الجماليات والآخر
نادرًا ما تكون الجماليات مسعًى منفردًا. فنحن نتشارك في الوجبات، ونذهب إلى المتحف مع أصدقائنا، ويختار الأزواج أثاثَ مسكنهم معًا. عندما نذهب إلى حفلٍ موسيقي أو إلى السينما، نكون في غرفةٍ مليئة بالأشخاص الذين تكون لديهم خبرةٌ شديدة الشبه بخبرتنا. إننا كائناتٌ اجتماعية وثمَّة القليل للغاية من المواقف الجمالية التي تفتقر إلى جميعِ الجوانب الاجتماعية.
عِلاوةً على ذلك، قد يتشكَّل رابطٌ مهم بين صديقَين إذا كانا يتمتَّعان بخبرةٍ مشابهة عند الاستماع إلى الأغنية نفسِها. ويُمكِن أن تشعرَ بالغربة إذا كانت خبرةُ صديقك مروِّعة في الوقت الذي تحظى فيه بخبرةٍ مذهلة أثناء مشاهدتكما للفيلم نفسِه.
الاتفاقات الجمالية والخلافات
من المؤسف إلى حدٍّ ما أن يهيمن على مناقشة البُعد الاجتماعي للجماليات في تاريخ الجماليات «الغربية» مسألةٌ واحدة لا غيرها، وهي الاتفاقات الجمالية والخلافات.
مَن هو الملحِّن الأفضل، جوني روتين أم فولفجانج أماديوس موزارت؟ الحَدْس الذي سيحظى بالدعم في هذه الحالة هو أن موزارت هو الأفضل، الجميع يعرف ذلك. هناك اتفاقٌ جماليٌّ تام على هذا. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فينبغي أن يكون كذلك. أولئك الذين يفضِّلون جوني روتين عليهم أن يكتسبوا المزيدَ من المعرفة. يجب أن يستمعوا إلى المزيد من أعمال موزارت، وسيرَوْن خطأهم.
الحق أنَّ المقارنة بين جوني روتين وموزارت أمرٌ سخيف من ناحيةٍ ما. ربما يقع عددٌ قليل جدًّا من الخلافات المحتدِمة في وقتٍ متأخر من الليل؛ حيث ينحاز أحدُ الأشخاص (جِديًّا) إلى جانبِ جوني روتين ويدافع شخصٌ آخرُ عن موزارت. لكننا نتجادل في كثيرٍ من الأحيان بشأنِ المسائل الجمالية، إنها في الواقع أحدُ أهم الأمور التي نتجادل بشأنها. باخ أم هاندل؟ فريدا كاهلو أم دييجو ريفيرا؟ أو إذا كانت هذه المقارناتُ تبدو عاليةَ المستوى، ففرقة البيتلز أم فرقة رولينج ستونز؟ مسلسل «سينفيلد» (سينفيلد) أم مسلسل «تطورات الاعتقال» (أريستيد ديفيلوبمنت)؟ أي الأفلام في سلسلة «السريع والغاضب» (فاست آند فيورس) هو الأفضل؟ ويمكننا أيضًا أن نضرب مثالًا آخرَ بعيدًا عن الفن؛ أيهما أكثرُ جاذبية: هان سولو أم لوك سكاي ووكر؟ هل باريس أجمل من برشلونة؟ حبوب القهوة الداكنة التحميص أم الفاتحة التحميص؟ هل شريحة اللحم أفضلُ عندما تكون ناضجة أم متوسطة النضج؟ وما إلى ذلك.
إليك خيارَين واضحَين لتسوية الخلافات من هذا النوع. يمكننا أن نتفقَ على ألا نتفق. أنت تُحب هذا، وأنا أحب ذلك. لا أحد منَّا على حق، أو بالأحرى، كلانا على حق. الخيار الآخر هو أن واحدًا منا مخطئ تمامًا. ستعتمد وجاهةُ هذَين الخيارَين على الأمثلة التي ننتقيها. تُعد حالة جوني روتين في مقابل موزارت حيلةً رخيصة لدعم الخيار الثاني. ويمكن رؤيةُ مثال فريدا كاهلو أم دييجو ريفيرا على أنه دعمٌ للخيار الأول.
قارن الخلافات الجمالية بالخلافاتِ بشأنِ المزيد من الأشياء البسيطة. إذا نظرنا أنا وأنت إلى إحدى اللوحات، وقلتُ أنا إنها مربَّعة الشكل، بينما تقول أنت إنها مثلَّثة الشكل، فإن واحدًا منا (على الأقل) مخطئ. لكن إذا نظرنا إلى اللوحة نفسِها واختلفنا على خصائصها الجمالية، فالأمور هنا أقلُّ وضوحًا.
ثمَّة مقارنةٌ أخرى تظهر بين الخلافات الجمالية والخلافات «الذاتية» بشكلٍ واضح. إذا نظرنا إلى اللوحةِ نفسِها وقلتُ إنها تذكِّرني بجَدَّتي وقلتَ أنت إنها لا تذكِّرك بجَدَّتك، فإن هذَين الرأيَين يتفقان معًا (حتى لو كانت جَدتنا واحدة). فأنا على حقٍّ وأنت أيضًا على حق.
