك في بعض الأحيان أكثرَ متعة.
ثمَّة الكثيرُ مما قيل عن اختلافِ الأحكام الجمالية عن غيرها من أنواع الأحكام. وفقًا للرؤية الكانطية الواسعة الانتشار، يمكن للحُكم الجمالي ألا يكون مجردَ نقطة نهاية للخبرة؛ فقد يحدُث خلال الخبرة بأكملها ويصبغ خبرتَنا نفسَها. ولكن حتى في هذه الصورة التي تبدو أكثرَ تركيزًا على الخبرة ما يهم أكثرَ هو الحُكم. ما دمنا نُصدِر الحُكم الصحيح، فبإمكانه أن يقودنا إلى معايشة نوع الخبرة الصحيح. ومثلما رأينا باستفاضة في الفصل الثالث، يمكن للانتباه أن يُغيِّر خبرتنا تغييرًا جذريًّا. ونادرًا ما يكون للحكم الجمالي هذا التأثير. فمن غير المرجَّح إلى حدٍّ كبير أن تتغيَّر خبرتي مع صورةٍ ما لأنني أعتقد فقط أنها جميلة أو أنيقة (فضلًا عن تغييرها للأفضل). على النقيض من ذلك، يمكن للانتباه لسِماتٍ متنوِّعة ومن ثَم بعيدة عن الملاحظة أن يغيِّر خبرتي تغييرًا كبيرًا.
إذا كنا نرى أن الجماليات يجب أن تهتمَّ اهتمامًا أساسيًّا بطريقة انكشاف خبرتنا مع العمل الفني انكشافًا زمنيًّا (سواء تتوَّج هذا الانكشاف المؤقت بحكم جمالي أم لا)، فستكون هذه الصورة العامة التي تبدأ بالأحكام الجمالية هي ببساطة طريقةً خاطئة لتقدُّم العملية. ينبغي ألا نُسلِّم بافتراض أننا نعرف اللبنات الأساسية لكلِّ ما هو جمالي فقط لمجرد كونها اللبنات الأساسية للأحكام الجمالية. يجب أن ندرُس تجربتنا الجمالية أو خبرتنا الجمالية في حدِّ ذاتها ودون استعارة أيِّ وسائلَ مفاهيمية من نطاق الأحكام الجمالية.
الخبرات الجمالية لشبابنا
سنقدِّم مثالًا على أن أهميةَ الجماليات لا تتعلق كثيرًا بحُكمنا الجمالي المدروس. هل تتذكَّر أولَ خبرةٍ جماليةٍ قوية لك؟ عندما كنتَ طفلًا أو ربما في سن المراهقة؟ قطعةٌ موسيقية أذهلَتك؟ منظرٌ طبيعي أخذ أنفاسك؟ إليك ثلاثةَ أمثلة من حياتي الخاصة، لا تتردَّد في تغييرها بأمثلةٍ من شبابك.
موقف أ: كنتُ في السادسة عشرة من عمري واقفًا في معرض تيت القديم (لم يكن هناك معرض تيت للفن الحديث بعدُ)، وقد فتنَتْني إحدى لوحات كليفورد ستيل. لا بد أنني أمضيتُ ساعتَين أمامها آنذاك. لم أكن أعرف الكثيرَ عن كليفورد ستيل (١٩٠٤–١٩٨٠) في ذلك الوقت. كنتُ أعرف أنه أحد فناني التعبيرية التجريدية، ولكن لا شيءَ أكثر من ذلك. أحببتُ الصورة حبًّا جمًّا لدرجةِ أنني في اليوم التالي، عندما كان من المفترض أن أزورَ برج لندن ومجلسَي البرلمان مع مدرستي الثانوية، تركتهم وعُدتُ إلى بيمليكو كي أعيدَ النظر إليها.
موقف ب: رجوع سنة للوراء. كنتُ مفتونًا بفيلم المخرج مايكل أنجلو أنطونيوني «انفجار» (بلو أب) (١٩٦٦) لدرجةِ أنني ذهبتُ إلى السينما لمشاهدته مرتَين أو ثلاث مراتٍ في الأسبوع. حفظتُ حوارات الفيلم بأكمله عن ظهر قلب. كنتُ في كلِّ مرة أغادر السينما في حالة نشوة بعد أن أكون قد فهمتُ شيئًا مهمًّا حقًّا عن الحب، والمظهر، والواقع، وقضايا أخرى عميقة.
موقف ﺟ: رجوع سنةٍ أخرى للوراء. قرأتُ كتابًا هزَّني حتى النخاع. «زَبَد الأيام» (١٩٤٧) لبورس فيان. لم أشعُر بشيء كهذا من قبلُ؛ شعَرتُ بالرغبة في الضحك والبكاء في الوقت نفسه.
الفكرة التي أريد أن أوضحها هي ما يلي: الآن أرى أن فيلم «انفجار» (بلو أب) هو أسوأ أفلام مايكل أنجلو أنطونيوني على الإطلاق. وكانت رواية «زَبَد الأيام» مليئة بالإشارات المرجعية التي لم أكن لأستطيع فهْمها في سن الرابعة عشرة، وهي أقلُّ أصالةً بكثير من بعض روايات فيان الأخرى. وصحيحٌ أنني ما أزال أعتقد أن كليفورد ستيل رائع، لكن هناك أيضًا العديد من الأعمال العظيمة الأخرى في تلك المجموعة حيث وقعتُ، لسببٍ ما، في حب هذه اللوحة.
ذهبتُ إلى معرض تيت للفن الحديث لتوِّي بالأمس، استعدادًا لكتابةِ هذا الفصل كي أرى كيف سيكون ردُّ فعلي. حسنًا، لم يكن شديد القوة. كما شاهدتُ فيلم «انفجار» (بلو أب) مرةً أخرى (على الكمبيوتر المحمول؛ إذ لم تعُد دُور السينما تعرض أفلام أنطونيوني)، لكني اضطُررتُ إلى إيقافه بعد عشرين دقيقة أو نحو ذلك، لم أكن مهتمًّا بمواصلة المشاهدة. وتركتُ الترجمة الإنجليزية لرواية «زَبَد الأيام» بعد صفحتَين (لكن ذلك بسبب الترجمة لكي أكون منصفًا).
لقد منحَتْني هذه الأعمال الفنية خبرةً جمالية أقوى بكثير وأكثرَ إرضاءً عندما صادفتُها أولَ مرة، حين لم أكن أعلم سوى النَّزر القليل عن تاريخ الفن، أو تاريخ الأفلام، أو تاريخ الأدب الفرنسي في القرن العشرين مقارنةً بما أعرفه الآن؛ حيث زادت معرفتي قليلًا بهذه الأشياء. أودُّ أن أصدِّق أنني الآن في وضعٍ أفضلَ مما كنتُ عليه من سن الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة لتقييم القيمةِ الجمالية لهذه الأعمال. يمكنني إصدارُ حكمٍ جمالي أفضل الآن. لكني لستُ متحمسًا بالقَدْر نفسه الذي كنتُ عليه في ذلك الوقت.
بإدراكي الحالي للأمور في عام ٢٠٢٠، يجب أن أَدين الحُكم الجمالي الذي أصدرته في سن الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة، أليس كذلك؟ ولكن لو لم تكن مشاعري بهذه القوة تجاه هذه الأعمال الفنية، ربما ما كنتُ سأهتم بالفنون، ومن ثَم لما اكتسبتُ كلَّ المعرفة التي تمكِّنني الآن من التعالي على بنس المراهق.