السؤال هو ما إذا كان الخلافُ الجمالي أقربَ إلى خلافِ «مربعة الشكل في مقابل مثلَّثة الشكل» أم خلافِ «ما إذا كانت تذكِّرني بجَدَّتي أم لا». وتحاول بعضُ النصوص المحورية للجماليات «الغربية» تكوينَ موقفٍ وسيط بين الخلاف «الذاتي» البحت (مثل الخلاف الذي يتضمَّن التذكرة بجَدَّتي) والخلاف «الموضوعي» (مثل الخلاف الذي يتضمَّن الأشكال).
هل تتذكَّر قصةَ هيوم للمفتاح الحديدي ذي السير الجلدي؟ السبب في تقديمه لهذا المثال هو بالضبط لمعالجة مشكلة الاتفاقات والخلافات الجمالية. اختلَف خبيرا النبيذ. فقد أدرك أحدهما مذاقَ الحديد، وأدرك الآخر مذاقًا جِلديًّا. بالرغم من ذلك، فقد اتضح أن كلاهما على حق. كلاهما على حق، لكن ليس لأن الحُكم على المذاق أمرٌ «ذاتي» تمامًا، بل لوجودِ أساسٍ «موضوعي» لحكمهما على المذاق، وهو المفتاح ذي السير الجِلدي. ولكن إذا انضمَّ إليهما خبيرٌ ثالث وقال إن مذاق النبيذ يشبه الكبريت، فسيكون مخطئًا تمامًا. الحُكم على المذاق مقيَّد أكثر من الحكم على ما إذا كانت اللوحة تذكِّرني بجَدَّتي، ولكنه أقلُّ تقييدًا من إصدار الأحكام بشأن الأشكال.
الجماليات ليست لفرض الرقابة
في هذه المرحلةِ من مناقشة الخلاف الجمالي، تظهر دائمًا كلمةٌ طويلة ومثيرة للشك، وهي المعيارية. الفكرة هي أن للتقييمات الجمالية نوعًا من القوة المعيارية. «يجب» أن نصدِر أنواعًا معيَّنة من الأحكام عند تقديرِ أشياءَ بعينها. ونكون مخطئين إذا لم نُصدِر هذه الأنواعَ من الحكم؛ إذ لا نفعل ما يُفترض أن نفعله.
تتمثَّل الفكرة العامة للمعيارية في أن مجال الجماليات مشابه لمجال الأخلاق في هذا الصدد؛ كلاهما يدور عمَّا يجب أن نفعله وليس ما نفعله بالفعل. تُخبرنا الأخلاق ما إذا كان يجب أن نكذب أو نسرق أو نصبح نباتيِّين. وتُخبرنا الجماليات عن أنواع الخبرات الجمالية التي يجب أن نخوضها ومتى نخوضها.
تتعلَّق المعيارية بما يجب أن نفعله. وتتميز العديد من جوانب حياتنا الجمالية بالمعيارية إلى حدٍّ كبير في بعض الجوانب. أنا نفسي كنتُ أقدِّم مزاعمَ معيارية نسبيًّا بشأنِ ما ينبغي من عدم تفضيل الجماليات «الغربية»، وسأستمر في تقديم هذه المزاعم. وسيكون من الصعب التحدُّث عن بعض الممارسات الجمالية الراسخة دون تقديمِ بعض المزاعم المعيارية على الأقل بشأنِ ما «يجب» أن يفعله، على سبيل المثال، مؤدو إحدى المقطوعات الموسيقية في أدائهم كي يُعَدَّ أداءً ﻟ «مقطوعة موسيقية بعينها» (وليس مجرد نغمات عشوائية). تظهر كلمة «يجب» في كل مكان عندما نتحدث عن النطاق الجمالي (وتظهر في كل مكانٍ في هذا الكتاب أيضًا).
على الرغم من ذلك، ولا أستطيع أن أؤكِّد هذا تأكيدًا كافيًا، فإن عِلم الجمال ليس تخصصًا معياريًّا. ربما تدور بعض مناحي الأخلاقيات فعلًا حول المزاعم المعيارية (حسنًا، هناك فرعٌ في علم الأخلاق يُسمى «الأخلاقيات المعيارية»؛ ومن ثَم من شأنه أن يكون مثالًا جيدًا). لكن الجماليات ليست كذلك. فعِلم الجمال لا يتعلَّق في المقام الأول بما يجب أن تفعله. إنه يتعلَّق بما نفعله في الواقع في الظروف المختلفة.
قد تتوقَّع أنَّ عملًا في مجال الأخلاقيات سيهدُف إلى إقناعك بما إذا كان يجب أن تصبح نباتيًّا أو أن تستمر في تناول اللحوم. لكن لا ينبغي أن تتوقَّع أنَّ أي عملٍ في مجال الجماليات سيقدِّم لك هذا النوعَ من النصائح. لا تُحاول الجماليات إخبارك بما يجب عليك فِعله، أي بأي عملٍ فني يجب أن تُعجَب وأي عملٍ عليك أن تتجاهله. يمكن لهذه الطريقةِ في التفكير في الجماليات أن تقطع شوطًا طويلًا نحو تبديد عدم الثقة الشديد تجاه الجماليات، بوصفه أحدَ الفروع المعرفية التي غالبًا ما يشعُر العديد من الفنانين أنه يُملي عليهم ما يجوز لهم فِعله وما لا يجوز لهم، إضافةً إلى نوعِ ردِّ الفعل المناسب تجاه أعمالهم، وهي النقطة الأهم.