ماذا سيكون الحُكم الجمالي المدروس هنا؟ لننظر في الحكم الذي أصدرتُه للتو عن كون فيلم «انفجار» (بلو أب) أسوأ أفلام أنطونيوني على الإطلاق. هذا هو نوع الأحكام التي تتناولها الجماليات، هذا ما تُعلمه لنا. أما ذلك النوع من الإعجاب الذي شعرتُ به تجاه الفيلم في سن الخامسة عشرة فليس ما تتناوله الجماليات.
كانت أمثلتي تهدُف إلى إظهار أن عدم التطابق قد يُوجَد بين نضج الأحكام الجمالية وقوة خبرتنا الجمالية، وهو غالبًا ما يُوجَد بالفعل. أحدُ الاستنتاجات التي تترتَّب على ذلك أن التركيز حصريًّا على الأحكام الجمالية المدروسة سيترك شيئًا مهمًّا حقًّا خارج نقاشات الجماليات، وهو أن التجربة الجمالية ممتعة وأن لها بعضَ الأهمية الشخصية لدينا. إننا نكترث بالتجربة الجمالية. ولا يمكن للتركيز الحصري على الأحكام الجمالية المدروسة أن يعبِّر بشكلٍ كامل عن هذه الحقيقة البسيطة حول الجماليات.
أولوية الخبرة
يُوجَد سببٌ أكثرُ أهمية وراء عرْضي هذه الأمثلةَ. لقد رأينا أنه ليس من الصحيح أنه كلما كان حُكمنا الجمالي مبنيًّا على إطلاعٍ أفضل، كانت خبرتنا الجمالية أقوى أو أكثرَ إرضاءً. ومن نتائجِ هذا أنه يجب علينا تضمينُ الخبرات الجمالية القوية، والمُرضية، وذات الأهمية الشخصية في مناقشة الجماليات (وعدم التضحية بها لصالح التركيز الحَصْري على الأحكام الجمالية). بالرغم من ذلك، فللخبرات الأولويةُ على الأحكام أيضًا من منطلقٍ مختلِف تمامًا. ذلك أنَّ جميع أحكامنا الجمالية المدروسة تعتمد على بعض الخبرات السابقة المُرضية وذات الأهمية الشخصية، وهي ليست مدروسةً على الإطلاق رغم ذلك.
عندما تدخل غرفةً بها العديدُ من اللوحات في أحد المتاحف وتُلقي نظرةً سريعة من حولك، ربما تعجبك بعضُ الصور المعروضة، دونًا عن الصور الأخرى. إنك لا تدري مَن رسم أيًّا من الصور؛ لذا من غيرِ الوارد أن تُصدر حكمًا مدروسًا. لكنَّ هذا الإعجاب الأوَّلي هو ما يحدِّد اللوحةَ التي ستقترب منها وتقضي المزيدَ من الوقت في استكشافها. السببُ الوحيد الذي يجعلنا في وضعِ إصدار أحكامٍ جمالية مدروسة نظرًا لجميع الظروف، هو أننا أُعجِبنا ببعض الأعمال الفنية في السابق، ربما قبل ثوانٍ فقط أو قبل عقود؛ ولهذا السبب نندمج مع هذا العملِ الفني دونًا عن غيره.
لنرجع خطوةً إلى الوراء. لدينا حالتان من حالات التجربة الجمالية هنا. الخبرة التي مرَرتَ بها عندما كنتَ مراهقًا (إيجابية جدًّا، مُرضية جدًّا، مهمة جدًّا بالنسبة إليَّ شخصيًّا) والحُكم الذي أصدره الآن (الحكم على العمل بأنه متواضعٌ إلى حدٍّ ما، ليس مُرضيًا للغاية، ليس له أهمية بالنسبة إليَّ شخصيًّا). هذه الحالة الأخيرة هي ما نسميه حُكمًا جماليًّا مدروسًا. ولم تكن الحالة الأخيرة لتحدُث من دون الأولى. والسؤال الآن هو: ما الذي يفسِّر المتعةَ الجمالية للتجربة الجمالية الأولى؟ إذا قصَرنا مناقشتنا على الأحكام الجمالية، فسيكون من الصعب أن نعرفَ كيفيةَ الإجابة عن هذا السؤال. لا يمكن أن يكون السبب هو نضجَ حُكمنا الجمالي؛ لأن الحُكم الجمالي الأول لم يكن ناضجًا ولا مدروسًا على الإطلاق. ربما كانت الخبرة الأولى القوية والمُرضية غير ملائمة تمامًا وغير ذات صلة من الناحية الجمالية، لكن هذا معناه أن الاستجابات غير الملائمة وغير ذات الصلة من الناحية الجمالية ستبدو هي المسئولةَ إلى حدٍّ كبير عن تفضيلاتنا الجمالية؛ حيث إن تفضيلاتي الجمالية الحالية هي إلى حدٍّ كبير نتاجُ تلك الخبرات الجمالية للمراهق بنس.
وليست تلك مشكلةً تافهة. إليك منحًى يجعلها أكثرَ إلحاحًا: لماذا يجب أن أهتمَّ بأحكامي الجمالية المدروسة إذا لم تكن تجعلني أشعرُ بشيء؟ إنها لا تمنحني أيَّ متعة، وليست لها أي أهميةٍ شخصية بالنسبة إليَّ. لماذا يجب أن نتعلم المزيد عن تاريخ الفن وتاريخ الأدب الفرنسي في القرن العشرين إذا كانت النتيجة هي أن درجة استمتاعنا بالتجربة الفنية ستقل؟
ثمَّة طريقةٌ رغم ذلك للخروج من هذه المُعضِلة. ليس إصدار الأحكام الجمالية على هذا القَدْر من المتعة. ويستوي في ذلك الحُكم الساذَج الذي أصدرتُه في مراهقتي والحُكم المدروس الذي أُصدِره الآن. لا يكون إصدار الأحكام في العادة مُرضيًا ولا مُسليًا ولا ممتعًا. على النقيض من ذلك، يمكن أن تكون الخبرة مُرضية أو مُسلية أو ممتعة. وبالمثل، فنادرًا ما يكون إصدار الأحكام شيئًا من ذلك النوعِ الذي نجد فيه مغزًى شخصيًّا. أما الخبرات فهي من ذلك النوع من الأشياء التي نجدها ذاتَ مغزًى شخصي. لذا يجب أن يكون موضوعُ الجماليات هو الخبرات وليست الأحكام. يمكن لهذه الخبرات أن تؤديَ إلى أحكام يُمكِننا نقلها للآخرين، وهذه إضافةٌ اختياريةٌ لطيفة، لكن ليس ثمَّة ضرورة إلى أن تؤديَ إلى إصدار أي أحكام.
إننا نُنفِق الكثيرَ من الوقت والمال في الانشغال بالأعمال الفنية ليس لأننا نريد إصدارَ أحكام جمالية عليها. إنما نفعل ذلك لأن الخبرةَ التي نَمُر بها أثناء الانشغال بالأعمال الفنية يمكنها أن تكون ممتعةً ومُرضيةً وذاتَ مغزًى شخصي. فليس الحكم هو ما يهم، بل الخبرة.
علينا أن نُحاوِل الابتعاد عن مفهوم الحكم الجمالي بشكلٍ عام، سواء أكان حكمًا مدروسًا أم لا. نادرًا ما يُسفِر هدفُ التجربة الجمالية لأحد الأعمال الفنية عن حُكم جمالي، ويجب أن تضع نظريتنا الجمالية هذه الحقيقةَ في الاعتبار. يجب أن نركِّز على تكشُّف خبرتنا الجمالية على مدارِ الوقت وليس على نقطة النهاية (وهي اختيارية بالطبع) التي نصل فيها لإصدار الحكم الجمالي. كما قالت سوزان سونتاج: «إن العمل الفني الذي تعرفه باعتباره عملًا فنيًّا هو خبرة، وليس تصريحًا أو إجابة عن أي أسئلة.»