قد تتعلَّق بعضُ فروع علم الأخلاق بمراقبة سلوكك في الأمور الأخلاقية. لكن مجال الجماليات لا يتعلَّق بمراقبة استجاباتك الجمالية. استجاباتك الجمالية هي ما هي عليه، وينبغي ألا تسمح لأي أحد بفرض رقابته عليها. نتيجةً لذلك، يجب أن ننظر لأي ظهور لكلمات مثل المعيارية في مجال الجماليات بكثير من الشك.
وهذا ينطبِق أيضًا على كلماتٍ مثل «المعيارية» في مناقشات الخلافات الجمالية. الفكرةُ العامة هنا هي أن للأحكام الجمالية أو التقييمات الجمالية «قوةً معيارية». يمكن أن يعني هذا عدةَ أشياء. يمكن أن يعنيَ أن ردَّ فِعلك الجمالي قد يكون صحيحًا أو غيرَ صحيح. إذا كانت تعجبك الأعمال التي ينبغي ألا تحظى بالإعجابَ، فأنت مخطئ تمامًا. إذا كنتَ لا تُحب التُّحَف الفنية، فأنت مخطئ مجدَّدًا. «يجب» أن تُبديَ ردَّ فِعل عاطفيًّا أو جماليًّا معيَّنًا أمام أعمالٍ بعينها. إذا لم تفعل ذلك، فإن ردَّ الفعل الجمالي ليس كما ينبغي أن يكون. وأنت «مخطئ» في إبدائك ردَّ الفعلِ هذا.
إذا كنتَ لا تُحب الطابعَ السلطوي لهذا النوع من التفكير في الجماليات، فسيكون من المهم أن تدرك أن هذه النظرة من التفكير في الجماليات متجذرةٌ بعمقٍ في أحدِ نُهُج مناقشة الجماليات المميزة للغاية (والتي تتَّسم بالتمركُز حول «الغرب»). من السهل أن نرى كيف يُمكِننا أن نقدِّم المزاعم المعيارية بشأن الأحكام الجمالية. قد تكون الأحكام صائبةً أو خاطئة، وغالبًا ما تكون خاطئة. لكن إذا كنا مهتمين بالخبرة، وليس بالأحكام، فكيف يُمكِننا أصلًا أن نصوغَ المزاعم المعيارية أصلًا؟ تُعَد طريقةُ التفكير التالية إحدى المحاولات: صحيحٌ أن الخبرات ليس من شأنها أن تكون صحيحة أو خاطئة، لكنها قد تكون دقيقة أو غير دقيقة. الأوهامُ الإدراكية، مثلًا الحسية، غيرُ دقيقة. فمثلما أنك قد تدرك لونَ شيءٍ ما على نحوٍ غيرِ دقيق، لأن المحيط شديد الظلمة، فقد تراودك خبرةٌ جماليةٌ وهمية.
من المهم جدًّا أن نراعي أنَّ هذا المنطق في الجدل لا يصح إلا إذا تبنَّينا ما وصفتُه بنهج صالونات التجميل في مجال الجماليات؛ أي وجهة النظر القائلة بأن ما يجعل خبرةً ما جمالية هو أن تكون خبرةً لأشياءَ جميلةٍ وأن ثمَّة خطًّا فاصلًا صارمًا بين الأشياء الجميلة والأشياء غير الجميلة. فعندما نَمُر بخبرةٍ جماليةٍ غير دقيقة، نختبر شيئًا جميلًا باعتباره غيرَ جميل (أو شيئًا غير جميل باعتباره جميلًا).
لكننا رأينا أنَّ نهج صالونات التجميل في الجماليات لا يمثِّل وجهةَ نظرٍ جذابة حقًّا. فما يجعل خبرةً ما جمالية ليس كونها خبرةً لشيءٍ جميل. ما يجعلها جماليةً هو طريقةُ توجيهك للانتباه. وما من طريقةٍ دقيقة أو غير دقيقة لتوجيه انتباهك. ولهذا، فبينما قد تكون الخبرات دقيقةً أو خادعة، ما يجعلها جماليةً لا علاقة له بدقتها. وإنما هو وثيق الصلة بكيفية توجيهنا للانتباه.
لنعُد الآن إلى مناقشةِ الخلافات الجمالية. المسألة هنا هي ما إذا كانت الخلافات الجمالية أكثرَ شبهًا بالخلافات المتعلِّقة بشكل اللوحة (أنت تقول مثلَّث، وأنا أقول مربع) أم بالخلافات المتعلِّقة بما إذا كانت تذكِّرني بجَدَّتي. لكن صياغة هذا السؤال في حدِّ ذاتها تُسلِّم بنهج صالونات التجميل في الجماليات.
إذا كان ما يهمُّ في التجربةِ الجمالية لا يُعنى كثيرًا بالسِّمات المنسوبة للشيء المُدرَك، فستكون المقارنة بالخلافات المتعلقة بالسِّمات الأخرى المنسوبة إليه، مثل الأشكال وما إذا كان يذكِّرني بجَدَّتي، لا معنى لها.
عندما ننظر أنا وأنت إلى العملِ الفني نفسِه أو المنظر الطبيعي نفسِه، قد تختلف خبرتي عن خبرتك اختلافًا كبيرًا. لكنَّ تأطيرَ هذا الاختلاف بوصفه خلافًا يُفضي على نحوٍ خفي إلى التركيز على الأحكام الجمالية (بدلًا من الخبرات) أو يُلزِمنا باتباع نهج صالونات التجميل بأكمله.
إنه لأمرٌ مهم إذا كان لدينا أنا وأنت خبراتٌ مختلِفة تجاه العمل الفني أو المنظر الطبيعي نفسه. وهو أهم بدرجةٍ أكبر بكثير من الخلاف بشأن الأشكال أو حول ما يُذكِّر مَن بجَدَّته. إنَّ الإفراط في تبسيط البعد الاجتماعي للتجربة الجمالية إلى مستوى الخلافات الجمالية لا يعبِّر بما يكفي عن أهمية الجماليات في حياتنا اليومية وتفاعُلاتنا الاجتماعية اليومية.
ولأوضح هذه الفكرة، سأورد مثالًا محرجًا إلى حدٍّ ما. يبدو البعد الاجتماعي للجماليات ذا أهميةٍ خاصة في شباب المرء، حين نميل إلى التسكع مع الأشخاصِ الذين يحبون الموسيقى نفسَها التي نحبها والاستخفاف بالآخرين الذين يحبون الموسيقى المختلفة، على سبيل المثال. عندما كنتُ في المدرسة الثانوية (وكنتُ متعجرفًا كبيرًا، كما رأينا في الفصل الرابع)، قضيتُ الصيف في ألمانيا بزعم تعلُّم اللغة الألمانية. وقد أعجِبتُ بشدة بفتاةٍ ألمانية وأُعجبَت بي بشدة وأدَّت بنا علاقتنا المزدهرة بعد عدة نزهات إلى الذهاب إلى منزلها. أول شيء أتذكَّر رؤيته هناك كان ملصقًا ضخمًا لإيروس راماتسوتي؛ حيث كانت من المُعجَبين بمغني البوب الإيطالي هذا بالتحديد.
كان هناك خلافٌ جماليٌّ صارخ في هذه النقطة؛ فلنكتفِ بالقول إنني لم أكن من المُعجَبين بإيروس راماتسوتي. لكني تجاوزتُ تلك العثرة الصغيرة. لكنها عندما خفَّضَت الضوء وشغَّلَت أسطوانة لإيروس راماتسوتي من أجل تحسين المزاج الرومانسي، لم أستطِع تحمُّل الأمرِ أكثرَ من ذلك. لم يكن لديَّ مشكلة في اختلاف الرأي بشأن الأمور الجمالية. ولكن عندما تعلَّق الأمر بالاضطرار إلى مشاركةِ خبرةٍ رومانسية على صوت إيروس راماتسوتي، أصبح هذا فوق طاقة تحمُّلي.
للخلافات الجمالية أهميةٌ، لا شكَّ في ذلك. لكن لمشاركة الخبرات الجمالية أو عدم القدرة على مشاركتها أهميةٌ أكبر. وما من طرقٍ صحيحة أو خاطئة لاستثارة الخبرات الجمالية.
هذا لا يعني أن أيَّ شيءٍ يندرج تحت نطاق الجماليات. لا شك أن بعضَ الأعمال الفنية تحاول إثارةَ ردودِ فِعل محدَّدة للغاية، وإذا أبديتَ ردَّ الفعل المعاكس، فهذا يعني أنَّ الخبرة تفتقر إلى شيءٍ ما. لنفترض أنك جالسٌ أمام لوحتك المفضَّلة في أحد المتاحف. لكنك في أثناء جلوسك أمام اللوحة في المتحف، لا تستشعر هذه الخبرة التي اعتدتَ عليها، والتي ينبغي أن تثيرها فيك اللوحة من جانبٍ ما. في هذه الحالة، ثمَّة جانبٌ مهم لا يتحقَّق في التجربة، لكن هذا النوع من عدم التحقُّق لا يحتاج إلى الضبط والرقابة.
كما رأينا، يمكننا تغييرُ خبرة المرء الجمالية بتوجيه انتباهه إلى سِماتٍ محدَّدة. وهذه الطريقة للتعامل مع الاختلافات في الخبرة أفضلُ بكثير من التشدُّد مع المختلفين. إنَّ غياب الرقابة لا يؤدي إلى الفوضى. وإنما يؤدي، إذا كنا محظوظين، إلى المحادثةِ والتعايش السلمي والتنوُّع.
لنعُد إلى المعيارية وإساءة استخدامها. ثمَّة صورةٌ أكثر تواضعًا من صور تأييد المعيارية، لكنها ليست أقلَّ ضررًا على الإطلاق، وهي تتمثَّل في القول بعالمية التقييمات الجمالية. فالأمر لا يقتصر على أن عملًا فنيًّا معينًا يتطلب منك ردَّ فِعل جماليًّا معينًا، بل تفترض ضمنيًّا عندما تختبر استجابةً جماليةً معينة، أن الجميع يختبرون هذه الاستجابةَ الجمالية ذاتها، أو أنه يُفترَض بهم أن يختبروها على الأقل. هذه هي وجهةُ نظر إيمانويل كانط، التي كان لها تأثيرٌ دائم على الجماليات «الغربية».