لماذا نُصدِر الأحكام؟
من أجل تحويل تركيز النظرية الجمالية من الحُكم الجمالي إلى تكشُّف التجربة الجمالية على مدارِ الوقت، نحتاج أولًا إلى فهمِ سبب هوس الجماليِّين بالأحكام الجمالية.
من الجلي أن أحدَ الأسباب تاريخي. فلطالما كان المفهوم الرئيسي للجماليات «الغربية» هو الحُكم الجمالي، على الأقل منذ صدور مقالة «عن معايير الذوق» لديفيد هيوم (١٧٥٧)، التي نُشرَت قبل أكثرَ من ٢٥٠ عامًا.
في هذه المقالة، يتحدَّث هيوم (١٧١١-١٧٧٦)، الذي يصعُب المبالغةُ في تقديرِ تأثيره في الجماليات الفلسفية الأنجلو أمريكية، عن الاختلافات بين طُرق إصدار شخصَين مختلفَين للأحكام حول الذوق. يقدِّم القصةَ التالية مثالًا توضيحيًّا (مستعارًا من رواية «دون كيشوت»). يشرب شخصان من النبيذِ نفسِه ويُطلب منهما الحُكمُ على جودته. يقول أحدهما إن له مذاقًا غريبًا يشبه الجِلد. يرى الآخر أن له نكهةً معدنيةً غير سارة. الجزء المضحك في قصةِ هيوم هو أنه بينما قد نعتقد أن حُكمًا واحدًا على الأقل من هذَين الحُكمَين خاطئ تمامًا، فقد اكتشفوا عند فحص النبيذ أن به مفتاحًا صغيرًا بسيرٍ جلدي. لذا كان كلاهما على حق.
سأعود إلى هذه القصةِ في الفصل الخامس. لكن ما يهمُّنا الآن هو أنه على الرغم من أن هيوم يؤكِّد بوضوحٍ على أهمية التمييز الإدراكي هنا، فما يهتمُّ به أساسًا هو الحُكم الجمالي لخبيرَي النبيذ هذَين. فليس من المهم لهما كيفيةُ تكشُّف خبرتهما للنبيذ عَبْر الوقت (على الرغم من أنه يمكن قولُ الكثيرِ عن كيفية تكشُّف خبرة النبيذ بمرور الوقت). الشيء الوحيد الذي يهم هو الحُكم الجمالي الذي توصَّلا إليه، ومدى صلةِ كلٍّ من الحُكمين بالآخر.
ومثلما سنرى في الفصل الخامس، تُوجَد أسبابٌ فلسفية مهمة لتركيز هيوم على الأحكام، ولكنَّ قوة تأثيره في علم الجمال جعلَت افتراضه أن الشاغل الأساسي للجماليات هو فهْم الأحكام الجمالية مقبولًا دون جدال.
ثمَّة سببٌ تاريخيٌّ مهمٌّ آخرُ لهيمنة الأحكام في علم الجمال، وهو يتعلَّق بما لفلسفةِ اللغة من تأثيرٍ قوي على الفلسفة عامةً وعلى الجماليات خاصةً. فالأحكام الجمالية هي تصريحات (نُصدِرها لأنفسنا أو للآخرين) ولدى فلسفةِ اللغة الكثيرُ لتقوله بشأنها. لذا فإن الحُكم الجمالي هو موضوعٌ مألوف لعلماء الجماليات الذين حظُوا بتدريبٍ قوي في فلسفة اللغة. على النقيض من ذلك، ليس من السهل تحليلُ الخبرات باستخدامِ مجموعة الأدوات المفاهيمية لفلسفة اللغة.