سأحاول التعبيرَ عن رأيي بشكلٍ مهذَّب وبإجلال للإنجاز الفكري لفلسفةِ كانط، لكنَّ هذه الفكرة واحدةٌ من أكثرِ الأفكار تعجرفًا في تاريخ الجماليات. إذا كنتَ تفترض ضمنيًّا أن الجميع يجب أن يُظهِروا ردَّ الفعلِ نفسه الذي تُظهره، فأنت لا تقدِّر التنوع في الجنس البشري والتنوع في الخلفيات الثقافية التي يأتي منها الناس. متى ما نزعنا إلى مجرد التفكير (أو الافتراض أو الشعور) في أنَّ ما نفعله يلاقي استحسانًا من الجميع أو يحظى بقابلية انتشار بين الجميع، فسيكون هذا وقتًا مناسبًا للتوقف وممارسة ما أسمِّيه «التواضع الجمالي»؛ أي التفكير في مدى اعتماد موقفنا وخلفيَّتنا الثقافية على العوامل المتغيرة مقارنةً بالتنوع الهائل في الثقافات على هذا الكوكب. وسأعود إلى هذه المواضيع في الفصل السابع.
الخلافات الجمالية على أرض الواقع
ليست المسألة الحقيقية فيما يتعلَّق بالاتفاقات والخلافات الجمالية مَن المصيب ومَن المخطئ. وإنما تتعلَّق بالطرق التي تعتمد بها خبراتنا على تخصيص انتباهنا، ومعتقداتنا ومعرفتنا الأساسية، بالإضافة إلى تعرُّضنا السابق. ومن شأن معرفتنا للكيفية التي يمكن لهذه الأشياء أن تُغيِّر بها خبرتنا أن تساعدنا كثيرًا في حل الخلافات الجمالية.
كنت أعمل ناقدًا سينمائيًّا. وكان من أحد أفضل الأشياء في هذه المهنة الذهاب إلى مهرجانات الأفلام التي كثيرًا ما كنتُ أحدَ أعضاء لجنة التحكيم فيها. ثمَّة جانبٌ ساحر لأن يكون المرء عضوًا في لجنةِ تحكيمِ أحدِ المهرجانات السينمائية؛ حيث الالتقاء بالمشهورين من الممثلين والممثلات، والإقامة في الفنادق الفاخرة، وما إلى ذلك. لكنها في بعض الأحيان خبرةٌ مرهقة ومزعجة أيضًا.
تجلس ضمنَ لجنةِ التحكيم مع أربعةِ أشخاصٍ آخرين غالبًا ما يكونون من أجزاءٍ مختلفة تمامًا من العالم، وتختلف أذواقهم عن ذوقك في الأفلام كلَّ الاختلاف. لكن عليكم أن تتوصلوا إلى قرارٍ ما بشأن الفيلم الذي يجب أن يحصُل على الجائزة. ودائمًا ما يكون هناك موعدٌ نهائيٌّ صارم لإنجاز ذلك. عليكم أن تُعطوا منظمي المهرجان اسمًا بحلول منتصف الليل. إنها الآن الحادية عشرة مساءً وليس ثمَّة اتفاقٌ من أي نوع على أيٍّ من الأفلام. هذا خلافٌ جمالي على أرض الواقع، وتسويتُه مهمة لا تقدِّم فيها الاستعانةُ بآراء هيوم مساعدةً فعلية. بعد المشاركة في عضوية لجنة التحكيم لمهرجانَين، بدأَت المناقشاتُ القديمة بشأن الخلاف الجمالي تبدو مختلِفة تمامًا في نظري.
ما يجري في اجتماعات لجنة التحكيم لا يتعلَّق بمشاركة الخبرات، بل بالأحكام الجمالية الصعبة. كان علينا أن نتفق على أن أحدَ الأفلام أفضلُ من الأفلام الأخرى. والحق أنَّنا كنا نتمكَّن من إنجازِ المهمة عادةً بالطريقة العكسية. فكنا نتوصل أولًا إلى الاتفاق على الأفلام التي من الواضح أنها لن تفوز بالجائزة. كان هذا هو الجزء الأسهل. ولكن يتبقَّى لدينا بعد ذلك أربعة أفلام أو خمسة، وعندئذٍ تبدأ الانتقادات اللاذعة.
كيف تحاول إقناعَ ناقدٍ آخر بعقلانية بأن الفيلم الذي أعجبه كان في الواقع مُقتبَسًا ومبتذلًا؟ يؤسفني أن تكون الإجابة هي أنه لا يمكنك فِعل ذلك ولا تستطيع فِعله. لم يكن هناك شيءٌ عقلاني في هذه المناقشات. ومن المؤسف أنَّ الجائزة غالبًا ما كانت تذهب إلى فيلمٍ لم يكن أيٌّ من النقَّاد مفتونًا به، ولكن للفيلم الذي يمكننا جميعًا تقبُّل فوزه بالجائزة.
لم يكن الإقناعُ عقلانيًّا، ولم أرَ سوى عددٍ قليل جدًّا من النقَّاد يحاول أن يكون عقلانيًّا. (كان بعض النقَّاد الأكثر خبرة يجرِّبون بعضَ أشكال الحرب النفسية؛ إذ يقلِّلون من قيمة بعض الأفلام قبل وقتٍ كبير من مناقشة لجنة التحكيم أو في أثناء العرض، ويهيِّئون بقيةَ النقَّاد لعدم استحسان أفلام محدَّدة، وهم يفعلون ذلك بشكلٍ ممنهج أحيانًا وبدون وعي في أحيانٍ أخرى. لم تكن هذه الحرب النفسية عقلانيةً أيضًا، بل كانت على مستوًى أكثرَ عاطفية. ولكني غير متأكد مما إذا كان في هذا الكثير مما يمكن الاستفادةُ منه في مجال الجماليات بشكلٍ عام سوى مكر النقَّاد …)
ربما يكون الشيء الوحيد الذي حدَث في لجان التحكيم هذه هو محاولةُ جعلِ النقَّاد الآخرين ينتبهون لسِماتٍ معيَّنة في الأفلام. وليس هذا بالوضوح نفسِه الذي سيكون عليه في حالة التحكيم في اللوحات الفنية أو الروايات؛ حيث إن السينما فن يعتمد على الزمن. كانت قد مرَّت أيام على مشاهدتنا بعضًا من هذه الأفلام، ولم يكن بإمكاننا الانتباهُ إلى الفيلم في حد ذاته، بل ما نتذكَّره عنه.
على الرغم من ذلك، كانت جميع الحُجَج تقريبًا طرقًا لتوجيه انتباه النقَّاد الآخرين إلى بعض السِّمات التي لم يكن أحدٌ قد لاحظها بعدُ. كان بإمكان الانتباه إلى هذه السِّمات أن يؤديَ إلى خلافٍ جماليٍّ سلبي، عندما كان الهدف هو استبعاد فيلمٍ بعينه. غير أنه كان بإمكانه أيضًا أن يُحدِث خلافًا جماليًّا إيجابيًّا، وذلك عن طريقِ جلبِه حُجَّةً تُبيِّن سببَ أفضليةِ هذا الفيلم عن بقيةِ الأفلام الأخرى.
وهذا في الواقع ما يجب على النقَّادِ فِعله، وليس ذلك عندما يكونون في لجنةِ تحكيم فحسب، لكن عندما يكتبون مراجعاتهم أيضًا. وهذا ما يفعله النقَّاد الجيدون في العادة. فهم لا يتعاملون مع النقد باعتباره شكلًا من أشكال الفن، وهو ما كانت تفعله بولين كايل (١٩١٩–٢٠٠١)، الناقدة السينمائية الأمريكية الشهيرة. لا يلخِّصون الحبكةَ الدرامية. ولا يحكون لنا عن ذكريات طفولتهم ذاتِ الصلة الضعيفة بالحبكة. ولا يخبروننا بما أعجبهم وما لم يعجبهم. إن وظيفةَ النقَّاد هي توجيه انتباهنا إلى السِّمات التي لم نكن لنلحظَها لولاهم. ومن شأن الانتباه إلى بعض هذه السِّمات أن يحوِّل خبرتنا بالكامل.
من الممكن أن تكون بعض هذه السِّمات بنيوية، على سبيل المثال: كيف تتكرَّر الفكرة الواردة في الصفحة ١٢ من الرواية في الصفحة ١٣٤ ثم في الصفحتَين ٤٣٢ و٥٦٣ مرةً أخرى، وكيف أنَّ هذا يمنح بِنيةً لأجزاء السرد الأخرى التي تفتقد بِنيةً منظَّمة. قد تتعلق بعض السِّمات الأخرى بارتباط العمل بأعمالٍ فنية أخرى؛ مثل اقتباسِ عملٍ موسيقيٍّ ما لحنًا من عملٍ موسيقيٍّ آخرَ. قد يجعل الانتباه لبعض هذه السِّمات خبرتَك أكثرَ إرضاءً. وهذا يجعل قراءةَ النقد تستحق حقًّا العناء.
إليكم مثالًا من الحياة الواقعية، لوحة صغيرة تعود إلى إيطاليا في القرن الخامس عشر، تصوِّر حدَث البِشارة (شكل ٤). تلاعَب الرسَّام دومينيكو فينيزيانو (١٤١٠–١٤٦١ تقريبًا) بعضَ الشيء باستخدام محاور التناظر؛ حيث المبنى المتناظر يحيد عن المركز؛ فهو مُزاح إلى اليسار من منتصف الصورة. و«الحركة» أيضًا تحيد عن المركز، ولكنها مُزاحةٌ إلى اليمين وليس إلى اليسار. إن الانتباه إلى التفاعُل بين محاورِ التناظُر الثلاثة هذه (للمبنى، وللصورة نفسِها، وللمحور في منتصف المسافة بين السيدة مريم ورئيس الملائكة) ليس شيئًا يلاحظه الجميع على الفور. ولكن عندما يُشار إليه وينجذب انتباهُك إليه، يمكنه أن يُحدِث فَرقًا جماليًّا كبيرًا.
بمقياسٍ كمي محض، لم يوجد من قبلُ هذا الكمُّ من النقد الذي نشهده اليوم مع وجود مئات الآلاف من المدوَّنات والمواقع الإلكترونية. لكنَّ هذا مثالٌ أوضح على أن النقد في أزمة. فكما عبَّر تيري إيجلتون (١٩٤٣-)، الناقد الأدبي البريطاني، عن الأمر بصياغةٍ فصيحةٍ منذ أكثر من ثلاثين عامًا (قبل المدوَّنات بكثير): «يفتقر النقد اليوم إلى جميع الوظائف الاجتماعية الجوهرية. فهو إما جزءٌ من فرع العلاقات العامة للصناعة الأدبية، أو شأن داخلي تمامًا في المؤسسات العلمية.» الشيء الوحيد الذي تغيَّر منذ ذلك الحين هو ظهور مشاهير النقَّاد الذين يعبِّرون عن آرائهم حول الأفلام، والموسيقى، والبرامج التلفزيونية (غالبًا ما يكون ذلك أمامَ جمهورٍ مباشر) دون فعلِ أي شيءٍ آخر. غير أنه يمكن استعادةُ الوظيفة الاجتماعية للنقد إذا فعل النقَّاد ما يتقاضَون أموالًا من أجله، وهو توجيه انتباه القارئ إلى السِّمات التي يمكنها أن تُحدِث لديه فَرقًا جماليًّا.