التوجُّه نحو العالمية
من الصعب هنا عدمُ الإشارة إلى خصوصيةِ هذا المنظور الذي يركِّز على الأحكام إذا وسَّعنا نطاقَ ما نَعُده ضمن إطار الجماليات من الاقتصار على الجماليات «الغربية» إلى الجماليات العالمية. الغالبية العظمى من التقاليد الجمالية خارج «الغرب» لا تهتم كثيرًا بالأحكام الجمالية على الإطلاق. إنها تهتمُّ بالطريقةِ التي تتكشَّف بها عواطفنا، والطريقة التي يتغيَّر بها منظورنا للأشياء، والطريقة التي تتفاعل بها تجربتنا الجمالية مع التجربة الاجتماعية.
يأتي المثالُ الأكثرُ تطرفًا من الجماليات الإسلامية (وخاصة الجماليات الإسلامية في التقليد الصوفي). أحدُ الجوانب التي تختلف فيها الجماليات الإسلامية عن التقاليدِ الجمالية في «الغرب» هو في تركيزها على الطبيعة المستمرة التغيُّر للعالَم عامةً ولخبرتنا مع الأعمال الفنية خاصةً. وجزءٌ مما هو مميَّز بشأن تجربة الفن هو تقديرنا لهذه الخبرات المتقلبة والمتغيرة باستمرار (من الأمثلة على ذلك وجهاتُ النظر المختلفة عمدًا التي تمنحُنا إياها بعضُ السِّمات المعمارية أثناء تجوُّلنا حولها، والتي غالبًا ما تتضح بشكلٍ أكبرَ من خلال انعكاساتها العابرة في المياه). هذا التقليد مهتمٌّ جدًّا بالجمال، ولكن ليس بالحُكم على الجمال، بل بالطُّرق التي يمكن بها تفسيرُ الجمال من خلال عمل نظام الإدراك لدينا. كما أن تركيزه على الطبيعة المتقلِّبة لخبرتنا والمتغيِّرة باستمرار يجعل أيَّ محاولة لإصدار حكمٍ ثابت مستحيلة.
رأينا أيضًا كيف أنَّ نظريةَ الراسا تدور حول تذوُّقنا لخبراتنا العاطفية عَبْر عدةِ حواس، وليس الأحكام، التي لا تتحدَّث عنها نظريةُ الراسا تقريبًا. في مناسبةٍ نادرةٍ عندما يُذكَر ما نسمِّيه بالحُكم الجمالي في نظرية الراسا، إنما يكون ذلك لإظهارِ كيف يمكن للأحكامِ المستقرةِ وغير المرنة أن تعمل في الواقع «ضد» هذا التذوق لخبرتنا. وأخيرًا، لإعطاءِ مثالٍ مُعضِل إلى حدٍّ ما، في الجماليات الآشورية البابلية، غالبًا ما يُترجَم المفهوم الرئيسي للتبريتو على أنه إعجاب ورهبة، لكنه يُعرَّف بوضوحٍ على أنه الخبرةُ الإدراكية للعمل، التي تتضمَّن «إعادةَ النظرِ واستمراره»، مرةً أخرى، نرى تركيزًا على تكشُّف الخبرة، وليس الحُكم. إن حقيقةَ أن الحُكم الجمالي قد لعب في تقليدنا «الغربي» دورًا مهمًّا لا تعدو كونها أكثرَ بقليل من مجردِ فضولٍ تاريخي.
ثمَّة سببٌ آخرُ لهيمنةِ مفهوم الحُكم الجمالي على الجماليات «الغربية» لا يتعلَّق كثيرًا بالتاريخ لكنه أكثرُ جوهرية، يتمثَّل في إمكانيةِ التواصُل بشأنِ الأحكام الجمالية. عندما نختلف على شيءٍ من الناحية الجمالية، يصبح بيننا خلافٌ بشأن الأحكام الجمالية: أقول إن الفيلم كان سيئًا تقول أنت إنه جيد. لذا كي نفهم الجوانبَ «البين شخصية» والجوانبَ الاجتماعية لخبرتنا مع الأعمال، كما تقتضي الحُجة، نحتاج إلى التركيزِ على الأحكام الجمالية. وموضوع الفصل الخامس هو هذا البُعد الشخصي للجماليات.