قال الروائي الفرنسي أندريه مالرو (١٩٠١–١٩٧٦) إن الهدف الأساسي للكتابة عن الفن ليس تمكين القارئ من فهمِ الفن، بل إقناعه بأن يُحبه. الوعظ الفني أسهلُ بكثير بالطبع، لكنَّ مهمة الناقد لا تتحقَّق إلا إذا ساعد القارئ على الانتباه للعمل الفني على النحو الذي يُقنِعه بأن يُحبه.
الاتفاقات الجمالية على أرض الواقع
ومن الغريبِ أنَّ أحدَ الدروس المهمة الأخرى التي تعلمتُها من وجودي في لجان التحكيم لمهرجانات الأفلام لم يكن يتعلَّق بالخلافات الجمالية، بل بالاتفاقات الجمالية. فكثيرًا ما وجدتُ نفسي أتفق مرارًا وتكرارًا مع بعض النقَّاد على الرغم من أنهم كانوا من قاراتٍ مختلفة تمامًا، وغالبًا ما كانوا يكبرونني بخمسين عامًا أو نحو ذلك. وهذا جعلني أتساءل عما يُفسِّر هذا التقارب بين التقييمات الجمالية لشخصٍ مجريٍّ يبلغ من العمر عشرين عامًا يعيش في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وآخر أرجنتيني في السبعين من عمره ويعيش في هونج كونج.
وما لاحظتُه بشكلٍ متزايد في كثير من الأحيان هو أنني وهؤلاء النقَّاد قد نشأنا على مشاهدة أفلامٍ شديدةِ الشبه بعضها ببعض. لقد أحبَبْنا الأفلام نفسَها التي عَرضَها علينا المهرجان لأننا كنا مُعَدِّين لنُعجَب بها من الأفلام التي شاهدناها في سن المراهقة. كان هذا حدْسًا لديَّ حينها، لكنَّ بعضَ النتائج المؤكَّدة لدراساتٍ نفسية تدعم هذا الحَدْس.
لقد ناقشنا تأثيرَ التعرُّض المحض، وهو الظاهرة الواسعة الانتشار، التي تتمثَّل في أنَّ التعرُّض السابق المتكرر لمحفِّزٍ ما يزيد من احتمالية التقييم الإيجابي لهذا المحفِّز، وهذا التأثير موجودٌ أيضًا في المجال الجمالي. على الرغم من ذلك، ينبغي التمييزُ بين نوعَين مختلفَين من أنواع نتائج التعرُّض المحض. كانت التجربة التي ذكرتُها في الفصل الرابع (أستاذ جامعة كورنيل الذي عرَض خلال المحاضرة شرائحَ لما يبدو أنها لوحاتٌ انطباعيةٌ عشوائية) تتعلَّق بالتعرُّض «للوحة معيَّنة» وكيفية تأثير ذلك في أن تزيد من إعجابك ﺑ «تلك اللوحة». غير أن نتائجَ التعرُّض المحض الأخرى تناقش كيف أن المعرفة ﺑ «نوع معيَّن» تزيد من حبك للمعرفة بشأن «ذلك النوع». وبناءً على هذا، يمكن لرؤيةِ العديدِ من اللوحات الانطباعية أن تزيد من إعجابك بلوحاتٍ انطباعية أخرى، لوحاتٍ لم ترَها من قبلُ. وهذا يعني أن نوع الأعمال الفنية التي رأيتَها من قبلُ تؤثِّر بعمقٍ على أنواع الأعمال الفنية التي ستُعجِبك.
إذا شاهدتَ الأفلامَ الشكلية الفرنسية والإيطالية باللونَين الأبيض والأسود التي تعود إلى ستينيات القرن العشرين في سنوات تكوينك، فستُحِب الأفلام التي تشبهها في بعض جوانبها العامة (في تكوينها أو ربما في طريقةِ سردِها). وسينطبق هذا عليك بغَض النظر عما إذا كنتَ قد نشأتَ في بودابست أو في بوينس آيرس.
ربما يكون تأثيرُ التعرُّض المحض أكثرَ بروزًا في الموسيقى؛ فنوع الموسيقى الذي استمعتَ إليه في سنوات تكوينك (هو ما يعني قبل كلِّ شيء التعرُّض في الطفولة المبكِّرة والمراهقة) سيكون له تأثيرٌ هائل على الموسيقى التي سوف تنجذب إليها عندما تصبح شخصًا بالغًا. الذوق الموسيقي يتغيَّر، وغالبًا ما يتغيَّر جذريًّا. لكن هذا لا يعني أن مفضَّلاتك القديمة ستتبدَّل تمامًا. وإنما سيكون لها دائمًا تأثيرٌ على الموسيقى التي تُحبها.
لقد كتبتُ في الفصل الرابع عن الجوانبِ المُقلِقة لتأثير التعرُّض المحض، التي تتمثَّل في صعوبةِ إدراكِ ما قد يطرأ على تفضيلاتنا الجمالية من تغييرات. لكنَّ تأثير التعرُّض المحض ليس سيئًا في مجمله. فيمكن لمعرفتنا بمدى تأصُّل تفضيلاتنا الجمالية في خلفيتنا الثقافية والإدراكية الشديدة الخصوصية أن تساعدنا في الحدِّ من غطرستنا الجمالية، وتدفعنا نحو التواضُع الجمالي.
التواضُع الجمالي
إذا كنتَ تستمع إلى موسيقى الثراش ميتال منذ أن كنتَ في الثامنة من عمرك، فستكون تفضيلاتك الجمالية مختلفةً تمامًا عن شخصٍ نشأ وهو لا يستمع إلا إلى موسيقى الجاميلان الإندونيسية التقليدية. لا شيء يثير الدهشةَ حتى الآن. ستكون لديك القدرة على تمييزِ فروقٍ موسيقية طفيفة لن يسمعها مُعجَبو موسيقى الجاميلان أصلًا. سيمكنك الانتباه لسِماتٍ في موسيقى الثراش ميتال لن يلاحظها سوى قليلين جدًّا غيرك.
لنفترض أنني أجعلك أنت وصديقي متذوِّق موسيقى الجاميلان تستمعان إلى بعضِ الموسيقى اللامقامية الفينية التي تعود إلى أوائل القرن العشرين، أو بعض موسيقى جاز نيويورك الحر. سوف يُعجَب كلٌّ منكما ببعض هذه القِطع ويكره قِطعًا أخرى. لكنَّ جزءًا مما يجعلك تُعجَب بقطعةٍ ما وليس بأخرى يرجع إلى تعرُّضك لموسيقى الثراش ميتال. (آمُل أن يكون من الواضحِ أنني لا أحاولُ رفْضَ موسيقى الثراش ميتال هنا؛ فالشيء نفسُه سيحدُث إذا استمع شخصٌ معتاد على الموسيقى اللامقامية إلى موسيقى الثراش ميتال لأول مرة.) وسيُعجَب صديقي المعتاد على موسيقى الجاميلان بقِطعٍ مختلفة بسبب تعرُّضه المحض لموسيقى الجاميلان.
ربما ترى أنَّ هذا المثال يمثِّل خلافًا جماليًّا. ولكن هل يُوجَد مثلُ هذا الخلافِ حقًّا؟ ما يوضِّحه لنا هذا المثال هو أننا نضع التقييمات الجمالية من المنظور المحدَّد للغاية لتعرُّضنا السابق إلى أعمالٍ فنيةٍ معيَّنة (وغيرها من المحفِّزات). هذا لا يعني أن تعرُّضنا السابق يحدِّد تقييماتنا الجمالية بالكامل. لكنه يرسِّخ هذه التقييمات الجمالية وسيظهر دائمًا فيها. ومن هذا المنطلق، فإن جميع التقييمات الجمالية مرتبطةٌ بالخلفية الثقافية والإدراكية للمُقيِّم أو متأثرةٌ بها. فتقييمك لمقطوعة الموسيقى اللامقامية مرتبطٌ بخلفيتك الثقافية متمثلةً في موسيقى الثراش ميتال. وتقييم صديقي للمقطوعة نفسِها مرتبط بخلفيته متمثلةً في موسيقى الجاميلان.
ولن يكون من المنطقي إذن أن نسأل عمَّن أصاب ومَن أخطأ. إذا كانت التقييمات الجمالية متأثرةً بالخلفية الثقافية للمُقيِّم، فما من خلافٍ جمالي في حقيقة الأمر؛ لأنك تُجري تقييمًا متأثرًا بخلفيةٍ ثقافيةٍ من موسيقى الثراش ميتال ويُجري صديقي محبُّ موسيقى الجاميلان تقييمًا متأثرًا بخلفيةٍ ثقافيةٍ مختلِفة تمامًا.
هذا لا يعني أنه لا تُوجد حقائقُ في التقييم الجمالي؛ لا يعني أن كلَّ شيءٍ مقبولٌ عندما يتعلَّق الأمر بالجماليات. كلُّ ما يعنيه أن التقييمات الجمالية تعتمد على الخلفية الثقافية للمُقيِّمين. إذا كان لاثنَين من المُقيِّمين الخلفيةُ الثقافية نفُسها واختلفا، فسيكون هذا بالفعل خلافًا جماليًّا حقيقيًّا؛ إذ سيكون أحدهما مُحِقًّا والآخر مخطئًا.
الحق أنني بالغتُ بعضَ المبالغة في مثالِ موسيقى الثراش ميتال مقابل الموسيقى اللامقامية. فلا أحدَ يستمع إلى نوعٍ واحد فقط من الموسيقى. حتى إذا كنتَ من أشدِّ المعجبين بموسيقى الثراش ميتال، فلا يمكنك عدمُ الاستماع لجميع أنواع الموسيقى الأخرى (مثل حالة الاستماع إلى جاستن بيبر في المركز التجاري). لكنَّ هذا لا يغيِّر من قوةِ الحُجة القائلة بأن تقييماتك الجمالية تعتمد على خلفيِّتك الثقافية. نستخلص من هذا أنه يجب أن تكون على درايةٍ بخلفيتك الثقافية عند إجراء التقييمات الجمالية. فتقييمك الجمالي ليس معيارًا عالميًّا. إنما هو محدَّد للغاية، ومتأصِّل بشدةٍ في خلفيَّتك الثقافية. لذلك يجب أن نتعاملَ مع كلِّ ما هو جمالي بقَدْرٍ معقول من التواضع.